السبت، 23 نوفمبر 2013

روائه من وحي زاكرة مفكر 
من الذاكرة .. قصة طويلة بعض الشيء 
جدي عبد الصمد ومقالبه السوداء 
كنت قاضيا عند بلغ جدي الحاج عبد الصمد أو شاهين نحو تسعين عاما , كان علي وجه التحديد خال جدي لأمي , فكانت تناديه جدها وكنا نناديه جدنا أنا ومعي نحو خمسمائة آخرين من أولاد أقاربه ممن يعدونه جدهم حكما , كان نحيلا كالعصا يمشي مشية شبه عسكرية بتأثير قديم من خدمته في الجيش المصري , لا أعرف متي لكن بعضهم كان يتندر بأن الرجل خدم في جيش عرابي باشا وبعضهم يقول متندرا بل في جيش ابراهيم باشا .
كان بين حين وآخر يأتي زائرا والدتي وكانت زياراته دائما في الصباح الباكر فقد وضع جدولا لزيارة ( البنات ) ومن البنات والدتي حسب دورها في دفتر الزيارات , وبينما كان يعامل أبي ببقية احترام ويناديه باسمه مجردا فانه لم يناد والدتي مرة واحدة باسمها بل كان لقبها الوحيد عنده ( بنت ) وكان يطلق نفس اللقب علي نحو مائة آخرين , ( الواد فلان ابن فلان أو ابن فلانه أو البنت فلانه بنت فلان أو فلانه ) ..
منذ وعيت للدنيا وهو هو لايتغير لاملامحه ولاطريقته في الحياة , يصلي الفجر اماما في أحد المساجد ثم يتوجه الي بيته ويأكل ربع رغيف مع ملح في ساعة محددة , وبعدها بساعتين يتناول وجبة الافطار وهي بدورها لاتتجاوز رغيفا مع جبن وعسل .
في أحد أيام الشتاء بعد الظهر بقليل جري استدعائي من الطابق الثاني في بيتنا حيث كنت أبحث احدي القضايا , قيل لي أنزل بسرعة جدك عبد الصمد يريدك , أغلقت القضية موقنا أن اليوم أصبح في ذمة الله لأن مجلس جدي عبد الصمد يطول كما شاء ولا أجرؤ علي الانصراف الا برحيله الميمون .
كالعادة لم يكن جدي عبد الصمد يسلم علي أحد من أهل القرية , فهو فقط يرفع يده اليك لتقبلها , قبلت يده وجلست , دخل الرجل في الموضوع الذي جاء من أجله في موعد غير موعده المعتاد .
( أنا ياسيدي بأه كان أبويا مدلعني , كنت زي القمر وأنا صغير وأمي بتخاف علي من الحسد , حاكم أنا موش أول خلفة المرحوم أبويا , لااااااااااااااااااء , كان فيه قبلي خمسة ماتوا كلهم محسودين , كان فيه وليه عينها صفرا , المره مرات عبده أبو وهدان كانت بصة واحدة منها تخللي العيل يفرفر ويطب ساكت , ونظر جدي الي والدتي وقال عارفاها يابت ولا ماوعيتيش لها , وردت بهدوء لاياجد ماوعاش لها ) 
وواصل الحكاية .. من البداية وماقبل البداية ..
أعرف نوع جدي من البشر فقد رأيت شهودا في المحاكم يحكون قصة حياتهم قبل الادلاء بالشهادة التي ربما انتهت الي أن الشاهد لاعلم له بالواقعه من بعيد ولا من قريب .
في النيابة والمحكمة قد أستطيع – مع تقدير عمر الشاهد وظروفه الثقافية – أن أستنهضه للدخول في الموضوع , ولكن مع جدي عبد الصمد ليس أمامي الا الجلوس صامتا مستمعا , والا نالني منه ماشاء من سخط ونال حفيدته أيضا أمي رحمها الله .
تطرق بعد ذلك الي زيجته الأولي , وكيف تزوج في عمر الثالثة عشرة , ثم الي موت زوجته , وكيف ماتت فجأة , ثم راح يذكر أولادها منه ..
ثم تطرق الي زوجه الثانية وسلاطة لسانها وكيف طلقها بعد عامين من الزواج , ثم أتي الي الثالثة التي كانت ( طيبة وبنت حلال ) وحياتهما السعيدة الي أن ماتت منذ ستة أعوام فقط .
ثم تطرق الي زواجه الأخير وكنت أعرف التفاصيل كاملة وعشتها لكنه لابد أن يفرغ مالديه .
ياقوة الله .. هتفت في أعماقي بعد نحو ثلاث ساعات عندما قال جدي ( وصلنا بأه ياسيدي للي أنا جاي عشانه ) ..
البيت ضاق علينا زمان أيام الملك بنينا بيت تاني وتالت ورابع وعاشر , قول أنا فكرت أبني للبت الغلبانة حسنية بنت أم الهنا( زوجته الأخيرة ) والعيلين ولادي منها بيت عشان لو مت يبقي موش تحت رحمة اخواتهم الكبار ولاد بهية اللي عايشين معايا , لسه البنا بيني وقال ايه الحكومة تقل لي أقف , ياجدعان دي أرض أبويا وجدي مالها الحكومة , قالوا هو كده شغل عافية , وقال ايه عاملين لي قضية , قام اسماعيل ابن أختي قال لي ياخال ماتشلش هم دا عيل من عيال بنتنا يحلها بصباع رجله ( يقصد والدتي والعيال هم أنا وأمثالي ) ..
كنت أعرف أن القانون السائد وقتها يعطي جدي عبد الصمد الحق في بناء بيت علي نسبة صغيرة من الأرض ..
توكلنا علي الله .
في صباح اليوم التالي كنت متوجها الي حيث أكره , الي الجهات الحكومية للسير في اجراءات لدي جهتي الزراعة والحكم المحلي للحصول وغيرهما علي مستندات حيازة وملك الرجل والحصول علي شهادة تتعلق بالمساحة التي أقام البناء عليها ..
استغرق الأمر عدة أسابيع من الجهد حتي أنجزت المهمة وحصلت علي كل المستندات المطلوبة .
توجهت الي بيت جدي عبد الصمد وسلمته الأوراق في حضور زوجته الرابعه التي كانت شابة صغيرة , رحت أكلمه وأكلمها , وأشدد علي حفظ الأوراق في مكان آمن الي أن يقترب موعد الجلسة المحددة ونسلم الأوراق الي محامي صديق لي من زملاء الدراسة للحضور وتقديمها الي المحكمة .
نسيت الموضوع تماما حتي اليوم السابق علي يوم الجلسة المحددة لنظر القضية , فتوجهت في المساء الي بيت جدي عبد الصمد لاستلام الأوراق والتوجه بها الي مكتب المحامي ..
صمم الرجل علي الدخول وتناول الشاي معه .
بعد تناول الشاي سألت عن الأوراق فقال ( بس طول بالك هو جيلك كده كل متسربع , اسمع ياسيدي وراح يحكي ).
لم يكن هناك مفر من الاستماع , قدرت أني سوف أسمع حكايات تنتهي بعد منتصف الليل ولكن الأمر لم يطل كما ظننت ..
( زمان أيام الملك كان المحامين المتصيتين في عموم مديرية الدقهلية فلان وفلان وفلان وراح يعدهم بأناة ..ثم أضاف ( وكان حمزة أفندي أبو جندية كاتب محامي بس واد جن ابن جن دماغه نار , مات ميييين ؟ قلت مين . رد مات المحامي اللي هو معاه , راح لمحامي تاني فلان الفلان , هو بأه اللي علمه المحاماة علي أصولها, قول ياسيدي حمزة أفندي مصاحب مييين ؟ قلت من ؟ قال ولاد بنتنا زكية بنت عدلات , كانوا زمان في أيام الشقاوة بيحششوا سوي مندرة جدك عبد الباقي , وبعد ما بطلوا يحششوا وربنا هداهم فضلوا ع الود القديم ..
أكمل جدي 
( الأسبوع اللي فات لقيت لك مين جاي لحد باب داري ؟ الواد سميح ابن البت أم السعد بنت ستيته أم المعداوي ومعاه سي حمزة أفندي أبوجندية بشحمه ولحمه , قلت يافرج الله , حاكم أنا أمي داعية لي قبل ماتموت وميته راضية عني , الله يرحمك يا أمه , المهم فوتك في الكلام حكيت لسي حمزة الموضوع هو بطل الشغل من زمان عقبال أملتك عنده ثلاث عمارات في المنصورة , بس لسه دماغه نار , أنا طلعت الورق بتاعك وقلت له دا ينفع ياسي حمزة , قال لي من اللي شار عليك بالورق الهايف دا قلت له ماعليك من اللي شار عيل من عيالنا ياسيدي بس الورق ينفع ولا لا , قال لي أعطيه للي شار عليك به يبله ويشرب ميته , قلت له طيب دلني أعمل ايه , فهو لقيته يقول كلمتين ويبص للورق وقرفان , قلت لك وعلي ايه آدي الورق هاتي يابت عود كبريت ورحت مولع في الورق .
سي حمزة قال لي سيب الموضوع علي وقال كلام كتير مانش فاهم منه ولا كلمة بس هو هايحلها دا دماغه نار وعارف طوب الأرض 
طيب .. قلتها بتهيده موجوعه مختنقة وانصرفت ..
في مغرب اليوم التالي وجدت جدي عبد الصمد قادما منتصبا هادئا بمشيته شبه العسكرية , دخل الي البيت ولم يطل في مقدمات ( موش سي حمزة أفندي طلع حمار , ستة شهور حبس والازالة ودفعت الكفالة ) ثم أضاف حلها بأه زي ماتحلها أنا تعبت وزهقت وقرفت من القضية ومن سي حمزة أفندي ومنك ومنكم كلكم ومن الدنيا بحالها ..
فجأة انتفض وهب واقفا وانصرف في نفس مشيته شبه العسكرية .
بعد انصرافه قالت والدتي ( الا جدك عبد الصمد دا راجل بركة أوعي تسيبه ولا تزعله دا دعوته مابتنزلش الأرض ودا راجل رجله والقبر ) قلت لها وقد نفذ صبري , منذ وعيت علي الدنيا وأنا أسمع رجله والقبر رجله والقبر وقد عاش حتي مات من هم في سن أولاده جميعا , فين بس رجله وفين القبر دا شكله هيموتنا كلنا منقوطين ..
في فجر اليوم التالي أيقظتني والدتي وهي تقول ( قوم باب السماء كان مفتوح قلبت نفسك علي جدك عبد الصمد أهو مات ) .
قلت الله يرحمه ارتاح من القضية , وهمست في سري ( وأنا كمان ارتحت ) !!



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق