الخميس، 21 نوفمبر 2013

لا تفرحوا بالمنتخب الوطني، فدولة الفساد لا تصنع إنتصارات


للحقيقة، لم أفرح كثيراً بفوز المنتخب السوداني علي منتخب بوركينا فاسو وصعوده لدور نصف النهائي من بطولة الأمم الأفريقية علي حساب أنغولا التي خسرت مباراتها أمام كوت ديفوار متصدرة المجموعة. السودان تأهل علي حساب أنغولا بالإستفادة من فارق الأهداف، فخسارة كوت ديفوار أو تعادلها مع أنغولا كان سيطيح بالسودان، وفوزها بنتيجة هدفين نظيفين هو ما جعل المنتخب يتأهل. كمشجع سابق للمنتخب الوطني أتنبأ بأن دور الثمانية سيكون هو المحطة الأخيرة للسودان. أقول هذا وفي مخيلتي قصة عن المنتخب النيجيري أحد أهم الغائبين عن هذا المحفل الكروي الهام. 
الجيل الذهبي للمنتخب النيجيري في التسعينات إكتسح كل خصومه في المنافسات الأفريقية ففاز ببطولة الأمم الأفريقية للعام 1994 علي منتخب زامبيا القوي، و بعد عدة أشهر سافر المنتخب النيجيري إلي كأس العالم في الولايات المتحدة الأمريكية وأحرج الأرجنتين وفاز علي بلغاريا بثلاثة أهداف نظيفة لـ (يكيني وأمونيكي وأموكاشي) ، وإنتصرت علي اليونان. ولكن قطار المنتخب الإفريقي توقف عند محطة إيطاليا وخرج من كأس العالم. 
المغامرة النيجيرية إستمرت ليفوز منتخبها بالميدالية الذهبية لمنافسات كرة القدم في دورة الألعاب الأولمبية في أتلاتنا عام 1996 بعد نصرين متتاليين علي منتخبين يحتويان علي أقوي لاعبي الكرة وأكثرهم مهارة في العالم؛ البرازيل والأرجنتين. وفي كأس العالم 1998 التي أقيمت بفرنسا إرتفع سقف الترشيحات لمنتخب الـ(Green Super Eagles) لحد ترشيح نيجيريا فوزها بكأس العالم وذلك عقب فوزها علي المنتخب الأسباني المرشح للقب وتغلبها علي بلغاريا. قبل المباراة الأخيرة لنيجيريا في المجموعة مع الباراغواي خرج اللاعب الفرنسي الشهير (ميشيل بلاتيني) بتصريح أستفز الصحافة النيجيرية وأنصار المنتخب الأفريقي المتحمسين، حيث قال بلاتيني بأنه يتوقع خروج نيجيريا من منافسات كأس العالم في الدور نصف النهائي، وقال بأن حصول نيجيريا علي الميدالية الذهبية في أتلانتا كان مجرد ضربة حظ . علل بلاتيني بأن الدول التي تحكمها نخب سياسية فاسدة لن تستطيع تحقيق إنجازات مستديمة لأن العناصر الفاسدة لا تستطيع صنع نجاحات، ونيجيريا دولة محكومة بواسطة حكومة (ساني أباتشا) العسكرية التي تدير بلداً به فساد سياسي كبير وإنتهاكات مفزعة لحقوق الإنسان، لذا فهي لن تخرج عن هذه القاعدة! 

أتهم البعض بلاتيني بالعنصرية والتحامل ضد نيجيريا، ولكن الأيام أثبتت صحة كلامه، فالمنتخب النيجيري مُني بهزيمة كبيرة أما البراغواي بثلاثة أهداف، وفي دور نصف النهائي تلقي هزيمة مذلة من الدنمارك بلغت أربعة أهداف مقابل هدف، وجاءت هذه الهزائم عقب أيام من وفاة الرئيس (ساني أباتشا) بنوبة قلبية قيل بأنها كان بسبب سُم مدسوس في شراب الرئيس! منذ ذلك الوقت لم يحقق المنتخب النيجيري شئ يذكر علي الصعيد القاري أو العالمي، وفي هذا العام فشل المنتخب حتي من التواجد ضمن الفرق الـ(16) المشاركة في البطولة.

لقد كنت في السابق مشجع متعصب لفريق الهلال والمنتخب الوطني، وقد تجاوزت مرحلة التشجيع من وراء شاشات التلفزيون إلي دخول الإستادات للمساندة والمؤازرة. كنت أقتطع من زمني ومن مالي الكثير لمساندة الهلال والمنتخب الوطني، وكنت أنتظر في صف التذاكر بالساعات  الطوال من أجل الحصول علي فرصة لدخول المدرجات!
 بلغ بي جنون التشجيع لهروبي من معسكر الخدمة الوطنية لمشاهدة المباريات داخل الإستادات. تسللت عبر فتحات الأسلاك الشائكة مع ثلاثة من أصدقائي لمشاهدة مباراة السودان وليبيا في التصفيات المؤهلة لكأس العالم 2002، قتلنا الحزن ونحن نشاهد فريقنا الهلال وهو يخسر امام المريخ، وكانت الخسارة مضاعفة لنا كهلالاب بوفاة اللاعب الخلوق (والي الدين محمد عبد الله) قبل المباراة بأيام قليلة بصورة مفاجئة للجميع؛ فقد دخل (والي الدين) علي قدميه من أجل عملية مسطرة في قدمه ليخرج جثة هامدة محمولة علي الأكتاف جراء جرعة تخدير زائدة!


كنت شاهد عيان علي حادثة الحمامة الشهيرة التي إخترقت شبكة المرمي أربعة مرات جيئة وذهاباً قبل بداية مباراة السودان ونيجيريا التي ضجت المدرجات فيها بالضحك وصياح الجماهيرعقب كل هدف "أساطين الفلاتة أشتغلوا"، وصفق الجمهور السوداني لإبداعات (نوكانو كانو) وساندوا نيجيريا بالتشجيع والهتاف بعدما خذلهم المنتخب الوطني علي أرضه وبين جمهوره!

علي طول السنين أعيتني الهزائم المذلة والمتراكمة للهلال والمنتخب السوداني ولكنني كنت أقول لنفسي "الصبر طيب .. مافي زول ح يشجع بلدنا أكتر مننا"، لكن قاصمة الظهر كانت عندما هُزم الهلال بخمسة أهداف أمام الترجي التونسي عام 2005 بالرغم من أن هيثم طمبل تقدم للهلال في الشوط الأول، ولم يستطع الهلال الصمود وجلب التأهل حتي بفارق الأهداف والإستفادة من فوزه في أمدرمان بثلاثة أهداف مقابل هدف!
بعدها تركت تشجيع الهلال بصورة نهائية وقلت لنفسي بأن المنتخب الوطني هو الأوجب بالتشجيع. كانت المباراة التالية للمنتخب الوطني ضد مصر بعد أيام من نكبة الهلال في تونس. منذ الدقائق الأولي علمت بأن النتيجة ستكون كارثية؛ وفعلاً، فقد خسر السودان أمام المنتخب المصري بثلاثة أهداف. لم تكن الهزيمة هي الأشد مرارة عندي، فلقد تعودت علي الهزائم الساحقة بـ(الثلاثات والأربعات والخمسات) للفرق التي أشجعها، ولكن أسوء ما في الأمر أن الهزيمة كانت في الخرطوم.

 وعندما ذهب المنتخب السوداني للقاهرة أكرم المصريين منتخبنا بستة أهداف نظيفة بالرغم من غياب أهم ثلاث لاعبين في المنتخب وهم (ميدو وأحمد بلال وعماد متِعب)، وكانت الفضيحة بـ"جلاجل" بكل ما تحمل الكلمة من معني. لازلت حتي الآن محتفظاً بمجلة السوبر ليوم 8 يونيو 2005 وفي غلافها صورة للاعبي المنتخب السوداني وهم يترنحون أمام المهاجم المصري عمرو زكي. كتبت المجلة في الغلاف بالخط العريض إستهزاءً بالمنتخب السوداني (6 .. يا زول!).
عقب الهدف الثاني خرجت من الملعب وأعلنت توقفي بصورة حاسمة عن تشجيع الكرة السودانية بأي شكل من الأشكال، فصحتي النفسية والعقلية والبدنية لا تسمح لي بالإستمرار أكثر في هذا الجنون!


مرت الأيام والسنوات وتأهل المنتخب الوطني السوداني إلي كأس الأمم الأفريقية عام 2008، ومع حُمي التصريحات الصحفية وأضواء كاميرات الإعلام تناسي السودانيون هزائم الماضي المريرة، وأصبح الجميع ينسب التأهل إلي نفسه، وتصدرت الحكومة السودانية الموقف بإعتباره إنجازاً تاريخياً لم يكن ليتحقق لولا القيادة الرشيدة للبلاد!
رغم الصخب والحماس فقد كنت الأكثر هدوءً بين مشاهدي المباريات ولم أتحمس للمنتخب، و "أسأل مجرب ولا تسأل خبير"، فقد الأمر بالنسبة لي مسألة وقت فقط حتي تقع المصيبة التي أتوقعها، وفعلاً حلت الهزائم الكارثية بالسودان؛ خسر المنتخب مبارياته الثلاثة امام مصر والكاميرون وزامبيا بحصيلة بلغت تسعة أهداف موزعة بالتساوي بين المباريات الثلاثة!
 بعد هذه الهزائم المذلة تواري الذين وقفوا أمام المايكروفونات وأصبحت الهزيمة كالطفلة لقيطة التي لم تجد أحداً يتبناها، وقد إحترمت قائد المنتخب هيثم مصطفي عندما وقف بقوة وقال للصحف بإنه يتحمل مسئولية الهزيمة بإعتباره قائداً للمنتخب، بعدها أعاد نفس الموقف بحوار أجرته معها صحيفة سوبر الإمارتية وطلب من جماهير السودان أن تسامح لاعبي المنتخب.

عندما يحقق السودان أو الهلال أو المريخ أي إنتصار كروي أتذكر دوماً حكاية بلاتيني مع منتخب نيجيريا، فكيف نحقق يا سادتي الإنتصارات والفاسد ينخر في عظم بلادنا القابعة في صدارة مؤشر الدول الفاشلة؟
من أجمل وأطرف ما قرأت عن فساد الرياضة السودانية هو يوميات بعثة "الأزوال" في قطر التي دُونت بمقال الأستاذ الهادي هباني المعنون بـ(مهازل وفضائح البعثة السودانية في البطولة العربية بالدوحة) وفيه يحكي عن بعثة مكونة من 280 شخص حصلت علي 14 ميدالية من مجموع 1043 ميدالية؛ وهي أقل من 1% من نسبة العدد الكلي للميداليات. وقد أسترسل الأستاذ هباني في ذكر تفاصيل الفضائح المخجلة للبعثة السودانية بالأسماء والمناصب والتواريخ!
هذه المخالفات البائنة إذا حدثت في دولة تحترم نفسها لتمت إقالة وزير الرياضة وجري تحقيق مع رئيس الحكومة في شبهات الفساد المالي والسياسي التي تم سمعة وكرامة الدولة قبل أن تكون نقطة سوداء في سجل الرياضة السودانية. لا تفرحوا بإنتصار السودان علي بوركينا فاسو فلا يستقيم الظل والعود أعوج، ودولة الفساد لا يمكنها أن تصنع لكم إنتصارات دائمة!
قبل أيام طالعت خبراً في الصحف عن صدام الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة مع الإمام الصادق المهدي زعيم حزب الأمة بسبب دعوته للصلاة المختلطة بين الرجال والنساء، وقام أولئك العلماء لإستتابة المهدي وإصدار فتوى بشأنه وقالوا: "أقوال كفرية ندعو لاستتابة صاحبها الصادق المهدي، إما أن يرجع ويتوب أو يقدم لمحاكمة شرعية ترده وتردع أمثاله"، والموقف مرشح للتصاعد لأن هيئة شئون الأنصار قد ساندت فتوى الصادق المهدي وأيدتها من خلال إحد بيانتها. ولا يفوت علي العارفين بأن الصادق المهدي لم يكن أول من تبني بهذه الدعوة، فقد سبقه عليها حسن الترابي في دعوته لإمامة المرأة لطالما لفت نظري العلاقة الوثيقة لمؤسسة الفتوي الدينية بمؤسسة الحكم، وكانت أوضح حادثة لشرح هذا الترابط هو إعدام الأستاذ محمود محمد طه زعيم الحزب الجمهوري السوداني يوم 18 يناير 1985 بعد محاكمته بتهمة الردة؛ وهي ذات التهمة التي ألقيت علي الشيوعيين عقب حادثة معهد المعلمين والتي علي إثرها طُرد نواب الحزب الشيوعي السوداني من البرلمان عام 1968، وبعدها أُصدرت فتوى بإهدار دم الشيوعيين أينما وجدوا!

ولكن هذا الشئ الذي لا يمكن فعله مع الفتاوي المهدرة للدم؛ فالأحكام القضائية قد تسقط بالتقادم ولكن الفتاوى تستمر للأبد؛ وها هو الكاتب الهندي (سلمان رُشدي) لايزال طريد فتوى (الخُميني) منذ العام 1989 بسبب كتاب "آيات شيطانية" وذلك إثر تناوله لقصة الغرانيق. وهذه القصة لاتزال مثيرة للجدل حتي بين علماء المسليمن أنفسهم؛ فالإمام البخاري يقول بأن القصة صحيحة وقد قام بتدوينها في كتابه "صحيح البخاري" ضمن باب سجود القرآن، ولكن الإمام السيوطي والإمام البيهقي رفضوا القصة وطعنوا في صحتها! وجراء هذا التضارب في الأقوال والتفسيرات بين العلماء المسلمين ضاع مصير (سلمان رشدي) بالرغم من إستناده علي أحد أقوي الكتب التي يُعتمد عليها في التوثيق للأحاديث النبوية وهو كتاب "صحيح البخاري"!


قام الإسلاميون بتفجيير المكتبات التي تحتوي على مؤلفات (سلمان رشدي) وأحرقوا دور النشر التي تطبع له، وأقاموا المسابقات لحرق أكبر كمية ممكنة من مطبوعات الرجل الذي أرسلوا له أحد عناصر حزب الله اللبناني لإغتياله عن طريق كتاب مفخخ! بعدها قام (أحمد خاتمي) بالتأكيد علي أن فتوى إهدار دم (سلمان رشدي) لا تزال سارية وهي غير قابلة للتعديل! ظل الرجل هارباً من لعنة فتوى المرشد الأعلي للجمهورية الأسلامية الإيرانية، وبالرغم من أن (الخُميني) نفسه قد مات ولكنه ترك فتواه التي أطلقها عبر الراديو تُطارد الكاتب الهندي حتي آخر ساعة في حياته!

وكما تم إهدار دم الكاتب (سلمان رُشدي) فقد قام 14 من شيوخ الإسلاميين السودانيين في العام 2003 بإصدار فتوي إهدار دم عدد من الكُتاب والصحفيين، وشملت القائمة عدد من السياسيين والقضاة والمحامين، وقد كانت الصفقة محددة ومُغرية؛ عشرة ملايين جنيه سوداني للرأس الواحد، منهم الكاتب الصحفي الحاج وراق! بعدها أصدرت الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة يوم 4 يوينو 2003 بياناً تُكفر فيه الحزب الشيوعي السوداني، وتنظيم الجبهة الديموقراطية؛ التنظيم الطلابي للحزب في الجامعات. وكفروا كل الأحزاب التي تنادي بالديموقراطية والإشتراكية، وشنوا هجوماً عنيفاً علي الحركة الشعبية لتحرير السودان و أعتبرت الرابطة الشرعية أن الإنضمام للحركة كُفر، وتأجير المنازل والسيارات لمنسوبيها أو يتعامل معهم تجارياً أو دعائياً فهو في نفس مرتبة الكُفر معهم! وقام بالتوقيع علي الفتوي 26 شخصاً يسبق أسمائهم لقب "فضيلة الشيخ"، ومن هؤلاء "الشيوخ الأفاضل" نجد: محمد فاضل التقلاوي، مساعد بشير، عطية محمد سعيد، د. عبد الله الزبير، وعمر عبد الخالق وآخرون، قاموا بنشر الفتوى في الموقع الإلكتروني الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة!

قد يظن البعض بأن هذه الحوادث المتعلقة بالتكفيرين والراديكاليين الإسلاميين ما هي إلا حالات معزولة وشاذة، ولكني أعتقد بأن العنف المنهجي جزء أصيل من الأيدولوجية السلفية لنشر أفكارهم المتطرفة عن طريق القوة والإرهاب، ولعلكم تذكرون قتل المصليين أثناء صلاة التراويح في مسجد الجرافة على يد السلفي (عباس الباقر) في العام 2000، وكلنا يذكر حوادث مسجد مدني، ومسجد أنصار السنة، ولعلكم تتذكرون مقتل النساء والأطفال في إحدى صالات الأفراح بمدينة الدويم عن طريق قنبلة ألقاها أحد المتطرفين الإسلاميين لأنه قال لهم بأن صالات الأفراح والموسيقى حرام في شريعة الإسلام!

صديق طفولتي وزميل الدراسة طول 15 عاماً؛ محمد مكاوي، تحول بفضل الجماعات السلفية من شخص مُحب للحياة إلي إرهابي متطرف، وقد كنت شاهد عيان علي التحول التدريجي لصديق الطفولة من مغني بارع وممثل مسرحي ولاعب كرة ماهر، إلي مجرم يقتل بلا رحمة بأسم الإسلام! قام محمد مكاوي بقتل موظف الإغاثة الأمريكي (غرانفيل) وسائقه السوداني (محمد عبد الرحمن) ليلة 31 ديسمبر 2007 بالتعاون مع ثلاثة من المتطرفين الإسلاميين؛ أحدهم أبن الشيخ الهدية زعيم جماعة أنصار السنة بالسودان!


قد يظن البعض بأن وجود الفكر التكفيري في السودان مرتبط بفترة وجود زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن في السودان، وأنه ساهم بأمواله في دعم النهج التكفيري بأمواله الضخمة وأنه ساهم في خلق توأمة بين الجماعات التكفيرية في الداخل والخارج. ولكنني أرى بأن هذا الزعم يفتقد للصحة إذا ما رجعنا للتاريخ، فهناك سنجد أن الفكر التكفيري ومؤسسة الفتاوي تستند غالباً علي حائط السلطان لكي تنمو، حتي وإن كان الحاكم غير مسلم!!!في العام 1987 أصدر البروفسر (تيم نبلوك) بجامعة أكستر كتاباً بعنوان
1898-1985
  
قال فيه أن "مجلس العلماء" السوداني في فترة الإحتلال الإنجليزي المصري للسودان قد بارك تنكيل البريطانيين والمصريين بـ(الشيخ علي عبد الكريم) وأعطى ذلك التنكيل بُعداً شرعياً لأنهم "أولياء أمر المسلمين"، وتجاهل شيوخ مجلس العلماء إنهم قوى الإستعمار التي نفذت مجازر إبادة جماعية للسودانيين في كرري وأم دبيكرات وتركت الجرحي لأيام تحت هجير الشمس يموتون عطشاً وجوعاً، ومنعوا الناس من دفن أشلاء القتلي التي مزقتها مدافع المكسيم، وتركوا الجرحى يتعفنون وهم علي قيد الحياة بعدما منعوا الأهالي من إسعافهم ، فكان الجرحي نهشاً للدود والغرغارينا والكواسر من الطيور والوحوش! هذا هو موقف علماء السلطان السودانيين من أخوانهم وما لاقوه من أهوال الإستعمار.

شيوخ الفتاوى الجاهزة قاموا بتفصيل فتوى تُلائم جعفر نميري الذي غير لقبه إلى (أمير المؤمنين) بعد تطبيقه للشريعة الإسلامية في سبتمبر من العام 1983. نميري ضرب الجزيرة أبا بواسطة سلاح الطيران المصري  - الذي كان آنذاك تحت أمرة محمد حُسني مبارك - وبعدها أراد النميري سنداً دينياً لتبرير مجازره  فكانت مباركة العلماء لتلك الفظائع وقالوا في وصف أحداث الجزيرة أبا في 1970: "إن مبادئ مايو لا تخرج من مبادئ الإسلام التي تقوم علي العدل، والإحسان ومحاربة الظلم والفساد، لذلك أن الوقوف بجانبها واجب دينياً قبل أن يكون واجباً وطنياً، والخروج عليها خروج علي أمر الله، ومخالفة صريحة لأهداف ومبادئ الإسلام"!

عندما أسقط تلاميذ الحركة الإسلامية أستاذهم الترابي من قمة هرم السلطة عام 1999 وقع الرجل لتظهر السكاكين من حوله، ليصرخ بعدها في صحيفة الشارع السياسي بأن  "إبعاده من السلطة هو محاولة لإبعاد أصل الدين". و قال القيادي بالمؤتمر الشعبي (علي الحاج) لصحيفة الصحافة يوم 6 يناير 2000 أن المفاصلة "تُمثل تمرير لفصل الدين عن الدولة"! لا أعرف ما هي أول فكرة تقفز في رأس الترابي عندما يصحو من نومه؟ هل يظن الرجل بأنه إله أم نبي حتي يعتقد بأن إبعاده من السلطة إبعاد لأصل الدين؟ هل الفجور في الخصومة بين الإسلاميين وصل لدرجة أن يضع (علي الحاج) إخوانه من الجبهة القومية الإسلامية في خانة واحدة مع العلمانيين والكفار وأعداء الدين؟ أليس هذا هو الشيخ حسن الترابي نفسه الذي قال عن الرئيس عمر البشير بأنه "هبة السماء لأهل الأرض"؟ يظنون بأنهم سيحكمون حتي الموت وبلا محاسبة لمجرد إدعائهم أنهم يطبقون شريعة الله في الأرض ويستخلفون الإله؟ ولكم كان (لورد أكتون) صادقاً عندما بأن "السلطة المطلقة مفسدة مطلقة"!

عندما مال ميزان السلطة نحو البشير إنبري من جماعة التكفييرين ورجال الفتاوى يطالبون الرئيس البشير محاكمة الشيخ حسن الترابي وإعدامه مثلما أعدم الرئيس جعفر النميري الأستاذ محمود محمد طه بتهمة الردة! الرابطة الشرعية للدعاة والعلماء تري في "إجتهادات" الترابي إنكاراً بيناً للقرآن والسنة وتضليل لجماهير المسلمين، وقتل هذا الرجل فيه قضاء للحق وإيقاف للشر والضرر، ولكن لماذا لم نسمع منهم هذا القول الواضح أثناء وجود الترابي في السلطة ما بين الأعوام 1989 و 1999؟

قرأت قبل سنوات كتاب (حسن الترابي: آراؤه واجتهاداته في الفكر والسياسة) وهو عبارة عن حوار مطول أجراه محمد هاشمي الحامدي مع الترابي تم نشره في الكتاب سنة 1996. وفي هذا الكتاب إعتبر الترابي أن التكفيريين:  "ليسوا قوة ذات وزن تستحق أن نفرط طاقتنا المحدودة بهم وبترهاتهم .. دعهم يتحدثون حديثهم". والغريب أن الترابي نفسه هو الذي وفر السند القانوني للتكفيريين عندما طالبوا بإعدام الأستاذ محمود محمد طه في دولة أمير المؤمنين جعفر بن محمد النميري، ألم يكن الترابي وزيراً للعدل في العام 1979 وهو من ساهم في إدخال تشريع الردة ومبادئ الشريعة الإسلامية في القانون السوداني؟

وبالرغم أن الترابي كان أحد أعمدة نظام النميري إلا أنه كان لا يحترمه وينظر إليه بأستعلائية، فالترابي ينظر إلي نفسه كسياسي مرموق حاصل علي الدكتوراه من جامعة السوربون الفرنسية، أما جعفر نميري فكان "طيش حنتوب" وهو مجرد رجل عسكري محدود القدرات والتفكير. حدث ذات مرة أن سخِر من النميري عندما علم بأنه ألف كتاباً بعنوان (النهج الإسلامي .. لماذا؟) عقب إعلانه قوانين الشريعة الإسلامية في سبتمبر من العام 1983، وقال الترابي معلقاً علي ذلك: "هو متين نميري بقي مسلم عشان يكتب كتاب إسلامي؟". جعفر نميري لاحقاً عرف بهذه الحادثة وأقر بصحة هذه الرواية في السودانية أجراه معه الصحفي سيد أحمد الخليفة في مايو 1989 نشرته صحيفة الوطن السودانية.
كيف يقبل الترابي علي نفسه أن يكون داعماً لنظام إسلامي يتشكك في قوة إنتماء قائده للأسلام؟ وثم بعد هذا التشكك لماذا يقدم الترابي للنميري الفتاوى الدينية والدعائم القانونية لتدعيم تلك الفتاوى؟ لقد غذى المنافقون جنون جعفر نميرى وأقاموا له الأنصبة فقام النميري تحت تأثير جنون العظمة بطباعة صورته علي النقود السودانية، والترابي كان أحد أولئك الذين ساهموا في صنع الطاغية. التاريخ السياسي للشيخ حسن الترابي تُبين بأنه رجل منافق وشخصية حربائية بإمتياز.  

كتبت صحيفة السوداني عن قصة تعذيب الكادر الشيوعي الدكتور عمر التاج النجيب يوم 13 يونيو 2006 داخل مقر أتحاد طلاب جامعة أمدرمان الإسلامية علي يد "جماعة الدبابين التابعة لجماعة أبو مصعب الزرقاوي في السودان" وذلك بسبب توزيعه لبيان خاص بالحزب الشيوعي السوداني ينتقد فيه قرار حرمان الطلاب الغير قادرين علي دفع الرسوم الدراسية من الجلوس للأمتحانات! قام جماعة أبو مصعب الزرقاوي بمنع (عمر النجيب) من تناول الطعام وقاموا بتعليقه في مروحة السقف وضربه بالسيخ والأقفال الحديدية، وقاموا بصعقه بالكهرباء وتعذيبه بوساطة "زجاجية مياه غازية"، وضربوا (عمر النجيب) بمعقب مسدس علي رأسه حتي فقد الوعي، بعدها أرغموه علي توقيع وصل أمانة بمبلغ 15 مليون جنيه بدون تحديد أسم المستفيد! كل ذلك لأنه قام بتوزيع بيان للشيوعيين يرفض قرار منع الطلاب الغير قادرين مالياً من الجلوس للأمتحان، فتأمل!

أتراها صدفة أن يتصاعد نشاط الجماعات التكفيرية أثناء عهود الدكتاتوريات؟ وهل من المصادفة أن تكون أغلبية الفتاوي منذ الأستعمار ضد المعارضين للحكم أياً كانت مشاربهم؟ لماذا لم نسمع بفتوي تدعو للعصيان المدني بدعوي فساد الحاكم وحاشيته؟
في كتاب (حسن الترابي: آراؤه واجتهاداته في الفكر والسياسة) قال الترابي عن التكفيرين "أنهم يخدمون الغرب بضرب المسلم بأخيه المسلم"، ولعل هذه الجزئية هي من المرات القليلة صدق فيها الترابي، فالسلطة الفاسدة تستخدم علماء الإفتاء لضرب الناس بعصا الدين والترهيب بدعوة حماية حكم الله علي الأرض، ورجال الإفتاء أثناء إنشغالهم بهذه "المهمة المباركة" لم يلحظوا دماء ضحاياهم التي علقت في ثيابهم علي طول السنين، وهذه الدماء لن تزول بمجرد أن نمتثل لدعوة الترابي بترك التكفيرين وأصحاب فتوى السلطان يغرقون في بحر ترهاتهم، فالتغاضي عن أذي التكفيرين ورجال الإفتاء للسلاطين كمحاولة الرجل الذي تجاهل الغرغرينا التي تلتهم جسده بينما هو يقوم بمسح الزيت فوقها!
I took this pics from workshop organized by Sudanese Organization for Researches and Development (SORD); in this workshop the artists supported the idea of changing the current personal status law because it is unfair and don't tread men and women as equal. So; it's a call for social justice and gender equality that we want.
I enjoyed this workshop and spent good time with my artist friends like Sari, Amani, Susan, Samah, Ethar, Aziz, and Enas.
في العالم 1966 شاهد العالم فيلم "الخرطوم" للكاتب (روبرت أردري)  الذي يحكي عن الأيام الأخيرة للـ"بطل" الجنرال تشارلز غُوردن - أو غرّدون كما يُسميه السودانيين - والذي قتله أتباع محمد أحمد المهدي وقطعوا رأسه أثناء معركة تحرير الخرطوم التي سقطت تحت ضربات جيش الأنصار يوم 25 يناير 1885. مقتل الجنرال غرّدون مثّل صدمة للأمبراطورية البريطانية حينها بإعتباره أحد أعظم العسكريين الأنجليز في عصره، وكان له دور كبير في النصر بحرب الأفيون الثانية ضد الصين عام 1860؛ والتي علي إثرها ظل الإنكلتار في هونج كونج حتي العام 1999.
بوستر فيلم الخرطوم؛ وفيه يجسد تشارلز هينسون دور (غردون)، ويمثل لورانس أوليفير شخصية (المهدي)

قام العديد من الرسامين بتوثيق مقتل غرّدون "المفجع" في عدد من اللوحات التي قام بها (فيرّس)، (فرانك) و (كاستلّي) وغيرهم.
الرسم بريشة فيرّس

الرسم بريشة فرانك
الرسم بريشة كاستلّي
أما (بانش) ؛ مجلة الكاريكاتير الأقدم في العالم فنشرت رسماً يصور حرق وتدمير مدينة الخرطوم علي يد أنصار المهدية،  الأمبراطورية البريطانية تقف جانباً لتنتحب لمقتل (غرّدون)، وكُتب تحت الرسم "Too Late"، وهي أشارة لحملة إنقاذ غردون التي وصلت للخرطوم بعد سقوطها! صحيفة (Le Temps) نقلت إقتباساً عن صحيفة (Time) التي نشرت الكاريكاتير مرة أخري وكتبت التعليق الآتي :
See Mr. Punch's Cartoon At Last!" in preceding Number. "The Artist, in that admirable sketch, has simply translated the picture which had taken of every English imagination."

مجلة (بانش) الأنجليزية بتاريخ 14 فبرير 1885أحد أشهر من ودعتهم الخرطوم هو (إليتش راميرز سانشيز) الشهير بـ(كارلوس)؛ ذلك الثعلب الفنزويلي الذي أصاب بالصداع أعتي أجهزة المخابرات في العالم طوال عقود، لكنه وجد نفسه في قبضة المخابرات الفرنسية في الخرطوم عام 1994، ولربما كان الغدر به علي يد نظام الجبهة القومية الإسلامية أقسي عليه من ألم ختانه الذي قام به للزواج من أمرأة مسلمة علي أرض السودان!

كارلوس


مخرج فيلم الخرطوم (بازل ديردن) توفي في العام 1971 في حادث حركة أليم في موقع تصوير فيلمه الأخير " The Man Who Haunted Himself"، قٌتل المخرج في نفس المكان الذي كان من المفترض أن يُقتل فيه البطل بحادث تحطم سيارة؛ حسب سيناريو الفيلم! أهكذا تودع الخرطوم دائماً أُناسها، قتلي، محطمين، وكسيري الفؤاد؟

بازل ديردن
سيناريو الفيلم الأمريكي "2012" تخيل بأن الفيضانات سوف تغمر العالم لأن تقويم حضارة المايا يقف في العام 2012، وهو ما يعني أنها نهاية العالم! وإذا تجاوزنا أحداث الفيلم ووصلنا إلي خاتمته لوجدنا بأن الرؤية النهائية تقوم علي الترويج للقوة الأمريكية وبتصوير قادة العالم والصفوة المختارة ينتظرون بعجز العون الأمريكي لإنقاذهم من هذا الهلاك المحتوم، وبالفعل لم تخذلهم أمريكا وأنقذت البشرية، ولكن ذلك بعدما تحولت المركبة الماكوكية التي كان يريدون بها السفر للفضاء إلي قارب ضخم لم يجد بقعة يرسو عليها إلا الهضبة الأثيوبية! هل هذا يذكركم بشئ ما؟ إنها تشبه كثيراً قصة نجاة المؤمنين في سفينة نوح! 
هذه البروبوغاندا الأمريكية قدمت الخلاصة في شكل فيلم أكشن عُرض عقب الأزمة الإقتصادية العالمية التي تسببت فيها أزمة العقارات الأمريكية. الرسالة بإختصار هي: "ثقوا في قيادة أمريكا وقدراتها، فمهما واجهتم من مصاعب فأمريكا كفيلة بإنقاذكم في لنهاية".

بوستر الفيلم

ولكن يا حسرتنا علي السودان الذي مهما تذلل فهو لن يجد أي مقعد في سفينة أمريكا الناجية؛ كيف ننجو ورئيس دولتنا هو المطلوب الأول للعدالة الدولية بتهم إرتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ضد مواطنيه؟ رشحونا في قمة الغذاء العالم لنصبح سلة غذاء العالم فخذلناهم وأصبحنا علي شفى حفرة من المجاعة. كيف ننجو وإقتصاد البلاد وصل لمرحلة إستيراد الثوم من الصين وجلب البصل من أرتريا؟ كل شئ وصل مرحلة الإنهيار، الخدمات الصحية، التعليم، الرياضة، كل يوم تطالعنا الصحف عن إعتداءات مهينة لعساكر وضباط الشرطة علي المواطنين وصلت لدرجة الأغتصاب الجماعي لسجين أمام زملائه! فشلنا في أي شئ، وفي كل شئ، فشلنا حتي في تجميع فريق من الرجال قادرون علي ركل كرة من الجلد أسمها "كرة القدم"!

عمر البشير، عبد الرحيم محمد حسين و نافع علي نافع

الإمام الصادق المهدي، آخر رئيس وزراء شرعي للسودان أصابنا في مقتل، كان الشعب ينتظر القرار الحاسم من الصادق بإرجاع السلطة للجماهير من حكومة العسكرتارية، ولكن الإمام قال ذات يوم: "عمر البشير جلدنا وما بنجر فيهو الشوك!". أيعقل أن يكون هذا هو رئيس وزراء السودان المنتخب الذي أقسم علي حكاية الدستور والديموقراطية في البلاد؟ كيف يتحالف الصادق المهدي مع الرجل الذي إنقلب علي سلطة الشعب السوداني وإغتصب الحكم في ظلمة الليل البهيم؟ لماذا يدافع الصادق عن البشير مضحياً بكل سمعته وماضيه السياسي؟ 
خذلنا رئيس وزرائنا المنتخب، فبدلاً من أن يتصدر الصفوف ويقف بصدره في وجه المدافع والبنادق التي قتلت ناخبيه في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، ومن قبلهم في جنوب السودان؛ أضحي الصادق كحصان طروادة في صفوف المعارضة، ومقاتلاً مأجوراً بالوكالة عن حكومة الإنقلابيين الإسلاميين ضد مصالح الشعب السوداني والمنادين بالحرية! الصادق المهدي لم يقم بأي رد فعل علي الأنباء الواردة عن الإنقلاب العسكري الذي سمع تسريباته الناس في الأسواق!
الصادق المهدي


كتب الأستاذ كمال الجزولي مقالاً بعنوان "المهدي والترابي والخلاف علي إلتهام الموز السياسي" متحدثاً عن عرض الترابي للمهدي بالإنقلاب عسكرياً علي النظام الدستوري، وأقتبس من المقال:

حدثني السيد الصادق المهدي أواخر 1992م، قال: "كنا، في مارس/آذار 1989م خارجين لتوِّنا من أزمة ديسمبر/كانون الأول 1988م، وسببها زيادات كنا اعتزمناها فـي اﻷسعار، وكانت اﻷجواء ملغومة بـ"مذكرة الجيش" لمجلس السيادة في 20/2/1989م، عندما جاءني- في ما حسبته للوهلة الأولـى زيارة اجتماعية- أحمد سليمان القيادي في الجبهة الإسلامية المؤتلفة معنا وقتها فـي "حكومة الوفاق". وأثناء أنسنا سألني فجأة:
ـ "ألا توافقني في أننا معاً اﻷكبر تفويضاً شعبياً"؟!
فهمت أنه يشير لحزب الأمة والجبهة الإسلامية مجتمعين، فأجبته:
ـ "بحسب صناديق الانتخابات.. نعم".
ـ "حسناً.. أنا لا أرى مخرجاً من هذه الأزمات ما لم نحسم قضية السلطة عسكرياً، ونتحول إلى النظام الرئاسي، ونغلق البلد لعشـر سنوات انتقالية، نعالج خلالها مشكلة الجنوب، ونصفي ديوننا، وننعش اقتصادنا، ونرمم علاقاتنا الخارجية، ونحسم الفوضى الحزبية والنقابية والصحفية، فنهيئ البلد بالتدريج لديمقراطية راشدة؛ ولا أرى أنسب منك طوال الفترة المذكورة رئيساً للجمهورية"!

ومضى المهدي يقول: "لم يخطر ببالي -أثناء حديث الرجل- سوى أنه مَن ورَّط الشيوعيين فـي انقلاب مايو/أيار 1969م، وها هو يريد أن يسوِّق للجبهة الإسلامية ولنا معها مغامرة أخرى، فقلت له: قد تبدو الخطة نظرياً براقة، لكنها عملياً ليست كذلك. انظر.. بالديمقراطية عالجنا أزمة ديسمبر/كانون الأول، وأزمة الحكم التي فجرتها "مذكرة الجيش"، وهذا لا يعيب النظام الديمقراطي لكونه من طبعه، أما النظام الشمولي فيركز -وفق قوانينه الباطنية- على تأمين نفسه، من تضييق إلى تضييق، ومن عسف إلى عسف، مع ما يجره ذلك من إنفاق بلا حدود على اﻷمن والدفاع، وهيهات أن ينجح مع ذلك في تحقيق أي استقرار".

وختم المهدي روايته قائلاً: "بعد أيام وأثناء مناسبة عائلية، اقترب مني الترابي هامساً: هل جاءك أحمد؟! ففكرت برهة، لكني حين أدركت المقصود والتفت إليه ألفيته فص ملح وذاب!، هكذا بلغتني الرسالة واضحة: ننتظر ردَّك"!
إنتهي الإقتباس، ولكن هذا يعيد تذكيرنا بحديث عبد الرحمن فرح عن معرفة الصادق المهدي بأنباء الأنقلاب العسكري للإسلاميين الذي إنتشرت الإشاعات عنه عقب صدور مذكرة الجيش في يوم 20 فبراير 1989، أي قبل أربعة أشهر كاملة من وقوع إنقلاب 30 يونيو 1989!

رئيس الوزراء المنتخب ديموقراطياً يحذرنا من محاكاة ثورات الربيع العربي خوفاً علينا من سفك الدماء! قُتل أكثر من ثلاثة ملايين سوداني في عهد حكومة "الإنقاذ الوطني"، فهل هذه الدماء التي أريقت كانت مجرد مزحة؟ هل يظن الصادق المهدي بأن كل شئ بخير لمجرد أن أولاده وبناته يعيشون بسعادة في الثراء الذي نالته أسرتهم الإقطاعية من أراضي وأموال السودانيين البسطاء؟ الصادق المهدي يملأ رؤسنا صباحاً ومساءً بمحاضراته عن الديموقراطية وأبنيه أحدهما في جهاز الأمن، والآخر في الجيش! لقد رفض المهدي أن يكون قائداً لكل السودانيين ورمزاً للحرية والديموقراطية وأختار أن يكون زعيماً طائفياً عتيق الطراز، وحليفاً وثيقاً للعسكر، في فترة مايو والإنقاذ، ومدافعاً متحمساً عن المطلوبين للعدالة الدولية!
الصورة تُعرّف بنفسها
لمصلحة من يقوم الصادق المهدي بتفريق صفوف المعارضة؟ فعلها من قبل عندما قام بمصالحة جعفر النميري في بورتسودان عام 1977، وقام بشق صف التجمع الوطني الديموقراطي عندما أنسحب منه عام 1996، وها هو الرجل يفعلها مجدداً بهجومه علي  المعارضة ورموزها ليحصر أزمته مع قوي الإجماع الوطني في "إسم التحالف" ومقترحاً القيام بتسمية جديدة تناسب الواقع لأن قوي المعارضة "غير مجتمعة"، وقد نسي الصادق المهدي في أنه تسبب في شق صفوف هذا التحالف!
يطالب المعارضة بعدم إستخدام العنف في تغيير النظام، وإنما عن طريق "القوة الناعمة"، ولكأنما النظام قد إستجاب لمطالب الحوار ونداءات التداول السلمي للسلطة، أولم يسمع السيد الإمام رأس الحكم نفسه وهو يقول علانية في مكبرات الصوت بأن الإنقاذ أتت بالسلاح، ومن أراد تغييرها فليفعل بالسلاح!
أما السيد محمد عثمان الميرغني، رئيس الحزب الإتحادي الديموقراطي، ورئيس التجمع الوطني الديموقراطي (المقبور)؛ فقد كبّل المعارضة وأعاق حزبه بخموله الغريب، ولم أعرف له موقفاً واضحاً ضد النظام سوي العبارة الشهيرة "سَلّمْ تَسْلّم"، وهي العبارة عرفت معناها الحقيقي لاحقاً؛ فالشعب ظنها (تهديداً) من الميرغني للبشير بتسليم السلطة للشعب السوداني، ومولانا الميرغني كان لا يهدد البشير؛ بل كان يرجوه أن يغدق عليه من عطاياه، فرمي المشير فتات ما تبقي من السلطة للميرغني وأولاده فمضوا بها فرحين وتناسوا مظالم الشعب السوداني الذي يعقدون بأسمه الإتفاقيات ويقتسمون بأسمه الثروات. وفعلاً، لقد (سَلِمْ) المشير البشير من شر الميرغني وأبنه خريج روضة الحنان بعد أن قام بتسليمهم (الفيها النصيب)! 
آل الميرغني

مفارقة التراجوكوميديا الكُبرى تتمثل في أن يتزعم حسن الترابي صفوف المعارضة السودانية وأن يصبح الأعلي صوتاً في إسقاط النظام الذي جلبه إلينا! تأملوا هذا: الترابي يريد إسقاط البشير الذي قال عنه بأنه "هبة السماء لأهل الأرض"، وبعد أن أسبغ عليه من صفات الأنبياء والأولياء طيلة سنوات تواجد الترابي في رأس السلطة، ولكن بعد إنقلاب تلاميذ الترابي علي شيخهم أصبح زعيم حزب المؤتمر الشعبي يكيل السباب للبشير سراً وعلانية، بل ويستند بآيات من القرآن يدعو فيها الرئيس لتسليم نفسه للمحكمة الجنائية الدولية، بعد أن كان يستخدم نفس القرآن لتأليه البشير؛ هبة السماء لأهل الأرض!
 وهنا يحضرني رسم كاريكاتيري للفنان (مصدق) علي صفحات جريدة الميدان قُبيل الإنتخابات "المخجوجة"، وفي ذلك الكاريكاتير يظهر الترابي وهو يكيل السباب للشجرة – رمز المؤتمر الوطني في الإنتخابات – ويصرخ بوجوب إقتلاعها، ولكن أحد المواطنين يرد علي الترابي بأن هذه الشجرة كانت من غرس يده!


التُرابي

في فيلم "In The Mouth of Madness" ، أحد ثلاثية أفلام "الرؤية النبوءية" للمخرج (جون كاربنتر)، نجد أن بطل الفيلم الروائي شهير (سوتر كين) قد أسقط قراء رواياته في دوامة لانهائية من الكوابيس المتداخلة بطريقة يصبح من المستحيل معرفة الخط الفاصل بين الحقيقة والوهم، وفي الفيلم ستشاهدون الروائي (سوتر كين) وهو يتحدث مع الشخصيات التي كتبها قلمه، ولتكتشف بأن (سوتر كين) يصبح هو أحد الشخصيات المشاركة داخل الأحداث التي صاغ تفاصيلها خياله! كل شئ متداخل في بعضه؛ القراء الحقيقيين، وشخصيات الرواية، وكاتب الرواية نفسه، كلهم يتفاعلون بطريقة قد تصيبك بالجنون إذا حاولت مشاهدة الفيلم أكثر من مرة لمحاولة إمساك رأس خيط الحقيقة!
بوستر الفيلم

 وأنا أحسب بأننا نعيش في حالة مماثلة لأحداث ذلك الفيلم الأمريكي، فظني يقول بأن كل ما يجري ما هو إلا فيلم كتبه حسن الترابي وأعد للجميع أدوارهم فيه، وتوزيع الأدوار تم بتنسيق محكم، سيناريو يضع ممثلين في مجموعة أسمها (الحكومة)، وآخرون أسمهم (المعارضة)، والبعض دورهم في الفيلم يقتضي أن يكونوا كومبارس، ومن المستحب أن يحصل صراع بين الشخصيات لخلق تشويق سينمائي. في هذا الفيلم الترابي يتقمص بإمتياز شخصية (سوتر كين)، وحسب السيناريو؛ في البداية يكون الترابي هو كاتب قصة الفيلم، ولاحقاً يصبح من ضمن الممثلين في الفيلم!


غلاف الرواية الخيالية التي أصبحت واقعاً


بوستر آخر للفيلم
هل تذكرون دور الترابي في تمكين الإسلاميين إقتصادياً وسياسياً في عهد حكومة جعفر نميري وكونه جزءً أصيلاً من السلطة حتي أسابيع من قيام إنتفاضة أبريل 1985؟ هل تذكرون تمثيلية الترابي والبشير للإنقلاب علي الديموقراطية الثالثة؛ تمثيلية "أذهب للقصر رئيساً وسأذهب للسجن حبيساً"؟ الترابي يعرف جيداً من أين تؤكل الكتف، وهو الآن في قيادة المعارضة ويعرف ماذا يريد أن يفعل!
أدخلنا حسن الترابي والصادق المهدي في دوامة من الأوهام والأكاذيب، كيف يمكن تصديق هذا؟ الصادق المهدي رئيس الوزراء الشرعي يطالب شعبه الذي إنتخبه بعدم الثورة ضد الإنقلابيين ومقوضي النظام الدستوري في البلاد؟ كيف أمسي الترابي الذي جلب لنا هذا البلاء العظيم هو قائد ثورة الحرية؟ أما الميرغني فهو في المنطقة الرمادية (عصاية نايمة .. وعصاية قايمة) ومع تضارب التصريحات لم نعرف إلي أين مسير الرجل ومصيره! كيف رضينا علي أنفسنا القبول بمجرد رؤيتهم يتبادولون الأدوار بهذه الطريقة طيلة نصف قرن؟ أيريد الترابي والصادق والميرغني دفعنا جميعاً لحافة الجنون؟  
جميعهم ساهموا في تقويض اي مقاومة مدنية للحكم العسكري، فجعلوا المعارضة تنتقل من مرحلة النضال المسلح إلي القبول بخمسة نواب بلا صلاحيات في برلمان إتفاقية نيفاشا، وبلغت المعارضة من الهوان لدرجة عدم إستطاعتها إقامة ندوات في مقراتها! إبتلعوا كل شعارات العمل المسلح وعنترياته، وأضحوا يتحدثون عن التداول السلمي للسلطة وإستخدام "القوة الناعمة" لتغيير النظام تدريجياً! 
نحن شعب لا يتذكر، ذاكرة السمكة التي نعيش بيها جعلنا نتجاهل  تاريخ من ساهموا في جريمة إجهاض مشروع الدولة الوطنية والممارسة الديموقراطية السليمة لصالح إستمرار سلطة الطائفيين وتجار الدين الذين يدورون بالبلاد في الحلقة الجهنمية (ديموقراطية – عسكرتارية)؟ جعلوا اليأس يتملك الشعب لدرجة جعلت البعض ينتظر ثورة تصحيحية من داخل المؤتمر الوطني الذي أصبح اللاعب الأساسي في ميدان السياسي، هو المبادر وهو صاحب رد الفعل، والباقي في مقاعد المتفرجين، أو هكذا دورهم!
قد ينتظر صديقي تحقق نبؤءة تقويم المايا الخرافية بنهاية العالم، أو دمار الخرطوم علي أقل التوقعات، ولكن من المؤكد بأن إله الحرب "بولون يوكتي" عند المايا إذا أتانا فلن يجد شيئاً يدمره، فالخراب قد عم كل شبر في البلاد وكل شئ قد سُوي بالأرض، وصديقي يقول لي بأن دمار الخرطوم في العام 2012 حتمي ولا شك فيه، فإن لم تدمرها نهاية العالم التي ينتظرها البعض فسوف تُدك لأنها ستكون أرض المعركة المقبلة لحسم الصراع علي السلطة والثروة، فالنار أكلت كل شئ ولم يتبق إلا العاصمة، وكل الطرق تؤدي إلي الخرطوم، والخرطوم قد ودعت غردون وكارلوس من قبل، فمن يا تري سوف تقوم بوداعه في هذا العام، وكيف ستقوم بذلك؟

 في فيلم الخرطوم لـ(بازل ديردن) يختتم الراوي القصة بقوله: "عال لم يتسع من أجل البطل تشارلز غوردون لهو عالم محكوم عليه بالفناء!"، أهي نبوءة عن الخراب الذي سيصيب الخرطوم التي ضاقت علي غردون بما وسعت، أم هي لعنة ألطلقوها علينا؟ وأنا أقول، هي فعلاً نبوءة إذا إستمر تحالف الطائفيين وتجار الدين في التلاعب بالسودان  وإستنزافه حتي نهايته، وهذا التحالف القمئ يذكرني بتلك الكائنات الطُفيلية التي تظل تمتص دماء عائلها حتي الرمق الأخير، تظل عالقة به لآخر نقطة دم، ولا تقارفه حتي بعد موته. وعلي نسق راوي الفيلم الأنجليزي أقول: "سودانٌ لم يتسع من أجل مشروع دولة المواطنة والديموقراطية الحقّة لهو سودان محكوم عليه بالفناء!"



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق