الجمعة، 15 نوفمبر 2013

بهجت حمدان ... الهارب من الإعدام


بهجت حمدان ... الهارب من الإعدام

بعد نكسة يونيو 1967 .. وبينما الطائرات الاسرائيلية كانت تمرح آمنة كيفما تشاء في سماء مصر ... كان بهجت حمدان ينقل إلى العدو أولاً بأول خرائط وصور القواعد العسكرية المصرية ... ويشعر بنشوة غامرة لنجاحه في "العمل"... ولثقة الموساد في معلوماته.

وأمام تدفق الأموال عليه... كوّن شبكة جاسوسية خطيرة في القاهرة ... لكي يزداد ثراءاً ورونقاً .. وتوحشاً.

ولحظة سقوطه في قبضة المخابرات المصرية.. صرخ غير مصدق: مستحيل ... مستحيل ... كيف توصلتم إليّ.. ؟

لقد دربوني جيداً في أوروبا... بحيث لا أسقط أبداً... !!!

لغة الجسد

أصيبت المخابرات الإسرائيلية بصدمة قاسية عندما انكشف جاسوسها المدرب بهجت حمدان ...وزلزل النبأ كبار ضباطها الذين أعمتهم الثقة وغلفهم الغرور ... ذلك لأن الجاسوس مدرب جيداً في أوروبا بواسطة أمهر الخبراء... وحصل على دورات تؤهله لكل المهام التجسسية الصعبة... دون أن يثير شكوك المخابرات المصرية، وظل العميل المدرب "نائما" لسنوات في أوروبا انتظاراً للحظة الانطلاق...

 

 

لقد أجاد فنون التجسس دراسة. عكس غالبية الخونة الذين يُدفع بهم عقب تجنيدهم مباشرة لممارسة العمل ضد بلادهم ... وكان تجنيده قد تم بواسطة نقطة ضعفه – المال – الذي ظل يلهث وراءه .. إلى أن وقع.

ولد بهجت يوسف حمدان بالإسماعيلية في 24 ديسمبر 1932 لأب ثري يعمل في التجارة اجتهد في عمله لتأمين حياة كريمة لأسرته. مضحياً بكل ما لديه في سبيل تعليم أولاده وتبوئهم مناصب مرموقة في المجتمع.

وأمضى بهجت طفولته على شاطئ القناة في المدينة الجميلة الساحرة... ولما حصل على الشهادة الاعدادية كان والده قد قرر الانتقال نهائياً إلى القاهرة بعدما توسعت تجارته واشتهر اسمه ... فالتحق بهجت بمدرسة الخديوي إسماعيل الثانوية ... وتبلورت شخصيته بها وظهر حبه وولعه بالرسم والفنون ... للدرجة التي جعلته يهرب كثيراً من المدرسة ليزور المتاحف والمعارض الفنية... وكان ينفق مصروفه على شراء الألوان وأدوات الرسم، الأمر الذي استدعى تدخل والده لصرفه عن هوايته التي رآها الأب مضيعة للوقت على حساب مستقبله.

وفي عام 1950 نال بهجت حمدان شهادة الثانوية العامة بصعوبة... واتجهت نيته إلى الالتحاق بأحد المعاهد الفنية لتنمية موهبته... لكن الأب عارض بشدة مصراً على تعليمه كأبناء الباشوات... وأرسل به إلى ألمانيا الغربية لدراسة الهندسة المعمارية في جامعاتها.

وأمام رغبة الأب وإصراره.. حزم الشاب حقائبه وطار إلى ميونيخ وفي نفسه غصة لضياع حلمه في أن يكون رساماً.

وفي ميونيخ تصدع عقل الفتى الأغر .. فقد وجد نفسه فجأة بداخل مجتمع غريب عن طبيعته كشرقي... مجتمع يفيض تحرراً وانفتاحاً يستطيع الامتزاج به بسهولة .. لذلك انطوى على نفسه في بادئ الأمر... وفشلت الأسرة الألمانية التي يقيم معها في إخراجه من عزلته.. فطلبت من إدارة الجامعة استبداله بآخر... وانتقل بهجت بعدها إلى سكن بيوت الطلاب... لدراسة اللغة مبتعداً عن المغريات التي تستهوي الشباب... وكرس كل جهده ووقته لذلك حتى وقعت له حادثة بدلت طريقه وطباعه.

فقد دعاه زملاؤه الطلاب لقضاء سهرة الكريسماس بأحد المراقص... وفي النادي الليلي حيث الخمر والرقص والفتيات الحسناوات والغزل .. تعرف بشاب مغربي قدمه إلى إحدى صديقاته... وعلى "البيست" أخذ يراقصها... فتناثرت عنه انطوائيته وضاع خجله.. وانقلب من وقتها إلى شاب جديد مليء بالثقة في نفسه.. يملك القدرة على إدارة الحوار بشتى أشكاله.

بعدها . تعددت السهرات مع الفتاة الألمانية .. التي أخذت تحيطه بالاهتمام فأحبها... ولم يعد بمستطاعه الافتراق عنها يوماً واحداً... ومن المصروف الذي كان يرسله أبوه ...أخذ ينفق عليها في المطاعم والبارات والمنتزهات .. مضحياً بأوقات الدراسة والاستذكار... وكانت النتيجة الطبيعية رسوبه في أولى سنواته الجامعية... ونجاحه يتفوق في تعلم لغة الجسد وتشريح مفاتنه.

الأبواب الموصدة

انشغل بهجت حمدان بحياته الأوروبية المتحررة... واكتشف في نفسه لحولة تغري الفتيات وتسحر النساء... فلم يعد يقنع بواحدة منهن... إلى أن ساءت سمعته بين الأوساط الطلابية العربية..

ولما علم أبوه بنبأ رسوبه أصيب بخيبة أمل... وبرر له الابن أسباب فشله التي أرجعها إلى صعوبة اللغة الألمانية واختلاف الطقس وظروف الحياة.. فسكت الأب على مضض... وحذره من تكرار الرسوب مهدداً بأنه سيضطر إلى قطع المصروف عنه.

لكن الشاب العابث لم يبد رغبة بينه وبين نفسه في تغيير مساره الشائن... إذ استمر على حاله في المجون... حتى جاءت الامتحانات... ورسب للمرة الثانية.. وأخذت الجامعة بتقارير أساتذته التي تصفه بأنه سلبي لا يبذل جهداً يذكر في تحصيل العلوم فتم فصله... وأرسلت الجامعة بصورة من قرارها إلى والده بالقاهرة فصدم .. وكتب في الحال إلى ابنه يطلب منه الرجوع ليعاونه في أعماله التجارية...

فهل انصاع الابن.. ؟ وهل قبل وداع حياة التحرر هكذا بسهولة .. ؟

بالطبع كان الأمر شديد الوقع على نفسه، فهو لم يعد يتخيل كيف يرضى بالعيش في مجتمع القاهرة المغلق بعد ذلك...

كان مجرد التفكير في ذلك يؤرقه... ويدفعه لأن يقاوم رغبة والده في العودة .. فقد ألف الحياة الأوروبية بكل صنوفها وأشكالها.. وفي حرمانه منها الظلم والموت البطيء.

ومنذ تلك اللحظة ... اتخذ قراره بألا يعود إلى مصر ومقاومة تهديدات والده بإثبات ذاته من خلال الإنفاق على نفسه... وساعدته ظروف علاقاته المتشعبة في العمل بإحدى الشركات التجارية... وهيأ له راتبه حياة مجون لا تقل عما كانت عليه من قبل .. فداوم على البحث عن ملذاته ... وأصبح زبوناً دائماً ومألوفاً بشوارع شتافوس وشتراسة وشوانبخ حيث المومسات متراصات في الفتارين وعلى النواصي يساومن المارة.

وما إن هل عام 1955 حتى طرأ حادث جديد على حياته.. إذ تعرف بالحسناء "إنجريد شوالم" الألمانية الرقيقة وأحبها.. وبادلته الفتاة الحب بإخلاص وسعت لانتشاله من الفشل الذي يوجهه ... والحياة الرخيصة التي انغمس فيها.. وبعدما تزوجها حرصت إنجريد على تحفيزه لدراسة الهندسة إرضاء لأسرته في مصر...

هكذا وقفت زوجته إلى جواره لا هم لها سوى الارتقاء به لأجل حياة أفضل... فقد مرت سنوات قليلة على انتهاء الحرب العالمية الثانية ... التي خرجت منها ألمانيا مهزومة محطمة ... مقسمة .. وكانت بحاجة إلى كوادر علمية وفنية لإعمارها من جديد.. والدخول بها إلى دائرة التنافس الاقتصادي والصناعي.

لكن فتانا كان قد توصل إلى هدف جند كل حواسه لتحقيقه... وهو الإثراء بشتى الطرق ليكون من رجال المال والأعمال المشهورين... ولأنه بلا خبرة ... ولا تدعمه شهادات علمية .. فشل فشلاً ذريعاً في ان يكون إنساناً ناجحاً ومرموقاً.

وفي عام 1958 حصل بطرق ملتوية على شهادة في الهندسة الإنشائية .. قام بتوثيقها في السفارة المصرية وعاد بها إلى القاهرة ومعه زوجته... فأثلج صدر أبيه وغمره بالفرحة ..

أحبت إنجريد الأسرة الجديدة وعشقت جو القاهرة .. وسرعان ما تأقلمت مع العادات الاجتماعية وأصبحت جزءاً من نسيج الأسرة..

وأمام ضغوط أبويه وإلحاحهما المستميت... وافق بهجت على البقاء للعمل والعيش في القاهرة... وبمساعدة الأب التحق بوزارة الاسكان... وعمل في مشروع "الخمس سنوات" الذي جندت له الحكومة وقتذاك إمكاناتها الهائلة لإنجاحه.

كانت ظروف العمل الجديد تتيح لبهجت أن يغش ضميره... ويفتح يديه لتلقي المال الحرام... فعاودته من جديد أحلام الثراء التي تكسرت في ألمانيا... وأراد تحقيقها في بلده.. ذلك لأن راتبه الضئيل لا يمكنه من ارتياد المراقص... والظهور أمام زوجته بمظهر أعلى يقوف موارده..

لهذا عرف طريق الرشاوي مستغلاً مركزه الوظيفي... وتقرب كثيراً من أصحاب الشركات الأجنبية بالقاهرة... وأطلعهم على أسرار المناقصات والعطاءات التجارية فأغدقوا عليه بالأموال .. حتى فاحت رائحته بين الموظفين، واشتم فيه المسؤولون فساد الذمة ففصل من العمل .. وأغلقت في وجهه أبواب الحياة في مصر... فغادرها إلى لبنان يائساً ومعه انجريد الحزينة..

وفي لبنان أدركه الفشل في الحصول على عمل مناسب... فاقترحت عليه زوجته أن يعودا إلى ألمانيا حيث فرص العمل متوفرة هناك. لكنه رفض بشدة .. فهي لا تدري شيئاً عن شهاداته الدراسية المزورة التي لا يستطيع إبرازها في ألمانيا.

ومع احتدام الخلاف بينهما... حملت أنجريد حقيبتها غاضبة حانقة وسافرت إلى ميونيخ وحدها... بينما طار هو إلى باريس يمني نفسه بالمال الوفير... والباريسيات الفاتنات ذوات القدود المائسة والأنوثة والدلال.

جاسوس للبيع

كانت باريس في ذلك الوقت من صيف 1960 تضج بالحياة والحركة والجمال... حيث يرتادها مشاهير العالم بحثاً عن الجديد في عالم الأزياء... أو لالتماس الهدوء بين ربوعها... وتنتشر بشوارعها شتى الوجوه والألوان والغرائب... فهي عاصمة النور في أوروبا... ومأوى الفن ... وملاذ الصعاليك... وهواة تصيد الفرص على مقاهيها... وايضاً... وكر آمن لصائدي الجواسيس والخونة لكل أجهزة المخابرات.

نزل بهجت حمدان بفندق "ستار" بوسط المدينة .. وهو فندق بسيط يرتاده شباب المغتربين – وغالبيتهم أفارقة وآسيويون – لرخص سعره ولقربه من قلب العاصمة حيث المطاعم الرخيصة والمقاهي ... وسهولة المواصلات.

ومنذ وطئ بهجت فرنسا ضايقته مشكلة اللغة... فهو يتكلم الألمانية بطلاقة وبعض الانجليزية... أما الفرنسية فكان يجهل مفرداتها البسيطة التي لا تمكنه من التحرك بثقة وسط أناس يرفضون التعامل بغير لغتهم.

وفي اليوم التالي فوجئ بموظف الاستقبال يرحب به باهتمام... وتحدث معه بالعربية السليمة... واصفاً له السنوات التي قضاها في بورسعيد موظفاً بإحدى شركات الملاحة حتى غادرها إبان أزمة 1956.

كان الفرنسي اليهودي يعمل مخبراً لرجال الموساد في باريس... تنحصر مهمته في التعرف على العرب النازحين الباحثين عن عمل... أو أولئك الذين قدموا للسياحة أو الدراسة ... ويتولى بعد ذلك تقديمهم – كل حسب حالته – إلى رجال الموساد ... فلما اطلع على ظروف بهجت أدرك بأنه صيد سهل ... فهو يمر بأزمة مالية ويواجه مشاكل مع زوجته الألمانية بسببها... فضلاً عن وظيفته السابقة في مصر التي قربته من الكثيرين من رجالاتها في مختلف المواقع.

لذلك ... رتب له دعوة للعشاء بأحد المطاعم الراقية... وهنا قدمه إلى صديقه "جورج سيمون" ضابط الموساد الذي ظهر بشخصية رجل الأعمال...

استشعر بهجت الأمان بعض الشيء... واطمأن باله وهو يتجاذب بالألمانية أطراف الحديث مع جورج سيمون... وطال الحديث بينهما في مجالات كثيرة تخص أحوال مصر اقتصادياً وتجارياً... حتى تطرقا إلى مشروع "الخمس سنوات" وفوجئ سيمون بمحدثه يخبره بأنه يمتلك ملفات كاملة عن المشروع يحتفظ بها في القاهرة... وكذا تقارير اقتصادية خطيرة تدرسها الحكومة المصرية خاصة بوزارة الاسكان.

وبعد عدة لقاءات وسهرات في النوادي الليلية – بأموال الموساد بالطبع – قام جورج سيمون أثناءها بعملية "تشريح" متكاملة لفريسته... من حيث ميوله ورغباته ونقاط ضعفه... فتبين له أن الشاب المصري المفلس "يعبد القرش" .. ولديه أسباب قوية لأن يطرق كل السبل من أج الحصول على المال.

لذلك لم يكن من الصعب استقطابه .. وإحاطته بشعاعات من أمل في العمل والثراء... وجاء الرد حاسماً من تل أبيب: "مطلوب تجنيده وبأي ثمن".

وكان الثمن زهيداً جداً عندما سلمه عميل الموساد ألفاً وخمسمائة فرنك فرنسي .. على وعد بإيجاد عمل محترم له إذا ما كتب تقريراً وافياً عن مشروع "الخمس سنوات"... والخطوات التي تمت بشأنه... والمعوقات التي تواجه مصر في تنفيذ سياساتها الاقتصادية... وكانت هذه الخطة أولى محاولات تجنيد بهجت حمدان.

إن عملية تجنيد جاسوس جديد تعد من أكثر النشاطات المخابراتية صعوبة وخطورة... ومنذ اللحظة الأولى في هذه العملية يجد صائد الجواسيس نفسه في موقف صعب... فالشخص الذي اختاره لتجنيده ربما يفطن إلى الحيلة ... وبذلك فقد كشف عن شخصيته له قبلما يتأكد من استجابته.

لذلك... فالمهارة هنا لها الدور الأساسي في عملية تجنيد الجواسيس الجدد.. بمعنى أن العميل يجب أن يكون واثقاً من تقديره للموقف... وأن يكون حذراً للغاية حتى يتمكن من التقهقر في الوقت المناسب إذا ما حالفه الفشل..

ولكي يضمن جورج سيمون إحكام حلقته حول بهجت حمدان ... رتب له لقاءً حاراً في "مصيدة العسل" مع سكرتيرته المتفجرة الأنوثة... وهذا الأسلوب تميزت به الموساد عن سائر أجهزة المخابرات للسيطرة على المطلوب تجنيدهم .. وتفننت في استخدامه بتوسع ...حيث يتم تصوير هؤلاء في أوضاع شاذة .. وتسجيل حوارات سياسية تدينهم ... فتنهار أعصابهم حين مواجهتهم ولا يستطيعون الخلاص أو الفكاك.

وما إن ووجه بهجت بالأفلام العارية التي تحوي مشاهد مؤسفة .. وأحاديث مليئة بالسباب للعرب وقادتهم... حتى بهت الصياد وتفصد عرقاً ... نعم .. بهت لأنه فوجئ بما لم يتوقعه أن يحدث له من قبل.

لقد صرخ بهجت حمدان في وجهه .

الصفقة الناجحة

كان اللعب قد أصبح مكشوفاً بين الصياد والفريسة... وكانت الخطة تقتضي أولا أن يسافر بهجت إلى فرانكفورت حيث الانطلاقة من هناك ... بعد ذلك يتم عمل "ساتر" يختفي وراءه.

وفي فرانكفورت استقر الجاسوس الجديد بأحد فنادقها... وأرسل إلى زوجته إنجريد فأسرعت اليه سعيدة بقدومه... وأنبأها بأنه التقى في باريس برجل أعمال كبير وعده بإيجاد عمل له في بورصة الأوراق المالية... ومكثا معاً عدة أيام في نزهات خلوية صافية ... إلى أن زاره "صموئيل بوتا" الخبير في أعمال البورصة والتجارة الدولية.

بدأ بوتا في تعليم بهجت كل ما يتصل بأعمال البورصة ودراسة السوق المصرفية، وعرفّه بالعديد من رجال الأعمال وهيأ له المناخ الملائم لكي يستوعب هذا النوع من العمل الذي يتطلب قدراً عالياً من الذكاء والمهارة ... وناضل ضابط المخابرات الاسرائيلية من أجل خلق رجل أعمال مصري ناجح .. للدفع به في الوقت المناسب إلى مصر ... فيتعرف على علية القوم ورجال الأعمال بها... مما يتيح له التغلغل بين الأوساط الراقية وذوي المناصب الحساسة.

إن المخابرات الإسرائيلية لا تصرف الآلاف من نقودها هباءً... بل تدرك بحق أن المنافع التي ستعود عليها بعد ذلك ستكون رائعة.

واستمراراً لخطة صنع جاسوس محترف ... انتقل بهجت إلى مدينة "بريمن" حيث قدمه بوتا للعديد من أصحاب شركات البترول والتجارة... وعمل لديهم لبعض الوقت فاكتسب خبرات هائلة... وصداقات متشعبة بصفته مواطن الماني متزوج من ألمانية.

وفي عام 1967، تأكد للإسرائيليين أن "الجاسوس النائم" بهجت حمدان أصبح ذا دراسة وعلم كبيرين بأمور التجارة الدولية... وأعمال البورصة.. تعضده جنسيته الألمانية في اقتحام مجالات التجارة والتصدير في أسواق الشرق الأوسط دون أية شكوك أو صعوبات تعترض طريقه.

وابتدأ عمله التجسسي بأن أرسل لشركة "مصر للبترول" يعرض عليها استيراد شحنات من البترول المصري بصفته مندوباً لإحدى الشركات الألمانية... وسافر إلى القاهرة ليدرس العرض مع الشركة ..

كانت نكسة يونيو قد تركت آثارها على شتى النشاطات في مصر .. وحطمت المناخ العام شعبياً وعسكرياً وسياسياً ... وفي القاهرة أخبره والده بأنه مني بخسارة فادحة في تجارته ... فأغدق بهجت على أسرته بالهدايا الثمينة في كل مرة يجيء فيها إلى القاهرة للتفاوض مع الشركة.

وبرغم فشله في عقد صفقة واحدة مع مصر للبترول بسبب طمعه في نسبة عمولة عالية .. اتجه – بتوجيه من بوتا – إلى تجارة السلاح ... فدرس هذا المجال باستفاضة ...وأخذ يبحث كيفية تقديم عروض للدول العربية لبيعها صفقات أسلحة ... خاصة .. وظروف المنطقة المشتعلة بالصراع تتطلب ذلك.

أعجبته الفكرة تماماً... وابتدأ بالأردن، لكنه فشل في أولى محاولاته لأن الأردن لا يبتاع السلاح عن طريق وسطاء. فعاد إلى القاهرة يحدوه الأمل في النجاح هذه المرة... وتقدم إلى المسؤولين بعدة عروض لتوريد بعض المهمات والمعدات اللازمة لقطاعات هامة في الدولة... وفوجئ بموافقة مبدئية على أحد العروض... ولكن طلب منه تأكيد جدية العرض باستيفاء بقية الأوراق... ومنها سابقة الأعمال.

كان بوتا – وهو الضابط الخبير – قد احترز جيداً في عمل "الساتر" للجاسوس المتحمس... وقام بتكوين شركة مساهمة تحمل اسم "نورد باو" للأعمال الإنشائية والتوريدات ... مديرها بهجت حمدان ورئيس مجلس إدارتها "ألبرت فيزر" ضابط المخابرات الاسرائيلي الذي يحمل جواز سفر ألماني... وكان هذا الساتر مأمن لبهجت ونقطة ارتكاز لتثبيت أقدامه... بعيداً عن شكوك رجال المخابرات المصرية الذين يتشككون في كل شيء...

وبناء عليه ... سافر بهجت حمدان إلى ألمانيا لإطلاع بوتا على سير الأمور... وكان على ثقة من نجاح الصفقة التي سيربح من ورائها عشرات الآلاف... فهنأه بوتا على الصفقة الجديدة وأمده بسابقة أعمال وتوريدات مزورة حملها إلى الحكومة المصرية... واصطحب معه ألبرت فيزر لمناقشة الأسعار المقدمة.

وفي القاهرة طلب المسؤولون منهما عينات ومبلغ 20 ألف دولار كتأمين ... وتمت الصفقة في نجاح أذهل الاسرائيليين... ذلك لأن عمليهم المدرب نال ثقة المسؤولين المصريين على اعتبار أنه مصري يسعى لخدمة وطنه.

بائع الوطن

لم تضيع الموساد وقتاً... فظروف عميلها بهجت حمدان في القاهرة تتيح له العمل بأمان ونشاط ... وكان عليها استثماره جيداً ليس بإمدادها بمعلومات فقط... بل بتكوين شبكة واسعة من أتباعه الذي يلمس ظروفهم عن قرب وينتقيهم بنفسه.

نظر بهجت حواليه وبدأ ينصب شباكه حول أولى ضحاياه... وهو المهندس محمد متولي مندور زوج شقيقته... الذي يعمل بشركة المقاولون العرب بمنطقة القناة، ونظراً لظروفه المادية السيئة فقد كان من السهل اصطياده بدعوى توفير فرصة عمل له في الخارج بواسطة شريكه "فيزر" في حال نجاح مشروعاتهما المرتقبة في مصر.

لأجل ذلك... تفانى مندور في خدمة الخائن وشريكه... ولكي يضمن كسب ودهما أكثر وأكثر استجاب لرغبتهما وأطلعهما على أسرار بعض العمليات الإنشائية السرية التي تتم على الجبهة بواسطة شركة المقاولون العرب.

طمعت الموساد في الحصول على رسومات هندسية لتصميمات الدشم والقواعد والمطارات العسكرية التي تقوم بها الشركة. ولتنفيذ ذلك – تعمد بهجت الابتعاد قليلاً عن مندور ومماطلته في أمر تشغيله في الخارج... وأخيراً، صارحه بأن شريكه يريد الاطمئنان على مدى كفاءته وخبرته. وطلب منه بعض الرسومات الهندسية العسكرية للإطلاع عليها لتأكيد مدى تميزه وخبرته في العمل والوقوف على مستواه العملي... فلم يعترض مندور وسلمه بالفعل الكثير من هذه الرسومات التي تعتبر سراً عسكرياً هاماً لا يجب البوح به... بل تمادى في شرح الأعمال الإنشائية التي يقومون بها على خط القنال وبمناطق أخرى بالصعيد والوجه البحري. وكان بهجت يسأله بخبرة الجاسوس الخبير ويسجل أقوال صهره أولاً بأول وينقلها إلى "فيزر" الذي لا يكف عن طلب المزيد والمزيد من المعلومات والرسومات.

وفي يوم الجمعة 22 مايو 1969 عاد بهجت من ألمانيا يحمل قائمة طويلة من أسئلة الموساد ومطلوب إجاباتها من خلال المهندس مندور.

من أجل ذلك... أخبره بهجت بأنه في سبيل الحصول على موافقة نهائية من الشركة للعمل بها براتب قدره مائتي جنيه مع إن راتبه حينذاك كان لا يتعدى "25" جنيهاً شهرياً.

. وبالتالي أراد مندور ألا يضيع هذه الفرصة التي ستبدل حالته المتعثرة إلى نعيم وازدهار... فتمادى في إمداده بعشرات اللوحات الهندسية والتصميمات العسكرية السرية جداً، ومعلومات غاية في الدقة سجلها الجاسوس واحتفظ بها لدى شقيقته الأخرى. ليسافر بها إلى ألمانيا.

ولكي يوسع من شبكة الجاسوسية بدأ بهجت يحوم حول جمعة خليفة المحامي صديق العائلة. وبإغراءات تعيينه مستشاراً قانونياً للشركة في مصر وتسفير ابنه لإكمال تعليمه في ألمانيا – دخل أخيراً وكر الجواسيس. وسافر إلى بون لرؤية ابنه الذي يدرس الهندسة بالفعل. وجلس مع فيزر لعدة جلسات يتناقشان في العقبات القانونية التي تقف أمام الشركة في مصر. واكتشف ضابط الموساد أن جمعة تربطه علاقات قوية برجال يشغلون مناصب رفيعة. فكلفه بالبحث عن بعض العسكريين "الكبار" الذين يتركون القوات المسلحة لاستخدامهم كمستشارين فنيين.

كان الغرض من ذلك تكوين شبكة تجسس قوية من خلال هؤلاء العسكريين... واستدراجهم في الحديث للإفصاح عن الأسرار العسكرية دون أن يعلموا أن كل كلمة ينطقون بها تصل رأساً إلى الموساد.

هؤلاء القادة العسكريون كانوا حلم الأحلام بالنسبة لبهجت. إنهم سيمنحونه شلالاً متدفقاً من المعلومات الغزيرة التي لا تنتهي . حيث سيمنحهم رواتب ضئيلة قياساً بآلاف الجنيهات التي ستملأ جيوبه.

في هذه الأثناء كانت إنجريد زوجته الألمانية تعيش حياة رغدة في ألمانيا... وتسكن شقة فاخرة في شارع راينهارت وتقود بنفسها سيارتها ماركة فورد، وتزخر شقتها بأروع التحف وأجمل السهرات مع صويحباتها... يملؤها الفخر بزوجها رجل الأعمال الناجح الذي أغدق عليها حباً ومالاً وهدايا ثمينة من كل بقاع الأرض.

زادت الأموال بين يدي بهجت حمدان فازداد إنفاقه وازداد طمعه... وسيطرت عليه شهوة المال الحرام فسعى إليه يطالبه ببيع أمنه وطنه وأرض وطنه وأهل وطنه... دون أن تتحرك لديه نبضة من ندم أو خلجة من شعور.

بهجت حمدان اصطاد قائده

كانت إسرائيل في تلك المرحلة وبعد انتصارها في يونيو 1967 تبث دعايتها على أنها ذات جيش لا يقهر ... وكانت طائراتها الحربية تصعد عملياتها الهجومية لتمتد إلى طول الجبهة من قناة السويس شمالاً إلى خليج السويس جنوباً. في ذات الوقت الذي استخدمت فيه قوات الكوماندوز المحمولة جواً في عمليات جريئة واسعة النطاق في عمل الأراضي المصرية ، فأظهرت أوجه الخلل والعجز في النظام الدفاعي المصري وأصيب عبد الناصر بعدها بأزمة قلبية من فرط الغضب والانفعال.

ففي الساعات الأولى من ليل 1/11/1968، استخدم العدو طائرات الهليوكوبتر بعيدة المدى من طراز "سيكورسكي"، و "سوبر فريلون"، في اختراق الدفاعات الجوية، والوصول إلى منطقة نائية في تجمع حمادي، ودمر أحد الأبراج الرئيسية لكهرباء الضغط العالي بأسلاكه، فانقطع التيار الكهربائي عن القاهرة والوجه البحري شمالاً. وكان الغرض من العملية هو إحداث الشلل في مصادر الطاقة في مصر.

كان الجاسوس بهجت حمدان يشعر بنشوة غامرة كلما دكت طائرات العدو قواعد الجيش المصري... الذي لم تقف قيادته عاجزة بشكل كلي عن التعامل مع العدو. بل واجهته لحد كبير بنفس أسلوبه.. وهاجمته في منطقة شرقي الدفرسوار وكبريت وأغارت عليه في مقر داره ودمرت قطعه البحرية في إيلات.

كل ذلك وكانت آلة الدعاية اليهودية تعمل بكفاءة شديدة وتبث الإحباط في نفوس العرب، من أجل إرهابهم إذا ما أقدموا على عمل حربي موسع ضد إسرائيل.

وبينما كانت القوات المسلحة تعيد تنظيم صفوفها... كانت المخابرات العامة المصرية تراقب تحركات بهجت يوسف حمدان .. الذي قدم إلى مصر وغادرها اثنتى عشرة مرة إلى ألمانيا. ولاحظ رجال المخابرات كثرة لقاءاته بصهره المهندس مندور وجمعة المحامي... وبعض رجال القوات المسلحة السابقين.

وبعد مراقبات وتحريات مكثفة ... تبين لرجال المخابرات أن هناك شبكة تجسس يرأسها بهجت... وعلى الفور جرى اعتقالهم جميعاً يوم 2 يونيو 1969، وفي مبنى المخابرات العامة ، ووجه بهجت بأدلة تجسسه فانهار في خلال عدة ساعات، وأفصح عن دوره الحقيقي ودور كل فرد من أفراد شبكة التجسس.

ومن مبنى المخابرات أرسل إلى فيزر طالباً منه الحضور إلى القاهرة على وجه السرعة... حيث وافقت الحكومة المصرية على العروض المقدمة إليها وأنه بانتظاره للتوقيع على العقود وبدء النشاط، وعندما جاء فيزر كانت المخابرات المصرية بانتظاره على سلم الطائرة..

وأثناء التحقيق مع أفراد الشبكة بواسطة العميد إسماعيل مكي ظهرت مفاجأة لبهجت... إذ اكتشف أن ضابط المخابرات الإسرائيلي "بوتا" يهودي مصري عاش بالإسكندرية وغادر مصر بعد عدوان 1956 مباشرة... وأنه زاول العمل في مصر كسمسار للقطن في بورصة الاسكندرية لعدة سنوات قبل مغادرتها.

اكتشف أيضاً أن المخابرات الإسرائيلية كانت تثق بنفسها أكثر من اللازم ويتملكها غرور قاتل. فبرغم احترافه لمهنة الجاسوسية بعد تدريبه الطويل في أوروبا.. وعدم تركه لدليل واحد يساعد على كشفه ... إلا أن المخابرات المصرية استطاعت اصطياده وأفراد شبكته بسهولة شديدة وفي وقت قياسي. وهذا بعد دليلاً أكيداً على يقظة رجالها الذين برعوا في إلقاء القبض على عشرات الجواسيس في تلك المرحلة العصيبة.

وبعد حوالي العام من اعتقال الجواسيس الأربعة... أصدرت المحكمة العسكرية حكمها بالأشغال الشاقة المؤبدة على الخائن بهجت حمدان "زواجه من إنجريد وحصوله على الجنسية الألمانية أنقذه من الإعدام" وبالسجن لمدة خمس سنوات لكل من ضابط الموساد والمهندس مندور وجمعة المحامي.

كانت لهذه الحادثة آثارها المرعبة في الموساد، لمعنى اعتقال أحد ضباطها من قبل المصريين، تكشف حقائق أساليب العمل المخابراتي الإسرائيلي في التجسس على البلاد العربية، بما يعني تغيير أنماط العمل المختلفة في النشاط الاستخباراتي.

كان هناك أيضاً الأثر النفسي الذي أصاب ضباط الموساد والعملاء العاملين خارج إسرائيل، إذ تخوف كل من المتعاملين معهم من الخونة العرب، ومن محاولات اصطيادهم بالخديعة والدهاء كما حدث للضابط الخبير فيزر، الذي وقع في شرك المخابرات المصرية.

لقد تندرت وسائل الإعلام العالمية بخيبة رجال الموساد، الذين قادتهم الثقة الزائدة إلى كشفهم. وكان بهجت حمدان بحق هو أول جاسوس في العالم يصطاد قائده... بعملية خداعية ذكية مكنت المخابرات المصرية من الحصول على معلومات ثمينة ... جاءت على لسان الضابط الأسير.

----- عمار الحرازي07-25-2010, 04:17

جمال حسنين ... الجاسوس الذي مات مرتين... !!

ليس ضرورياً أن يكون الجاسوس ملماً بالنواحي العسكرية، أو يملك خبرة فنية في تخصص ما، أو ذو علم غزير يستفيد من ورائه العدو.

فالجاسوسية الحديثة لا تشترط وجود أي من هذه الصفات لدى الجاسوس. كل ما في الأمر، أن يكون منزوع الانتماء ... فقيد الضمير، يسعى بين أهله ومواطنيه كالحية الرقطاء تتربص بالفريسة.

لكن .. ماذا بعد السقوط وقضاء ربع قرن بين جدران السجون؟ هل تغيرت الحية وتبدلت؟ لا أحد يعرف ... ولم يكتب أبداً أي صحفي في مصر عن حياة جاسوس خارج السجن ... لا أحد يعرف !!

السلاح الرابع

منذ ثلاث سنوات تقريباً... أفرج عن الجاسوس جمال حسنين بعد أن أمضى 25 عاماً خلف جدران سجن المزرعة في أبو زعبل. حيث لا يزال بين جدرانه عدد من الخونة الذين جندتهم المخابرات الاسرائيلية للتجسس على مصر.

لا ندري كيف يمضي هؤلاء الخونة مدة عقوبتهم طوال هذه السنوات .. كما لا ندري هل لسعتهم أوجاع الندم .. أم أنهم فقدوا الإحساس بعظم جرمهم في حق الوطن؟ وهل كلهم هكذا، أم أن هناك بعضهم أفاقوا إلى رشدهم بعد فوات الأوان؟

ولكن ... كيف سيواجهون الحياة في المجتمع بعد ربع قرن في الزنزانة؟ وكيف يستقبلهم المجتمع والأسرة بعد الإفراج عنهم؟

لا أحد يستطيع التكهن بما في نفوس هؤلاء الخونة، ولم يسبق لصحفي أن أجرى حوار مع جاسوس قضى مدة عقوبته ليصف لنا حاله بالضبط.

وعلى كل حال ... بقدر ما يهمنا البحث عن سلوك خائن منح حريته يهمنا أيضاً البحث في الأسباب التي أدت إلى سقوطه في شباك الجاسوسية ودراستها.

فلكل جاسوس خائن ظروف اجتماعية ونفسية مختلفة قادته إلى مستنقع الخيانة، ولكل جاسوس وسيلة اتبعتها الموساد معه ... ونقطة ضعف أسقطته حتى أذنيه .. ليصير جاسوساً .. لا يدخر وسعاً في إطلاع العدو على أسرار بلده، وتنفيذ أوامره في التخريب والتدمير وبث الإشاعات المغرضة.

ولا زالت الدراسات الجادة تبحث في الصراعات والمعارك... التي تشتعل في نفوس هؤلاء الخونة .. وارتطامهم بالمشاكل التي تدمر فيهم خلايا الوعي وإدراك النتائج... فيسقطون صيداً سهلاً في يد الأعداء.. ويكونون له عيوناً تنقل إليه ما لا يراه أو يفهمه.

إنها الخيانة .. داء قذر قد يصيب بعض الذين يطمعون في مال.. أو جسد أنثى .. أو منصب فقده في وطنه.

بل يصاب بالخيانة بعض أناس لا يلتفتون إلى تلك الأشياء مطلقاً... كأن يسيطر عليهم هاجس غريب... يصور لهم الأعداء بصورة مغايرة تدعو إلى الشفقة أو الموازرة.

لكن هناك حقيقة لا يجب أن تفوتنا وهي أن الجاسوسية – برغم ما ينشر عنها من دراسات كل يوم – إنما هي "أمر" سري يغلفه الصمت ويحيطه الكتمان .. وما يكتنفها من غموض هو محاولة لإخفاء وجه الجاسوسية ونشاط العاملين فيها.

ولأن الجاسوسية هي "السلاح الرابع" كما يطلقون عليها – بعد سلاح الطيران والبحرية والقوات الجوية – فهي أولاً وأخيراً تعتمد على عقول ماهرة تبني الحقائق... وتحلل المعلومات وتستخلص النتائج وتضع الخطط، وتصنع ما لا يتخيله عقل أو منطق من خداع وحرب خفية أسلحتها الذكاء، والشيفرة، والرموز، وأجهزة الإرسال اللاسلكي، وآلات التصوير... هذا إلى جانب العامل البشري... واللجوء لشتى السبل من إغراء أو تهديد أو إرهاب وخلافه لتجنيد الجواسيس. لذلك .. أصبحت الجاسوسية هي الأداة الأساسية في تحديد السياسات الدبلوماسية للدولة الحديثة... وكذلك هي "المستشار الخفي" لرؤساء الجمهوريات والحكومات عند اتخاذ القرارات المصيرية.

وبالرغم من اختلاف جاسوس اليوم عن جاسوس الأمس ... وتطوير التكنولوجيا الحديثة والتقاط الصور الجوية بواسطة أقمار وطائرات التجسس، إلا أن الوسائل "البشرية" لا يمكن إهمالها أو الاستغناء عنها، وستظل الجاسوسية أبد الدهر تعتمد على العملاء والجواسيس، مهما قيل عن احتلال الأجهزة والوسائل التكتيكية التي تلاشت أمامها حجب الأسرار وخفاياها.

بل إن فكرة تجنيد الجواسيس بالإغراء أو بالمال أو بالفضيحة والتهديد أصبحت فكرة قديمة وعقيمة. والجديد هو استغلال ثقافة ومعتقدات البعض... الذين يتفقون في أهدافهم وآرائهم أو نظرتهم إلى الحياة مع مثيلاتها في جهاز المخابرات الذي يجندهم.. إنهم جواسيس الفكر الأيديولوجي ومدعو التحضر والثقافات.

وحتى الآن .. هناك من أمثال هؤلاء الكثيرين... الذين سعوا بأنفسهم لدى جهاز المخابرات الذي يتوافق مع أفكارهم لتجنيدهم... دون النظر إلى أي مطالب أو حاجات. وأقربهم إلى الذاكرة الآن .. الجاسوسة هبة سليم التي انخرطت في سلك الجاسوسية دون حاجة إلى مال أو رغبة تود تحقيقها، بل تجسست لأنها آمنت بأن إسرائيل قوة لا يمكن هزيمتها، وكانت ترفض مراراً آلاف الدولارات التي هي مقابل للمعلومات "الدسمة" التي أمدتها بها.

ولأنها تصورت أن تجسسها واجب فكان من الطبيعي أن تكون أكثر "إخلاصاً" و "أمانة" في نقل المعلومات. بل إنها تطوعت وأسلمت جسدها وبكارتها طواعية إلى ضابط الجيش المصري "فاروق الفقي" من أجل الحصول على معلومات منه. يا الله ... إنه عالم عجيب وغريب، مليء بالأسرار والغموض، عالم يقبض على قوة الحياة والموت . !!

رحلة الأمل

ومعارك الجاسوسية بين العرب وإسرائيل مستمرة ولا زالت برغم حالة السلم .. ولن تتوقف مطلقاً طالما هناك أرض اغتصبت بالقوة .. وشعب أجبر على هجر أرضه أو يدفن بها حياً.

ولأن إسرائيل هي الدولة المغتصبة ... صاحبة التاريخ الأسود الطويل المليء بالمذابح والإرهاب... فهي تخشى يقظة العرب وصحوتهم ذات يوم.

ولذا .. أطلقت جواسيسها داخل الوطن العربي... يجمعون لها أسرارنا العسكرية وشتى المعلومات التي تتعلق بالنشاط الاقتصادي أو الصناعي... وتنوعت ألوان الجاسوسية الإسرائيلية ... فالجاسوس لم يعد مجرد شخص يتقصى المعلومات ويلتقط صوراً لأماكن حيوية .. بل أصبح مكلفاً ببث الفوضى والإشاعات المغرضة وإثارة القلق في الشارع العربيز

أما عن الجاسوس جمال حسنين الذي أفرج عنه منذ قليل بعد 25 عاماً وراء القضبان ... فقصته مع التجسس مثيرة ومادة شيقة للتناول. وعظة للشباب الذي يسافر إلى أوروبا بحثاً عن عمل بعدما ضاقت به السبل وأغلقت دونه أبواب الأمل.

ولد جمال في 29 أكتوبر 1941 بالقاهرة لأسرة موظف صغير في وزارة الشؤون الاجتماعية يعول سبعة أفراد. دخل مرحلة التعليم الابتدائي وشق طريقه في التعليم ... متعثراً. وتمكن عام 1962 من الحصول على دبلوم في المساحة .. وعين فوراً في مصلحة المساحة بالقاهرة... وكان راتبه الصغير يشعهر بأنه قزم تافه.

لذلك سعى للحصول على دبلوم المعهد الأوليمبي بالإسكندرية في محاولة للارتقاء بوضعه الوظيفي، وأمكن له بالفعل الحصول على دبلوم المعهد عام 1968، وكانت مصر حينئذ في حالة يرثى لها ... وتسعى للنهوض من عثرة النكسة وتنظيم صفوفها من جديد استعداداً للثأر من العدو الإسرائيلي.

في ذلك الوقت لم يكن جمال حسنين بعيداً عن نبض الجماهير... والإحساس بالمهانة لهزيمة الجيش واحتلال أرض عربية أخرى. وحنق كثيراً على القيادة العسكرية... وكثيراً ما كان يجادل أصحابه ويثور لأنه لم يلتحق بالقوات المسلحة بسبب "الفلات فوت" اللعين. وكظم غيظه وأحلامه وحبس طموحه بداخله إلى أن تحين اللحظة المناسبة للتحرك.

ولكن الوقت يجري و "سماح" تنضج وتفور أنوثتها ولا يزال كما هو بلا حركة .. وخطابها عرفوا الطريق لبيتها فتملكه الرعب لمجرد أن تخيل خطبتها لآخر. ولما أضناه الأرق وهده الفكر ...صارح والده بحبه للفتاة ورغبته في الزواج منها... فقال له "عليك أن تدبر حالك".

أسرع الشاب العاشق إلى أسرة فتاته يطلب يدها .. فاشترطوا عليه ما يعجز عن تحقيقه... ولكنه في سبيل الفوز بها قرر المغامرة وتملكته فكرة السفر إلى بيروت للعمل.

كانت بيروت وقتئذ قبلة الباحثين عن الرزق الوفير وتتعدد بها مصادر الرزق لكل من سعى. وتقدم جمال حسنين بطلب الحصول على إجازة من عمله بدون راتب "كان راتبه 16 جنيهاً" فسمح له بإجازة ستة أشهر. وقبل أن يغادر الإسكندرية إلى بيروت بحراً... أخضع لدورة توعية تثقيفية مع غيره من الراغبين في السفر خارج مصر لأول مرة. والمحاضرون بالطبع ضباط في جهازي المخابرات العامة والمخابرات الحربية. وكان هذا النظام معمول به في ذلك الوقت نظراً لاكتشاف العديد من الجواسيس والذي تبين أن غالبيتهم وقعوا في براثن الموساد بعد إغرائهم بالمال والنساء. وفي قرارة نفسه... سخر جمال حسنين من ضعاف النفوس الذين سقطوا في شباك الموساد واحتقرهم. وانتبه جيداً للطرق المختلفة التي يصفها الضابط المحاضر للإيقاع بالشباب المصري في الخارج.

بداية الطريق

وفي السفينة إلى بيروت تمدد على سطحها يتأمل وجه حبيبته فتخيله ماثلاً أمامه على صفحة المياه الممتدة .. والتي لا نهاية لها. ولم تكن يده تمتد كثيراً إلى محفظته الجلدية التي تحوي صورتين لسماح الجميلة، فوجهها الرائع النقاء بكل بهائه محفور في فؤاده وموشم على خلاياه.

كان يمني نفسه بعمل مربح في بيروت، أي عمل، لا يهم، إنها حرب عليه أن يخوضها ليفوز بالحبيبة.

وأيقظه من تخيلاته وأفكاره شاب سوري يعمل في التجارة ما بين بيروت والإسكندرية. وتناول الحديث بينهما نواح عديدة .. ولما سأله جمال عن إمكانية العمل في بيروت أفاده بأن لبنان سوق مفتوح للعمل... وفرص الكسب به متوفرة إذا ما ذهب إلى مقهى فاروق... ومجرد أن غادر السفينة توقفه الزحام وصافحته الوجوه بتجاهل... وقادته قدماه إلى حي المزرعة جنوبي الميناء ... وفي بنسيون رخيص وضع الرحال وذهب إلى مقهى فاروق أشهر المقاهي هناك ... حيث بالإمكان العثور على صاحب عمل، فالمقهى يعرفه كل المصريين في بيروت ويرتادونه ويتواعدون على اللقيا به. لذا فهو يموج بالوجوه المصرية المرهقة التي تغربت من أجل الحصول على المال.

ومرت الأيام وجمال حسنين ينفق من الجنيهات القليلة التي حولها إلى ليرات لبنانية. ولم تظهر في الأفق بشائر خير أو تبدو بارقة من أمل. حاول كثيراً ففشل... وقبل أن تنفذ نقوده حمل حقيبته خائباً وعاد إلى القاهرة... تعشش الكآبة بأعماقه ويحس بالقهر يطحن أعصابه. استقبلته سماح فرحة بعودته بعد ثلاثة أشهر من الغربة... وحاولت إقناعه بالعمل في إحدى الشركات بعد الظهر لإنجاز المطلوب منه للزواج... لكنه كان دائم الشكوى وسب الحال وغير قانع بالمقسوم له. وبات يحلم من جديد بالسفر إلى اليونان... إنها الحلم الكبير الذي سيتحقق.. وفشل رحلة بيروت لن يتكرر.

لقد ثبت لديه أن لا مناص من الخروج من أزمته إلا بالسفر. وعقد العزم على الاستماتة هذه المرة. وعندما رفض الاتصالات لمعارضة سماح.. تركته يائسة يفعل ما يريد. ولما تقدم للعمل بطلب إجازة أخرى.. رفض طلبه ...فقدم استقالته على الفور... وركب سفينة قبرصية إلى ميناء بيريه لا يملك سوى مائتي دولار أمريكي وعدة جمل بالإنجليزية.

ولأن بيريه أشهر موانئ اليونان ففرص العمل بإحدى الشركات البحرية متوفرة. هكذا قيل له في القاهرة، وأظلمت الدنيا في وجهه بعد ما تأكد من كذب المقولة. وكلما يمر به يوم بدون عمل... تضطرب أعصابه ويختنق صدره ويقترب من حافة الجنون.

وفي خضم معاناته يلتقي بشاب مغربي يدعى سمعان ويشكو حاله... فيطمئنه بأنه سيسعى من أجل توفير عمل له. وظل يعده يوماً بعد يوم إلى أن فرغت جيوبه حتى من كسور الدراخمة. فأقنعه سمعان ببيع جواز سفره والإبلاغ عن فقده فوافق جمال حسنين ... واصطحبه المغربي إلى القنصلية الاسرائيلية في بيريه... بحجة وجود صديق له هناك سيشتري منه جواز السفر ...وقد يدبر له عملاً في أحد الفنادق. وبسذاجة شديدة ذهب معه ليلتقي داخل القنصلية الإسرائيلية بأحد ضباط الموساد الذي يعده بإيجاد عمل له خلال أيام .. وطلب منه أن يجيب على الأسئلة المكتوبة في استمارة التعارف عن حياته وأسرته وأصدقائه ووظائفهم وعناوينهم ليتمكن من توفير فرصة عمل مناسبة له... وتفاوض معه بخصوص جواز السفر فاشتراه بمائتي دولار .. بعد ذلك اصطحبه سعفان إلى فندق "ايسخيلوس" الشهير وحجز له غرفة رائعة تخوف جمال حسنين من سعرها المرتفع لكن عميل الموساد طمأنه بأنه ضيف على القنصلية الاسرائيلية .. التي لا تدخر وسعاً في مساعدة الشباب العربي بقصد إبراز الصورة الحقيقية للإسرائيليين التي يعمل الإعلام العربي على تشويهها.

السقوط السهل

وبعدما خلا جمال إلى نفسه تساءل عما يدور حوله، وتذكر الدورة الإرشادية التي تلقاها في مصر قبل سفره... وما قيل له عن أساليب المخابرات الإسرائيلية المختلفة في استقطاب المصريين بالخارج... والحيل المموهة الذكية – التي تبدو بريئة – لجرهم إلى التعاون معهم... بدعوى العمل على مساعدتهم .. وبشعارات زائفة رنانة يعملون على إزالة حاجز الخوف من التعامل معهم... وما كان قصدهم في النهاية إلا الإيقاع بضعاف النفوس الذين تواجههم ظروف صعبة في الخارج.

وقطع تفكيره اتصال من شخص لا يعرفه اسمه "يوسف" أبلغه بأنه مكلف بإيجاد عمل له.

فرح جمال كثيراً بذلك الضيف البشوش ودار بينهما حديث يغلفه الود عن الحياة والدين والطبيعة وتربية الكلاب.. ثم تطرق يوسف إلى مشكلة الشرق الأوسط، والسلام الذي يجب أن يسود المنطقة... وحقوق الجار التي أوصى بها الرسول صلى الله عليه وسلم.

ولم اعرف منه أن له علاقة خطبة بفتاة في مصر وأطلع على صورتها... ضحك ضابط الموساد نم تواضع ملامحها وقال له:

Ø إنك في اليونان فلماذا لا تستمتع كما يحلو لك؟

وأخذه إلى سهرة لم يصادفها من قبل. وعلى الباب الخارجي للنادي الليلي وقفت سيدة عجوز تمسك بعدسة نظارة ذات عين واحد تستقبل الزوار بحفاوة كبيرة ..

وعندما رأت جمال حسنين هتفت في سعادة قائلة: - أوه أيها المخلص... ألا زلت تتذكرني؟!

وهي تنظر باندهاش إلى الضابط:

Ø إنه زبون قديم عندي.

ضحك جمال بينما يدلف من الباب الداخلي وهو يقسم بأنه لم ير المرأة من قبل.

وبعد سهرة جميلة عاد جمال إلى حجرته ترافقه فتاة لعوب استطاعت على مدى يومين أن تستنزف دولاراته... وتركته خاوي الوفاض في بلاد الغربة... يطوف ضباط المخابرات الإسرائيلية من حوله ويخططون لاصطياده.

وفي قمة محنته ذهب إليه بالفندق شخص آخر اسمه إبراهيم... وذكر له بأنه صديق يوسف وأنه قرأ استمارة بياناته ومعجب جداً به.

كان إبراهيم ضابط مخابرات ماهر... استطاع التعرف على نقطة الضعف التي يعاني منها جمال... فركز عليها جيداً... واستغل جهله بالسياسة والتاريخ وأخذ يلقي على مسامعه الأكاذيب والمفتريات عن مشكلة اليهود ... وفي خلال المسجل بينهما، واستطاع أن ينتزع منه اعترافاً ضمنياً بحق اليهود في فلسطين... ثم أخذ يضغط على مشكلة الأزمة الاقتصادية التي تعاني مصر منها... بدليل تواجده في اليونان بحثاً عن عمل ليتمكن من الزواج، وأرجع الضابط هذه الأزمة إلى حالة التأهب الدائم للحرب التي تدمر خطط مصر للتنمية.

ولأنه أحمق غرير ... اقتنع جمال حسنين بآراء الضابط الذي شحنه نفسياً ومعنوياً .. ووصل به إلى المدى المطلوب في الاندفاع والتهور وسب النظام في مصر وانتقد الحياة بها.

كان الطرق على الحديد الساخن أسهل الطرق لتشكيله... وأمام حالة الضعف التي وصل اليها جمال فلا مال لديه ولا حصانة من وطنية .. بالإضافة إلى كلمات متناثرة فهم منها أن له صوراً عارية مع الفتاة الداعرة... أمور كلها هيأت مناخاً مناسباً لتجنيده. خاصة بعدما أقنعه ضابط الموساد بأن الجاسوس الذي يسقط في أيدي المخابرات المصرية... لا بد لهم من مبادلته في صفقة سرية بواسطة الصليب الأحمر الدولي أو الدول الصديقة، وعدد له أسماء كثيرة لجواسيس مصريين تمت مبادلتهم... ويعيشون في إسرائيل في فيلات فاخرة، وجرى سحب أسرهم من مصر تباعاً. هكذا كانوا يقنعونه ويضيقون عليه الخناق فيجد صعوبة في التفكير أو الفرار. وسقط جمال حسنين في قبضة الموساد.

وفي شقة مجهزة بكل أدوات الرفاهية .. أقام الخائن برفقة ضابط الموساد ليتعاطى شراب الخيانة وليتعمل مبادئ الجاسوسية.

ولأنه لم يلتحق بالقوات المسلحة فقد دربوه على كيفية تمييز الأسلحة المختلفة بواسطة عرض أفلام عسكرية وأسلحة.. وعقد اختبارات له لبيان مدى استيعابه.

ولكونه يعمل في مصلحة المساحة، فقد كانت لديه خبرة كبيرة في وصف المباني والمنشآت ورسم الخرائط المساحية، وتقدير المسافات والارتفاعات، وبالتالي رسم الأشكال المختلفة وكل مظاهر الحياة التي تصادفه.

ولم تكد تمر أربعة أسابيع إلا وأنهى جمال حسنين الدورة التدريبية ببراعة ... وتخرج من تحت يد ضابط الموساد جاسوساً خبيراً، وخائناً مخلصاً لإسرائيل. الرسالة الوحيدة

كان – ضابط الموساد – إبراهيم هو المسؤول عن تلميذه النجيب. وعلى عاتقه تقع مسؤولية توجيهه ومتابعته. ويلزم لذلك ربط علاقة إنسانية قوية بينه وبين الجاسوس.

وفي أمسية سمر لاحظ شروده وقلقه، وحاول جاهداً مساعدته حتى لا تتوقف مراحل خيانته، فصارحه جمال بمدى تعقله الشديد بسماح، وخوفه من عودته خاوياً فتضيع منه. فطمأنه إبراهيم وأمده بألف دولار مكافأة، فضلاً عن راتب شهري قدره مائتي دولار، ومكافأة أخرى "50" دولاراً عن كل رسالة تحمل معلومات قيمة يرسل بها إلى روما لاسم "كاستالا يوستالي" ص. ب. 117.

وأمضى الخائن التعس في بيريه أربعة أشهر حتى لا يثير الشكوك بالأموال التي معه، ثم أعد حقيبته وسافر بالطائرة إلى القاهرة يحمل فستان الزفاف لعروسه هدية من المخابرات الإسرائيلية.

كان عجولاً جداً... إذ لم ينتظر حتى تزف اليه حبيبته، بل شرع في الحال في كتابة رسالة عاجلة – بدون حبر سري – إلى صديقه الوهيم يوستالي – يخبره فيها بوصوله سالماً وزواجه قريباً.

وبعدها عمد إلى زيارة أقاربه وأصدقائه من عسكريين ومدنيين وسؤالهم عن أحوال الجيش والحرب... وكان يسجل كل ما يصل اليه في مفكرة خاصة حتى جمع بعض المعلومات التي اعتبرها مهمة لإسرائيل... وأغلق عليه حجرةه وسطر – للمرة الأولى – رسالة بالحبر السري ... حوت ما جمعه من معلومات وأرسل بها إلى روما. وادعى أنه يحمل رسائل من أصدقاء في اليونان إلى ذويهم في الاسكندرية ودمياط والمنصورة ومرسى مطروح. وقام بزيارة لهذه المدن لعله يصادف ما يثير انتباهه من تحركات عسكرية ... أو تنقلات للأسلحة بواسطة القطارات أو سيارات النقل العملاقة.

كانت مصر في تلك الأثناء ... نوفمبر 1972 ... تعيش أوقاتاً عصيبة بسبب حالة اللاسلم واللاحرب التيت هيمنت على الطقس العام. وهناك حالة من القلق والتذمر تسود الشارع المصري يأساً من خطب الرئيس السادات التي لا تحمل أية نية للرد على الصلف الاسرائيلي المستفز، بل تفيض بالوعود الكاذبة بالحرب مما خلق شعوراً بالإحباط لدى الشعب.

وكانت المخابرات الإسرائيلية ترسل بجواسيسها الخونة .. لاستقصاء حالة الشعب والجيش ... ففي تلك المرحلة الحرجة كان الغليان العربي على أشده. خاصة وأن عمليات المقاومة الفلسطينية اتخذت مساراً آخر في مواجهة إسرائيل ... بعدما تقاعست دول المواجهة عن الإقدام على ضربها.

لذلك ... فقد كثفت إسرائيل من نشاطها التجسسي داخل الأراضي المصرية... لعلمها أن مصر هي زعيمة العرب وكبرى دول المواجهة التي حتماً ستثأر وتسترد سيناء.

ويقابل هذا التكثيف التجسسي جهداً متزايداً من المخابرات الحربية والمخابرات العامة المصرية .. لضبط إيقاع الأمن في الداخل والخارج... فسقط عدد كبير من الجواسيس ما قبل أكتوبر 1973... وكان من بينهم جمال حسنين الذين أرسل رسالته الوحيدة إلى مكتب الموساد في روما.

فبواسطة رجل المخابرات الذكي الذي يعمل رقيباً على البريد... اكتشف الكتابة بالحبر السري في الرسالة... وتبدأ على الفور مطاردة شرسة بين المخابرات المصرية والجاسوس في معركة سرية لا يشعر بها أحد .. وسباق محموم مع الزمن من أجل إلقاء القبض عليه.

وفي فترة وجيزة جداً .. سقط الخائن في الكمين الذي نصب له مساء يوم 29 نوفمبر 1972 أثناء نومه في هدوء .. يتنفس هواء مصر النقي ويملأ معدته طعامها وخيرها. ومن بين الأدلة الدامغة على تجسسه لصالح الموساد ضبطت المفكرة التي سجل بها معلومات جديدة قام بجمعها، وتقريراً عن زيارته لبعض المدن، ورسالة انتهى من كتابتها بالحبر السري كان ينوي إرسالها إلى روما في الصباح.

اصطحبوه إلى مبنى المخابرات لاستجوابه، واعترف مذهولاً بكل شيء في الحال. وأقر بأن حصيلة المعلومات التي جمعها كانت من معارفه وأقربائه... الذين كانوا يتحدثون أمامه بما يعرفونه من معلومات... وهم على ثقة به ولا يتصورون أن بينهم جاسوساً ينقل ما يتفوهون به إلى إسرائيل.

وأثناء محاكمته أخبروه بأن سماح زفت لآخر وسافر بها إلى الكويت، فسرت بشرايينه مرارة شديدة لا تعادل إحساسه بمرارة جرمه وخسة مسلكه.

وحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة ... أي 25 عاماً... بين جدران السجن ليلاً وفي تكسير الحجارة نهاراً. فلولا ظروفه التي مر بها قبل وأثناء تجنيده... وقصر تجسسه على رسالة واحدة تحوي معلومات تافهة لكان نصيبه الاعدام.

ومنذ فترة قليلة مضت ... انتهت مدة عقوبته... وخرج من أبي زعبل وعمره يقارب الستين عاماً... مطأطأ الرأس منكس الهامة.

ترى .. هل كان أهله في استقباله على باب السجن كما نرى في الأفلام المصرية؟ أم أن والديه توفاهما الله غاضبين عليه، وانشغل اخوته في أعمالهم ونسوا أن لهم أخاً – جاسوساً – باعهم ذات يوم عندما باع وطنه.

فماذا حدث إذن؟ وأين سيعيش هذا الخائن بيننا؟ وهل لا زالت عنده الجرأة لكي ينتسب إلى هذا الوطن، ويقر بأنه مصري مات مرتين، مرة داخل السجن وأخرى خارجه عندما يجتر تاريخه..!!

أسئلة كثيرة بحاجة إلى إجابات مطولة... ولكن في النهاية لا بد لنا ألا ننسى أن النفس البشرية لازالت تمثل لغزاً غامضاً لم يكتشف بعد. ولا ينبغي أن نتعجب من تقلبات المشاعر والأحاسيس والنخوة.

ذلك إن عالم المخابرات والجاسوسية.. عالم لا تحكمه العواطف والعلاقات ولا يعرف الرحمة ولا المشاعر.. عالم مسعور لا يهب الصفاء..

عمار الحرازي07-25-2010, 04:23 AM

خميس بيومي ـ العميل اللبناني الخطير

عندما تريد أجهزة المخابرات أن "تصنع" عميلاً متخصصاً في الاغتيالات والتخريب، فهي تنزع من قلبه خلايا الحب والشفقة والندم، وتزرع مكانها الغلظة والقسوة والجفاف.

إلا أن نداء الطبيعة يظل يقاوم التطبع، فتنمو لدى بعض العملاء خلايا الحب وتتشكل من جديد، وحينما ينضج ذلك الإحساس الرائع المنزوع قسراً، يكون العميل تحت تأثيرث هشاً، ضعيفاً... لا يملك زمام أموره.

حينئذ ... إما أن يعترف لحبيبته نادماً، أو قد يستسلم لتفاعلات صراعاته فينتحر. إنه صراع آخر بين الضلوع ... صراع مرير ... لا يحسه إلا الخونة والجواسيس...

جواسيس بلا قلب

عرفنا كيف اتبعت الموساد شتى الأساليب لاقتفاء حركات المقاومة الفلسطينية، وقتلها في المهد، كذلك شرحنا بالتفصيل كيفية عمل الجاسوس المنفرد، وأخيراً نظام الشبكات التي يوجهها خبراء محترفون في الموساد.

وفي هذه القصة نتطرق معاً لملف آخر أكثر سخونة، وشديد الخطورة ... لعمليات الموساد القذرة في لبنان، وهو ما يعرف بشبكات "التخري – destruction" التي ينحصر نشاطها في بث الشقاق والعداوة، وزعزعة الاستقرار الداخلي بإشعال الفتن والضغائن بين العشائر.

وشبكات التخريب عمل مخابراتي مهم، نما وتعملق في القرن العشرين مع تطور استخدام المتفجرات، وبروز التنافس بين الأمم والإمبراطوريات.

إنها شبكات خاصة جداً تظهر وتختفي وفقاً للمصالح والظروف السياسية، يقوم على إدارتها وتوجيهها نخبة من الخبراء على أعلى درجات الكفاءة والخبرة والذكاء ، تعمل بمباركة القيادة العليا – عسكرية أو سياسية – وتخضع لها مباشرة.

ولأن المهمة جد خطية، فجاسوس شبكات التخريب ينتقي بعناية فائقة... وفق شروط صعبة معقدة .. حيث يتم إخضاعه لدورات تدريبية أشد تعقيداً عن تلك التي ينالها الجاسوس المكلف بجلب الأخبار .. فهو "يغسل" تماماً لتنسلخ عنه مشاعر الانسانية .. وتخنق فيه عواطفه الفطرية .. وتجز إرادته فيتحول بعد "غسله" إلى "روبوت" بلا قلب، يتحرك الوحش الكامن فيه بالأمر، ويسكن بداخله بالأمر.

لذا، فالسيطرة عليه تحتاج إلى عقل خارق لتطويعه، وتغييب طبيعته، فالجاسوس قبل أي شيء بشر، يقسو ويحنو، ويتألم ضميره أحياناً، أو قد يصحو محاولاً التمرد على وحشيته، لكن، هذا لا يحدث كثيراً.

معنى ذلك أن هناك حالات حدثت، بالطبع هي حالات استثنائية جداً ونادرة، ولأنها كذلك، فهي مثار تحليلات ودراسات مطولة يعكف عليها المحللون.

وقد ظهر رأي يقول بأن أجهزة المخابرات عندما تريد أن "تصنع" عميلاً متخصصاً في الاغتيالات والتخريب، تنزع خلايا الحب والشفقة والندم من قلبه، وتزرع مكانها الغلظة والقسوة والجفاف، إلا أن نداء الطبيعة يظل يقاوم التطبع فتنمو لدى بعض العملاء خلايا الحب وتتشكل من جديد.

وحينما ينضج هذا الإحساس الرائع – المنزوع قسراً – معلناً عن نفسه صراحة وبعنف، يكون الجاسوس تحت تأثيره هشاً، ضعيفاً، معرضاً لإفشاء سره، أو قد يستسلم تماماً لتفاعلات صراعاته، فينتحر. !!

إن ملفات المخابرات والجاسوسية تحفظ لنا قصصاً عجيبة لا يصدقها عقل، تصف معاناة بعض هؤلاء القتلة الذين وهنوا وصرعهم التوتر والخوف والندم، فعاشوا أسوأ لحظات حياتهم إلى أن كتبوا نهاياتهم بأيديهم.

وتذكرني الآن قصة "بوجداني ستاسنسكي" رجل الاغتيالات الأول في جهاز المخابرات السوفييتية – الذي علموه في أكاديمية الجواسيس بموسكو كيف يكون آلة تسمع فتطيع، فلم يكن ليشعر قط بالأسف أو الندم، بعدما يقتل معارضي دولته بالسم الزعاف، حتى أنه كان ينام هادئاً دون أن تطارده أشباح ضحاياه، وانقضت سنوات وسنوات ويداه تقطر منهما دماء الأبرياء،إلى أن تجف فجأة أمام دفقة الحب الأول في حياته، فتملكه ندم شديد، وبكى كطفل على صدر حبيبته الألمانية وهو يفشي لها بسره ومعاناته، واختفيا عن الأنظار منذ عام 1965، حيث لم يظهر لهما أثر حتى اليوم.

لقد تفوقت المخابرات السوفييتية عن سائر أجهزة المخابرات في هذا المجال، واحتفظت بالصدارة دائماً منذ بداية القرن الماضي وتليها المخابرات البريطانية فالفرنسية، إلى أن ظهر الجستابو الرهيب في ألمانيا ... وأخيراً كانت المخابرات الأمريكية فالسافاك الإيراني .. لكن على حين فجأة ظهرت المخابرات الإسرائيلية، فتفوقت على جميع الأجهزة واحتلت رأس القائمة ولا زالت، واشتهرت بعبقريتها الفذة في ابتكار أعجب الوسائل الإجرامية في الإرهاب والمذابح والتصفيات الجسدية والتفجيرات. للدرجة التي دعت العديد من الدول الأجنبية للاستعانة بخبراتها في هذا المجال.

فمنذ قامت المنظمات الإرهابية في فلسطين، توسلت العنف الدموي مع المدنيين العزل، واستعانت بعلم نفس الإجرام في التعامل معهم لقمع إرادتهم وإصابتهم بما يشبه الذهول المصحوب برجفات الرعب، والهلع.

 

بين الشرق والمغرب

في عام 1965 عقد مؤتمر القمة العربي في القاهرة، الذي تقرر فيه تحويل روافد نهر الأردن، وبحثت فيه الإجراءات العسكرية الواجب اتخاذها من أجل مواجهة أي رد فعل إسرائيلي ضد عمليات التحويل ... فقدمت القيادة العربية المشتركة خطة موحدة ... تشرح الإمكانيات العسكرية التي يجب أن تتوافر لدى كل دولة من الدول العربية المتاخمة لإسرائيل، حتى إذالا ما وقع أي هجوم إسرائيلي يتصدى له رد جماعي عربي.

كان نصيب لبنان من هذه الخطة سرباً من الطائرات، وراداراً... على اعتبار أنه يملك مناطق استراتيجية عسكرية مهمة على رؤوس قمم الجبال. وخوفاً من وقوع هجوم على لبنان يدمر طائراته وراداره، تقرر إعطاؤه أيضاً بطاريات صواريخ أرض / جو . وبعد أن وزعت الخطة انتقل البحث إلى التكاليف ... وتحديد الجهات العربية التي ستتولى التمويل.

ولأسباب سياسية رفض لبنان شراء الأسلحة السوفييتية .. وطالب بإعطائه الثمن على أساس سعر السلاح السوفييتي ليشتري السلاح من فرنسا.

وبالفعل، سارت الأمور بعد ذلك بشكل طبيعي، وبدأ لبنان مفاوضاته مع فرنسا لشراء الميراج والرادار وصواريخ الكروتال، إلى أن وقعت حرب 1967 فانقلبت كل المقاييس... وتبدلت الظروف... فألغيت القيادة العربية الموحدة من جهة، ومن جهة أخرى نسف مشروع تمويل الروافد بعد احتلال إسرائيل للضفة الغربية، وبالتالي، تخلت الدول العربية عن التزاماتها بدفع ثمن السلاح اللبناني.

ذلك أنه بعد تبدل الظروف عقب النكسة، وتبدل الاستراتيجية العسكرية العربية، بدأ التفكير اللبناني يتجه بالتشاور مع الدول العربية نحو إبدال السلاح الفرنسي بآخر سوفييتي يتوافق مع ظروف مرحلة ما بعد يونيو 1967، ومع أوضاع لبنان وظروفه، بحيث تكون لديه صواريخ نقالة وغير ثابتة تكون عرضة لعمليات نسف إسرائيلية.

وقوبل هذا التبدل في السياسة والتسليح بغضب أمريكي ... فقد رفض سيسكو مساعد وزير الخارجية الأمريكية مقابلة السفير اللبناني ثلاث مرات، ودفع الدكتور إلياس سابا وزير الدفاع الوطني اللبناني ثمن مغامرته بشراء أسلحة سوفييتية بأن أبعد عن منصبه.

وخلال عامي 1971، 1972، عاش لبنان مأساة خلافه مع الفلسطينيين، ووقعت حوادث مايو 1973 وتدهورت علاقاته مع الدول العربية، لكن هذه السياسة ما لبثت أن تبدلت بعد ذلك، وتساقطت نظرية الاعتماد على الحماية الأمريكية، وعاد لبنان بعد حرب أكتوبر إلى اعتماد سياسته الأولى وهي سياسة الانفتاح على العرب، وعلى المقاومة الفلسطينية، واعتبار ما يتعرض له لبنان إنما هو قدره، وأن لابد من التنسيق مع العرب والمقاومة للذود عن أجوائه وسيادته.

وتجلت هذه السياسة الجديدة بذهاب الرئيس سليمان فرنجية إلى الأمم المتحدة ليقول كلمة العرب في القضية الفلسطينية، وتجلت أكثر بتخلي لبنان عن فكرة إخلاء المخيمات الفلسطينية من الأسلحة الثقيلة، وساد شعور ضمني بأن هذا السلام في المخيمات هو قوة للبنان، واللبنانيين.

لم تقف إسرائيل ساكنة أمام تلك التبدلات، فقد استشعرت بأن لبنان بدأ يسير بخطى ثابتة للانتقال من مرحلة الدولة "المساندة" إلى مرحلة الدولة "المواجهة"، وبالتالي فإن هذا يسقط اتفاقية الهدنة التي وقعت بينهما عام 1949، وهذا التحول على أهميته البالغة جاء صريحاً في كلمة فيليب تقلا وزير الخارجية اللبناني أمام لجنتي الدفاع والخارجية بالبرلمان، حيث أكد على ضرورة أن يتسلح لبنان ويدافع ، ويحارب، إذ لم يعد له خيار سوى ذلك، لأن لإسرائيل أطماعها في لبنان سواء أكانت هناك مقاومة فلسطينية أو لم تكن.

السفير الأمريكي المذلول

وبينما خطوط السياسة اللبنانية الجديدة تتشكل .. كانت إسرائيل تراقب في قلق وحذر، فمعنى أن يلجأ لبنان إلى "الشرق" تلاحماً مع دول المواجهة أن تفتح جبهة عربية خامسة ضد إسرائيل، تضطرها إلى تغيير استراتيجيتها العسكرية كلها، ويحل بذلك السخط الإسرائيلي والأمريكي على لبنان.

لقد كان الرئيس اللبناني سليمان فرنجية يعلم جيداً أن أسلحة جيشه قديمة ومهترئة، يعود عهد صناعتها إلى ما قبل الحرب العالمية الثانية... (!!) .. ويعلم ايضاً ان لا قبل للبنان بمحاربة إسرائيل، أو مواجهتها، أو صد هجماتها الاستعراضية.

كان لا يزال يذكر ما قاله الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لمسؤول لبناني كبير، طلب منه احترام وضع لبنان الخاص... وإبقائه خارج دائرة الصراع العربي الإسرائيلي.

لقد استرسل عبد الناصر في عرض وجهة نظره وأجاب: " لا أريد أن أسأل إلى متى يستطيع لبنان أن يتحمل عبء هذا الوضع الخاص. ؟ في مؤتمر الاسكندرية طلبتم مني أن أساند موقفكم يوم هاجمكم الرئيس العراقي عبد السلام عارف... واتهمكم بأنكم تعيشون تحت حماية المظلة الدولية... ولقد نجحت في عزلكم عن التزامات الدافع بحجة العودة إلى برلمانكم.

لقد دفعت مصر كثيراً ثمن الالتزام بالمادة الأولى من الدستور ... والتي تقول بأن مصر جزء من الأمة العربية. والدستور اللبناني يقول "لبنان ذو وجه عربي"، والالتزام بشعارات هذه العبارة لا يعني أن لبنان عربي في السلم، وعربي أثناء المطالبة بودائع البترول، وعربي لتأمين الخدمات التجارية والسياحية والسوق الحر، بل هو عربي أيضاً في أوقات الحرب".

مقولة عبد الناصر تلك كانت تهز فرنجية من أعماقه، لذلك، دفع بلبنان للحضن العربي بكل قوته، متحدياً التهديدات الغربية بخنقه اقتصادياً، بل ومتحدياً مطالبة الأمريكيين له بعدم الاتجاه "شرقاً" وإلا فسيطلقون عليه وحش إسرائيل وثعابينها.

وفي أول رد فعل له، ثأر فرنجية لسفيره بأمريكا الذي أهانه سيسكو "مساعد" وزير الخارجية ثلاث مرات، ورفض هو الآخر مقابلة السفير الأمريكي "جودلي" مرات ومرات، برغم أنه يحمل رسالة هامة من الرئيس جيرالد فورد، يعرض فيها رغبته في زيارة لبنان، فأذل بذلك السفير الأمريكي، وأوقع فورد في حرج دولي بالغ، بل وحطم العنجهية الأمريكية التي احتلت بورتوريكو مائة سنة لأن ضابطاً من البحرية الأمريكية قد ضُرب في الشارع هناك.

لكل ذلك، أعطت أمريكا الضوء الأخضر لإسرائيل لتعربد في لبنان، وتضرب النبطية ضربات مستمرة متلاحقة، ويتسع نطاق ضرباتها لتشمل مخيمات اللاجئين حتى في بيروت نفسها.

وبدأ دور المخابرات الإسرائيلية في عرقلة التبدلات اللبنانية، وقطع خطوط التوافق والتمازج بين لبنان والعرب، مستغلة أزمة إحراج الرئيس الأمريكي ومذلة سفيره باللجوء لأسلوب شبكات "التخريب" حيث رأت أنه الحل الأسرع، والأصوب، والأسهل، ذلك لأنها جربته كثيراً، ونجحت، ولها عشرات السوابق في ذلك أهمها فضيحة "لافون" في مصر، وفضيحة تهديد وقتل علماء الصواريخ الألمان في مصر أيضاً.

وكان أن جندت اللبناني خميس أحمد بيومي – 34 عاماً – ودربته على أن يكون جاسوساً بلا قلب، منزوع المشاعر وحشياً في إجرامه، لتنفيذ سياستها التخريبية في لبنان والضرب بلا رحمة في الصميم.

ضد لبنان نفسه

بالقرب من جامع الزعتري على المدخل الشمالي لمدينة صيدا، ارتفعت البنايات الرائعة التي تقع على البحر مباشرة بطريق بوليفار، المتفرع من الطريق السريع صيدا – بيروت.

بإحدى هذه البنايات ولد خميس بيومي لأسرة ميسورة جداً كثيرة العدد، فوالده مقاول كبير يملك مكتباً فخماً يموج بعشرات الإداريين.

وفي محيط هذا الثراء عاش خميس مدللاً، مرفهاً ، منعماً، لا يعلم من أمر الدنيا سوى اللهو والسهر في حانات بيروت ومواخير صيدا برفقة من يماثلونه ثراء، وخواء، فنزف عمره بحثاً عن المتعة ومطاردة الحسان، متجاهلاً نصائح والده الذي فشل في الاعتماد عليه في إدارة أعماله، فتركه لحاله يائساً، غاضباً، على أمل أن يوماً سيأتي ويفيق الى نفسه.

لكن أمله لم يتحقق في حياته، إذ مات فجأة في حادث سيارة، وانخسفت الأرض بأسرته لما تبين لها أنه مدين بمبالغ طائلة للبنوك، وأفاق المُغيّب على واقعه المؤلم وقد صفعته الصدمة وزلزلته الكارثة، خاصة وقد تهرب منه أصقداء الطيش وليالي النزق.

هكذا وجد نفسه العائل الوحيد لأمه ولإخوته الستة، وكان عليه، وهو الخاوي، أن ينبذ ماضيه ليعبر بهم خضم الفقر، والعوز، والمعاناة.

فعمل كأخصائي للعلاج الطبيعي بأحد مراكز تأهيل المعوقين بصيدا، وبعد مرور أربعة سنوات في العمل، اكتشف أنه كثور يجر صخرة يصعد بها الى الجبل، وفي منتصف المسافة تنزلق الصخرة، فيعاود الكرة من جديد دون أن يجني سوى الشقاء.

لذلك كره نفسه وكره واقعه، وفكر بالهجرة الى كندا وبذل جهداً مضنياً لكن محاولاته فشلت، فخيمت عليه سحابات الغضب واليأس، وانقلب الى إنسان قائط، عصبي، عدواني، مكروه في محيط عمله.

كانت كل هي حاله، الى أن سقط وهو في قمة ضعفه في مصيدة الموساد بلا مقاومة، وكانت قصة سقوطه سهلة للغاية، وجاءت بدون ترتيب أو تخطيط طويل.

فذات صباح التقى بسيدة أرمينية مسنة، جاءت لتسأله عن إمكانية عمل علاج طبيعي لابنتها المعاقة بالمنزل، وأعطته العنوان لكي يزورها بعدما أطلعته على التقارير الصحية التي تشخص حالتها.

قرأ خميس في حديثها وملبسها علامات الثراء، فزار منزلها حيث كانت ترقد "جريس" بلا حركة، طفلة في التاسعة من عمرها بعينيها شعاعات الأسى والبراءة.

لعدة أسابيع ... داوم على زيارتها للعلاج الى أن تصادف والتقى بخالها "كوبليان" تاجر المجوهرات ببيروت، فتجاذبا معاً أطراف الحديث، وقص خميس حكايته مع الثراء وليالي بيروت، وصراعه المرير مع الفقر لينفق على أسرته، وسأله كوبليان سؤالاً واحداً محدداً، عن مدى قدرته الإقدام على عمل صعب، بمقابل مادي كبير، فأكد خميس استعداده لعمل أي شيء في سبيل المال.

سافر كوبليان الى بيروت وقد خلف وراءه صيداً سهلاً، ضعيفاً، يأكله قلق انتظار استدعائه... وما هي إلا أيام حتى فوجئ كوبليان بخميس جاء يسعى اليه في بيروت، يرجوه أن يمنحه الفرصة ليؤكد إخلاصه، فهو قد ضاق ذرعاً بالديون والحرمان ومتاعب الحياة.

رحب به عميل الموساد واحتفى به على طريقته، فقد أراد الشاب الحانق أن يجدد ذكرياته في حانات بيروت، ولم يكن الأمر سهلاً بالطبع فسرعان ما انجذب خميس لماضيه، وترسخت لديه فكرة العمل مع كوبليان كي لا يحرم من متع افتقدها.

كانت آلاف الليرات التي تنفق عليه في البارات دافعاً لأن تزيد من ضعفه وهشاشته، ونتيجة لحرمانه، ورغبته، لم يعارض مضيفه فيما عرضه عليه، وكان المطلوب منه حسب ما قاله، تهديد المصالح الأمريكية لموقفها مع إسرائيل ضد لبنان، وضدالعرب، ولما أنقده خمسة آلاف ليرة – دفعة أولى – قال له خميس إنه مع النقود ولو كان ضد لبنان نفسه.

ترويض القتلة

في إحدى الشقق ببيروت، أقام خميس أحمد بيومي ينفق من أموال الموساد على ملذاته، وتعهد به ضابط مخابرات إسرائيلي ينتحل شخصية رجل أعمال برتغالي اسمه "روبرتو"، يجيد التحدث بالعربية، فدربه على كيفية تفخيخ المتفجرات وضبط ميقاتها، وكذلك التفجير عن بعد، وأساليب التخفي والتمويه وعدم إثارة الشبهات.

كانت عملية إعداد العبوات الناسفة من مادة t.n.t شديدة الانفجار صعبة ومعقدة، تستلزم تدريباً طويلاً، خاصة وخميس لم يسبق له الالتحاق بالجيش، ولا يملك أية خبرات عسكرية تختصر دروس التدريب.

وفي أولى عملياته التخريبية، صدرت اليه الأوامر بتفجير السفارة العراقية ببيروت.

سكت خميس ولم يعلق، فقد تحسس جيبه المتخم بالنقود، وحمل حقيبة المتفجرات بعدما ضبط ميقاتها، وتوجه الى مبنى السفارة في هدوء وثقة، وغافل الجميع عندما خرج من المبنى بدون حقيبته التي تركها بالصالة الرئيسية خلف فازة ضخمة، ووقف عن بعد ينتظر اللحظة الحاسمة.

نصف الساعة وملأ الحي دوي الانفجار، وقتل تسعة بينهم خمسة لبنانيين ، ولاهثاً خائفاً عاد الى شقته، ولحق به روبرتو ليجده على هذا الحال، فيصفعه بعنف قائلاً انه يعرض نفسه بذلك للخطر.

وقف خميس مكانه ساكناً شاحباً، بينما تنهال عليه كلمات اللوم والتقريع والسباب، ومعنى سكونه ما هو إلا خضوع والشعور بندم، فالسيطرة عليه كانت مطلوبة عنفاً وليناً، ترهيباً وترغيباً، منحاً ومنعاً،فتلك أمور يجيدها خبراء السيطرة والالتفاف في أجهزة المخابرات، وهم أدرى الناس بكيفية التعامل مع الخونة والجواسيس.

ذلك أنهم يخضعون تصرفاتهم وردود أفعالهم وفقاً لنظريات علمية مدروسة ومحسوبة بدقة، وليس لمجرد هوى في النفس .. فترويض الخونة في شبكات التخريب أمر بالغ التعقيد والصعوبة بمكان ... !!

وعندما أذاع التليفزيون حادث التفجير، وملأت صور الضحايا والمصابين الشاشة، كان روبرتو يرقب خميس عن قرب، ويدرس تفاعلاته وانفعالاته، وكانت المسألة مجرد تدريب على وأد مشاعره، وقتل أية محاولة للرفض، أو التمرد، أو الندم.

كانت إسرائيل تقصد من تفجير السفارة العراقية ببيروت إشعال الشقاق بين الدولتين، وتأجيج الخلاف بينهما، فالعراق كان يسعى وبشدة لتقوية أواصر العلاقة بين لبنان، والاتحاد السوفييتي، ويويد لبنان في خطواتها نحو الاتجاه الى "الشرق"، وكانت إسرائيل تقصد أيضاً توجيه الاتهام الى المقاومة، مما يفقدها التأييد اللبناني والمساندة.

ونظراً لظروفه السيئة... أغدقت الأموال على خميس بيومي فكفر بعروبته، وتحول بعد مدة ليست بالطويلة الى دموي يعشق القتل والدم، بل إنه استطاع تجنيد لبناني آخر اسمه "جميل القرح" كان يعمل مدرساً وطرد من عمله لشذوذه مع تلاميذه الأطفال. فتصيده خميس وجره الى نشاطه التخريبي، وبارك روبرتو انضامه للشبكة، ولم يستغرق تدريبه هو الآخر وقتاً طويلاً، فلسابق خدمته في الجيش كان أكثر تفهماً لخطوات التدريب... وأعمته الموساد بالأموال أيضاً فغاص لأذنيه في التفجير والتخريب وقتل الأبرياء.

هكذا انضم قاتل الى قاتل، وشكلا معاً في النهاية شبكة من الإرهاب هزت أعمالها بيروت.

صواريخ السيارات وفي التاسعة صباح الثلاثاء 10 ديسمبر 1974 بينما عدد كبير من موظفي مكتب منظمة التحرير بمنطقة كورنيش المزرعة، يقومون بأعمالهم اليومية الاعتيادية، هزهم انفجار قوي، تبين أنه حدث في الطابق الأول من المبنى حيث يوجد معرض "ذبيان وأيوب" للمفروشات. وعثر رجال الأمن على سيارة فيات "132" بيضاء اللون تقف على الرصيف المواجه... ووجدوا على سطحها قاعدة لإطلاق أربعة صواريخ – آر . بي . جي – بلجيكية الصنع عيار "3" بوصة ونصف، مركزة على لوح خشبي متصل بأسلاك كهربائية منها انطلقت الصواريخ.

ووسع رجال الأمن دائرة التفتيش، فعثروا على بعد 65 متراً من السيارة الأولى، على سيارة ثانية فيات أيضاً... وعلى سطحها صندوق خشبي آخر تخرج منه أسلاك كهربائية متصلة ببطارية السيارة.

أخليت مكاتب المنظمة وسكان البناية، وقبيل مجيء خبير المفرقعات، شوهد الصندوق الخشبي يفتح أتوماتيكياً لتنطلق منه ستة صواريخ آر . بي . جي، فتصيب مباشرة مكاتب المنظمة وتحطم واجهاتها ومحتوياتها.

في الوقت نفسه تقريباً، تعرض مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير، والكائن بالطابق الثاني من بناية الجكتور راجي نصر، في شارع كولومباني المتفرع من شارع أنور السادات، لهجوم صاروخي مماثل، إذ انفجرت أربعة صواريخ دفعة واحدة، انطلقت من على سطح سيارة "أودي 180"، وعثر الى جانبها على غليون خشبي، وأسفرت العملية عن تدمير القسم الأكبر من مكتبة المركز التي تضم أكثر من 15 ألف كتاب وإصابة العديد من المواطنين والسيارات.

وبعد مرور عدة دقائق من هذه الانفجارات، تعرض مكتب شؤون الأرض المحتلة في الدور الأول من بناية الإيمان لصاحبها جعيفل البنا، والكائنة بشارع كرم الزيتون الى هجوم رابع مماثل بأربعة صواريخ.

لقد كان خميس أحمد بيومي ذا دور فعال في التفجيرات الأربعة، يشاركه جميل القرح وثلاثة جواسيس آخرين استطاع القرح تجنيدهم وضمهم الى الشبكة الارهابية، وكان أسلوب منصات صواريخ السيارات أسلوباً جديداً لم تعرفه بيروت من قبل، أو أية عاصمة عربية أخرى.

ولم يقف الأمر عند تفجير سفارة العراق ومكاتب المنظمات الفلسطينية، بل تعداه الى ما هو أبعد بكثير، إذ طالت الانفجارات الكنائس والمساجد لإثارة الفتن بين الطوائف، وإظهار عجز رجال الأمن اللبناني عن اكتشاف الجناة، أو إحباط المؤامرات التي تحاك فوق الأرض اللبنانية.

ولأسباب كثيرة، أولها أن الأجهزة اللبنانية ترى أن التعاون مع أجهزة الأمن الفلسطينية أمر معيب ومسيئ لسمعتها، وثانيها، أن الدولة اللبنانية لا تزال تفضل السياحة على الأمن، والسبب الثالث، التأرجح ما بين دولة المساندة ودولة المواجهة، لتلك الأسباب، كانت شبكة خميس بيومي والعديد من الشبكات التخريبية الأخرى، تعمل في لبنان بحرية مطلقة، وينسل أفرادها من بين رجال الأمن كالرمال الناعمة.

هكذا أوقعت شبكات التخريب لبنان في مستنقع عميق، وتأزمت العلاقة مع الفلسطينيين بسبب اللامبالاة اللبنانية في مطاردة العملاء ومحاكمتهم.

وحدث أن ألقت قوات الأمن الفلسطينية على بلجيكي قبل أيام من التفجيرات الأخيرة، بعدما تأكد لديها أنه جاسوس إسرائيلي، وأثناء التحقيق معه قامت القيامة، واشتد الضغط اللبناني لإطلاق سراحه، فسلموه للسلطات الأمنية مع ملف يحتوي اعترافاته، ليطلقوا سراحه بعد 24 ساعة.

أما الذين سمح للفلسطينيين بالتحقيق معهم، فقد اعترفوا اعترافات كاملة بأنهم عملاء للموساد، وثار الشيخ بهيج تقي الدين وزير الداخلية اللبناني للملاحقة الفلسطينية الدءوبة للجواسيس الأجانب، واشتدت الأزمة واستحكمت حلقاتها بعد موجة التفجيرات التي هزت لبنان كله، لدرجة توجيه نداء في الصحف يوم الجمعة 27 ديسمبر 1974 للذين يزرعون القنابل والصواريخ، أن يعلنوا "الهدنة" لمدة 48 ساعة تبدأ قبل رأس السنة بيوم واحد، تماماً كما حدث في بريطانيا من قبل مع ثوار إيرلندا، وكتبت الصحف في لبنان أنه: أمام عجز الدولة عن إلقاء القبض على أي متهم بزرع القنابل، لا مفر لديها من أن تلجأ الى عاطفته الإنسانية، و "ترجوه" أن يتوقف ليومين أما إذا لم يستجيب زارعو القنابل لرجاء الحكومة، فلا مانع من إعلان بيروت مدينة مفتوحة لمدة يومين، وليتحمل زارعو القنابل مسؤوليتهم أمام الضمير الإنساني، والتاريخ. "!!!".

إنه أغرب نداء، ورجاء، لكن، هذه هي الحقيقة المؤلمة، هذا ما حدث بالفعل في لبنان عام 1974.

وفي التاسع من يناير 1975، وبينما الندف الثلجية البيضاء تتطاير في الهواء، ثم تتهادى كالرزاز لتستقر فوق الأرض، وعلى أسطح المنازل وأغصان الشجر، ألقى رجال الأمن الفلسطينيون القبض على خميس بيومي بشارع كورنيش المزرعة، عندما كان يرسم لوحة كروكية لأحد مباني المنظمة الفلسطينية.

وأثناء التحقيق معه استخدم كل أساليب المراوغة والدهاء... واحتاط لعدة أيام كي لا يقع في المحظور، لكن الاستجواب المطول معه أصاب مقاومته في الصميم، وتلاشت رويداً رويداً خطط دفاعاته وهم يلوحون له باستخدام طرق التعذيب معه لانتزاع الحقيقة... وبوعد منهم بعدم إيذائه اعترف بكل شيء، فألقى القبض على جميل القرح الذي مات بالسكتة القلبية قبلما يعترف بأسماء أعوانه الثلاثة الآخرين، هكذا كتبت لهم النجاة حيث لا يعرف خميس إلا أسماءهم الحركية، أما روبرتو فقد اختفى ولم يقبض عليه أبداً، وتسلمت السلطة اللبنانية خميس بيومي وقدمته للمحاكمة وعوقب بعشر سنوات في السجن، "!!".

تلك كانت محصلة إحدى شبكات التخريب في لبنان، زرعتها إسرائيل لزعزعة استقراره، واستنفار العرب منه، وجره بعيداً عن "المواجهة"، و "الشرق".

فهل نجحت إسرائيل؟ ، عليكم أنت الإجابة.!!.

عمار الحرازي07-25-2010, 04:34 AM

زعيم شبكة الشواذ ... ! !

توماس المصري ...

محدودة جداً... شبكات الجاسوسية الإسرائيلية في مصر، قياساً بعدد الجواسيس الذين يعملون بمفردهم. وأشهر هذه الشبكات التي نعرفها ولاقت شهرة واسعة.. شبكة التخريب التي تكونت من يهود مصر وفجرت "فضيحة لافون" عام 1954 فأحدثت أزمة طاحنة في إسرائيل حينذاك.

أما شبكة توماس – التي لم تأخذ ولو قدراً ضئيلاً من الشهرة – فتعد من أكبر الشبكات التي ضُبطت، وحجّمت كثيراً من شأن الموساد، وألقت الضوء مبهراً على براعة المخابرات المصرية.

وخطورة هذه الشبكة تكمن في تنوع أنشطتها وأهدافها، وكثرة عدد أعضائها من المصريين والأجانب، وكثافة المعلومات الحيوية التي نقلتها لإسرائيل، وأيضاً... عمرها القصير جداً الذي يقابله انتشار شرس محموم في أكثر من دولة.

إنها بحق ... أشهر شبكات الجاسوسية التي سقطت في مصر .. ولا يعرفها أحد... !! الصياد والفريسة

في فبراير عام 1958 دخلت سوريا مع مصر في اتحاد اندماجي، وعرفت الدولتان باسم "الجمهورية العربية المتحدة" وكانت سوريا هي الاقليم الشمالي، ومصر هي الاقليم الجنوبي. ورأت إسرائيل في هذا الاتحاد خطراً عظيماً يتهدد أمنها في الشمال والجنوب ومن الشرق أيضاً.

وحوصرت الدولة اليهودية بالجيوش العربية، ولم يتبق لها سوى البحر الأبيض المتوسط – المنفذ الوحيد الآمن، فحصنته بالسفن وبالمدمرات، وزرعت غواصاتها بطول الساحل خوفاً من حصار هذه الجبهة بالقوات البحرية العربية، وأصبحت إسرائيل تعيش في حالة طوارئ دائماً لا تدري من أية جهة تأتيها الضربة الفجائية القاضية.

لذلك حرص ساستها – بواسطة أجهزة المخابرات – على عرقلة نمو هذا التطويق العربي من الشمال والجنوب، ولعبت على كل الأوتار لإفشاله والقضاء عليه. ولم يكن بمستطاعها وقف الزحف العربي لإنقاذ فلسطين المغتصبة، سوى باللجوء إلى كل الحيل القذرة والتصرفات الوحشية لإرهاب العرب، وبث الدعايات المسمومة لإخافتهم، وتصوير الجندي الإسرائيلي والعسكرية الإسرائيلية كأسطورة في الأداء والمهارة والقوة.

لذا فقد عمدت إلى ترسيخ هذا الاعتقاد لدى العرب بمحو ما يقرب من "293" قرية فلسطينية وإزالتها من فوق الأرض والخريطة، وارتكاب أبشع المذابح في التاريخ دموية وبربرية ضد العرب العزل في فلسطين. هذا بجانب التكثيف الإعلامي والنشاط الدبلوماسي للحد من يقظة روح الجهاد، التي جاهدت قوى الاستعمار على إسكاتها بالضغط على العرب وسد أفواههم.. ومنع السلاح عنهم وإغراقهم في مشاكل داخلية معقدة ... كالجهل والتخلف والفقر والمرض... وإثارة الثورات الداخلية طمعاً في شهوة الوصول إلى الحكم.

كل ذلك أدى إلى إضعاف الجيوش العربية في حين كانت إسرائيل تتشكل وتقوى، وتغدق عليها الدول الاستعمارية الكبرى الأسلحة المتطورة الحديثة التي صنعت إسرائيل، وزراعتها في قلب المنطقة العربية لتقسمها إلى نصفين – أفريقي وآسيوي – لا أمل في التقائهما إلا بفناء إسرائيل.

من هنا كان الرعب الأكبر لإسرائيل حينما قامت الوحدة في فبراير 1958 بين الشطرين المنفصلين في الشمال والجنوب، وربطهما اتحاد اندماجي وحكومة واحدة على رأسها الزعيم جمال عبد الناصر، خاصة بعدما فشل زعماء اتفاق "سيفر" بفرنسا في العدوان الثلاثي الغاشم على مصر في أكتوبر 1956، والذي انتهى بخيبة أمل انكلترة وفرنسا وإسرائيل، وانسحابهم يملأهم الخزي والعار.

لذلك كان على إسرائيل أن تراقب اتحاد الشطرين، بل وتسعى إلى معرفة أدق الأسرار عنهما... لكي تحتاط إلى نفسها من مغبة تقويضها واجتياح الأرض السليبة فجأة.

وكانت أن أرسلت إلى مصر وسوريا بأمهر صائدي الجواسيس ... للبحث عن خونة يمدونها بالمعلومات وبالوثائق السرية، فجندت مصرياً خائناً من أصل أرمني اسمه "جان ليون توماس" استطاع تكوني شبكة تجسس خطيرة في مصر، وأرسلت إلى سوريا – إيلياهو كوهين – داهية الجواسيس على الإطلاق، وأسطورة الموساد الذي ظل جسده معلقاً في المشنقة لأربعة أيام في دمشق. والأرمن ...جالية أقلية استوطنت مصر هرباً من الاضطهاد والتنكيل الذي تعرض له الشعب الأرمني ... وتعدادهم بالآلاف في مصر .. امتزجوا بنسيجها الاجتماعي وتزاوجوا فيما بينهم في البداية... ثم اختلطت دماؤهم بالمصريين في مصاهرة طبيعية تؤكد هذا الامتزاج والاستقرار، واحتفظوا فيما بينهم بعاداتهم وتقاليدهم وبلغتهم الأصلية.

وتشير بعض المصادر أن تعدادهم في مصر يصل إلى مائة ألف أرمني، يتمتعون بالجنسية المصرية وبكامل الحقوق، وسمحت لهم السلطات بإصدار صحيفة باللغة الأرمينية، تدعم ترابطهم وتذكرهم بجذورهم.

اشتهر عن الأرمن أنهم أناس درجوا على العمل والكفاح والاشتغال بالتجارة، لذلك.. فأمورهم الحياتية والمادية ممتازة.. خاصة بعدما هيأ لهم المناخ المستقر في مصر فرص الانطلاق والنجاح.

وكان "جان ليون توماس" أحد ابناء هذه الجالية، وقد عمل بالتجارة والاستيراد والتصدير، واستطاع بعد عدة سنوات أن يجمع ثروة طائلة تؤمن له مستقبلاً رائعاً... تدفعه إليه زوجته الألمانية "كيتي دورث" فتغلغل داخل أوساط المجتمع الراقي يزهو بثمرة كده واجتهاده. ولظروف عمله وقرابته تعددت سفرياته إلى ألمانيا الغربية لإنجاز أعماله.

هناك ... اقترب منه أحد صائدي الجواسيس المهرة، واشتم فيه رائحة ما غالباً هي نقطة ضعف من خلالها يستطيع الالتفاف حوله... وتجنيده، لا سيما بعد تأكده من أن له علاقات واسعة في مصر.

ولم تخب حاسة الشم لدى ضابط المخابرات الإسرائيلي الذي يتستر وراء شخصية رجل أعمال. إذ اكتشف هواية خاصة جداً عن توماس... وهي عشقه للجنس مع الأطفال الصغار. ففي غمرة مشاغله وأعماله، سرعان ما ينقلب إلى ذئب شره يبحث عن فريسة تشبع نهم شذوذه.

كان توماس بالفعل يعاني من هذا الداء، ويصاب أحياناً بتوترات عصبية وتقلبات مواجية حادة، تظهر عادة في صورة ثورة على زوجته الجميلة... التي لم تكن تدرك السبب الحقيقي في هروب الخادمات صغيرات السن من بيتها، ولا يعدن إليه مرة ثانية؟ وفشلت كثيراً في الوصول إلى إجابة منطقية لذلك.

بياتريشيا اللذيذة

ولكي يزجوا به داخل دائرة الجاسوسية من أوسع الأبواب... قذفوا اليه بطفلة يهودية يتيمة في العاشرة من عمرها، طرقت باب شقته في فرانكفورت، ولأنهم زرعوا الكاميرات والأجهزة السرية بها واتخذوا من الشقة المجاورة مكمناً لتسجيل ما سيحدث .. أذهلتهم أغرب مطاردة بين جدران الشقة الصغيرة، بين توماس الذئب الجائع... والطفلة الضعيفة التي كانت تبكي متوسلة إليه، فيتوسل هو إليها ألا تتركه يعاني أكثر من ذلك.

كان عارياً تماماً، يتصبب منه العرق الغزير وترتجف خلجات وجهه، وبدا في قمة ضعفه عندما هجم على الطفلة، وصفعها في عنف فانخرست من الخوف، وشرع في الحال في تجريدها من ملابسها حتى تعرت تماماً، وبدا واضحاً ارتجاف أطرافها واضطراب أنفاسها اللاهثة، فتحرر بسرعة من ملابسه كأنه لا يصدق أن فريسة بين يديه، واحتضنها في لهفة الجائع وهو يأمرها ألا تصده، أو تعترض على ما يفعله بها.

وفوجئ بهم من حوله، انتزعوا الطفلة من بين يديه فانزوت ترتجف.. بينما أخذ يرجوهم ألا يصحبوه عارياً للشرطة. وأطلعوه على ما لديهم من أدلة شذوذه، فانهار.. ووقع في لمح البصر على عقد يقر فيه بتعاونه مع الموساد، وأنه على استعداد تام لتنفيذ ما يكلف به.

هذه هي الموساد .. تتبع أقذر الحيل للسيطرة على عملائها وإخضاعهم، وهذا ليس بأمر جديد على المخابرات الاسرائيلية، فلا شيء يهم طالما ستحقق مآربها وتجند ضعاف النفوس في كل زمان ومكان.

في قمة مذلته وشذوذه لم تكن لديه القدرة على أن يفكر أو يقرر، إذ أن إرادته قد شلت ... وانقلب إلى شخص آخر بلا عقل... فقد خلفته المحنة وأزهقته الصدمة، وبسهولة شديدة استسلم لضباط الموساد يتحكمون بأعصابه.. وابتدأوا في تدريبه وإحكام سيطرتهم عليه، وكتب في عدة صفحات بيده كل ما لديه من معلومات اقتصادية يعرفها بحكم عمله وعلاقاته، وأحاطوه بدائرة الخوف فلم يستطع الإفلات، وهددوا بقتل أفراد أسرته إذا ما عاد إلى مصر وأبلغ السلطات... فقد كان من السهل إقناعه بوجود عملاء لهم في القاهرة ينتظرون إشارة منهم ليقوموا باللازم مع عائلته هناك.

وتأكيداً لذلك... أرسلوا باقة زهور إلى منزله بمناسبة عيد ميلاد ابنته... وكم كان فزعه شديداً عندما اتصل بالقاهرة فتشكره ابنته على باقة الزهور التي أرسلها.. وأصيب رجل الأعمال المذعور بصدمة عنيفة، وصرخ في هلع مؤكداً بأنه سيقوم بالعمل لصالحهم... وتركوه يسافر ملتاعاً ومرعوباً يحمل تكليفات محددة وأسئلة مطلوب إجاباتها، وكانوا على يقين أنه سقط في شباكهم ولن يمكنه الإفلات أبداً.

وفي الطائرة استغرقه تفكير عميق فيما صار إليه حاله، وهل يستطيع النجاة من هذا المأزق أم لا؟ واتصل فور وصوله بصديقه محمد أحمد حسن الذي يشغل منصباً حساساً في مدرسة المدفعية بالقاهرة، وسأله عدة أسئلة تتصل بعمل جهاز المخابرات المصري. وهل بالإمكان حماية شخص ما تورط مع المخابرات الإسرائيلية؟ وكانت إجابات محمد حسن إجابات قاطعة، تؤكد ان المخابرات المصرية من أنشط أجهزة المخابرات في العالم بعد استحداثها وتدريب كوادرها بأقسامها المختلفة، وحسبما يقال فهي تحمي المتورطين إذا ما تقدم بالإبلاغ عما وقع لهم بالخارج.

لكن توماس لم يثق بكلامه، وظن أنها دعاية يروجها لا أكثر.. فتملكه الخوف من الانسياق وراء دعاية لن تفيد، وحرص على المضي في طريق الخيانة حتى آخره. بينما انشغل صديقه بالهدايا الثمينة التي جلبها له ولم يسأله عن تفاصيل الأمر. أو عن ذلك الشخص المتورط مع الموساد.

لم يضيع توماس وقته في إثارة أعصابه بالتفكير والقلق.. وشرع كما دربوه في دراسة أحوال المحيطين به ليستكشف نقاط ضعف تمكنه من النفاذ اليهم، وكان أول من نصب شباكه حوله – محمد أحمد حسين – الذي كان يدرك جيداً أن المخابرات المصرية أضافت اختصاصات وتكنولوجيا حديثة تمكنها من تعقب الجواسيس والخونة.

تناسى الرجل العسكري كل ذلك وعاش في وهم ابتدعه. ولم يعد يفكر سوى في نفسه فقط... وقد طغت هدايا صديقه على أنسجة عقله. كان ذلك في شهر أكتوبر عام 1958 عندما نام ضميره نوم الموات بلا أدنى حياة أو رعشة من شعور... وأسلم مصيره بل حياته كلها لمغامرة طائشة قادته إلى الهلاك.

وكانت "بياتريشيا" خطوة أولى في سلم الموت الذي لا مهرب منه ولا منجي على الإطلاق... وبياتريشيا هذه راقصة ألمانية مقيمة بالقاهرة... تربطها بتوماس علاقة قديمة قبل زواجه من كيتي، وفي حين انشغل عنها بعمله اضطر لتجديد علاقته بها بمجرد عودته، لتساعده في تجنيد محمد حسن الذي كان يعرف عنه ميله الشديد للخمر والنساء.

فرحت الراقصة المثيرة بعودة توماس إليها وتقابلت الأغراض والنوايا... وبعد سهرة ممتعة بأحد النوادي الليلية... ارتسمت بخيالات محمد حسن صور متعددة لعلاقته ببياتريشيا، أراد ترجمتها إلى واقع فعلي لكن راتبه الضئيل لم يكن ليكفي للإنفاق على بيته... وعلى راقصة مثيرة تجتذب من حولها هواة صيد الحسناوات. وتكررت السهرات الرائعة، التي أصبحت تشكل شبه عادة لديه لم يكن من السهل تبديلها أو الاستغناء عنها، وأغرقته الراقصة في عشقها فازداد اندفاعاً تجاهها، ولم يوقفه سوى ضيق ذات اليد.

عند ذلك لم يكن أمامه سوى الالتجاء إلى توماس ليستدين منه، وتضخم الدين حتى توترت حياة محمد حسن... وانتهزها توماس فرصة سانحة لاستغلاله والضغط عليه فرضخ له في النهاية وسقط مخموراً في مصيدة الجاسوسية... مستسلماً بكامل رغبته مقابل راتب شهري – خمسين جنيهاً – خصصه له توماس لينفق على الفاتنة التي أغوته وأسكرته حتى الثمالة.

في المقابل لم يبخل محمد حسن بالمعلومات الحيوية عن مدرسة المدفعية... كأعداد الطلاب بها وأسماء المدربين والخطة الاستراتيجية للتدريب.. كل ذلك من أجل عيون الفاتنة الحسناء العميلة.

فيالها من سقطة .. ويالها من مأساة وخيبة !!

وفي الوقت الذي نشط فيه توماس كجاسوس يقوم بمهمته، تراءت له فكرة تجنيد عملاء آخرين تتنوع من خلالهم المعلومات التي يسعى للوصول إليها. فكان أن نصب شباكه حول مصور أرمني محترف اسمه جريس يعقوب تانيليان – 43 عاماً ، واستطاع أن يسيطر عليه هو الآخر بواسطة إحدى الساقطات وتدعى – كاميليا بازيان – أوهمته كذباً بفحولة لا يتمتع بها سواه.

ولأنه كان ضعيفاً جنسياً... رأى رجولة وهمية بين أحضانها، فهي المرأة الوحيدة التي "أنعشت" رجولته، وبالتالي فقد كان لزاماً عليه إسباغ رجولة أخرى حولها، وهي الإنفاق عليها بسخاء.

وفي غضون عدة أشهر استنزفته كاميليا مادياً... فاتبع مسلك محمد حسن باللجوء إلى توماس ليقرضه مالاً، فجنده في لحظات ضعفه وحاجته.

ولما اتسع نشاطه.. استأجر توماس شقة بمنطقة روكسي باسم محمد حسن كانت تزهر بأنواع فاخرة من الخمور، وتقام فيها الحفلات الماجنة التي تدعى اليها شخصيات عامة، تتناثر منها المعلومات كلما لعبت الخمر بالرؤوس فتمايلت على صدور الحسان وتمرغت بين أحضانها. وفي إحدى حجرات الشقة أقام جريس تانيليان معملاً مصغراً لتحميض الأفلام وإظهار الصور والخرائط، حيث كان يجلبها محمد حسن من مقر عمله ويعيدها ثانية إلى مكانها.

وذات مرة ... عرض توماس على محمد حسن فكرة السفر إلى السويس بالسيارة... ثم إلى بورسعيد لتصوير المواقع العسكرية والتعرف عليها من خلال شروحه... ووافق الأخير ورافقتهما كيتي التي اطلعت على سر مهنة زوجها وشاركته عمله. وكان محمد حسن دليلاً لهما يشرح على الواقع أماكن الوحدات العسكرية.. فيقوم توماس بتصويرها من النافذة وتسجيلها على خريطة معه بينما تقود كيتي السيارة.

 

المشهد العجيب

وعندما تعثرت أحوال "جورج شفيق دهاقيان" – 45 عاماً – تاجر الملابس، تدخل صديقه توماس بطريقته الخاصة لإنقاذه، وكان المقابل تجنيده للعمل معه في شبكة الجاسوسية.

لم يعترض جورج كثيراً في البداية.. فهو يعلم أنه لا يملك معلومات حيوية هامة تساوي مئات الجنيهات التي أخذها من توماس مقابل إيصالات ورهونات. وقد كان توماس الخائن ينظر إلى بعيد... إلى ضابط كبير يقيم أعلى شقة جورج وتربطهما علاقات وطيدة، وكان له دور فعال فيما بعد.

ولأن "بوليدور باب زوغلو" تاجر طموح يحلم بامتلاك محل كبير للمجوهرات بوسط القاهرة .. عرض الفكرة على توماس فأبدى موافقته وشجعه على المضي لتحقيق حلمه، والحلم تلزمه مبالغ كبيرة، والخمر تلتهم حصيلة مكسبه أولاً بأول إلى جانب السهرات الماجنة التي تستنزف الكثير من رأسماله. عند ذلك لم يجد توماس صعوبة تذكر في اصطياده أيضاً بعدما رسم له خطوط الحلم المرجو.

لقد رأى بوليدور أن لا شيء يجب أن يعوق تنفيذ حلمه الكبير .. حتى ولو كانت الخيانة هي الثمن.

هكذا مضى توماس يصطاد ضعاف النفوس... فيمدهم بالمال ويغرقهم في الخمر والجنس ويحصل على مبتغاه من خلالهم.. وانتعشت بذلك شبكة توماس في جمع المعلومات، لا يوقفها خوف من السقوط أو من حبل المشنقة. فالمخابرات الاسرائيلية كانت تؤكد له في كل مرة يزور فيها ألمانيا أن المخابرات المصرية خاملة ضعيفة. نشأت منذ سنوات قليلة ولم تنضج بعد، ومهما أوتيت من علم ومقدرة فمن المستحيل كشفه.

هذا الاعتقاد سيطر عليه فأظهر وفاءه لإسرائيل وكراهيته للعرب ولكل ما هو عربي. وكلما استدعوه إلى ألمانيا كانوا يعدون له وليمة يعشقها من الفتيات الصغيرات أو الغلمان. ولم يعد يهمهم تصويره في أوضاعه الشاذة مع الصغار بعد ذلك... فلقد سقط حتى أذنيه وتوسعت شبكته توسعاً مذهلاً حير خبراء الموساد أنفسهم، إذ تعدت الشبكة حدود مصر إلى دول عربية أخرى.. بعدما ازداد توماس علماً بأدق فنون التجسس... وكيفية السيطرة على شركائه بسهولة بواسطة نقاط ضعفهم التي استغلها بمهارة، وبالأموال الطائلة التي ينفقها عليهم، وقد اشتدت حاجتهم اليها، وقد عرفوا أن لكل معلومة ثمناً وقيمة.

وذات مرة عاد توماس من إحدى رحلاته في ألمانيا وفي ذهنه صورة "جورج استماتيو" الموظف بمحلات جروبي بالقاهرة.

كان استماتيو يشرف على حفلات العشاء التي كانت تقيمها رئاسة الجمهورية للضيوف، ومن خلال دخوله لقصر الرئاسة بشكل رسمي، فقد كان يعد بمثابة سلة معلومات طازجة، تحوي كل ما يدور في الحفلات الرسمية من أسرار وأخبار، ويمكن استخدام هذه المعلومات بشكل أو بآخر، إضافة إلى الاستعانة باستماتيو في تنفيذ أية مخططات مستقبلية.

لذلك .. وجدها توماس فرصة لا تعوض .. وكان عنده إصرار متوحش لتجنيده هو الآخر ليحصل منه على معلومات تدر عليه مبالغ خيالية.. خاصة وأن استماتيو – 53 عاماً – يعيش مأساة عجيبة جداً. إذ كان مصاباً بالعنة المؤقتة أو عدم القدرة على الجماع إلا بعد أن يجامعه رجل مثله. حينئذ تعود اليه رجولته ويأتي المرأة بمهارة.

اكتشف توماس هذا السر وأخذ يدبر للسيطرة عليه والدخول به لوكر الجواسيس الذي صنعه. وعندما عرض الأمر على ضباط الموساد... تهللت أساريرهم وأمدوه بأجهزة حساسة دُرب عليها لتسجيل هذا المشهد الشاذ العجيب... وعاونه جريس تانيليان في مهمته إلى جانب بياتريشيا التي واقت على تصوير المشهد للسيطرة على استماتيو.

كيرلس الوطني الشريف

في شقة روكسي تحولت إحدى حجرات النوم في شقة روكسي إلى بلاتوه، وقام أحد الشباب بدور الرجل مع استماتيو المخمور. وكان المشهد الغريب الذي تم تصويره – سبباً لخضوعه... وسقوطه في دائرة الجاسوسية غصباً عنه. ومن خلاله.. تدفقت أسرار قصر الرئاسة وما يجري بين أروقته، وما يتلقطه من أخبار وأسرار وحكايات لا تنشرها الصحف أو يعلم بها أحد.

داس توماس على كل القيم والمبادئ لتحقيق أغراضه.. ووصل به الأمر أنه قدم زوجته كيتي دورث هدية إلى بعض المحيطين به لتستخلص منهم أسراراً معينة... ولم يبخل بها على صديقه محمد حسن الذي حمل إليه ذات مرة وثيقة هامة تحوي أسراراً غاية في الخطورة، أراد توماس تصويرها فطلب منه محمد حسن الثمن... زوجته، وأمام رغبته وتصميمه لم يجد بداً من تحقيق مطلبه، وعلى فراشه.

ونعود مرة أخرى إلى جورج شفيق دهاقيان ... التاجر الذي أنقذه توماس من الإفلاس، لقد كانت تربطه جيرة وصداقة بضابط كبير بالقوات المسلحة اسمه "أديب حنا كيرلس" لاحظ كيرلس تردد جاره دهاقيان على منزله كثيراً في مناسبات عديدة وبدون مناسبات أيضاً. وكان في كل مرة يناقشه في أمور عسكرية حساسة ويحاول الحصول على إجابات لاستفساراته.. بل وإطلاعه على لوحات ووثائق عسكرية تؤكد شروحه.

لاحظ كيرلس أيضاً أن جاره يعيد طرح أسئلة بعينها سبق أن أجابه عليها. وشك الضابط في الأمر، فهذا التاجر يريد إجابات تفصيلية لأمور عسكرية حساسة... وكلما أعرض عنه يزداد إلحاحاً عليه... عندئذ... انقلب شكه إلى يقين... وبلا تردد حمل شكوكه إلى جهاز المخابرات المصرية وأطلعهم على كل ما دار من حوارات.

وبعد مراقبات دقيقة لدهاقيان .. أمكن التعرف على توماس والمترددين عليه، وكانت مفاجأة غاية في الغرابة... إذ تكشفت شبكة جاسوسية خطيرة كان لا بد من معرفة كل أعضائها. وفي خطة بالغة السرية والحذر ... أمكن الزج بعناصر مدربة إلى الشبكة فاتضح أن لها أذرعاً أخطبوطية تؤلف شبكة جاسوسية تمتد لتشمل دولاً عربية أخرى.. تكونت بها خلايا على اتصال بفروع للموساد في كل من ألمانيا وفرنسا وسويسرا وهولندا وإيطاليا... وكلها تعمل في تناسق مدهش، وتكوّن في مجملها ست شبكات للجاسوسية في القاهرة والاسكندرية ودمشق.

وبالقبض على الخونة في 6 يناير 1961 اتضحت حقائق مذهلة .. فغالبية الجواسيس سقطوا في بئر الخيانة بسبب الانحراف والشذوذ. وكانت أدوات التجسس التي ضبطت عبارة عن خمس آلات تصوير دقيقة، وحقيبة سفر ذات قاع سري، وعلبةسجائر جوفاء تخبئ به الوثائق والأفلام، وجهاز إرسال متقدم وجد بسيفون الحمام بشقة خاصة بتوماس في جاردن سيتي.

وبموجب القرار الجمهوري رقم 71 لسنة 1961 شكلت محكمة أمن دولة عليا... يشمل اختصاصها كل وقائع التجسس في مصل وسوريا "كانت الوحدة لازالت قائمة" وخلال ستة أشهر.. بلغت جلسات المحاكمة 83 جلسة، وبلغ عدد صفحات ملف القضية حوالي ستة آلاف صفحة، وأدلى 95 شاهداً بأقوالهم منهم الخبراء والفنيون والمختصون، أما عدد المتهمين من المصريين فكان 11 متهماً ومن الأجانب 6 ودافع عنهم 33 محامياً، وجرى ندب طابور طويل من خبراء مصلحة التزيف والتحليل بالطب الشرعي، وخبراء اللاسلكي والإلكترونيات، بالإضافة إلى عدد كبير من الفنيين الذين انتدبوا بمعرفة المحكمة، وعدد من المترجمين بالجهات الرسمية.

وفي 25 أكتوبر 1961 أصدرت المحكمة حكماً بإعدام جان ليون توماس شنقاً، ومحمد حسن رمياً بالرصاص، وبالأشغال الشاقة المؤبدة والمؤقتة على الآخرين.

أما كيتي دورث فقد أفلتت من العقاب في مصر لأنها سافرت لألمانيا قبل القبض على أفراد الشبكة بعدة أيام، لكن عقاب السماء كان أسرع. إذ صدمتها سيارة مسرعة وقتلت... في الحال بأحد شوارع فرانكفورت... بينما باتريشيا التي عوقبت بالسجن لمدة عامين، فقد أصيبت بسرطان في الثدي امتد إلى صدرها النافر المثير... والتهم هذا الجمال الرائع الذي استغل أسوأ استغلال في اصطياد الخونة والجواسيس.

وفي إسرائيل تشكلت لجنة "قعادات" وهو اختصار لاسم "قعادات راشيل هاشيرو تيم" والمؤلفة من رؤساء أجهزة المخابرات في إسرائيل ومستشاري رئيس الوزراء... لدراسة أسباب سقوط هذه الشبكة .. التي كانت تمثل مصدراً حيوياً يتدفق بالمعلومات الاستراتيجية في الجمهورية العربية المتحدة.

لقد كان هذا السقوط المفاجئ سبباً في صدمة عنيفة لكبار قادة الاستخبارات الإسرائيلية. إذ تبين لهم بشكل قاطع أن هناك عقولاً عربية تستطيع إرباكهم... وتدمير مخططاتهم القذرة في المنطقة العربية بحيث يجدّون دائماً في البحث عن أساليب جديدة متطورة، تذكي ذلك العالم السري الغامض .. عالم المخابرات والجاسوسية... !!

عمار الحرازي08-01-2010, 11:56 PM

عبد الله الشيعي ... جاسوس الموساد الدميم..!!

دمامته .. أبعدت الحب عنه والصديق، فانطوى على نفسه، تغلفه الوحدة، وتفتته الحسرة والكراهية، يود لو أنه يمتلك المال ليشتري أصدقاء، ومحبين.

لكن إنساناً على شاكلته... يعيش منفرداً مزوياً، لم يجد إلا "الكولية" منفثاً بين أحضان العاهرات.. لقد أحب إحداهن بجنون لكنها رفضته زوجاً لدمامته، فانقلب بعدها وحشاً مسعوراً يبحث عن المال... حتى ولو كان ببيع الوطن.. !!

بيت الكولية

من النيل الى الفرات، خريطة تحتل مساحة كبيرة على أحد جدران الكنيست الإسرائيلي تذكر اليهود بحلم دولة إسرائيل الكبرى، الذي لم يزل يراود خيالهم. فأرض فلسطين المغتصبة ليست جل آمالهم، فقط هي نقطة بداية وارتكاز، يعقبها انطلاق، وزحف في غفلة منا، لتحقيق الحلم الأعظم.

هكذا ... وعملاً بالتعاليم والأهداف اليهودية، تفشت ظاهرة الخيانة بين يهودي العراق، واستفحل هذا الداء واستشرى، خاصة في الستينيات من القرن العشرين، الذي نشطت فيه الحروب السرية بشكل لم يسبق له مثيل، إذ كلما ضبطت الأجهزة الأمنية في العراق إحدى شبكات الجاسوسية، تكونت بدلاً منها شبكتان، كأن الجاسوسية حالة إدمان يصعب شفاؤها.

وبرغم الأحكام القاسية والمفترض أن تكون رادعة، في ظل قانون حاسم قوي لا يرحم، إلا أن الخونة أخذوا في الازدياد والتكاثر، لا ترهبهم قصص الجواسيس المنشورة بالصحف، أو أحكام الإعدام التي تنفذ، فالدعاية اليهودية كانت تروج الأكاذيب، وتدعي أن محاكمات "العملاء" محض افتراء ودعاية محسوبة، لتخويف المتعاونين المخلصين مع الموساد، وإرباك تحركاتهم ونشاطاتهم، وبالتالي الوقوع في أخطاء قد تقودهم لحبل المشنقة.

من بين هؤلاء الخونة الذين صدقوا الأكذوبة الإسرائيلية.. عبدالله سليمان الشيعي العراقي ذو الجذور اليهودية.

ولد عام 1931 بمدينة "الحلة" الواقعة على نهر الحلة لأب عراقي وأم إيرانية كان أبوها يهودياً أعلن إسلامه كذباً... وعندما وعى عبد الله الحياة، اكتشف حقارة مهنة أبيه "جسّاس المواشي" . لذلك سعى بشدة للتفوق في دراسته ليلتحق بجامعة بغداد، بعيداً عن الحلة التي كره الإقامة بها، وتحقق حلمه بعد طول معاناة.

فبعد أربعة أعوام في الجامعة حصل على ليسانس الآداب، وعمل بالتدريس بإحدى مدارس العاصمة، وكان عمره في ذلك الوقت خمسة وعشرين عاماً تقريباً.

لم يذق عبد الله للحب طعماً في الجامعة أو قبلها، فوجهه ذو الأنف الضخم، الذي يشبه أنف سيرانودي برجراك ، وفكه البارز جداً أبعد عنه الفتيات، بل وأخاف الأطفال منه، لذلك فقد افتقد الحب والصديق، وانطوى على نفسه تغلفه الوحدة، وتقتله الحسرة والكراهية.

لقد بدأت معاناته الحقيقية بمأساته في طفولته المبكرة، وفي المدرسة الإعدادية بحي الأعظمية، اكتشف دمامة أخرى في صوته، جعلت من مخارج الحروف نشازاً يضحك زملاءه بالمدرسة، ويجعله مصدر سخرية مؤلمة دائماً، فاهتزت ثقته بنفسه وملأه الحقد على كل من حوله، وود لو أنه يمتلك المال الذي يعوض دمامته، لكنه سرعان ما يدرك مدى افتقاده للاثنين معاً، ولم يكن من السهل عليه أن يفك عقده النفسية، أو يحس ببعض الرضا، فشرنقة من العقد أحاطته، وحبسته داخل ظلمة لا حدود لها، حجبت عنه الأمل في إشراقة تتبدل معها حياته.

إنسان على شاكلته يعيش منفرداً، مزوياً في أركان المجتمع، لم يجد له منفثاً إلا في "الكولية" حيث عثر على ذاته بين أحضان عاهرة بالغت في الاهتمام به كزبون دائم لا يضاجع سواها.

ذات مرة .. سألها عما دفعها لتمتهن الدعارة، فحكت له الكثير عن مأساتها، وكيف هربت من أهلها بعدما خدعها الحبيب، الذي مات في إحدى الحملات العسكرية على الأكراد، وكانت حاملاً منه، فلم تجد ملاذاً إلا بيت الكولية.

دموعها وهي تروي قصتها أوهمته بأنه أحبها. وسيطر عليه هذا الشعور الجميل، فلم ير غضاضة في عرض فكرة الزواج منها، ولكم كانت صدمته أشد قسوة رفضته العاهرة ... بسبب دمامته.

حينئذ ... تصاعدت مأساته الى ذروتها، وغادر بيت الكولية يجرجر خيبة أمله، تفوح منه الكراهية للحياة ولسائر الناس، وفي حجرته وقف أمام المرآة يتأمل وجهه، واستغرقه ذلك وقتاً طويلاً ليفيق على حقيقة أكدها لنفسه، أن الثراء أمر حتمي سيقرب الناس منه، ويجعلهم يتغاضون عن ملامحه الغير مقبولة فإن للمال سحراً خاصاً ووهجاً حلو المذاق يدير الرؤوس، فلا بد إذن من الوصول اليه مهما كانت المصاعب، وبدأ في تنفيذ سياسة تقشف كتلك التي تلجأ اليها الدول النامية لتحسين أوضاعها، وأقسم على ألا يفسد خطة حياته المستقبلية، في أحلك الأزمات عنفاً، بإنفاق دينار في غير مكانه.

كانت الدنانير الستة والثلاثين، وهي كل راتبه، مبلغاً محترماً في ذلك الوقت، وحسب الخطة التقشفية التي وضعها لنفسه، استطاع أن يدخر نصف راتبه، ممتنعاً عن أبسط مظاهر الرفاهية.

ومرت به خمس سنوات عجاف، اعتاد خلالها الحرمان والجوع والبرد، ضارباً بكل إغراءات الحياة عرض الحائط. حتى أقدم على خطبة فتاة فقيرة اسمها "سهيلة"، عاندها الحظ في اللحاق بقطار الزواج لحول واضح بعينيها، فوافقت على الزواج منه راضية بما قسم لها، وعاشا معاً بمسكن متواضع بحي الكاظمية، كلاهما يشعر ببساطة حظه في الحياة، واغتراب ليس بمرتحل.

بعدما استنزف الزواج غالبية مدخراته، هاجت لديه أحلام الثراء من جديد، فانبرى بسهيلة ذات ليلة يذيقها معسول الكلام، ثم فاتحها بفكرة راودته طويلاً من قبل، وهي استئجار مطعم صغير بثمن مصاغها، تقوم على إدارته بنفسها طوال تواجده بعمله، لكنها بدلاً من الموافقة أعلنته بخبر مولدهما القادم، فزلزله الأمر وغرق في تفكير عميق، فمن أين له بمصاريف الضيف القادم؟ وأخيراً لم يجد مفراً من العمل فترة مسائية، فجاب شوارع بغداد يسعى الى عمل إضافي، الىأن اهتدى بعد لأي ليهودي اسمه خوجه زلخا، كلفه بمساعدة ابنته المعاقة في دروسها.

سر عبد الله كثيراً ولم يضيع وقتاً، وقال في نفسه إنها فرصة طيبة يجب أن يستغلها جيداً، إذ ربما تفتح له أبواباً أخرى للرزق.

العسل المعسول

قادته الخطى الى حي الرصافة بوسط بغداد، حيث بيوت الأثرياء ذات الحدائق والأسوار، وقصور طالما مر أمامها كثيراً فتثور برأسه آلاف الأسئلة، ويردد: هل ساكنوها تسلعهم أحياناً عضات الجوع والعوز؟

أي أناس هم؟ وكيف يعيشون على ضفة دجلة؟

أفاق أمام منزل خوجة زلخا، وقاده خادم عجوز الى حجرة الصالون، فراعه كل ما وقعت عيناه عليه، وانتبه لخطوات تبدو قادمة، فقام مسرعاً وتهيأ للقاء، وبينما يهذب قميصه ويتحسس هندامه، كانت هي بالباب تبتسم، اقتربت منه محيية مرحبة في لطف، وعندما مدت يدها اليسرى للسلام، لاحظ قصراً كبيراً بيدها اليمنى، ناتجاً عن عيب سببه لها شلل الأطفال، دخل في إثرها زلخا مرحباً ودوداً، وهتف قائلاً: "ابنتي إيرينا" التي جئت من أجلها، أريدك أن تعلمها الإملاء والحساب، ودعاه لزيارة تلميذته في أي وقت، ولا يبخل عليها بعلمه الغزير.

جلس عبد الله كالتلميذ أمام إيرينا ذات السبعة عشر ربيعاً، ألجم حسنها لسانه، وانتشى لبشاشتها معه وتبسطها في الحديث، ولم يلحظ في عينيها تلك النظرة الموجعة التي اعتادها طوال سني عمره الـ 35، فأحاط نفسه بأفكار وأوهام عديدة، صورت له خيالات الحب وارتعاشات نبضاته، وود لو أنه لثم أظافرها في خلوتهما التي تطول وتطول، فلكم كان يتمنى ألا يمضي الوقت لينصرف مغادراً قصر الأحلام ومليكته، الى منزله الرطب الموحش ووجه سهيلة الحولاء.

اختلس ذات مرة لمسة من يدها، بدت كما لو أنه يعلمها ضبط الحروف، فاقترب بوجهه منها، وحانت منه التفاتة الى صدرها المتكور في أنحناءاتها، فانتفض بدنه كله لمرأى الوادي الأسيل، وأسكرته رائحة العطر الفواح يتخلل جسدها المثير، وشهق كمن يستغيث فانتبهت، وأدارت وجهها فجأة تجاهه فلامس خدها خده، لينكب كالثور الجائع على شفتيها يمتص رحيق الشهد ومذاقات العسل المعسول.

غابت الصغيرة بين أحضانه مستسلمة وهو يداعب أنوثتها، ويوقظ لديها رغبات دفينة تأججت نيرانها، وعاد بعدها زاحفاً الى بيته لا يدري كيف حملت ساقاه سكيراً لم يذق خمراً... !؟

لقد نشأ منذ البداية هشاً كارهاً للناس، ناقماً على ظروفه ودمامته، يحلم بالمال الذي سيجلب له العطف والحب، وعندما أدركهما عند إيرينا المراهقة اليهودية، أسلم قياده بل حياته كلها رخيصة لأجل لحظة حب.

هكذا يسقط الضعفاء سقوطاً مدوياً سهلاً وقد عصرتهم المعاناة بأشكالها المختلفة، فهم تمردوا على واقعهم وداسوا القيم، لأجل لذة ما حرموا منها، والبحث عن هؤلاء في خضم البشر المتماوج، هين عند الخبراء وصائدي الجواسيس، ذوي الأنوف الماهرة في التقاط رائحة الضعف لديهم.

وقد يتساءل القارئ: ماذا سيقدم هذا الدميم المزوي المنبوذ الى المخابرات الإسرائيلية؟ والمتتبع جيداً لقصص الخونة، سيرى أن حالة عبدالله الشيعي ليست فريدة في عالم الجاسوسية، فالموساد كغيرها من أجهزة المخابرات العالمية الأخرى، تتخير جواسيسها من كل الفئات والألوان والثقافات دون تمييز، فما يهم هنا هو الإخلاص في العمل... والولاء اللانهائي.

فقد كان هناك الجاسوس المصري سليمان سلمان، راعي الإبل ابن سيناء، الذي كان لا يقرأ ولا يكتب، جندته الموساد بعدما محت أميته، ودربته تدريباً مكثفاً على فنون التجسس، وابتركت له شفرة خاصة تعتمد على الحروف الأبجدية العربية والصور، يستطيع بها بث رسائله من خلال جهاز اللاسلكي المتطور الذي سلموه له، فماذا كانت الموساد تنتظر من هذا الأمي، الذي سقط وأعدم بسبب خيانته وغبائه؟ إذن فلا نندهش أمام حالة هذا الجاسوس العراقي الدميم... !!

فعالم الجاسوسية الغامض المثير مليء بالأسرار والمتناقضات، لذا... فهي حقاً مثيرة جداً، قصص الخونة والجواسيس، تستهوي العقول على اختلاف مداركها وثقافاتها، وتنقلها الى عوالم غريبة، مختلفة، تضج بعجائب الخلق وشواذ الأنفس، فعلماء الإجتماع والسلوك عجزوا في فهم أولئك الخونة، وفشلوا في الكشف عن بذور الخيانة لديهم، أين توجد؟ .. وكيف تمددت لتتشبث جذورها بالشرايين عندهم والخلايا وتتحول في لحظات الى أحراش مظلمة بأعماقهم؟ فلكل جاسوس قصة، ولكل خائن حكاية غلفها العجب، وسربلها الجنون، وإنني بالرغم من مئات الكتب والدراسات التي قرأتها عن هذا العالم الغامض المثير، لا زلت أشعر بجهلي الشديد أمام طلاسمه، ويزيد يقيني بأن وراء كل خائن سراً غامضاً وداءاً مجهولاً لسنا ندركه، ودائماً هناك السؤال: خلايا الخيانة عند البشر ... أهي مثل الذرة تنشطر حتى تغلب العقل كله فتدمره وتسحق الضمير ... ؟!!

 

جاسوس تحت التمرين

لم يدر بخلد عبد الله الشيعي أن هناك عقولاً تخطط كي يسقط، أو أن إيرينا الصغيرة التي بشت له، كانت وسيلة جره واصطياده، وكانت بشاشتها وملاحتها مجرد طعم لاستدراجه الى وكر الجاسوسية، فبعدما احتواها في المرة الأولى، استعذب مذاقها وطمع في المزيد، فنهرته بلطف أقرب الى تمنع الرغبة.

ففي بيتها التقى باليهودي الإيراني عوازي سليمان، عميل الموساد المدرب، ودارت بينهما الأحاديث المطولة، التي استشف منها العميل أن عبد الله لا يحلم سوى بالثراء، فلعب جيداً على هذا الوتر، وطير بخياله الى أحلام طالما عايشته في اليقظة، فتهفت نفسه الى صعود درجات الغنى، مهما كان الثمن فادحاً.

ولتكتمل خطوط القصة... أوهمه عوازي بأنه يمتلك عقلية فذة، وهو بحاجة اليه لإدارة إحدى مؤسساته التجارية التي يزمع إقامتها في بغداد، ومنحه مائتي دينار مقابل عمل دراسة اقتصادية للسوق.

نشط عبد الله في البحث والتحري، وكتابة تقارير اقتصادية مستمدة من ملفات وزارة الاقتصاد، حصل عليها بمساعدة زميل دراسة اسمه جواد مقابل أربعين ديناراً.

أدهشت التقارير عميل الموساد، إلا أنه أخفى دهشته وادعى تفاهتها، وفوجئ عندما صارحته إيرينا في انفرادهما بأنها تحبه، وطلبت منه أن يبذل قصارى جهده في التعاون مع عوازي، كي تنتعش أحواله المادية فيتزوجا. فقد عقله أمام اعترافها بحبه، ولم يسأل نفسه لماذا؟ أعبقرية فجائية ظهرت عليه؟ أم أن دمامته تبدلت بوسامة جون كونري، وجاذبية كلارك جيبل؟ خاضعاً وعدها بألا يتوانى في العمل من أجل الفوز بها، عازماً على خوض الصعاب بلا ضجر أو كلل، هكذا كانت البداية. ومن هنا تبدأ عملية صناعة الجاسوس !!

كان على قناعة تامة بأنه "أخضر" لم يشب بعد، ولذلك استسلم لمعلمه عوازي يشرب على يديه حرفته الجديدة، فأخضعه لدورات أولية في جس نبض الشارع، واستطلاع آراء العامة من الناس في السياسة والاقتصاد، وكيفية تلقط الأخبار والأسرار، زاعماً له أن هذا مفيد جداً للمؤسسة التجارية، حريصاً على ألا يتفهم الجاسوس الجديد طبيعة مهمته، حتى لا يتصرف بحماقة فتفشل المهمة.

وانطلق عبد الله بجمع المعلومات ويحصدها حصداً، لعله ينال رضا إيرينا وعوازي فتتبدل حياته، ويقترب من تحقيق الحلم، وللمرة الثانية يتهمه العميل الإسرائيلي، بأنه يجلب معلومات مهمشة لا قيمة لها ولا نفع، فيسأله عبد الله سؤالاً ساذجاً: ما لهذه الأمور والمؤسسات التجارية؟

وكأنه ضغط على مفتاح تفجير الديناميت بسؤاله البريء، ما الذي جرى؟ سألت إيرينا محتدة ... تلعثمت الإجابة على لسانه، وعاوده شعوره القديم بالخوف والضياع، وصرخت به ثانية تسأله: ماذا فعلت؟ لم ينطق. الدهشة الممزوجة بتقلصات التوتر تملأ وجهه. يتركهما عوازي ويخرج فتعاوده جرأته شيئاً فشيئاً فيسأل إيرينا: ما العمل؟ تتركه هي الأخرى يغرق في اضطرابه، وتلحق بعوازي في حديقة المنزل.

كان عوازي هادئاً مبتسماً على عكس حاله مع عبد الله منذ ثوان. وحدثها ببضع كلمات فعادت الى تلميذها الخائب، فما ألطفه من تلميذ يجلس على حافة المقعد يفرك يديه قلقاً... تستغيث بها نظراته اللهفة..

برقة فيها ملاحة وذكاء، أفهمته مدى الخطأ الذي ارتكبه عندما سأل عوازي، وطلبت منه ألا يعاود السؤال مرة أخرى عما يطلب منه من معلومات أو إيضاحات. فالعمل التجاري سوف يفشل إذا لم تكن هناك دراسة متأنية عن أحوال البلد تجارياً... واقتصادياً .. وعسكرياً..

دخل عوازي الغرفة في تلك اللحظة ليقرأ دهشة عبد الله فيعقب: نعم يا صديقي، مهم جداً أن نعرف كل شيء كي لا نضحي بأموالنا هباء. نحن مجموعة من رجال الأعمال الإيرانيين، نود إقامة مشروعنا في أمان، فماذا لو أن هناك اضطرابات في السوق العراقي؟ ألا يجب أن نطمئن لنعمل بثقة؟ فاستقرار السوق هنا واضطرابه له صلة وثيقة بالسياسة. والجيش يتحرك ويتطور تبعاً للسياسة.

وضحت المسألة إذن؟ سألت إيرينا وأردفت: قم معي عبد الله اشتقت الآن لدروسي.

أغلقت حجرتها وراءهما قبل أن تستجيب لشراهة قبلته، وطالبته راجية بألا يقصر في مهمته التي ستعود عليهما معاً بالخير الوفير !!

منذ ذلك الحين انطلق عبد الله بلا أدنى خوف أو قلق، تدفعه رجاءات إيرينا ولهفته عليها، وبعد أربعة أشهر اكتشف حقيقة مهمته وظن أنه يعمل لصالح السافاك في إيران، وبرغم ذلك... لم يتوقف أو يتخذ مساراً عكسياً، فقد كان المال وما يزال حلمه الأول الذي يسعى اليه، أما إيرينا فكانت حلمه الثاني الذي لن يتحقق إلا بالأول.

تعهده عوازي في كل زيارة له بدورات تصقل موهبته في إدارة الحوار، وملاحظة الأشياء بعيني جاسوس فاهم، وكانت لقاءاتهما تتم كالعادة في منزل خوجة زلخا، الذي اصطحب أسرته على حين فجأة الى إيران، ودون أن تودعه الحبيبة الصغيرة إيرينا الوداع الأخير.

صدمته كانت قاسية برغم تأكيدات أستاذه بعودتهم، إلا أن إحساساً تملكه بأن لن يراها مرة ثانية، فقد وقعت نكسة 1967 واتسع جرح الألم العربي، وظلت زوجته لأيام طوال تبكي فتعجب لأمرها، وقال لنفسه: لو لم تكن هذه الحرب ما هربت إيرينا، ألا ينتهي هذا الصراع وتتوقف الحروب؟

البحث عن خونة

... ليس من السهل شراء الذمم فجأة. بل يتم ذلك بعد دراسة مستفيضة لكل الظروف النفسية والاحتمالات، هكذا يقر خبراء أجهزة المخابرات السوفييتية، أول من وضعوا قواعد علمية ثابتة للسيطرة على الجواسيس.

إلا أن رجال الموساد – في حالات كثيرة – يرفضون العمل بنظرياتهم، فبينما يرى السوفييت أن محاصرة الشخص المطلوب تجنيده ومباغتته في أسرع وقت، دون أن يجد فرصة للتفكير، أسهل وسيلة لإخضاعه إذا ما كانت هناك أدلة – ولو ضعيفة – تدينه. ونجحوا في تأكيد ذلك من خلال تجنيد دبلوماسيين غربيين ذوي شأن، سقطوا بسهولة مدهشة في قبضتهم دونما مقاومة.

على النقيض من ذلك نجد أن الموساد قد تلجأ لوسائل وحيل غريبة، تستغرق وقتاً أطول من اللازم لإخضاع الجواسيس، والثقة في نظرية "تليين الهدف المتدرج" وعدم اللعب بأعصابه، أمر مهم عند الموساد.

فهناك خونة كثيرون سقطوا في براثنها دون أن يعلموا بأنهم عملاء لها. إنه إذن في الإقناع والإيحاء، ودراسة سلوك العميل ومداركه واعتقاداته، والمقدرة على تشكيل آرائه وثقافته من جديد، بما يخدم قضيتهم التوسعية وأمنهم.

هذا التباين في أسلوب السيطرة ومدته، نلحظه أيضاً في شتى أجهزة الاستخبارات. فلكل جهاز أسلوبه القائم على نظريات وضعها خبراء متخصصون، ولكنه يؤدي في النهاية الى اصطياد العملاء وتجنيد الجواسيس، وهذا هو المهم. خطا عبد الله خطواته الأولى كجاسوس، يعتقد بأنه يعمل لصالح المخابرات الإيرانية "السافاك" ونشط جاهداً في البحث عن أخبار القواعد الجوية القريبة من بغداد – وبالأخص قاعدة الرشيد الجوية -، وملاحظة التغييرات والتجديدات بها. واستطاع أن يتوصل لأسماء أنواع جديدة من الرادارات السوفييتية، وعندما حمل كاميرا التصوير الصغيرة، التي في شكل ساعة اليد، عجز عن تشغيلها بمهارة وارتجف ساعده، وخبأ الميكروفيلم بقاع سحري بحقيبة يد صغيرة.

وفي رحلة أخرى لمعاودة التصوير اصطحب معه زوجته، وفي الطريق بقرب إحدى القواعد العسكرية، لاحظت سهيلة توتره وإتيانه بحركات غريبة ويده على كتفها.

لم تفهم في بادئ الأمر، ولما حدقت في الساعة الغريبة بعيني فاحصة، أدركت الحقيقة. فكتمت سرها وراحت تراقب أفعاله وتصرفاته... حتى اكتشفت مخبأ "الساعة الكاميرا" في كعب حذائه الجديد، فأسرعت الى مخفر الشرطة بالقرب من المسكن، ولم يصدق الضابط الصغير اعترافها، فأبلغ فوراً الأجهزة الأمنية المختصة. وتقوم حملة مفاجئة تكتسح الدار فجراً أثناء نومها، فترشد سهيلة عن الكاميرا، ويصعق عبدالله لا يصدق أنها النهاية، وبينما عملية التفتيش مستمرة يغافل حراسه ويضرب راسه في عنف بالحائط، ويحملونه بأنهار دمائه الى التحقيق، وكانت أدلة خيانته المضبوطة، بالإضافة الى اعترافه، تذكرة دخوله لحجرة الاعدام.

هكذا غاصت أحلام الدميم في قاع الوهم، وظل طيلة أشهر المحاكمة مصراً على أنه متورط مع السافاك لا مع إسرائيل، لكن القرائن كلها كانت تدينه، وتؤكد عمالته للموساد. إنها الحالة الأولى لجاسوس عراقي، خدعه أستاذه وأقنعه بأنه عميل لإيران، أو لنقل أنه ربما ادعى ذلك حتى آخر لحظة لينجو من الإعدام.

أيضاً... إنها إحدى الحالات القليلة لجواسيس يعملون منفردين في العراق بلا شركاء، أو شبكة من العملاء المحليين.

وفي زنزانته الانفرادية الضيقة قبل إعدامه بأيام قليلة، أصيب بمغص حاد كاد يفتك به فنقلوه الى المستشفى وأجروا له عملية الزائدة الدودية، ثم عاد الى السجن ليعد شنقاً في 28/3/1968، وعثروا في زنزانته على دفتر صغير سجل به مذكراته، وضمنه أدق تفاصيل حياته وآماله التي لم تتحقق، وقد أفرد مساحة كبيرة لوصف حبه لإيرينا، وثقته بأنها أحبته كما أحبها.

لقد عاش عبد الله سليمان معقداً... مطحوناً... واهماً...

وأعدم وهو ما يزال واهماً .. تحفه خرافات المشاعر، يأبى أن يصدق أنه كان غبياً.. أبلهاً..

أما سهيلة... فقد وصلت أمنيتها لمسؤول كبير، فأرسل بها الى "يوغوسلافيا" لإجراء عملية جراحية تقضي على "الحول" نهائياً، وزف اليها خبر إعدام عبدالله، فعادت الى منزلها تترقرق بعينيها الدموع .. دموع الحسرة، على مصير رفيق حياتها ...الخائن .. !!

عمار الحرازي08-02-2010, 12:13 AM

عمر حمودة ...

كيف سقط في جامعة عين شمس

بطل هذه الحكاية .. نوع حقير جداً من البشر، ويعد من أقذر الجواسيس المصريين الذين عملوا لصالح إسرائيل على الإطلاق ... إذ تجمعت فيه كل صفات الشذوذ واللوطية، وفقد انتماءه للرجولة .. والوطن.

استغل أخطاء الجاسوس شاكر فاخوري وذهب بنفسه إلى القنصلية الإسرائيلية في اسطنبول عارضاً خدماته.

لكنه في غفلة منه... فوجئ بسقوطه في سرعة مذهلة، وبنفس الخطأ الذي وقع فيه الجاسوس السابق.

إنه أول وآخر جاسوس مصري ألقي القبض عليه بالمدينة الجامعية للطلاب، وأيضا ... أشهر جاسوس يعشق القيام بدور امرأة ! !

البحث عن طريق

إذا كان الجاسوس الشاذ شاكر فاخوري – أول مصري سلم نفسه للسفارة الإسرائيلية في قبرص ليعمل جاسوساً على مصر – فهذا هو محمد عمر حمودة – شاذ آخر – أعجبته فكرة الحصول على المال بالطريق السهل، وسلم نفسه أيضاً برضاء تام إلى القنصلية الإسرائيلية في تركيا، معتقداً أنه قام بدراسة قصة زميله الشاذ، وعرف مواطن الخلل التي أدت إلى سقوطه، وأنه سيأمن كل تلك الأخطاء ليظل بذلك بعيداً عن أعين وآذان المخابرات العربية... ويعمل في صمت لصالح المخابرات الاسرائيلية

حصل عمر حمودة على الثانوية العامة سنة 1971 بمجموع هزيل لم يحقق له أدنى طموحاته، وكانت أعظم أمانيه في تلك المرحلة من العمر، أن يهنأ بعلاقة مع شاب شاذ يشاركه شذوذه، ويستمتع معه بالحرية الجنسية التي يحلم بتحقيقها.

كان عمر حمودة على العكس من الجاسوس السابق... شاذاً سلبياً . أي يفضل أن يقوم بدور الأنثى.

هذا الشذوذ كبر معه منذ الصغر، واستفحل الداء عنده للدرجة التي لا حل معها. وقد ضربه أبوه مرات كثيرة بعدما انتشرت حكاياته وفضائحه، وكان في العادة يبكي بعنف لوالده ويعده بأن يلتزم ويتأدب. لكن لا فائدة ... إذ كبر شذوذه وفشل معه علاج الطب وعلاج الضرب والإيذاء. فكم تكوم الشاذ في أحد أركان "البلكونة" عقاباً له عشرات الليالي مكبلاً ومحروماً من الطعام والماء، وبمجرد إطلاق سراحه "يسرح" في الخرابات ودور السينما يبحث عن صيد شاذ.

وعندما طلب لتأدية الخدمة العسكرية سر كثيراً. لكن .. سلموه شهادة الإعفاء وقالوا له "الجيش يطلب رجالاً فقط" فعاد مقهوراً.. ومرت به الشهور كئيبة. إذ قلما عثر على ضالته لضيق ذات اليد بعدما أمسك والده عنه مصروفه الذي ينفقه على شذوذه... وكثيراً ما خلا إلى نفسه يبكي ضعفه ويرجو خلاصاً له من العار ولكن هيهات، فداء الشذوذ عنده أقوى من نداء التوبة.

أخيراً لملم أشلاء عقله المنهك وقرر أن يغير خطة حياته كلها.

وجاءه هذا القرار بعدما قرأ عشرات التقارير عن الشذوذ في الجيش الإسرائيلي، وشواذ أوروبا الذين لا يخجلون من شذوذهم، ويجهرون به بدعوى الحرية. وامتلأت رأسه بأفكار كثيرة تقوده في النهاية إلى حتمية الحياة في مجتمع متفتح يستطيع فيه أن يمارس شذوذه دون إحساس بالنقيصة أو بالانزواء.

وعندما أعاد قراءة قصة الجاسوس شاكر فاخوري – الشاذ الإيجابي – وكيف طرق بنفسه باب السفارة الإسرائيلية في نيقوسيا – أدرك أن هناك خطأ ما قاده إلى مصيره المظلم وأن بإمكانه – هو – ألا يخطو خطوة واحدة، دون حساب للخطوة التي تليها. ودفع عن رأسه فكرة محاكاة شاكر. لكن عقله المشوش غامت به الأفكار واحتفظ لنفسه بما قرره، وأعد أوراقه للسفر إلى حيث تبدأ حياة جديدة، بعيداً عن مجتمع يقهر فيه رغبته وشذوذه.

تسلم عمر حمودة جواز سفره وحجز تذكرة بالطائرة إلى اسطانبول... وأسكرته حقيقة وجوده على أرض أجنبية بلا رقيب يحد من سلوكه أو يراقبه.. واستنشق لأول مرة هواء حريته وتحرره حتى كاد أن يصرخ فرحاً أمام ساحة المطار... فأضواء المدينة من بعيد كانت تتراقص كأنها حبيبات من اللؤلؤ البراق... وتصدح بأذنيه أغنيات لا يفهمها ولكن إيقاع الموسيقى يتناغم مع شرقيته ويدعوه إلى الانتشاء.

استقل سيارة إلى بنسيون "بورال" الواقع في منطقة شعبية تفيض زحاماً وضجيجاً، وقذف بحقيبته داخل الغرفة وخرج كالملهوف يجوب شوارع المدينة الساحرة الواقعة على بحر مرمرة المخنوق ما بين مضيقي البسفور والدردنيل.

تراقصت حواسه تلذذاً بفعل السعادة الغامرة التي تملكته عندما وصل إلى أحد الميادين الشاسعة، ودلف إلى الحديقة المظلمة التي تقتطع جزءاً كبيراً منه، واقترب من عشرات "الهيبيز" من الجنسين الذين اتخذوا من الحديقة منتدى لهم ومأوى، ووسط هذا الخضم من المزيج حاول أن يبحث لنفسه عن مكان بينهم. لكن حاجز اللغة منعه وصدمه في بادئ الأمر، حتى اكتشف أن هناك لغة خاصة جداً لا يفهمها سوى الشواذ أمثاله، ومن خلالها تقرب بأحدهم واختلى به جانباً يتذوق على أرض تركيا طعم الحرية التي حرم من مذاقها علانية في مصر.

إن لغة الشواذ لا تنطق بلغة واحدة، بل تنطق بكل اللغات بلا حروف أبجدية أو قواعد. إنها لغة الإشارات التي تحس وتفهم تماماً فيما بين مجتمع اللواطيين الذين يجوبون كل مدن أوروبا، ويتخذون من شوارعها وحدائقها منفثاً لإفراغ مخزون قيودهم ... وعقدهم فيتحللون من قواعد السلوك السوي ويتلاوطون كالكلاب الضالة.

أربعة أيام مرت وعمر حمودة يتعاطى الشذوذ في حدائق استنبول، إلى أن سرقه أحدهم فخلت جيوبه من النقود، وفي الحال قرر تنفيذ خطته التي رسمها مرات ومرات في خياله قبل أن يغادر مطار القاهرة.

وعندما سأل موظف الاستقبال في البنسيون عن مكان السفارة الإسرائيلية قال له إن السفارة في العاصمة أنقرة، أما القنصلية الإسرائيلية فمقرها في استنبول.

كانت نيته مبيتة بالفعل على اتخاذ خطوته المجنونة... لذلك لم يحاول البحث عن عمل أو يسعى من أجل ذلك... فالفكرة كانت قد اختمرت برأسه وأصبح من الصعب أن يتراجع، وعندما شرع في التنفيذ، لم يطلب القنصلية تليفونياً بل ذهب اليها بنفسه فوجد بابها موصداً، وفكر في الرجوع ثانية إلى البنسيون لكنه بعدما خطا عدة خطوات عاد ثانية ودق الجرس، فانفتح الباب فجأة وصدمته المفاجأة، لكنه تسمر مكانه أمام حارس الأمن الذي كرر السؤال عليه عدة مرات:

Ø ماذا تريد؟

وفشل في أن يجيب إجابة مفهومة وتعثر في النطق بينما كانت يده تبحث عن ورقة تنقذه من ورطة الموقف.

ذاهب بقدميه

نظر الحارس في الورقة الصغيرة ثم رفع وجهه إلى هذا الطارق الغريب، وقام واقفاً وهو يرمقه متفحصاً بدهشة، وتركه بالباب مهرولاً إلى الداخل ليعود بعد لحظات برفقته رجل في نحو الخامسة والأربعين، صالح عمر حمودة وباندهاش سأله بالعربية:

Ø هل أنت مصري؟

Ø قال له: نعم...

فجذبه إلى الداخل وانفرد به بعيداً في مكتب أنيق وقال له:

Ø قلت في الورقة أنك تريد مقابلة أحد المسؤولين لأمر هام. فماذا تريد؟

أخرج حمود جواز سفره وقدمه إلى الإسرائيلي وهو يقول:

Ø أنا لا اريد العودة إلى مصر... لقد كرهت مصر وكل ما فيها وكثيراً ما فكرت في البحث عن دولة أخرى أعيش بها وهداني تفكيري إليكم.

فقال له الإسرائيلي متعجباً:

Ø لماذا نحن بالذات؟ ولماذا لم تلجأ لدولة عربية بدلاً من إسرائيل التي هي في حالة حرب مع مصر وكل دول العرب؟

أجاب حمودة:

Ø أنا أحلم بالحياة في إسرائيل حيث الحرية بلا حدود وفرص العمل متوفرة والعائد المادي كبير جداً قياساً بكل دول العرب.

لم يستغرق الحوار دقائق قليلة كما كان حمودة يعتقد.. بل امتد لساعات طويلة في حجرة أخرى مجهزة بأحدث الأجهزة التنصتية، وكاميرات تنقل كل ما يدور لحجرة أخرى بها أجهزة التسجيل، وجيء بعدة أوراق انكب الخائن على كتابة سيرة حياته منذ البداية وتفاصيل وأسماء أقاربه ووظائفهم وآراؤه في كل شيء في مصر.

وفي مثل هذه المواقف يعمد ضباط المخابرات إلى إظهار عطفهم، وإضفاء روح التقارب مع الخونة لإزالة حاجز الخوف والرهبة وبث الطمأنينة في نفوسهم. وقام ضابط الموساد في القنصلية بترتيب غرفة رائعة بفندق فخم نزل بها الخائن ضيفاً على القنصلية الإسرائيلية عدة أيام.

كان القصد من تركه هكذا بمفرده تحليل الواقعة تحليلاً منطقياً ونفسياً، خوفاً من أن يكون حمودة عميلاً للمخابرات المصرية يقود الإسرائيليين إلى شرك محكم.

وبعد مراقبته مراقبة لصيقة، ثبت لهم أنه شاب لا انتماء وطني لديه، وبإمكانهم استغلاله في القيام بما يطلب منه مقابل المال.

ونتيجة لما توصلوا إليه، زاره أحد الضباط وعرفه باسمه "النقيب سامي" ودارت بينهما حوارات طويلة، قال خلالها حمودة إنه تأثر بقصة شاكر فاخوري الذي وقع في قبضة المخابرات المصرية، وكيف أخطأ شاكر عندما أغدق على الضابط المصري بالهدايا الثمينة في محاولة لتجنيده دون أن يحسب حساباً لوطنيته.

أخذ ضابط الموساد يعدد للخائن الخدمات التي قدموها لشاكر فاخوري، وكيف أنهم عرضوا استبداله بعدد من الأسرى المصريين والعرب، وعندما رفضت الحكومة المصرية عرضوا مقابل الإفراج عنه ملايين الدولارات فرفضوا ايضاً. لكنهم – على حد زعمه – مارسوا ضغوطاً دولية جادة وعنيفة من أجل إنقاذه من حبل المشنقة.

أسهب النقيب سامي – كذباً – في تبرير محاولات إسرائيل شراء الجواسيس العرب الذين اكتشف أمرهم، مدعياً أنه لولا وقوف إسرائيل إلى جانبهم لأعدموا، لكن الحكومة المصرية والحكومات العربية – نظراً لوجود أسرى حرب – فصفقات تبادل الجواسيس عادة ما تتم في السر بعيداً عن الأضواء وأجهزة الإعلام.

عندها قال حمودة معقباً:

Ø نعم ... نعم ... فلذلك جئت اليكم بنفسي أعرض خدماتي، وأضع نفسي تحت إمرتكم على أن تسمحوا لي بالعيش مدى الحياة في إسرائيل.

لم يعقب ضابط المخابرات بل أعطاه النقود وقال له:

Ø أنت شاب مغامر لم تجئنا اعتباطاً بل لأنك تعرف جيداً أن المخابرات الإسرائيلية أقوى جهاز مخابرات في العالم. وأن إسرائيل هي واحة الحرية في منطقة عربية محاصرة بالتخلف والقهر والدكتاتورية.

وأضاف النقيب سامي:

Ø سننظر في أمرك باهتمام بالغ، ولكننا الآن نريد منك أن تساعدنا في مهمة بسيطة ستسافر لإنجازها في لبنان لنتأكد من مدى إخلاصك لنا.

في الحال وافق حمودة وأعلن سعادته بهذا التكليف، وبدأ الضابط اليهودي في تدريبه على أعمال التجسس خاصة فيما يتصل بالمهمة المحددة التي سيكلف بها.

خلال ذلك كان حمودة لا يكف عن زيارة حديقة الهيبز حيث يلتقي بأمثاله من الشواذ، وكانت هذه اللقاءات هي المصدر الأول لسعادته، إذ أنه بعد كل لقاء كان يصفو ذهنياً ويهيأ لتلقي جرعة الجاسوسية اليومية والتدريبات المهارية، وتتشكل لديه أمام بريق الدولار روح المغامرة والفدائية فيقدم على هضم الدورة المكثفة التي يدرسها في حجرته بالفندق، وعندما ركب الطائرة إلى بيروت كانت لديه جرأة عجيبة للعمل لصالح الموساد، وابتدأت المهمة.

مهمة في بيروت

أفرزت نكسة يونيو 1967 عاملاً مهماً على الصعيد العربي يتمثل بالالتفاف الشعبي الهائل حول المقاومة الفلسطينية، خاصة في الوقت الذي أصبحت فيه هذه الظاهرة نقطة بارزة في عملية الصراع العربي – الصهيوني. بالإضافة إلى ما أحرزته المقاومة من ضربات ناجحة ضد العدو في أكثر من موقع، وفي مختلف المجالات.

لذلك عمدت الاستخبارات الإسرائيلية إلى ملاحقة المقاومة الفلسطينية، عبر زرع العملاء والجواسيس في مختلف الأقطار العربية التي تتواجد فيها قواعد المقاومة، بهدف الحصول على المعلومات الضرورية حول تحركاتها ومراكزها وتسلحها وتنقلات قادتها. كما لجأت إلى إحداث عمليات تخريبية سياسية وطائفية لبلبلة الأوضاع في البلاد العربية. فتوجه بذلك أصابع الاتهام إلى المقاومة، وتولد ضدها موجة من العداء والكراهية تستهدف عرقلة مسيرتها وتقدمها.

من هذا الاتجاه... ركزت الاستخبارات الاسرائيلية جهودها على القرى اللبنانية الحدودية التي يتسلل الفدائيون الفلسطينيون عبرها لتنفيذ عملياتهم ضد مؤسسات العدو ومنشآته وأفراده. ونجحت هذه الاستخبارات في تجنيد بعض الخونة من سكان هذه القرى الحدودية التي تمثل نقطة عبور إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، وكان من بين هؤلاء العملاء الخونة – نايف المصطفى – اللبناني من قرية "البستان" الحدودية الذي قبض 400 ليرة مقابل خيانته كل شهر. كان هناك أيضاً – أحمد ضاهر – من قرية "عيترون" ونايف البدوي من "بارين" وخميس أحمد بيومي وجميل القرح والعشرات غيرهم.

كل هؤلاء الخونة أغدقت عليهم المخابرات الإسرائيلية واشترتهم، واستفحل الأمر كثيراً حتى أن علي حسن سلامة اكتشف بنفسه 24 عميلاً للموساد جرى إعدامهم في غضون شهور قليلة، مما يؤكد تغلغل الموساد بكثافة داخل الأراضي اللبنانية، لحماية حدودها الشمالية من هجمات الفدائيين الذين لم يكفوا عن التسلل إلى الأرض المحتلة.

كانت مهمة عمر حمودة في لبنان مهمة محدودة، وهي الانضمام إلى إحدى المنظمات الفدائية لجمع أكبر قدر من المعلومات عن الفدائيين.

وللأسف الشديد جرى تدريبه على استعمال السلاح والمتفجرات في معسكر تابع لإحدى المنظمات الفلسطينية تمهيداً لإرساله إلى الأرض المحتلة للقيام بعمليات فدائية داخل المستوطنات الشمالية. وكان الجاسوس الجديد الذي وثق به رجال المنظمة يسجل كل صغيرة وكبيرة في لبنان... فيما يتعلق بالمقاومة ومسؤوليها ومواقع تدريباتها وأسلحتها وعناصرها، بل وعناوين بعض قادتها في حي "الفكهاني" ببيروت والذي يقيم به جمع غفير من الفلسطينيين.

كانت هناك أيضاً دلائل على اشتراكه في جمع التحريات والمعلومات عن ثلاثة من قادة منظمة أيلول الأسود الذين جرى اغتيالهم في بيروت في 9 أبريل 1973... وكانوا يقيمون في عمارة واحدة واشتركوا معاً في تدبير مذبحة ميونيخ في 5 سبتمبر 1972 والتي راح ضحيتها 11 إسرائيلياً.

وبعد أن جمع عمر حمودة حصيلة هائلة من المعلومات أراد السفر بها إلى اسطنبول على وجه السرعة، فادعى لقادة المنظمة أنه مضطر للسفر إلى القاهرة للتصديق على شهادة الثانوية العامة التي يحملها للالتحاق بإحدى كليات جامعة بيروت العربية إلى جانب عمله الفدائي في المنظمة.

بسهولة بلا تعقيد وافقوا بالطبع على سفره، ومن مكتب سفريات "بلانكو" في ساحة البرج في بيروت أستقل سيارة إلى دمشق عبر جبال لبنان المكسوة بأشجار الأرز والفاكهة. وفي دمشق زار صديقاً له في ضاحية "دوما" ثم استقل أتوبيساً إلى حلب بالشمال ماراً بمدينة حمص أشهر المدن السورية في طيبة أهلها، وتحاك حولهم النكات اللاذعة كأهل الصعيد في مصر، وفي حلب الشهباء توقف لزيارة أحد معارفه في القصر العدلي ثم عبر الحدود السورية إلى تركيا حيث ينتظره في اسطنبول ضابط المخابرات الإسرائيلي – النقيب سامي – فسلمه ما لديه من معلومات وخرائط تفصيلية هامة، توضح الطرق الجبلية التي يسلكها الفدائيون المتطوعون من سوريا إلى لبنان، بالإضافة إلى معلوماته الأخرى عن منظمة التحرير.

سر ضابط الارتباط كثيراً لنجاح المهمة الأولى، ونجاح تلميذه المدرب في العودة بحصيلة رائعة من المعلومات من لبنان. وتركه في جناح فاخر بالفندق الفخم حتى تصل أوامر جديدة بخصوصه من تل أبيب، وبعد عدة أيام زاره يحمل إليه هذه المرة خطة جديدة ومهمة أخرى في القاهرة.

إلا القاهرة

احتج عمر حمودة بشدة على أوامر المخابرات الإسرائيلية، وحاول كثيراً ألا يوافق عليها ... إذ كيف له أن يعود إلى القاهرة وهو الهارب منها؟ وبعد جلسة عاصفة استسلم مرغماً. ففي عالم المخابرات والجاسوسية لا يتنصل عميل من مهام أوكلت إليه على الإطلاق، إذ ليس في الجاسوسية هرج ولا في عمل المخابرات هزل.

كان يدرك أنه وقع لا محالة بين فكي رحى لو هرب من هذه، طالته تلك، وكانت مهمته في القاهرة كبيرة ومتعددة. فقد كان المطلوب منه أن ينجح في القاهرة مثلما نجح في بيروت وحقق بها أكثر مما هو مطلوب منه فاستحق مكافأة سخية من المخابرات الإسرائيلية مع رضاء عن عمله.

ولكي ينجح في مهمة القاهرة... كان لا بد له من معرفة وثيقة بكل مجريات الأحداث داخل أسوار الجامعات، وأيضاً الحركات الطلابية التي نشطت كثيراً في مصر بزعامة طلاب عملوا على بث الروح الوطنية في نفوس زملائهم، وتحفيز الغالبية على الثورة على النظام القائم في مصر حينذاك بعدما كثرت الوعود البراقة بالانتقام من إسرائيل وضربها.

لقد كانت المنشورات الحماسية وقتها تجد مناخاً صحياً بين فئات الطلاب، فتنتشر وتؤثر، وبرزت المبادئ الناصرية الحماسية لدى الغالبية منهم، وكلما اعتقلت الداخلية النشطاء البارزين برز غيرهم، واتخذت المواجهات الطلابية مع الشرطة طابع الندية، وعم إحساس مرير بالذلة وبالعار. وضرورة الثأر من إسرائيل.

وفي وسط هذا الجو المشحون جاء الجاسوس الشاذ إلى مصر في أول أبريل 1973، يحمل عدة آلاف من الدولارات وبعض الحقائب الكبيرة المنتفخة .. تحوي هدايا لأسرته، وخاصة لأخيه عبد الحميد الطالب بالسنة الرابعة بكلية التربية جامعة عين شمس.

كان عبد الحميد يقيم بالمدينة الجامعية المجاورة لوزارة الحربية ولمسجد الزعيم جمال عبد الناصر ، ولكثرة تردده على شقيقه تعرف بالطبع على زملائه بالمدينة الجامعية، الذين أظهروا حفاوة كبيرة بشقيق زميلهم وأكرموه، وأنسوا إليه وإلى حكاياته عن تركيا و"بنات" استنبول حيث أفاض في سرد أكاذيب ملفقة عن علاقته بهن وسهولة تكوين الصداقات والعلاقات "الخاصة" معهن.

وبعد عدة زيارات للمدينة الجامعية للطلاب.. أحس الجاسوس بمدى التقارب الذي نشأ بينه وبين زملاء شقيقه عبد الحميد، فتطرق بعد ذلك إلى موضوعات سياسية أكثر "سخونة"، وينصت مستمعاً إلى ما يلقوا به على مسامعه من أخبار وتحركات وغليان داخل أسوار الجامعة. فكان يبدي اندهاشه كثيراً أمام تلك الأخبار، وكلما اندفعوا بحماسهم ازداد حماساً هو الآخر، وقد أضفى على نفسصه هالة من البطولة والوطنية مدعياً بأنه ضد النظام القائم في مصر مثل غالبية المصريين، بل إن حماسه اشتعل أكثر وأكثر وزعم أنه كُلف من قبل المخابرات الإسرائيلية بحرق القنصلية المصرية في بني غازي، وذلك في هوجة المظاهرات العادية لمصر التي وقعت في ليبيا في تلك الفترة.

وبهدوء شديد انتبه الطلاب لما يقوله، وأظهروا له أنهم صدقوه عندما رسموا على وجوههم ملامح الدهشة لوجود "بطل" بينهم قام بأعمال خطيرة، من شأنها أن ترفعه إلى مصاف "الوطنيين المخلصين". وعندما كلفهم بكتابة تقارير مفصلة عن الحركة الطلابية داخل الجامعة لكي يقرأها "على مهل" بعد ذلك، ازداد يقينهم أن في الأمر ثمة لغز، وأن هذا الشخص يخفي وراءه الكثير.

تظاهر الطلاب بالموافقة على كتابة التقارير، وحملوا شكوكهم إلى اللواء سيد فهمي رئيس مباحث أمن الدولة، الذي كلف اللواء أحمد رشدي ، مدير مباحث أمن الدولة، بوضع خطة محكمة، بالتعاون مع هؤلاء الطلاب، لإلقاء القبض على الجاسوس والحصول على أدلة مسموعة ومكتوبة تدينه. (1)

بعد وفاة الزعيم

منذ تولى أنور السادات الحكم في مصر خلفاً للزعيم جمال عبد الناصر في 20 ديسمبر 1970، اتجه في سياسته كلية إلى استراتيجية المصالحة مع إسرائيل التي كانت في اعتقاده الشخصي هي أسهل الطرق وأقربها للوصول إلى الزعامة العربية التي ينشدها عن طريق حل سلمي لمشكلة الشرق الأوسط بمشاركة أمريكا، وما يتبع ذلك من حقن للدماء ورخاء. ولم يكن السادات يهتم كثيراً بمضمون السلام أو ضماناته ونتائجه بقدر ما كان يبحث عن زعامة شعبية تفوق زعامة جمال عبد الناصر.

عمد السادات أولاً إلى الإطاحة برموز السلطة الموالية لعبد الناصر في مايو 1971، وتفرغ بعدها كلية لفتح قنوات الاتصال السري مع الولايات المتحدة الأمريكية، والانفراد وحده بالسلطة بعد تغيير الهدف الاستراتيجي للدولة، وتهويل خسائرنا في الأرواح والمعدات في حالة الحرب، واستخدام وسائل الإعلام المختلفة لنبذ الحرب وإشهار أسلوبه الجديد في معالجة أزمة الشرق الأوسط والصراع العربي الإسرائيلي. وكان على السادات أن يقضي على أي صوت معارض لآرائه، واتجاهاته.

لذلك تكونت قوة معارضة داخلية أقلقت مضجعه، إلى جانب معارضة الاتحاد السوفيتي لسياسيته، فقام بطرد الخبراء السوفييت من مصر، وتسربت الأنباء عن نية السادات في الموافقة على اقتراح لموشي دايان بأن تسحب إسرائيل قواتها شرق القناة لمسافة تتراوح بين 30 – 40 كيلومتراً في مقابل عودة الملاحة إلى قناة السويس. وبرغم تنديد السادات للاقتراح الإسرائيلي إلا أنه فكر كثيراً في هذا الحل الذي سيعطيه بريقاً وزعامة لانسحاب اليهود دون إراقة نقطة دماء واحدة.

ولأن المعارضة الداخلية علا صوتها، وطالب النبض الجماهيري بالثأر للكرامة العربية، واسترداد الأرض عملاً بمقولة عبد الناصر "ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة"، كانت معارضة الطلاب في الجامعات المصرية تتخذ أشكالاً متعددة. نجمت عن تفريخ خلايا ناصرية قوية مؤمنة بمبادئ عبد الناصر وخطه السياسي، فظهرت المنشورات السرية بين الطلبة تفيض بالوطنية، وتندد بسياسة السادات ورؤيته للأزمة، وعم الشعور الوطني سائر الطلاب في أنحاء الجمهورية، وتعددت بالتالي مطالبهم بالسير على نهج الزعيم السابق لاسترداد الحق المسلوب.

كانت إسرائيل هي الأخرى في حالة غليان لا ينقطع، والتقارير الوافدة إليها لا تكاد تبين الرؤية الحقيقية، أو النهج الاستراتيجي الذي تتخذه الحكومة المصرية إزاء مواجهة الرفض الشعبي لموقفها الغير واضح من الأزمة.

ومن هنا ... نشط جواسيسها في القاهرة لجس النبض العام المؤثر في الشارع المصري.. وهم الطلاب، الذين حملوا على عاتقهم دائماً منحنيات السياسة والقرار المصري . وكان هؤلاء الجواسيس بالعشرات في تلك الحقبة يمثلون شبكات منفصلة تعمل جميعها لأجل دولة إسرائيل، ومن بينهم كان الجاسوس الشاذ عمر حمودة الذي أرسل خصيصاً إلى القاهرة لإعداد تقارير عن الطلاب داخل الجامعات المصرية، بعد نجاحه في مهمته السابقة بجدارة في لبنان، واكتسابه خبرة مخابراتية ومهارية عالية، تؤهله للعمل في مصر دون أن يكشفه جهاز المخابرات المصري.

سقوط الجاسوس

اختلط عمر حمودة بالمجتمع الطلابي بالمدينة الجامعية، واستطاع أن يدخل الحرم الجامعي في عين شمس الذي يضم كليات الحقوق والعلوم والآداب والتجارة. ومن خلال تردده المستمر تعرف بفتاة في السنة الثالثة بكلية الآداب، تدرس بقسم الدراسات اليونانية واللاتينية – أعرق أقسام الكلية – وحاول أن يوهمها بحبه. لكنها لاحظت كثرة حديثه عن إسرائيل واشتراكه في مظاهرات معادية لمصر في الخارج، فتخوفت منه الفتاة خاصة بعدما حاول مراراً أن يعرف من خلالها نبض الطلاب لكونها عضوة في اتحاد الطلاب، ففشل فشلاً ذريعاً معها ... في ذات الوقت الذي كان فيه زملاء شقيقه عبد الحميد، بالاشتراك مع مباحث أمن الدولة، يرتبون أمر الإيقاع به على وجه السرعة.

وحسب الخطة المرسومة أعد له الطلاب جلسة سمر في حجرتهم بالمدينة الجامعية بعد تزويدهم بجهاز تسجيل دقيق، وجلس الخائن بينهم يستعرض أعماله البطولية "الوهمية" في ليبيا معترفاً بأنه "عمل حاجة جامدة" وأقر صراحة بعلاقته بالقنصلية الإسرائيلية في تركيا وتدريبه بواسطة الموساد، وعرض عليهم خدماته المادية والمعنوية فيما لو أمدوه بصفة دورية بأنشطة الطلاب المعادية لإسرائيل، وبالمنشورات التي توزع داخل الجامعة. وحوت الجلسة تهجم الجاسوس على الأوضاع عامة في مصر وشتمه للمسؤولين وللحكومة.

وبعد عدة ساعات من السمر ذهب الخائن إلى حجرة شقيقه في مبنى "د" بينما حمل الطلاب شريط الكاسيت إلى فريق مباحث أمن الدولة المتواجد بالقرب منهم، وبعد الاستماع إلى الشريط وعرض الأمر على المسؤولين، أصدرت النيابة أمراً فورياً بالقبض عليه.

وفي الساعة الثالثة من صباح يوم 19 مايو 1973 توجهت القوة المكلفة باعتقاله إلى المدينة الجامعية واقتادته للتحقيق. وعندما تبين للخائن انكشاف أمره للسلطات المصرية، أخذ يضرب رأسه بقبضته ثم لطم خديه وبتفتيش أوراقه عثر على قائمة بالتكاليف التي جاء لأجلها وتضم "12" تكليفاً بخط يده بجمع معلومات عن الحركة الطلابية في مصر، والحصول على نسخ من المنشورات التي توزع داخل الجامعات، والعناصر التي تسيطر على الطلبة، ومعلومات عن الوضع الاقتصادي والسياسي، وأماكن الصواريخ على القناة، ورغبة الشعب المصري في الحل السلمي أو العكس، ومعلومات عن الطلبة الفلسطينيين في مصر، وعن الوحدة الاندماجية. ونصحه النقيب سامي قبل سفره بتمزيق ورقة التكليفات لكن الجاسوس نسى ذلك أو سخر من نصيحته... وعثر لديه أيضاً على فاتورة الفندق في اسطنبول ومكتوب عليها "دفعت من قبل القنصلية الاسرائيلية".

اعترف الجاسوس بكل شيء أمام محكمة أمن الدولة العليا، برئاسة المستشار مصطفى عبد الوهاب خليل، وحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة. برغم أن التحقيقات أكدت على أنه لم ينقل أية معلومات من مصر، وأن المعلومات التي ضبطت معه لا تشكل خطورة.

وكان من المحتمل نقله إلى لبنان لمحاكمته لو أن الحكم عليه جاء بأقل من المؤبد، ولكن 25 سنة بين جدران السجن – عمر آخر – كفيل بأن يدمر ويبني أشياء كثيرة في حياة خائن ، شاذ !!

عمار الحرازي08-02-2010, 12:23 AM

نايف المصطفى ... الذي أعدمه السجناء... !!

كان يشعر بأنه كالموجة ضعيف ... بلا وطن... ففكر كيف يتمحور ...يتشكل ... ويصطخب على ألا ينكسر ... تمنى أيضاً أن يتوحش ... وتكون له أنياب الأسد.. وأذرع الأخطبوط... وسم الأفعوان..

كان قزماً يحلم بأن يتعملق ... كالكيكلوبس ... الذي فرك سفينة أوديسيوس بأصابعه ... !!

القتل في المهد

الفشل في الحب مأساة، قد تدفع بالمحبين إلى قمة النجاح، أو تهوي بهم إلى حضيض المعاناة والسقوط. ويختلف مسلك المحبين في مواجهة الحقيقة، فالبعض إما ينتحر، أو يجن، أو ينعزل، أو يسامح، أو قد يفكر بالانتقام.

أمراض عديدة متباينة، لكنها طبيعية في حالات الضعف الإنساني وخور الإرادة. أما الغير طبيعي، أن يتحول الفشل في الحب إلى ثورة نم الجنون واليأس، تدفع إلى تدمير الذات، واسترخاص بيع الوطن إلى الأعداء، فهذا هو المثير، والغريب، والمدهش.

وفي عالم المخابرات والجاسوسية، هناك حالات عديدة لفاشلين في الحب، بسبب العوز المعيشي، اندفعوا يبحثون عن الثراء، فباعوا المبادئ والوطن، انتقاماً من الفقر والظروف، والمعاناة.

إنها حالات مرضية شاذة، حار علماء النفس في تفسيرها... !!

انتهت مأساة سبتمبر 1970 الدامية في الأردن بتصفية المقاومة الفلسطينية ضد إسرائيل، واستراح الملك الخائف قانعاً بثبات عرشه طالما غادر الفلسطينيون مملكته، محتفظاً بقنوات اتصالاته السرية بالإسرائيليين، الذين استراحوا كثيراً من تهديد الفدائيين في جبهة حساسة، تعتبر امتداداً جغرافياً للمقاومة في الضفة الغربية وقطاع غزة. فمن بعدها... أصبح العمل الفدائي في الضفة محدوداً وشاقاً، وكان المكسب ثميناً لإسرائيل بلا شك، تقابله خسارة جسيمة للعرب، وهي تفكيك الجبهة الشرقية، وتركيز العدو على الجبهتين المصرية والسورية فقط.

ولما انتقلت فصائل المقاومة الفلسطينية إلى لبنان، اتفق كل من العماد إميل البستاني قائد الجيش اللبناني، وياسر عرفات، على تنظيم أسلوب التنسيق والتعاون. بحيث يتمركز رجال المقاومة في منطقة "العرقوب" بالقرب من الحدود السورية – اللبنانية – الإسرائيلية، ولهم مطلق الحركة في الجنوب اللبناني دون تمركز دائم فيه.

والجنوب اللبناني، يعتز أهله بإطلاق اسم "جبل عامل" على ديارهم... كما يعتزون بأنسابهم العربية الأصل،والتي تنحدر من أنساب قبائل يمنية ارتحلت بطون منها إلى جبال لبنان الجنوبية، فاستقرت وعمرت وأعمرت. والمعروف أن الصحابي الجليل "أبوذر الغفاري" كان قد نزل في قرى الجنوب وخاصة ضيعتي "صرفند" و "ميس الجبل".

ولما اقتلعت الهجمة الاستيطانية الصهيونية الشرسة، آلاف الفلسطينيين من ديارهم في شمال فلسطين، لم يجدوا أرحب من قلوب أبناء الجنوب، فأقاموا بينهم، واقتسموا وأياهم الخبز الأسود، ووطأة الاستغلال الطبقي والقهر الاجتماعي والسياسي، إلى أن وصلت طلائع الفدائيين الفلسطينيين، فأحدثت تحولات جذرية وعميقة في كل مجريات الحياة في الجنوب.

وكانت فاتحة عهد جديد، انعقدت فيه عرى علاقة تحالفية لا انفصام فيها بين الفلسطينيين و "العامليين"، أهل الجنوب، إذ تشكلت على الفور قواعد العمل الثوري ضد العدو، وأصبح الجنوب وحدة قاعدة انطلاق الفدائيين، وتسللهم لضرب العدو داخل حدوده في تصعيد دائم لا يتوقف، سبب صداعاً مزمناً لإسرائيل.

لقد انتشر الفدائيون في كل القارات يضربون مصالح إسرائيل ويتصيدون رجال مخابراتها، ويخطفون الطائرات المدنية لإنقاذ زملائهم من الأسر، كما تسابقوا للعمل الفدائي لنسف أحلام العدو في الهيمنة والأمن والاستقرار والتوسع، فكانت الضربات الفدائية بحق موجعة ومؤثرة، ضربات متتالية لا تنقطع ولا تخيب، لفتت انتباه العالم إلى وجود شعب مطارد وأرض مغتصبة، وجيل من الشباب متعطش للشهادة في سبيل قضيته، فاندفعت مخابرات إسرائيل تبحث عنهم وتتعقبهم، وترصد تحركات قادة العمل الثوري في كل مكان. وتضاعفت ميزانية أجهزة المخابرات الإسرائيلية للإنفاق على ضرب المقاومة وإسكاتها في مهدها واستقطاب بعض الخونة وضعاف النفوس من بين أهل الجنوب اللبناني، وداخل صفوف المقاومة نفسها، والصرف عليهم ببذخ ليكونوا أداة طيعة وعيوناً على الفلسطينيين... وجرى البحث عن هؤلاء الخونة الذين تراودهم أحلام الثراء، فيهون عليهم بيع الوطن والشرف.

وكان تحت المجهر "نايف المصطفى" ابن الجنوب... وهو شاب عضه الفقر، ومزقه حب بلا أمل، قادته أحلام الثراء ورغبة الانتقام إلى الوقوع في شركة الجاسوسية.

البوسطجي العاشق

تتعاقب السنون وتتبدل الوجوه والأحوال، إلا نايف، فلم يزل يدفع بدراجته المتهالكة كل صباح عبر التلال والمدقات... يحمل البريد إلى الضياع والدور المتناثرة فوق السفوح، وفي المساء يرجع مهدوداً معفراً يخنقه الزهق... فينفض عنه وساخاته ويخرج ... تقوده قدماه إلى حيث يرى منزلها من بعيد، ويتنسم رائحتها عبر الهواء المار بشرفتها، فيستريح وينام قرير العين، مطمئن الفؤاد، يسترجع في خياله لحظة اللقاء الأول، ورعشة الحب التي تشبه دبيب نمل بأوصاله.

كان يسلمها رسالة من عمها، فرآها جميلة أكثر مما رآها من قبل وهتف:

Ø إلى هذا الحد نضجت الصبية؟

يا لفوران بنت الخامسة عشرة التي استغلق عليه الكلام أمامها.

Ø ست من السنوات تفصل بيننا، يا الهي ... هل تعرف نظرات العشق طفلة؟..

ومن يومها .. ظل يمني النفس بالفوز بها... ويبحث كل يوم عن خطابات من عمها ليحظى برؤيتها، أو يلمس أناملها الرقيقة الناعمة. وأخيراً تحين الفرصة عندما استوقفته تسأله عن "بريد" فاندفع اليها ملسوعاً بلهيب الشوق وصارحها بحبه...ففرت وجلة من أمامه.

لحظتئذ، زغردت حياته وانتشى عمره:

Ø هكذا تفعل العذاراوات عندما يغزوهن إطراء الحبيب وعبارات الغزل.

عامان والبوسطجي العاشق يلهث وراء محبوبته، فما نال منها سوى ابتسامات خجلي، حيية... ولملم جرأته أخيراً... وقرر زيارة والدها ليخطبها، وكان اللقاء عجيباً:

Ø عمي عدنان ...

هه Ø كرمال قيمتك يا عمي ...

Ø خبرني عما بتريد

Ø لا تهيبني ... الله معك ...

Ø شو .. الحين لسانك عطلان وبالشارع فلتان؟

Ø يا عمي، بدي ... أ ... أ ...

Ø يا أزعر..

Ø معي ألف ليرة ... و ...

Ø فصين مخي ورمانين ... عمي عدنان كرمال قيمتك ... لا تهيبني ... معي ألف ليرة ... شو عم تحكي؟ إنشالله نيتي خير ... بدي ... أ ...

Ø ولشوهالفرك... ؟ حكي.

Ø أخطب فاطمة.

Ø "صارخاً": إنشلح مخك يا خرفان ... شو عم بتنعوص؟ ... وزاع البريد يزوج فاطمة؟ ... شو يصير حالها .. تاكل مظاريف ... ؟ بيظهر تركب وراك الدراجة المسخسخة تمرقوا عالبيوت... كرمال قيمتك يا عمي ... (!!)، تفو عليك شو نيتك عاطلة!

Ø يللي نيته عاطلة تقلب عليه.

Ø صار لازم تفرجينا عرض كتافك يا مسيو ... ألف ليرة (!!!).

خرج نايف ينزف ألماً وكراهية لفقره، ولوظيفته، ولوالد فاطمة الذي أهانه وطرده، فالأربعمائة ليرة – راتبه في مصلحة البريد – لا تكاد تكفي معيشته، وقد أورثه والده خمسة أفواه تلوك أضعاف راتبه لو شاءت ... ياله من ميراث ثقيل !!.

جرجر معاناته تصحبه أينما حل، إذ اندثر بداخله أي أمل في فاطمة، ولكن برغم احساسات يأسه فقد ظل حبها يثور كالبركان، يضرب جذور وعيه بلا رحمة، ويغوص في عمق أعماقه، فيلتهم الصبر منه ويغتال الحبور.

فكر بالسفر إلى الخليج لجلب مهرها، وداعبته كثيراً آمال الهجرة إلى وطن آخر، وكان كالبحر الشاسع موجاته حيرى بلا وطن، تتكسر على صخور الشط، لتنقسم رذاذات شتى، تذوب وتنهمد.

وأحس كأنه ضعيف كالموجة ففكر كيف يتمحور، يتشكل، ويصطخب على ألا ينكسر، وتمنى أن يتوحش، وتكون له أنياب الأسد، وأذرع الأخطبوط، وسم الأفعوان... أو يكون عملاقاً مرعباً كالكيكلوبس الذي فرك سفينة أوديسيوس باصابعه .

أحلامه طالت، وطالت، وبقي في النهاية عاجزاً أمام فقره لا حل لدحره... أو الفكاك من أحلام يقظته. فغاص في أوهامه مستغرقاً حتى النخاع.

عام 1942 ولد نايف حسين المصطفى بقرية البستان على مقربة من الحدود اللبنانية الإسرائيلية، وكان أبوه بائعاً جائلاً للملبوسات الرخيصة، يطوف بها عبر القرى المحيطة يصحبه نايف – أكبر أبنائه – أحياناً كثيرة. ولما فشل في التعليم بعد الابتدائية، امتهن نايف العديد من المهن فلم يوفق، إذ كان طائشاً أهوجاً لا طموح لديه، همه الأول والأخير، السينما وأخبار الفن والطرب، فكان كثير الهرب الى صور وصيدا لإشباع هوايته . فلما مات والده كان في الثامنة عشر من عمره، وتوسط البعض له للحصول على وظيفة بمصلحة البريد.

وبحكم عمله كموزع للبريد، حفظ الدروب والمدقات الجبلية الوعرة، التي تختصر المسافات بين القرى الجبلية في الجنوب. فلسنوات طويلة اعتاد اختراقها بدراجته، متجنباً الأسلاك الحدودية الشائكة، ويافطات التحذير من الألغام المرشوقة، تعلن بالعربية وبالعبرية عن الموت الجاثم بالأعماق، وخلال جولاته اليومية... ونادراً ما كان يصادف إنساناً يسلك ذات الدروب.

لكن في أواخر عام 1970... تبدلت مشاهداته اليومية، وأدرك بفطرته أن ثمة مستجدات طرأت، فقد صادفه ذات صباح بمكان موحش خال فريق من الفدائيين الفلسطينيين، كانوا يستطلعون تحركات الأعداء على الحدود بنظارات الميدان، ويرسمون خرائط كروكية لنقاط المراقبة.

لقد أدهشهم مروره الفجائي فاستوقفوه، وألقوا عليه عشرات الأسئلة عن العدو... وعن سكان المنطقة، وأماكن الاختباء المثلى لمراقبة العدو، وكيفية اجتياز الحدود في الظلام، و ... و ... وكانت إجاباته ليست حبلى بما يجهلون، فموزع البريد لم يعر هذه الأمور انتباهاً منذ وعي. إنه لا يحب السياسة أو الخوض في أحاديثها، بل يجهل كثيراً أسباب الخلاف بين العرب وإسرائيل.. لكنه لم ينسى يوماً مقولة سمعها من والده وهو طفل أغر: "هذه الأسلاك قاتلة، فلا تغامر وتقربها" فشب الصبي وقد رسخت بداخله مخاوف الحدود والأسلاك والرصاص.

ويوماً بعد يوم، اعتاد تواجد الفدائيين الشبان، الذين يجوبون الجبال قرب الحدود، يرصدون ويرسمون ويسجلون، ولا يهدأ بالهم وهم منغرسون في الحفر بانتظار ستائر الظلام، يلوكون على الأرض ويلحسون الزلط البارد كي يهدأ الحلقوم المتشقق:

" يا لكم من مجانين، تهجرون الحياة في أضواء المدن، الى الجبال والجوع والعطش والحدود واليهود والرصاص... ؟ ألا أهل لكم وأحلام وحبيبات؟!! ".

تساءل كثيراً مع نفسه لكنه لم يفهم... فكل ما أدركه أن هناك دروباً ومسالك جبلية لم يكتشفوها بعد ... آثر هو أن يسلكها بعيداً عنهم، حتى لا يستوقفوه كعادتهم ليسألوه ذات الأسئلة التي مل تكرارها.

وفي أبريل 1971 كانت مصادفة عجيبة، وبداية البحث عن "نايف" الآخر الذي طالما حلم به وتمناه، بداية البحث عن العملاق الذي ناضل جلدة الضعف، واستوثقت لديه أحلام التوحش، والكيكلوبس.

كلمة شرف

جاء الربيع مونقاً، واكتست الجبال ثوباً من بهاء وجمال، فتعانقت أشجار "الأرز" والصنوبر والتفاح، تحوطها أبسطة تزحف فوقها كل الألون وتتمايل، فأينما امتد البصر لا يرى سوى لوحة بديعة صاغها خالق الكون في إعجاز وجلال... ومن بعيد في سهل ضيق اعتاد نايف أن يمر بدراجته، منشغل عما يؤرقه بالأطيار والأزهار، يغني بصوت مبحوح، جريح، يائس.

ع كتف هالغيمات ...

ع حدود السما ...

بحبك متل حب الصبا للولدنه...

أو متل بوسة ناظرة رأس السنة...

إنت بعمري عمر خايف ضيعو...

لو راح مني بروح من كل الدني ... !

وذات يوم ربيعي، بينما العاشق المحزون شارد الذهن في ملكوته، إذا بشخص أمامه لا يعرفه، ليس في أواسط العمر كشباب الفدائيين الذين اعتادهم، بوجوههم التي لفحتها الشمس، والأيدي الخشنة المعروقة، لكنه قارب الخمسين.

جلسا سوياً يتجاذبان الحديث... وأخبره "زياد" – وهذا اسمه الذي ادعاه – بأنه تاجر فلسطيني يسعى لبيع البضائع الرخيصة المهربة عبر الحدود، وفتح حقيبة صغيرة أخرج منها بعض الساعات والولاعات والأقلام، ولاحظ نايف جودتها ورخص سعرها قياساً بمثيلاتها. ولأنه تاجر قديم، ومأزوم يبحث عن مخرج، فقد عرض على زياد مشاركته، على أن يمنحه مهلة للغد ليأتيه بثمن بضاعته.

لم يجبه "التاجر" فوراً، بل أخذ يسأله – بشكل بدا عفوياً – عن أحواله المعيشية، فشرح له تفاصيلها، وقص عليه مأساة حبه الفاشل، ورغبته الملحة في أن يزيد دخله لكي يتجاوز خط الفقر الذي يكبله. وسلمه زياد السلع التي جلبها، وتواعدا – بكلمة شرف – على اللقاء بعد أسبوعين في ذات المكان والوقت.

انطلق نايف سعيداً بالصفقة التي حققها... فها هو مصدر للكسب جاءه سهلاً مريحاً، وفي صيدا – حيث السوق الكبير – كاد أن يصرخ من الفرح عندما باع بضاعته بثمن خيالي فاق حساباته. وما أن حل موعد اللقاء، إلا وكان سباقاً لملاقاة صاحبه، يأمل في ألا يموت هذا الحلم الحقيقي.

وجاء رفيق تجارته يحمل حقيبة أكبر، فتحاسبا، وانصرف كل لحاله منشرح الصدر بما كسبه ... وقال نايف لنفسه:

"سأطلب من زياد أن نلتقى مرة كل أسبوع بدلاً من أسبوعين".

إنه يكاد يجن ...فقد نفدت بضاعته في وقت محدود. وتجار صيدا ألحوا عليه أن يجيئهم بالمزيد منها... فامتزج بأحلامه من جديد... وأخذ يحسب أرباحه المستقبلية في عدة أشهر قادمة... معتقداً أن بإمكانه الفوز بحبيبته بعدما يملك مهرها، لكن ما كان يخبئه القدر يفوق كل حساباته، وتوقعاته... إذ خطبت فاطمة لتاجر ثري من "الفاقورة" وأعلن في القرية عن قرب زفافها.

لحظتئذ، انهارت فرحته واكتأبت بوجهه تغاريد الأمل. ولما تقابل وزياد عابساً محزوناً، نصحه بنسيانها وبالاجتهاد في عمله التجاري معه لكي يثرى، فيندم حينئذ أبوها على رفضه زوجاً لابنته، خاصة إذا ما تزوج بمن هي أفضل منها حسباً ونسباً.

حاول نايف أن يستوعب نصيحة صاحبه، وطالبه بأن يلتقيا كل أسبوع ومضاعفة كم البضائع، وفاجأه زياد باستحالة ذلك في الوقت الراهن على الأقل، لأنه فلسطيني من عرب 1948 في إسرائيل... وأنه يغامر مغامرة حمقاء بعبوره للحدود سعياً وراء الرزق.

بهت موزع البريد الذي لم يكن يعرف أن صديقه إسرائيلي، لكنه تدارك الأمر بعد قليل ولم يعره التفاتاً. فما بينهما مجرد تبادل مصالح فقط بعيداً عن السياسة... فهو يجلب بضائع زهيدة الثمن من إسرائيل ليبيعها له بثمن أعلى في لبنان، ويتقاسمان الربح... إنها تجارة بلا رأس مال تدر عائداً مجزياً. ما الضير في ذلك؟.

تعمد ألا يرتبك فيلحظ زياد ارتباكه، وبدا كأنا لأمر طبيعياً لا غبار عليه. ولكي لا يثير ظنونه ... أعاد نايف عرض رغبته في اللقاء كل أسبوع، وتعهد لزياد بألا يراهما أحد، حيث بمقدوره أن يرتب مكاناً آخر أكثر أمناً للقاء، بعيداً عن أعين الفدائيين المتربصين الذين يزرعون الجنوب.

ولما اعتذر زياد متحججاً بتشديد المراقبة الإسرائيلية على الشريط الحدودي... بسبب العمليات الفدائية التي يقوم بها الإرهابيون المتسللون، يسب نايف الفلسطينيين الأوغاد الذين سيدمرون مشروع تجارته.

نريد كل التفاصيل

ذاق أخيراً طعم المال والثراء، وكان على استعداد لأن يحارب الدنيا كلها كي لا ينقطع تدفق المال بين يديه. لذلك، أصيب بتوتر شديد لما انقطعت لقاءاته بزياد ثلاث مرات متتاليات. لقد كان قد أوصاه ألا يتأخر أبداً عن الموعد المتفق عليه، حتى ولو لم يجئه، ومهما طالت مدة غيابه... وهذه المرة انقضت ستة أسابيع ولم يجيء صديقه الإسرائيلي، وتساءل نايف في قلق:

Ø ترى هل يجيء ثانية.. ؟

كان يحترق خوفاً من ألا يجيء... ويزداد ضجره لأنه لا يعرف ما حدث بالضبط .. ووصل به ظنه الى الفدائيين... فهم بلا شك أهم أسباب حرمانه من فرصة التجارة المربحة.. ذلك أن عملياتهم الفدائية كانت أخبارها على الألسنة في كل مكان... وود عندئذ أن يفكوا عن عملياتهم... بل إنه تمنى في داخله أن يرحلوا بعيداً عن أرض لبنان.

تعلق بصره باتجاه الحدود يحدوه الأمل في مجيئه، وأخفى دراجته بين الأعشاب، واستلقى بجانبها كما أمره زياد من قبل خوفاً من شكوك "الإرهابيين" ... وعلى حين فجأة، تهللت أساريره من جديد عندما لاح الشبح قادماً، وبدا الوافد قلوقاً متعباً.

وفي سرد طويل، شرح لرفيقه معاناته في المرور ببضاعته، ومدى حرصه على ألا يتأخر، إلا أن العمليات الإرهابية كانت السبب في إعاقته... وتكثيف نقاط المراقبة... وسأله: كيف يتحركون في الجنوب؟ كيف يرصدون الحدود؟ أسئلة كثيرة في تلقائية أجاب عنها نايف بما يعرفه. ووصف لزياد أساليب معيشتهم وأماكن تواجدهم وتجمعاتهم، حتى الممرات ومدقات الجبال التي يسلكونها رسمها على الورق، بل إنه حدد كروكياً مواقع الحفر التي يتخذونها مراكز مراقبة طيلة النهار. ثم ينطلقون ليلاً في أواخر الأشهر العربية، مستغلين الظلام الدامس أو غبش الفجر في قص الأسلاك والتسلل الى إسرائيل.

حدثه أيضاً عن كيفية استقطاب الأشبال وتجنيدهم، وتدريبهم عسكرياً على استخدام المدافع الرشاشة والقنابل في معسكرات مغلقة بالبقاع. وسأله زياد عن المصادر التي استقى منها معلوماته، فأجاب بأنه عرفها من خلال بعض شباب الجنوب الذين انخرطوا في صفوفهم، تحت إغراء الحافز المالي وشعارات الجهاد.

أخرج زياد حافظة نقوده وسلمه ألف دولار ... وهو مبلغ خيالي في ذاك الوقت... وقال له بأنه سينقل كل هذه المعلومات الى الإسرائيليين كي يثقوا به، فيتركوه ليمر ببضاعته في أي وقت فتزيد أرباحهما معاً.

ولما سأله نايف:

Ø ولماذا تمنحني هذا المبلغ الكبير؟

Ø أجاب: يا عزيزي، ما قلته لي يساوي أكثر.

Ø قطب جبينه في دهشة أكثر وتساءل في سذاجة: لست أفهم.

في لؤم شديد مغلف بالإغراء أجابه:

Ø ما دفعته لك سأسترده ... إنهم في إسرائيل يشترون أقل معلومة بأعلى سعر... فالمعلومة التافهة في اعتقادك قد تنقذ أرواحاً في إسرائيل .. ألا تحب إسرائيل؟

ومتقمصاً دور العربي الوطني:

Ø أنا عربي مثلك كنت أكره إسرائيل في صغري، الآن كبرت، وفهمت لماذا يكره العرب إسرائيل، هم مخطئون لأنهم ينقادون وراء حكامهم، والحكام مستبدون، طغاة، يُسيّرون شعوبهم تبعاً لمشيئتهم. أما في إسرائيل فالديموقراطية هي التي تحكم، الشعب يحكم نفسه، ويملك قراره ومصيره.

Ø (!!! ... . )

وهو لا يزال ينفث سمومه:

Ø في إسرائيل حرية لا يعرفها العرب. حرية في أن تعارض، تجادل، تعمل، تحب، تمارس حياتك كما أردت أنت. أنا مثلاً، أعمل موظفاً ببلدية "نهارية" قرب الحدود. اشتري بضائعي من "عكا" وأبيعها معك في لبنان، إنني أسعى لزيادة دخلي، والحرية عندنا لا تمنعني أن أعيش ميسوراً، ألا تريد أن تعيش ميسوراً؟

Ø نعم.

Ø إذن، فلنتعاون معاً على العمل بإخلاص.. وساعدني كي أجيئك بالسلع كل يوم وليس كل أسبوعين.

Ø وماذا بيدي لأساعدك؟

Ø بيدك الكثير لتكسب آلاف الليرات، وبسهولة. أنسيت فاطمة وإهانة أبوها عدنان؟

وقد بدأ نايف يستجيب لسمومه:

Ø إني طوع أمرك، أريد مالاً كثيراً مقابل أي شيء تطلبه.

Ø هؤلاء السفلة "يقصد الفدائيين" يُضيقون علينا، ويُعكرون "أمننا"، نريد منعهم.

Ø كيف ؟

Ø سأجعلهم يخصصون لك راتباً شهرياً، ألفي ليرة... عليك فقط أن تحصي عليهم أنفاسهم، وتعرف بتحركاتهم قبل أن يعبروا الحدود ... "نريد الخطط، والمواعيد، والأعداد، نريد كل التفاصيل" !!.

نايف في إسرائيل

حاصره زياد ضابط المخابرات الماكر، ولعب على أوتار فقره وأحلامه في الثراء. مستغلاً ضعف ثقافته وعروبته، وكبله بخيوط الخيانة دون أن يقاوم، وما غادر موضع اللقاء إلا وقد انضم لطابور الخونة العرب جاسوس جديد لإسرائيل.

وذات مرة ... انتهز عميل الموساد الفرصة... ورسم صورة زاهية لحياة نايف... إذا تعاون معه بإخلاص دون أن يتعرض لمشاكل مع الفلسطينيين، ولكي يكون أكثر كفاءة ومهارة في عمليه الجديد، كانع ليه أن يخضع لتدريب فني متخصص، وهذا لن يتأتى له في الجبل ... حيث المخاطر من كل جانب.. وكان أن دعاه لاجتياز الحدود معه ليمكث بإسرائيل عدة أيام حيث سيسرهم هناك أن يروه.

لم يكن الأمر من البساطة بحيث يستوعبه نايف بسهولة... إذ أن أعصابه ارتجفت بشدة وهو ينصت لزياد .. وغامت الرؤى في ناظريه رعباً عندما تخيل نفسه أحد رجال الموساد في الجنوب. كان الحدث بلا شك أكبر بكثير من حجم مداركه البسيطة وأحلامه الواسعة... لكن جحيم معاناته النفسية كان كزلزال عاتٍ يخلخل جذوره، ويقتلع شعيرات مقاومته التي بدت هشة ضعيفة واهنة، أمام دفقات الخوف والأحلام معاً.

بفكر ضابط متخصص واعٍ .. كان زياد يتفرس صراعات فريسته، ويراقب عن كثب مراحل الترنح التي تسبق السقوط، وبانقضاض محموم أشل إرادته وسيطر على عقله... فالمال له بريق ساحر كالذهب، يذيب العقول فلا تقوى على مقاومته... وابن الجنوب كان ضحية الفقر والعجز والمعاناة... لذلك فما أسهل احتواءه وتصيده بواسطة أصغر متدرب في أجهزة المخابرات.

لقد كانت طقوس سقوطه بسيطة جداً وسهلة... إذ اشترط نايف لكي يتعاون معهم ألا يفضحوه يوماً ما .. ويعلنوا عن اسمه في سجل الخونة. وكان له شرط آخر يتعلق بالمال، وهو ألا يبخسوا عليه حقه. (!!).

أجيب الى طلبه بالطبع، فقد أخذ شكل الحوار يتغير من حوارات تجارية، الى مساومات وطلبات مكشوفة تتعلق بالتعاون مع الإسرائيليين. ووجدها نايف فرصة ثمينة لا تعوض في الحصول على المال، مقابل معلومات تافهة لا يعرفها الإسرائيليون، لكنهم كانوا في واقع الأمر يعيشون الرعب كل العرب، بسبب تلك العمليات الناجحة في قلب مستوطناتهم الشمالية.

اقتنع نايف بأن أمنه الشخصي مرهون بمدى مهارته وحرفيته... وآمن بأن التدريب ضرورة ملحة للحفاظ على حياته.. لذلك لم يتوان عن الإسراع بطلب الحصول على إجازة من عمله، وانطلق بدراجته الى نقطة حددت له في الجنوب، وبقي مختبئاً بين الأعشاب ينتظر ستائر الظلام، الى أن لمحا لوميض المتقطع المتفق عليه، فرد بإشارات متقطعة أيضاً، وهو يتعجب من الارتجافة الهلوعة التي اجتاحت أعماقه.

مشى باتجاه الوميض البعيد يجاهد للتغلب على اضطرابه، لكن الليل الحالك وصفير الرياح ورهبة الصمت ضاعف من توتره، وكان رعبه الأكبر من هؤلاء الثعالب المختفين بين الحفر والأعشاب، ينتظرون إشارة الزحف باتجاه الحدود، حاملين رشاشاتهم وأرواحهم بين أيديهم.

فرق كبير بين خائن يسعى للثراء، وثعلب منهم زهد الحياة والمتع وجعل من دمه وعظامه ناراً تؤجج شعلة الجهاد.

وفي غبش الظلام فاجأه شبح ألقى بقلبه الرعب...وكادت أنفاسه أن تتوقف قبلما يناديه:

Ø اتبعني...

قاده الشبح المجهول الى الأسلاك والعيون المرتقبة، وكان يتعثر من فيضانات الخوف المهلكة، الدافقة... ومرت به لحظات ذاق طعم مرارتها بفمه، تمنى وقتها لو أنه عاد ثانية الى بيته، بلا أحلام، أو مطامع، لحظتها فقط اجتاحه إحساس مقيت بالغثيان، لكن الوقت كان قد فات... وما عادت أمنيات التراجع تجدي.

انطلقت به كالسهم السيارة العسكرية الى حيث لا يدري ... كان يجلس بالخلف وسط أربعة جنود، نظراتهم الحادة المتفحصة كانت تخيفه وتربكه، إنهم بلا شك – وهم يتحدثون بالعبرية – يتندرون على ضيفهم الذي بلا انتماء، الذي جاء متسللاً لينزف عروبته ويبيع وطنه... وزياد الجالس بجوار السائق لم يكن يكف عن الضحك..

يا للمفارقات العجيبة ... (!!).

كانت النقاط الأمنية منتشرة هنا وهناك طوال الطريق ... ورأى رجال الأمن يفتشون السياراة المارة، إلا سيارته. فقد كان زياد يومئ لهم فقط فيفسحون الطريق في الحال.

Ø أهلاً بك في حيفا...

هكذا قابلته الفتاة الحسناء عندما فتحت باب المنزل، وتركه زياد معها ومضى دون أن يتكلم معه في شيء.

أسلاك الموت

وفي حجرة نومه بكى كطفل خائف في الثلاثين من عمره، وبقي ينتظر زياد لمدة أسبوع كامل، لكن زياد لم يجيء، ولم يهتم به، إنما تركه برفقة فريق من النفسانيين الذين انكبوا عليه يروضون أحلامه ويحللون أنسجة ضعفه وخذلانه. ثم تركوه لفريق آخر أخضعه لدورات مكثفة في فن التجسس، وكيفية تلقط الأخبار، والتمييز بين الأسلحة.. وأساليب التغلغل داخل التجمعات الفلسطينية في الجنوب واستكشاف نواياها.

يوماً بعد يوم... وتحول الطفل الخائف الباكي الى ملك يحظى بالاحترام الشديد، إذ انهم أغدقوا عليه هالات من التبجيل أذكت غروره، وطوف به في سيارة ذات ستائر ليرى إسرائيل، وليقارن بنفسه بين واحة الجمال والديموقراطية وجيرانها... وأوحوا اليه بأساليب متعددة بأن أمنهم موكول اليه والى إخلاصه في التعاون معهم... وأغرقوه في محيط لا نهائي من الثقة ... ومن الخطايا.

وعندما نجح بكفاءة في استعمال جهاز اللاسلكي في الإرسال، كافأوه بداعرة من بنات الموساد، قذف بنفسه منجرفاً في أتون لهيبها، وتذوق للمرة الأولى في حياته طعم امرأة، أجادت اللعب على أوتاره، ووعدته بأن تكون له دائماً خلال زياراته لإسرائيل.

وفي نوفمبر 1971، عندما رجع الى لبنان بعد غياب 25 يوماً، كانت فاطمة قد زفت الى عريسها... وارتحلت... فحبس آهاته ولوعته.. إلا أن فجيعته كانت أكبر من تحمله... وحاول جاهداً نسيانها فكانت مقاومته أضعف مما تكون.. وفي لحظة صدق مع نفسه بكى... بكى في مرار وأسى ... وانصب فكره في كيفية الانتقام من أبيها.

لكن مع انخراطه في عمله الجديد تاهت رويداً رويداً رغبته في الانتقام... وطمست مع الأيام معالمها...

كان قد أخبر أهله أنه كسب بعض المال خلال أجازته في بيروت... وأنه سيتمكن من إعادة بناء المنزل ريثما يجد عروساً تناسبه. ولماعاد لعمله في البريد، تعجب لأمره وردد في نفسه:

"أبعد هذا الثراء أركب دراجتي القديمة من جديد؟ لا يهم".

كان قد بدأ ينظر الى الأمور ببساطة، طالما سيتيح له ذلك سهولة التنقل في الجنوب قرب الحدود، يرصد تحركات فرق "الإرهابيين" ويلاطفهم ويرتبط معهم بصداقات، وعلاقات علموه في إسرائيل كيف ينشئها.

فهم دربوه على كيفية استدراجهم للأحاديث الوطنية، وإثارة حماسهم فيخرجون ما بداخلهم من أسرار، هذه الأسرار يجب أن يحفظها جيداً وبدونها، وفي البيت والكل نيام كان يخرج نوتة الشفرة السرية ويبث رسائله:

"تصادقت مع فلسطيني فدائي، دعاني لزيارته في مخيم عين الحلوة، المخيم به مركز عسكري للتدريب على استعمال السلاح والقنابل وصنع المتفجرات. كان به ثلاثون شاباً، يمنحونهم مكافآت ومواد غذائية وملبوسات، هم الآن يجهزون لعملية فدائية ضد مستعمرة "حانيتا"، سأخبركم بميعاد العملية".

هكذا كانت تتوالى رسائله الى الموساد أولاً بأول. كان يبثها في موعد محدد في الليل لأيام متصلة إذا لزم الأمر. وفي الصباح يحمل حقيبة البريد أمامه مربوطة بالمقود، ويمر بدراجته بين القرى الحدودية، يتلقط الأخبار ويتلصص، ويراقب تحركات الفدائيين وأعدادهم وعددهم، مكثفاً من زياراته لمخيمات الفلسطينيين في الجنوب – "الرشيدية والبرج الشمالي والبص في صور، وعين الحلوة في صيدا" – ولاحظ عن قرب مظاهر الحياة المعيشية الصعبة بالمخيمات. وكيف يعيشون على الكفاف داخل صناديق من ورق وخشب، يعانون الزحام والبطالة والمرض، تحوطهم الأسوار والمأساة ورائحة الموت.

لم تهزه أحزان الطفولة اليتيمة على وجه مئات الأطفال، أو تثنيه عن قتل آباء آخرين ...هكذا تحجرت مشاعره ومات بداخله الإنسان، فكل ما كان يسعى اليه هو الثراء، الثراء بأية وسيلة حتى ولو يبيع الوطن، والشرف "من ذا الذي يتجسس للأعداء ويعرف الشرف؟".

نبذته النخوة وسيطر عليه الشيطان فبصق على ذاته واستمر في طريقه:

"ثلاثة يستعدون للتسلل عبر المنطقة (... ) التوقيت المقترح (... . )".

"لنش مطاطي يبحر به أربعة من (... . ) الهدف – (... .) – التوقيت (... . )".

"قبضوا على صديقكم سعدون في قلعة الشقيف – لازال رهن التحقيق".

عشرات الرسائل بثها نايف المصطفى الى الموساد، فأفشل العديد من عمليات الفدائيين سواء بالقبض عليهم، أو بقتلهم عند اجتياز الحدود.

استحق الإعدام

وفي إحدى زياراته لمدينة صيدا، في سبتمبر 1972، تقابل في طريق البوليفار الذي يقع الى البحر مباشرة، بفتاة فلسطينية عرجاء، تتسول. سألها عن أبيها فأجابته بأنه فقد بصره وإحدى يديه في انفجار عبوة كان يعدها، ولها شقيق تطوع في صفوف المقاومة اختفت أخباره.

رادوها عن نفسها فرفضت وهمت بالانصراف. فعرض عليها مائة ليرة لتخبره بأسماء قادة الفدائيين في مخيمها "عين الحلوة". أحست ابنة الرابعة عشرة بأنها تحادث أحد الخونة، وكانت لحظه السيئ تملك رغم صغرها حساً أمنياً عالياً، أورثتها إياه كوارث زلزلت حياتها منذ وعت.

تلفتت الفتاة يمنة ويسرة ولما اقتربت إحدى السيارات العسكرية، صرخت بكل عزمها: جاسوس، جاسوس.

انطلق نايف كالسهم هرباً وقد ولت جرأته... واختبأ لثلاث ساعات بين أنقاض مسرح قديم مهدم. خرج بعدها في هدوء وكأن شيئاً لم يكن. وفي المنطقة الواقعة بين شركة الداتسون والتيرو بطريق صيدا القديم، انقض عليه عدة رجال وكبلوه، وعندما دفعوا به الى العربة الجيب كانت الفتاة تجلس مزهوة فرحة.

أخذوه الى معسكر فلسطيني بطريق "دير قانون البحر" وبين طيات ملابسه عثروا على رسوم كروكية لمواقع فلسطينية في مثلث الراهبات، وشارع رياض الصلح، ولأهم المفارق الحيوية بصيدا.

وبالتحقيق معه حاول قدر استطاعته أن يناور ... ويتغابى، لكنه انهار في النهاية واعترف بعمالته للموساد، وأرشد عن الجهاز اللاسلكي الذي عثروا عليه بقاع سحري بدولاب ملابسه. عثروا أيضاً على أربعة آلاف دولار، وستة عشر ألف ليرة لبنانية ثمن خيانته وتجسسه لمدة عام.

وبنفسه كتب اعترافاً كاملاً بظروف حياته، ومعاناته النفيسة التي أثرت على وعيه، وخطوات تجنيده بداية من زياد، ثم زيارته لإسرائيل، حيث سيطروا عليه هناك بالمال والجنس، وصوروه بإرادته في احط الأوضاع وأقذرها مع إسرائيليات، بدعوى أنهم مضطرون لتصويره لضمان إخلاصه لهم، ولكي يحافظ على جهاز اللاسلكي الذي يفوق ثمنه مائة ألف دولار.

في اعترافاته قال أيضاً أنهم وعدوه بثلاثين ألف دولار، مقابل تجنيد ضابط فلسطيني في صفوف المقاومة، وشمل اعترافه قائمة طويلة بأسعار المعلومات المطلوبة، وجملة ما يخصه من أموال ورواتب متأخرة لدى الموساد.

سلمه الفلسطينيون للسلطات اللبنانية لمحكامته (ليس لهم الحق في محاكمة لبناني أو أجنبي خائن، ولو كان يتجسس عليهم، فهم يحاكمون فقط مواطنيهم المتهمين بالخيانة. وغالباً ما يتم إعدامهم رمياً بالرصاص).

ومثل الخائن أمام المحكمة العليا ببيروت، وفي فبراير 1973 أدين بالحبس مدة سبع سنوات.

وبعد ثمانية أيام في السجن عقد له زملاؤه المسجونون محكمة أخرى، أعضاؤها الخمسة من القتلة واللصوص، وحكموا عليه إجماعاً بالإعدام شنقاً.

كان يظن طوال الوقت بأن الأمر مجرد هزل مساجين، لكنهم انقضوا عليه وشنقوه بالفعل بواسطة حبل جدلوه من ملابسهم، وكان ذلك عشية احتفاله بعيد ميلاده الثلاثين، واعترفوا بلا أدنى مواربة بأنهم اقتصوا منه وحاكموه بالعدل، وبقانون العروبة والوطن، لا بقوانين لبنان.

ألم نقل من قبل أن لبنان بلد العجائب، وأنه البلد العربي الوحيد الذي لا يعدم فيه الجواسيس بنص القانون ؟!!

عمار الحرازي08-02-2010, 12:27 AM

إعدام اليهود العراقيين الستة

مقدمة

الجذور الأولى

يمكن للباحث المدقق أن يستخلص بسهولة، اختلاف منهج الجاسوسية الإسرائيلية في العراق عنه في سائر الدول العربية الأخرى. ذلك أن مخابرات إسرائيل ابتعدت تماماً عن اللجوء إلى جواسيس "غرباء" من داخل القطر العراقي... بل استثمرت – وبذكاء شديد – وجود الآلاف من اليهود العراقيين، في "تخريج" كوادر قادرة على تنفيذ أهدافها وسياساتها، مستغلة في ذلك تغلغلهم داخل نسيج المجتمع العراقي كله، من البصرة جنوباً، إلى الموصل شمالاً.

فمنذ قيام الدولة اليهودية، حرص حكام إسرائيل على كسب تعاطف يهود العراق، وبناء جسور من الود والتواصل بينهم لتحقيق هدفين أساسيين:

أولهما: لتشجيعهم على الهجرة إلى إسرائيل، لسد الفراغ الناشئ عن فرار السكان العرب بسبب المذابح الوحشية، وخلو قرى عربية بكاملها من سكانها.

ثانيهما: التجسس على العراق، جيشاً، وسياسة، واقتصاداً.

ولكي تضمن إسرائيل ولاء يهود العراق الكامل لها، والسعي إلى الهجرة إليها، عمدت إلى استخدام أساليب شيطانية ماكرة لإرهابهم، وتفجير بعض معابدهم، وقتل العديد منهم لإلقاء التبعية على السلطات العراقية، فنجحت بذلك فيما سعت إليه.

لقد كان اليهود في العراق لأحقاب طويلة خلت، ينعمون بالأمن والأمان، ويمارسون حياتهم وأعمالهم وطقوسهم في حرية بلا منغصات أو أحقاد، إلا أن خطط حكام إسرائيل، صورت لهم الحياة في العراق على أنها جحيم ما بعده جحيم... ورسمت في أذهانهم صورة مثالية للحياة في "الوطن" الجديد.

ولأننا لسنا بصدد دراسة تاريخ وأحوال اليهود في العراق، فإنه يلح علينا السؤال:

Ø لماذا تتجسس إسرائيل على العراق الذي لا يشترك معها في الحدود؟ ولا يعد من دول الواجهة؟

وللإجابة على ذلك نقول: إن العراق يمثل بالنسبة لإسرائيل عدو مبين، ومطمع ثمين، فشل تيودور هرتزل – أبو الصهيونية – في تحقيقه، منذ كتب في 4 يوليو 1903 إلى عزت باشا العابد – رئيس الوزراء العثماني – يذكره بمقترحات سبق أن بعث بها إليه في مارس 1902، حول قروض يهودية للإمبراطورية العثمانية، مقابل تحقيق الوعد الذي قطعه على نفسه للمنظمة الصهيونية، بالسماح بإقامة مستعمرات يهودية في العراق، وفي لواء عكا، عن طريق فتح الباب أمام الهجرة اليهودية.

فمنذ تحركت العصابة الصهيونية العالمية فعلياً، بعد مؤتمر بال بسويسرا عام 1897، رسمت مخططات شرسة للسيطرة على الاقتصاد العراقي، وإحكام القبضة اليهودية عليه، بواسطة أعداد اليهود الضخمة في العراق، التي اتجهت الغالبية العظمى منها – كما في بقية الدول العربية والعالم – إلى العمل بالتجارة والاستثمار، والاستحواذ على أنشطة بعينها، تحكم من خلالها السيطرة على عصب الحياة الاقتصادية في الدولة، بامتلاك ناصية أمور التجارة والصرافة.

ونظراً للمناخ الآمن الذي يعيشون فيه، فكان أن تغلغلوا ببطء شديد داخل البنية الأساسية للحياة على العراق، وصاروا بالفعل جزءاً حيوياً مهماً في عجلة الاقتصاد.

وبرغم ابتعادهم عن الزراعة، إلا أنهم إمعاناً في الامتزاج والتداخل، اشتروا مساحات شاسعة من الأراضي، وشغلوا قرى وإقطاعيات بكاملها، حتى امتدت أراضيهم للمناطق الشمالية في نينوى، فتمركزوا بكثافة كبيرة في "دهوك" شمالي الموصل، وانتشر الآلاف منهم في بغداد. يمتهنون الحرف المختلفة، ويتبوأون المراكز الاقتصادية الهامة بصبر وسعي عجيب. بعض هؤلاء كانوا هم الركيزة الأساسية للجاسوسية الإسرائيلية في العراق.

من ناحية أخرى، بذلت إسرائيل جهوداً جبارة منذ قيامها، لكسر الطوق العربي المحيط بها، عن طريق الدخول في علاقات مصالح متشابكة مع إيران وتركيا، والدول الأفريقية الأخرى، لتطويق الدول العربية، وحصارها من الشمال والجنوب والشرق.

ففي الشمال والشرق، وهو ما يهمنا الآن، أسست المخابرات الإسرائيلية أواخر عام 1958، منطقة ثلاثية تسمى "ترايدانت TRAIDANT " بالاتفاق مع جهاز الأمن الوطني التركي "المخابرات"، والمنظمة الوطنية للاستخبارات "السافاك" في إيران. وبتوقيع هذه الاتفاقية، توفرت للموساد علاقات حميمة إضافية بهذين الجهازين، حيث نصت بنود الاتفاق على تنظيم تبادل مستمر للمعلومات، بالإضافة إلى اجتماعات شبه دورية على مستوى رؤساء الأجهزة الثلاثة. وأيضاً، نص الاتفاق الأصلي مع تركيا، على إضفاء الشرعية على الارتباط الاستخباراتي بين البلدين، على أن تقدم الموساد معلومات حول نشاط عملاء السوفييت في تركيا، وكذا العملاء الذين يعملون ضد الأتراك في الشرق الأوسط، مقابل إمداد الإسرائيليين بمعلومات حول ما يمكن أن يؤثر على أمن الدولة اليهودية من النوايا السياسية والعسكرية للدولة العربية، وحول نشاط وشخصيات عملاء "الجمهورية العربية المتحدة" – "هكذا في النص" – الذين يعملون ضد إسرائيل.

إن الغرض الأساسي للعلاقة الاستخبارية بين إسرائيل وتركيا، يكمن في تطويق العراق وسوريا من الشمال، وأيضاً، تطويق العراق من جهة الشرق، بإقامة علاقة وطيدة بالنظام في إيران.

هكذا عملت الدولة اليهودية على تنمية سياساتها مع الإيرانيين لمعاداة العرب، ودخلت في "عمليات" مشتركة مع السافاك الدموي منذ أواخر الخمسينيات، ودعمت أكراد العراق لزعزعة استقرار الحكم في بغداد.

ولكي ترتكز الموساد على أرض صلبة في إيران، قدمت للسافاك معلومات وافية من اتجاهات السياسة في العراق، والنشاط الشيوعي في البلاد العربية المؤثرة على إيران.

لقد تصاعدت علاقة التنسيق الاستخباري بين الجهازين، لتصل إلى القمة في منتصف الستينيات، خاصة بعدما ازداد التوغل السوفييتي في المنطقة العربية، مما اضطر شاه إيران لفتح الأبواب السرية المغلقة لرجال الموساد، وإسباغ صفة الشرعية على عملياتهم الاستخبارية ضد العراق، إذ جعل من المناطق المتاخمة للحدود العراقية نقاط انطلاق، ومراكز لتجنيد وتدريب الجواسيس العراقيين على اختلاف الملل والاتجاهات، بل وكانت توجد بهذه المناطق محطات استقبال لاسلكية للمعلومات المتدفقة من بغداد.

لكل ذلك، أمكن لضباط المخابرات الإسرائيليين، أن ينعموا بالأمن والانتشار والتحرك، بمعاونة ضباط من السافاك، فاستطاعوا تكوين شبكات جاسوسية خطيرة ومتشعبة، تمد الموساد بما يشبه خريطة سير العمل اليومي، وسجل للحياة المختلفة في العراق، كما تقوم بتنفيذ المهام والأوامر التي تكلف بها، لرسم خطط السياسة الإسرائيلية واستراتيجيتها لكل مرحلة.

إن أهم ما كانت تسعى إسرائيل إليه هو العمل على هجرة يهود العراق. لذلك، اعتمدت وبشكل أساسي على عملائها في بغداد لضرب اليهود أنفسهم، والقيام بعمليات إرهابية ضدهم، تشككهم في نوايا العراقيين، فيندفعون وبقوة إلى الهجرة ومغادرة مواطنهم الأصلية غير آسفين.

هذه كانت خطة الموساد ضد اليهود الآمنين، الذين استقروا وامتزجوا بالحياة بشتى صورها، حيث كان الإصرار على جلب اليهود يرتبط ارتباطاً قوياً بالرغبة العارمة في اقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه، وتشريده، إما في الداخل كما حدث لمسيحي قريتي "أقرت" و "كفر برغم"، وإما إلى خارج الحدود كما هو الحال بالنسبة للفلسطينيين النازحين إلى الدول العربية المجاورة، هرباً من المذابح الجماعية الإرهابية، التي اتخذها اليهود دستوراً لإقامة دولتهم.

لقد أرادوا "صهينة" فلسطين ونزع طابعها العربي عنها، وذلك بزرع المستوطنين الآتين من كل بقاع الأرض – ولا صلة بينهم إلا الدين ولا رابطة إلا العنصرية – مكان سكان البلد الأصليين.

لهذا السبب، لجأوا إلى الإرهاب الذي لم يقتصر على الشعب الفلسطيني وحده، بل تعداه ليشمل كل العرب، والبريطانيين، والأمم المتحدة، حتى اليهود أنفسهم . ولأن العشرات من القرى العربية خلت من سكانها، فكان المطلوب، والهدف، هو إعمار هذه القرى المهجورة باليهود الجدد.

لقد وقع على الاستخبارات الإسرائيلية عبء هذا الأمر.. ومن أجل ذلك، تأسست في العراق عام 1942 منظمة سرية عرفت باسم :"حركة الرواد البابليين"، مهمتها تعليم الشباب اليهود كيفية استعمال الأسلحة وصنع المتفجرات، فتكون بذلك منظمة مستقلة لها أسلحتها ومجندوها، ومستعدة للعمل في أية لحظة طبقاً لبرنامج محدد مدروس، إلا أن ظهور معارضة شديدة بين يهود البلاد العربية ضد الحركة الصهيونية، أدى لانزعاج قادة الفكر الصهيوني وأداة سياساته.

وخوفاً من انتشار موجة المعارضة، كان اللجوء للإرهاب هو أقصر الطرق وأفضلها لوأد أية أصوات مضادة، تعرقل مسيرة الاستلاب والاحتلال.

من هنا .. تحركت المخابرات الإسرائيلية سريعاً، وأوكلت إلى أحد عملائها في العراق مهمة تشكيل شبكة جاسوسية، تأخذ على عاتقها مسؤولية تهجير اليهود.

فماذا فعل العميل الإسرائيلي؟

إنها قصة عجيبة من قصص المخابرات والجاسوسية في العراق ... !!

 

إعدام الستة

ميدان "العلاوي" في بغداد يعتبر من الميادين الكبيرة .. المزدحمة... تقع بأحد جوانبه محطة الأتوبيس الدولي عمان / بغداد، حيث تصطف عدة مقاه فسيحة، يملك إحداها يهودي عراقي، جذب إليها الكثيرين من اليهود الذين اعتادوا التلاقي بها، فكانوا يشكلون أغلب روادها، ولذلك سميت مقهى "اليهود".

وفي أحد أيام مارس 1950، وفد إلى المقهى "زبون" غامض، كان يجلس بالساعات يشرب الشاي ويقرأ الصحف، واضعاً حقيبته الجلدية السمراء أسفل المائدة، متعمداً ألا يحادث أحداً أو يترك فرصة سانحة لذلك.

كان سخياً جداً مع الجرسون، كثير الاستئذان للخروج تاركاً حقيبته ليجري مكالمة هاتفية، سرعان ما يعود بعدها إلى مكانه صامتاً.. تغطي نظارته السوداء التي حرص ألا يخلعها ملامحه.

وذات مرة، ترك حقبيته وصحيفته وخرج .. وبعد دقائق، دوى انفجار شديد دمر المقهى عن آخره، أسفر عن مقتل سبعة عشر يهودياً وأصيب ضعفهم أو يزيد.

الحادث المجهول ألقى الرعب في قلوب اليهود، خاصة والشرطة عجزت عن القبض على الفاعل، أو الاستدلال على شخصيته، إلا أنه لم تكد تمر عدة أيام، حتى انفجرت قنبلة أخرى في المعبد اليهودي المعروف باسم "ماسودا شيمتوف".. أدت إلى مقتل طفل يهودي دون العاشرة، كان يلهو بالردهة الداخلية التي انفجرت بها القنبلة.

أسرع الموجودون بالمعبد بالفرار يحفهم الرعب، وأصيب العديد منهم أثناء الهرب، وللمرة الثانية، وقفت الشرطة عاجزة عن فك اللغز المحير.

وفي ذات الوقت الذي انطلقت فيه أبواق الدعاية الصهيونية، تصور الحادث على أنه مذبحة مدبرة من العراقيين ضد اليهود، توالت الانفجارات لترويع الآمنين، وكان لفشل رجال الأمن في إيقافها أو القبض على الجناة، عامل مساعد لتأكيد الإشاعات التي ملأت أرجاء العراق؛ وتناقلها اليهود في دهشة وهلع.

وبعد عام من الحادث الأول، كان "باسم الصايغ" يمشي بأحد شوارع بغداد عند الظهيرة... يحمل أطناناً من المعاناة والهموم، فهو شاب فلسطيني أجبر على الفرار من فلسطين، هرباً من مذابح العصابات الارهابية التي نكلت بأفراد أسرته.

وبينما هو يمشي فوجئ بما لم يتوقعه أبداً، إذ شاهد ضابط مخابرات إسرائيلي ينتظر أمام فاترينة أحد المحلات. تمالك الشاب الفلسطيني نفسه وظل يراقبه عن بعد، وبحذر شديد اقتفى خطواته إلى أن رآه يدلف إلى مقهى، ويجلس بركن قصي.

كان باسم يثق تماماً في ذاكرته، فهذا الضابط كان أحد أفراد فرقة "الهاجاناه" الإرهابية التي قتلت عمه وابن عمه أمام عينيه، فصورته المتوحشة لم تغب أبداً عن مخيلته، وللحظة ... فكر باقتحام المقهى وقتله ثأراً، لكن حسه الوطني منعه، فالإسرائيلي ما جاء إلى بغداد حتماً إلا لمهمة سرية.

ومن أقرب تليفون، اتصل "باسم" بالشرطة التي جاءت على الفور وألقت القبض على الضابط الإسرائيلي.

ضد التعذيب ... ! !

أخضع الضابط الإسرائيلي لتحقيقات أمنية مطولة، لم تسفر عن شيء في البداية، برغم مواجهته بهويته السورية المزيفة، حيث لم ينهار أو يعترف، فأعيد استجوابه بأسلوب "التعامل" مع المجرمين، إذ جرد من ثيابه، وأودع حجرة ضيقة جداً، سلطت عليه فيها لمبات كهربائية شديدة الوهج، كفيلة بأن تجز مقاومته... لكنه ظل يقاوم.

لقد دربوه في أكاديمية الجواسيس في الموساد على تحمل شتى أنواع التعذيب البدني والنفسي، بما فيه الجوع والعطش، والحرمان من النوم لفترات طويلة ، فكان برغم قسوة "التعامل" معه، يبدو في كامل صلابته وإرادته.

لكن ضابطاً عراقياً خبيراً – كان قد جاء لتوه من موسكو وقد تدرب جيداً على كيفية استجواب الخونة – أمسك بالكماشة ونزع ظُفر إصبعه الوسطى، فاندهش أمام ذلك الخنزير الذي لا يحس بالألم. وتساءل الضابط العراقي في نفسه: ألهذا الحد دربوه في إسرائيل؟ أظافر يده اليسرى بكاملها انتزعت، ولا يزال مصراً على أنه سوري من "السويداء" في الجنوب. وعندما غمس الضابط العراقي يده في الماء المملح، لم يتحمل الإسرائيلي صاعقة الألم التي نهشت بدنه، فصرخ وهو يتلوى، ويصيح في ذعر بأنه ضابط مخابرات إسرائيلي، جاء إلى العراق بأوراق مزورة للاتصال بأحد العملاء اليهود.

وبالقبض على العميل العراقي "يعقوب الكالب" بمنزله القريب من ساحة الوثبة بحي الرصافة، لم يستغرق التحقيق معه وقتاً طويلاً، إذ انهار حين مواجهته بالضابط الإسرائيلي، واعترف في الحال على أعوانه الأربعة في شبكة الجاسوسية، التي قامت بعمليات التفجير المروعة في بغداد وأدلى "الكالب" بتفاصيل مذهلة عن نوايا الموساد، والمخططات المرسومة لترويع اليهود لدفعهم إلى الهجرة. كما أرشد عن مخابئ الأسلحة والذخيرة والمفرقعات بداخل المعابد اليهودية نفسها، وببعض المخازن على أطراف بغداد.

وأثناء محاكمة الجواسيس الستة بتهمة التجسس لصالح إسرائيل، تبارت الصحف العراقية ووكالات الأنباء العالمية في نشر أخبار المحاكمة أولاً بأول، إلا أن إسرائيل خرجت كعادتها تنفي علاقتها بتفجيرات بغداد، أو بشبكة الجاسوسية، بل وادعت بأن "الضابط" الإسرائيلي لا صفة له بالمخابرات، فهو ينتمي لمنظمة متطرفة محظور نشاطها، واستمرت أبواق الدعاية الصهيونية تؤكد بأن السلطات العراقية تزج باسم إسرائيل في مشاكلها الداخلية، دون الاستناد إلى حقائق أو أدلة. وأصرت إسرائيل – لتضمن عطف اليهود – على موقفها حتى بعد ما أدين الستة وحكم عليهم جميعاً بالإعدام.

هكذا .. سقطت أولى خلايا المنظمة السرية الصهيونية في العراق، التي تحركها الموساد، وتؤيدها سياسة إسرائيل، واستفادت المخابرات الاسرائيلية كثيراً من أخطاء شبكة "الكالب" التي أدت إلى سقوطها، وأعد خبراؤها تقارير حوت ملفات عديدة عن كيفية التعامل مع العراقيين، وتلافي سقوط شبكات مستقبلية في قبضتهم.

لقد كان هناك صراع مرير، شرس، صراع عقول ونظريات وسياسيات، أو لنقل إنه صراع "أدمغة" يحمل الشر ونقيضه، يبدأ في تل أبيب، وينتهي في بغداد.

فهل وقفت الأدمغة في إسرائيل موقف المتفرج السلبي؟

لا، فهي أعادت تنظيم خططها، وهاجمت من جديد.

وفي بغداد ...كانت "الأدمغة" أيضاً تتوقع كل شيء .. وتعمل. لذا، اشتد الصراع، وحمى وطيسه بين الحاجبين.

فتعالوا إلى ساحة المعركة، لنشهد معاً وقائع التراشق بالنظريات في عالم المخابرات والجاسوسية، تحسمها أسلحة الذكاء... !!

عمار الحرازي08-02-2010, 12:30 AM

إبراهام موشيه ..زعيم شبكة الـ "36".. !!

 

وقف "روبرتو بيترو" أمام ضابط الجوازات في مطار بغداد الدولي وهو يقول: لماذا هذا التأخير يا سيدي؟ أجابه الضابط بأنها إجراءات أمنية بسيطة لن تستغرق كثيراً.

وسأله: كم مرة جئت إلى بغداد من قبل؟

سريعاً أجابه الإيطالي المتذمر: إنها زيارتي الأولى للعراق، وقد جئت مندوباً عن شركة أنتراتيكو للمقابض في روما. لأعرض إنتاجنا على رجال الأعمال هنا، وأبحث إمكانية إقامة جناح لنا بسوق بغداد الدولي.

سلمه الضابط جواز سفره مصحوباً بتمنياته الطيبة، فشكره روبرتو وغادر المطار، ليستقل تاكسياً إلى فندق ريجنسي بوسط بغداد. وفي حقيقة الأمر لم يكن روبرتو هذا سوى ضابط مخابرات إسرائيلي.

مولتي تشاو

ولد لأب يهودي إيطالي وأم هنغارية، وعاش سني مراهقته في الشمال بمدينة "تريستا" الساحرة المطلة على بحر الإدرياتيك، وخدعته الدعاية اليهودية عن أفران الغاز التي التهمت ستة ملايين يهودي في ألمانيا، وبهرته شعارات الصهيونية والحياة الرغدة لليهود في إسرائيل، فهاجر إليها مع أمه رينالدا بعد وفاة أبيه.

هناك خدم في جيش الدفاع الإسرائيلي ثم في جهاز الشين بيت "الأمن الداخلي"، وأظهر كفاءة عالية في قمع الفلسطينيين، وتجنيد بعض الخونة منهم لحساب الجهاز بعد إجادته التامة للغة العربية.

لكن حادثاً مفاجئاً قلب حياته بعد ذلك رأساً على عقب، إذ ضبط أمه عارية في أحضان يهودي يمني، تمكن من الهرب بسرواله تاركاً بقية ملابسه، فأصيب بنكسة نفسية كبيرة، إذ كانت أمه تمثل لديه صورة رائعة لكل معاني الحب والكمال، ولم يتصور أن امرأة مثلها في التاسعة والأربعين، قد تسعى إلى طلب الجنس، وتتعاطاه مع السائق اليمني.

لحظتئذ... قرر ألا يعيش في تل أبيب، وقدم استقالته من عمله وحمل حقيبته عائداً إلى مسقط رأسه، عازماً على أن يعيش بقية حياته أعزباً، فطالما خانت أمه فلا أمان ولا ثقة بامرأة أخرى.. !!

لكن مايك هراري ضابط الموساد الإسرائيلي الذي كان يبحث عن ذوي الكفاءات المخلصين لـ "يطعم" بهم أقسام الموساد المختلفة، جد في البحث عن "روبرتو بيترو" حتى أدركه في تريستا، إلا أنه فشل في إقناعه بالعودة معه إلى إسرائيل، وتركه أربعة أشهر ورجع إليه ثانية ليخبره بوفاة أمه، ويجدد دعوته له بالعمل معه في الموساد.

استطاع هراري بعد جهد العودة بروبرتو إلى تل أبيب، وألحقه فوراً بأكاديمية الجواسيس ليتخرج منها بعد ستة أشهر جاسوساً محترفاً، يجيد كل فنون التجسس والتنكر والتمويه والقتل، عنده القدرة على تحمل صنوف التعذيب المختلفة، وأساليب الاستجواب الوحشية لإجباره على الاعتراف، إذا ما سقط في قبضة المخابرات العربية.

فقد اكتشف خبراء الموساد مقدرته الفذة على مقاومة الألم، إلى جانب ذكائه الشديد وإجادته الإقناع بوجهه الطفولي البريء، الذي يخفي قلباً لا يعرف الرحمة.

كل هذا... يضاف إلى خبرته التي لا حدود لها في عالم الإلكترونيات، وتكنولوجيا الاتصالات، وموهبته الفائقة في تطوير أجهزة اللاسلكي، التي يستخدمها الجواسيس في بث رسائلهم.

ومنذ وصل روبرتو لفندق ريجنسي، تتبعه السيارة الماسكوفيتش، وعقله لا يكف عن التفكير في من ذا الذي يراقبه ويقتفي أثره؟ أيكون ضابط مخابرات عراقياً ؟ أم أحد أعضاء الشبكة؟

استبدل ملابسه على عجل وخرج من باب الفندق يمسح المكان بعيني صقر باحثاً عن الماسكوفيتش فلا يجد لها أثراً، وفي شارع السعدون توقف أمام إحدى الفترينات وتأكد من خلال زجاجها العاكس بأن هناك من يراقبه، فاختفى فجأة بمدخل إحدى البنايات وتسمر مكانه في الظلام، وبعد برهة يدلف شبح مسرعاً فيصطدم به، وقبل أن تهوي على رأسه قبضة روبرتو الحديدية، يصيح الشبح على الفور: "مولتي تشاو".

إنها كلمة السر المتفق عليها، ليس في بئر السلم، ولكن بمكتب الخدمات العامة، الواقع على بعد عدة بنايات ويمتلكه إبراهام موشيه، الذي كان يراقب روبرتو بنفسه، وأوشك الأخير أن يحطم فكه بقبضته.

الحب المحرم

لم يكن موشيه يهودياً عراقياً فحسب، بل زعيماً محترفاً لشبكة جاسوسية إسرائيلية داخل العراق، استطاع أن يمد نشاطه حتى الكويت وسوريا، متخذاً من عمله في التجارة والاستيراد ستاراً يخفي وراءه حقيقته، وكانت له قصة مثيرة تستحق منا أن نسردها، ونتتبع معاً كيف انجرف مستسلماً في تيار "الخيانة" منذ صباه، مضحياً بكل شيء في سبيل الوصول إلى مأربه، ضارباً عرض الحائط بالأمانة والشرف.

كانت بدايته في ضاحية دوما بالقرب من دمشق. ولد لأم يهودية سورية، وأب يهودي عراقي يعمل دباغاً للجلود، امتلك ناصية الحرفة، وأقام مدبغة في بغداد بعد ستة أعوام من العمل الجاد في سوريا، إذ هرب فجأة إلى موطنه الأصلي ومعه أسرته الصغيرة، بعد ما اتهم باغتصاب طفل مسيحي دون العاشرة، فعاش في بغداد يحاصره الخوف من مطاردة أسرة الغلام أو السلطات السورية. لكنه لم يرتدع بعد هذه الحادثة، إذ واجهته هذه المرة تهمة اغتصاب طفل آخر في بغداد.

ولأنه أثرى ثراء فاحشاً، دفع مبلغاً كبيراً لوالد الطفل رقيق الحال، فتبدلت الأقوال في محضر الشرطة، وخرج موشيه ببراءته، ليمارس شذوذه على نطاق أوسع مع غلمان مدبغته، إلى أن وجدت جثته ذات يوم طافية بأحد الأحواض المليئة بالمواد الكيماوية المستخدمة في الدباغة، وكان ابنه إبراهام وقتئذ في الثانية عشرة من عمره، وأخته الوحيدة ميسون على أعتاب السابعة.

باعت أمها المدبغة وهربت بثمنها إلى مكان مجهول مع السمسار اليهودي الذي جلب لها المشتري، وتركتهما يواجهان مصيرهما لدى عمهما البخيل، ويتذوقان على يديه صنوف القهر والقسوة كل لحظة.

وأمام تلك المعاناة... ترك إبراهام مدرسته، والتحق بالعمل كصبي بورشة لسبك الفضة يمتلكها تاجر يهودي، بينما عملت أخته كخادمة بمنزل عمها مقابل الطعام، واكتشف إبراهام ميلا لديه للسرقة، فمارس هوايته بحذر شديد في سرقة المعدن الخام قبل سبكه ووزنه دون أن يلحظه أحد.

وما أن بلغ مرحلة المراهقة باندفاعها وطيشها، حتى ظهرت عنده أعراض الشذوذ كوالده، وإن كانت تختلف في الأسلوب والاتجاه، وكانت ضحيته الأولى..أخته التي كان ينام معها في فراش واحد بإحدى الحجرات المنعزلة، فكان يحصل منها على نشوته الكاملة وهي تغط في سبات عميق.

وذات ليلة ... استيقظت ميسون على غير العادة، ولاذت بالصمت المطبق تجاههه عندما أحست به يتحسس جسدها، فهو شقيقها الذي يحنو عليها، ويجيئها بالملابس الجديدة والحلوى، ويدافع عنها ضد جبروت عمه وزوجته، ويطلب منها دائماً الصبر على قسوة الظروف، طائراً بها في رحلات خيالية بعيداً عن منزل عمهما، فكانت لكل ذلك تسكت عليه.

ولما ظهرت عليها صفات الأنثى وعلتها مظاهر النضوج، استشعرت لذة مداعباته التي أيقظت رغباتها، فتجاوبت معه على استحياء شديد في البداية، إلى أن استفحل الأمر بينهما للمدى البعيد العميق، فهرب بها إلى البصرة، بين أمتعتهما صندوق عجزا عن حمله، كان بداخله خام الفضة الذي سرقه على مدار عشر سنوات كاملة من العمل بالمسبك.

وهناك ... معتمداً على خبرته الطويلة، أقام مسبكاً خاصاً به بحصيلة مسروقاته، واكتسب شهرة كبيرة بين التجار، وأثرى ثراء فاحشاً بعد أربع سنوات في البصرة.

كانت ميسون في ذلك الوقت قد تعدت التاسعة عشرة، جميلة يانعة تحمل صفات أمها الدمشقية، ذات جسد ملفوف أهيف، ووجه أشقر تتوجه خيوط الذهب الناعمة، عيناها الناعستان كحبتي لؤلؤ تتوسطهما فيروزتان في لون البحر، وفم كبرعم زهرة يكتنز بالاحمرار والرواء، وأنوثة طاغية تشتهيها الأعين وما ذاقها إلا إبراهام.

بيد أن الحب له طعم آخر، ولسع بديع يداعب الخيال، فتعزف الخفقات سيمفونية رائعة من أغاني الحياة.

فعندما أحبت ميسون جارها وتمكنت منها المشاعر، هربت كأمها مع الحبيب إلى أقصى الشمال... إلى الموصل، فتزوجته مخلفة وراءها إبراهام يلعق الذكريات ويكتوي بنار الوحدة، تنهشه أحزانه فيتخبط مترنحاً، وتميد به الخطوات تسعى إلى حيث لا يدري، ويتحول إلى إنسان بائس.. ضعيف وحيد.

في هذا المناخ يسهل جداً احتواؤه بفتاة أخرى، تشفق عليه وتقترب منه عطوفة رقيقة، وهذا بالفعل ما حدث، إذ قربته "راحيل" إليها، ولازمته في قمة معاناته للدرجة التي يصعب عليه الابتعاد عنها.

ولأنها ابنة يهودي يعمل لحساب الموساد، وكان لها دور فعال في نشاطه التجسسي، استطاعت أن تضمه بسهولة إلى شبكة والدها. ولم لا... ؟ إنه خائن بطبعه منذ الصغر، استلذ الخيانة عشر سنوات مع صاحب المسبك، وخان الشرف والأمانة عندما انتهك حرمة أخته، ذابحاً عفافها غير مبال بالدين أو القيم، فإن مثله معجون بالخيانة، ليس يصعب عليه أن يخون الوطن أيضاً، فكل القيم عنده طمست معالمها وغطاها الصدأ.

لقد بدت سهلة رحلته مع الجاسوسية بعدما تزوج من راحيل، وأخضع لدورات عديدة صنعت منه جاسوساً، فانتقل إلى بغداد ليمارس مهامه الجديدة. ولم يكن يدرك أبداً أن شبكته التي سيكونها فيما بعد، ستكون أشهر شبكات الجاسوسية في العراق قاطبة.

شاخص الداهية

في بغداد استأجر إبراهام منزلاً رائعاً، وافتتح مكتباً وهمياً للتجارة بشارع السعدون، والتحق بأحد المعاهد المختصة بتعليم اللغة الإنجليزية، وجند أول ما جند شاباً يهودياً يعمل مترجماً للغة الروسية، له علاقات واسعة بذوي المناصب الحساسة في الدولة، كثير السفر إلى موسكو بصحبة الوفود الرسمية، كان دائماً ما يجيء محملاً بالسلع والكماليات، معتمداً على إبراهام في تصريفها.

كان تجنيده بعيداً تماماً عن الجنس أو المال. إذ كان "شوالم" غالباً ما يحكي لإبراهام أسرار سفرياته وتفاصيل ما يدور هناك بين الوفدين العراقي والسوفييتي، ولم يكن يخطر بباله أن أحاديثه مع إبراهام كانت كلها مسجلة.

وعندما استدرجه ذات مرة للخوض في أدق الأسرار، تشكك شوالم في نواياه فامتقع وجهه واستبد به الخوف، وعلى الفور عالجه ابراهام بالحقيقة، وأكد له بأنه استفاد كثيراً من أحاديثه ونقلها حرفياً للإسرائيليين، فحاول الشاب أن يفلت بجلده من مصيدة الجاسوسية، لكن شرائط التسجيل المسجلة بصوته كبلته، فخضع مضطراً لابتزاز عميل الموساد.

كانت تجربته الأولى الناجحة قد زادته ثقة في نفسه، وأخذ يبتز شوالم إلى آخر مدى.

فمن خلاله تعرف إبراهام على مهندس يهودي، يعمل بأحد مصانع الأسمنت في بغداد، تردد كثيراً، على منزله برفقة شوالم في بادئ الأمر، ثم بمفرده بعد ذلك حيث شاغلته راحيل برقة متناهية، وأوحت إليه نظراتها وابتساماتها السحرية بعالم آخر من المتعة، لكنها لم تعطه شيئاً مما أراد، وأيضا لم تتجاهله، فحيره أمرها كثيراً، وما بين شكوكه في تصرفاتها حياله، واستغراقه في تفسيرها، أدمن رؤيتها طامعاً فيما هو أكثر، ليستسلم في النهاية صاغراً، ويستجيب لأوامرها عندما طلبت منه معلومات عن المواقع العسكرية التي تتسلم حصص الأسمنت.

وعندما سلمته أربعمائة دينار مقابل خدماته، صدمته الحقيقة التي تكشفت له، فهونت عليه الأمر وشرحت له الكثير عن واجب اليهود إزاء وطنهم الجديد، إسرائيل، وأمام فتنتها القاتلة لم يتبرم أو يعترض، بل تطوع – إرضاء لها – بجلب المعلومات الحيوية دون تكليف منها، عازفاً عن العمل بمقابل مادي لقاء خدماته، على أمل الهجرة إلى إسرائيل في أقرب فرصة، وتوفير فرصة عمل له هناك.

ولما أدركت هي ما يصبو إليه، لعبت على أوتار أمنيته، ووعدته بتحقيقها في التقريب العاجل.

استتر إبراهام خلف مكتبه التجاري، وزيادة في التمويه ... قام بشحن كمية من فاكهة البرتقال إلى الكويت، بواسطة سيارة نقل كبيرة "برادة" يقودها سوري عربيد من السويداء، يعشق الخمر العراقي والنساء، له زوجة سورية في درعا، وأخرى عراقية في المقدادية، وثالثة إيرانية في كرمشاه.

كان السائق زنديقاً لا ديانة له، اسمه "خازن" وشهرته "شاخص" لشخوص واضح في عينيه، استطاع هذا الخازن أن ينال ثقة ابراهام خلال فترة وجيزة من العمل لديه في نقل الفاكهة إلى الكويت، ولأنه سائق فقط على البرادة، تسلل إبراهام إلى عقله ووجدانه، ووعده بأن يمتلك مثلها إذا أخلص إليه "وتعاون" معه.

في إحدى زياراته لزوجته السورية، تمكن شاخص من الحصول على بعض المعلومات التي تتصل بالتحركات العسكرية السورية على الجبهة، وبعض القواعد الجوية التي تطورت منشآتها وتحصيناتها، كما وطدد علاقته بأحد المتطوعين في الجيش السوري من أقرباء زوجته، استطاع بواسطة الهدايا التي أغدقها عليه، أن يتعرف من خلاله على أسرار هامة، تمس أموراً عسكرية روتينية ويومية، قام بنقلها إلى ابراهام بأمانة شديدة، فمنحه مبلغاً كبيراً شجعه على أن يكون أكثر إخلاصاً في البحث عن المعلومات العسكرية، ليس في سوريا فحسب، بل وفي الكويت أيضاً.

كانت الكويت في ذلك الوقت إمارة صغيرة غنية، سمحت للعديد من العراقيين والإيرانيين بالإقامة وبعض حقوق المواطنة، فضلاً عن العديد من أبناء الجنسيات العربية الأخرى الذين تواجدوا بها منذ سنوات طويلة. ومن بين هؤلاء كانت توجد نفوس ضعيفة يسهل شراؤها، خاصة أولئك الذين يشعرون بالدونية وبأنهم مواطنون من الدرجة الأدنى.

استطاع خازن أن يستثمر ذلك جيداً في شراء ذمم بعضهم، وحصل على معلومات دقيقة عن أنواع الأسلحة المتطورة في الكويت، ومخازنها، ونظم التدريب عليها، وعدد المنخرطين في الجيش الكويتي، وبعثات الطيارين في الدول المختلفة. وامتد نشاطه الأفعواني إلى دول الخليج العربي وإماراته الأخرى. فمكن بذلك ابراهام من تجميع ملفات كاملة، تحوي الكثير من المعلومات العسكرية والاقتصادية والتجارية عن الكويت ومنطقة الخليج.

ميسون عادت

تحير ضباط الموساد في أمر عميلهم أبراهام، فإخلاصه يزيد كثيراً عن الحد المعهود، ونشاطه التجسسي يتطور ويمتد ليشمل بخلاف العراق دول الخليج وسوريا. وكان لا بد من حمايته كي لا يغتر بنفسه فيكشف أمره، وحمايته ليست بالطبع بواسطة حراس مسلحين، وإنما بتدريبه تدريباً خاصاً لرفع الحس الأمني لديه، والوصول بكفاءته كجاسوس محترف إلى درجة أعلى في الخبرة والمهارة، فاستدعى للسفر إلى عبادان على وجه السرعة، حيث كان ينتظره خبيران من الموساد أحدهما روبرتو بيترو، جاء خصيصاً من أجله لأنه يحمل ترخيصاً تجارياً، لم تواجهه مشكلة في مغادرة العراق.

مكث أبراهام معهما تسعة عشر يوماً، أخضع أثناءها لدورات مكثفة في كيفية فرز المعلومات وتنقيتها، والسيطرة على هذا الكم الهائل من العملاء الذين يدينون بالولاء لإسرائيل، هذا فضلاً عن تدريبه على كيفية الإرسال بالشفرة، بواسطة جهاز لاسلكي متطور أمدوه به وجهاز راديو لاستقبال الأوامر. ورجع إبراهام إلي العراق يزهو بالحفاوة التي قوبل بها، وبالتدريب الجيد الذي ناله، وبالأموال الطائلة التي ما حلم بمثلها يوماً.

سرت راحيل بالهدايا الثمينة التي حملها إليها. وجهاز الراديو الترانستور الحديث بين أمتعته، والذي هو في الأصل جهاز لاسلكي تتعدى قيمته عشرات الآلاف من الدولارات وفي أولى رسائله إلي الموساد طمأنهم على وصوله بسلام، وبثهم تحيات زوجته، وتلقى رداً يفيد استلام رسالته، وتمنياتهم الطيبة لهما بعمل موفق.

في الحال شرع إبراهام في الاتصال بأعضاء الشبكة، وطلب منهم معلومات محددة كل حسب تخصصه، وأمدهم بآلاف الدنانير ليغدقوها على عملائهم، فأثبت كفاءة عالية في إدارة شبكته بمهارة.

وذات يوم بينما كان في الموصل، لم يصدق عينيه وهو يقف وجهاً لوجه أمام ميسون في أحد الميادين، وحين ألجمتها المفاجأة أسرعت بالفرار وسط الزحام تتلفت خلفها، بينما غادر سيارته الماسكوفيتش ملهوفاً وأسرع وراءها، تمر برأسه ألوان من الذكريات البعيدة لم يستطع نسيانها. فلما أدركها، ملتاعة صرخت، فطمأنتها نظراته المليئة بالحب والشوق، ومشت معه إلي السيارة ترتعد، وقد أنسحبت الكلمات في حلقومها.

وفي الطريق إلي منزلها.. عاتبها كثيراً، وشكا لها قسوة المعاناة التي عايشها من بعد هروبها، وعلى المقود هجمت عليه أشجانه، وغلبته دموعه فاستسلم لها، في حين شهقت أخته باكية تستعطفه، وترجوه أن ينسى ما كان بينهما، وأشارت الى بطنها المنتفخ قائلة إنه الابن الثالث لها.

لكن يهودياً خائناً وشاذاً مثله، لم يكن مؤهلاً لأن يستجيب لرجفة الخوف والضعف عند عشيقته الأولى في حياته .. أخته. فما إن وصلا الى منزلها، وكان خالياً من زوجها، إلا وطالبها بحمل مستلزماتها وولديها والعودة معه الى بغداد. رفضت ميسون مسترحمة، فانهال عليها ضرباً وركلاً غير مبال بصراخ الصغيرين، وأمام إصرارها على الرفض طالبها بحقه ... فيها... !!

ألم نقل بأنه يهودي خائن، تبرأت منه النخوة واعتلاه الجمود؟ .. هكذا نال ما أراده منها، مدعياً بأنه حق مكتسب وواجب عليها أن تؤديه كلما طلبها.

رجع بغداد مكدراً ليجد راحيل تعاني آلام الحمل الأول في شهوره الأخيرة. وبعد أسبوع يأخذها في الفجر إلي المستشفى، فتلد جنيناً ميتاً سرعان ما تلحق به هي الأخرى بسبب حمى النفاث، كأنما أراد الله أن يقطع ذريته إلى الأبد، ويحرمه من مشاعر الأبوة فيظل وحيداً كشجرة جافة بلا جذور، تطيح بها الأنواء فتتكسر.

ولأول مرة منذ هجرته ميسون في البصرة، تفتك به الوحدة وتعتصره الأحزان، فتخنق لديه مباهج الحياة، وتبثه اللوعة تكوي عظامه وتزلزل عقله، فيفقد شهيته للعمل، وينزوي في ضعف يسربله الخوف والوهن، وتفر منه اندفاعات الجرأة إلى حيث لا مستقر.

اللاسلكي المهشم

في تل أبيب اجتمع ضابط الارتباط بمرؤوسيه، وقرأ عليهم رسالة عاجلة بثت في بغداد تقول: "دوف: أمر بظروف نفسية معقدة... لا أستطيع الاستمرار في العمل... لن أكون ذا نفع لكم من الآن ... ابعثوا بمن يقود المجموعة ... سأنتظر ردكم بلا أوامر في الميعاد شالوم".

وجم الجميع، فإشارات المراسلة ورموزها السرية صحيحة، بما يفسر عدم وقوع العميل في قبضة المخابرات العراقية، ماذا حدث إذن؟

كانت هناك شكوك في فحوى الرسالة، فهي إحدى المرات القلائل، الوحيدة التي يتسلم فيها الموساد رسالة غامضة كهذه من عميل نشط. وفسر البعض ذلك بأنه ربما كشف أمره واعترف بكل شيء، وضبط بنوتة الشفرة رموز الاستهلال والختام السرية المتفق عليها. لكن ضابط الارتباط استبعد ذلك، فالعميل يحفظ الرموز جيداً عن ظهر قلب ودرب كثيراً على ذلك في عبادان، ولو أن أمره قد انكشف وأجبر على بث الرسالة، لعكس الأرقام. وكان لابد من معرفة حقيقة الوضع في العراق.

عندئذ بعثوا إليه برسالة مغلوطة سرعان ما جاءهم رده يطلب إعادة البث مرة أخرى، ولما عجز عن فك رموزها، أيقن أن هناك خطأ ما، فبث رسالة تأكيدية أخرى ضمنها إشارت سرية بديلة أراحتهم وطمأنتهم.

على الفور أرسلوا إليه بإيراني خبيث، يدعى طباطباني حبرون يعمل لحسابهم في طهران، تسلل إلى العراق بأوراق مزورة تحمل اسم رضائي عبد الرضا، التقى بإبارهام الذي كان شارد الذهن منكسر المزاج، واستطاع بعد لأي أن يعيد إليه توازنه، ويقنعه بالاستمرار في العمل، خاصة وإسرائيل في تلك الفترة كانت تمر بظروف مختلفة، بعدما انتصرت على العرب في حرب يونيو 1967، هذه الظروف كانت تستدعي العمل بجد ترقباً لرد عربي وشيك، قد يدمر إسرائيل ويقضي عليها.

لقد وعده طباطباني بحياة رغدة في إسرائيل بعد انتهاء مهامه، فحرك فيه روح الحمية والعداوة ضد العراقيين، الذين أمدوا الجيوش العربية بالسلاح والعتاد لضرب إسرائيل، فلما نجح الخبيث في مهمته مع الجاسوس المحبط، عاد من حيث أتى، فلقد استرد إبراهام طاقته ومواهبه من جديد، ومارس الجاسوسية على أوسع نطاق، إلى أن وقع حادث خطير زلزل كل شيء.

فبينما كان يحمل جهاز اللاسلكي متوجهاً به إلى مخبئه بسطح منزله – وقد انتهى لتوه من بث رسالة لتل أبيب – زلت قدمه على السلم، فسقط منه الجهاز الثمين وتبعثرت محتوياته الداخلية.

حينئذ أصيب أبراهام بالفزع، واعتراه اضطراب رهيب. وكتب على الفور رسالة بالحبر السري إلى الموساد في أثينا، يطلعهم على الخبر الصاعقة، وكانت صاعقة بالفعل وقد أصابت العقول المتابعة في تل أبيب.

وعقد على الفور اجتماع ضم نخبة من خبراء الموساد، اتخذ فيه قرار نهائي بإرسال روبرتو بيترو إلى بغداد لإصلاح الجهاز المعطل.

اطلع ضابط الموساد على المهمة التي كلف بها، وحسب الخطة الموضوعة سافر إلى روما حيث تسلم وثيقة سفر إيطالية، وتمت تغطية شخصيته الجديدة كمندوب لشركة انتراتيكو الإيطالية للمقابض، حيث سجل اسمه في جميع الدوائر، توقعاً السؤال عنه من قبل مكتب المخابرات العراقية في روما.

فما إن وطأت قدماه مطار بغداد الدولي، حتى كانت عيون مخابراتها ترصده عن بعد. فالجواسيس في تلك الفترة كانوا كمرتادي دور السينما، لا عدد لهم، أغلبهم من يهود العراق الذين ينعمون بالأمن، وأبوا إلا أن يعترفوا بإسرائيل وطناً أولاً لهم. فباعوا أمن العراق وهتكوا ستره، ونقبوا عن أسراره لحساب الموساد.

حصاد المشانق

ما إن رصدت أعين المخابرات العراقية مطاردة إبراهام لروبرتو حتى كثفت من رقابتها، فهناك أمر ما يجمعهما معاً. وتأكد لهم ذلك من لقاء بئر السلم بشارع السعدون. وبينما البحث يجري في روما عن حقيقة روبرتو المجهول، كانت الأجهزة اللاقطة قد زرعت بمكتب إبراهام، الذي تسلل إليه روبرتو دون أن يلحظ وقوف سيارة "فان" سوداء ذات ستائر غليظة، بداخلها أحدث أجهزة التنصت التي تنقل أنفاس من بالمكتب، إضافة إلى عربة جهاز تتبع الذبذبات اللاسلكية التي جيء بها من موسكو. فقد كانت تطوف بالمكان بلا انقطاع.

بعد قليل سمع بوضوح رنين جرس الباب، ووقع أقدام تتحرك، وفجأة ... انبعث صفير حاد عطل عملية التنصت. فخبير الموساد المدرب، وبحسه الأمني العالي، أدار جهاز التشويش الذي جلبه معه، تحسباً.

وعلى مدار تسعة أيام في بداية عام 1968، لم تسفر المراقبة عن شيء ذي قيمة، فإبراهام ماكر للغاية، وضيفه يقوم بمناورات عجيبة للتخفي استدعت تغيير فرق المراقبة والرصد كل عدة ساعات، فضلاً عن جهاز التشويش الإلكتروني الطنان، الذي أفشل عملية التسجيل.

وبالرغم من أن التحريات التي جاءت من روما أكدت بأن روبرتو إيطالي لا شك في ذلك، لكن الأمر كان يبدو محيراً حقاً، فالساعات التي كان يقضيها بالمكتب مع إبراهام، كانت دائماً تثير شهية الاقتحام.

وبينما كان الجو مشحوناً بالقلق والاضطراب، فجأة، ودون توقع... التقط جهاز كشف الذبذبات اللاسلكية إشارات متقطعة لا تكتمل، تبث لاسلكياً من منطقة السعدون، فصرخ أحد الخبراء قائلاً إنها تشبه إشارات جهاز لاسلكي معطل، ويجري إصلاحه وتجربته، وعلى الفور صدرت أوامر عليا بمداهمة المكان. وكانت المفاجأة كما توقعها الضابط العراقي، حيث وجد روبرتو منهماً في إصلاح اللاسلكي، وإبراهام يرقبه عن قرب...

صعق العميلان... ولهول الصدمة تسمرا في مكانيهما، فانقض عليهما الرجال وكبلوهما واقتيدا مغميان لمبنى المخابرات، حيث جرى استجوابهما في ذات ليلة، فيعترف ابراهام بكل شيء، بينما التزم روبرتو الصمت رغم التعذيب المميت الذي لاقاه، كأن جسده قد من صخر، لا رابطة بينه وبين مخه.

وبعد ثلاث ليال من التجويع والعطش انهار روبرتو تماماً، وأقر بأنه ضابط مخابرات إسرائيلي، جاء لمهمة إصلاح الجهاز "فقط" لا للتجسس ضد العراق؟‍!

وأسفر التحقيق مع العميلين عن مفاجآت عجيبة لم تخطر ببال العراقيين أبداً، فقد تبين أن شبكة إبراهام تضم 36 جاسوساً، هم في مجموعهم خليط عجيب من يهود عراقيين، وإيرانيين، وإسرائيليين من جنسيات مختلفة، ألقى القبض على غالبيتهم في غضون أربعة أيام، وقدموا إلى المحكمة العسكرية العليا، وكانت هي المرة الأولى، في تاريخ الجاسوسية الإسرائيلية في العراق، التي يحاكم فيها ستة وثلاثون جاسوساً، تضمهم شبكة جاسوسية واحدة.

وبقدر سعادة رجال المخابرات العراقية لضبط هذه الشبكة الخطيرة، كانت الصدمة قاسية جداً في إسرائيل، وأمهر رجالها يعدمون في سبتمبر 1968 ببغداد، غير آسفة تحصدهم المشانق والبنادق.

إنها صدمة ما بعدها صدمة، إذ أفقدت الموساد الثقة بأن رجالها أذكى رجال المخابرات في العالم، وتأكد لها بما لا يدع مجالاً للشك، أن هناك في العراق، وفي سائر الوطن العربي، رجال أشد ذكاء وضراوة وخبرة، بما يؤكد استمرار حروب الجاسوسية والمخابرات بين العرب وإسرائيل، حروب شعواء ينتصر فيها الأقوى، والأمهر، والأذكى، والأشرس، ويندحر فيها المريض الضعيف !!

عمار الحرازي08-02-2010, 12:49 AM

خان عشيقته اليهودية فاوشت به للشرطة العراقية

عيزرا خزام ـ وهدم المعبد

كيف طوع الدكتور عيزرا جسد حبيبته لخدمة الجاسوسية؟

توقف ذات نهار بسيارته في إحدى إشارات المرور ... وبينما ينتظر الإشارة الخضراء... لمح فتاة ساحرة تفوق الآلهة عشتروت جمالاً... فطاردها بإصرار صياد لا يهمد ... ولو أنه كان يعلم وقتها أن حياته مرهونة بنبضات المشاعر... لما سمح لقلبه أن يهوى .. أو تخفق جوانحه.

ذلك أن الصدفة العابرة – أحياناً – قد ترسم مصير إنسان... فتقوده ربما إلى حياة هانئة منعشة... أو تقذف به إلى حالك الظلام والنهاية المفجعة... !!

قراءة الأبعاد

قديماً قالوا "الحب يصنع المعجزات"، وفي هذا القول حقيقة تنطبق على أبطال هذه القصة. ففي حي الكاظمية ببغداد ولد عيزرا خزام عام 1924 لأسرة ثرية تعمل بتجارة الذهب والمشغولات الثمينة. ونشأ منذ طفولته نشأة يهودية تقليدية، منكباً على كتبه الدراسية بعيداً عن مهاترات الشباب وطيشهم، إلى أن التحق بكلية الطب في بغداد وتخرج منها عام 1953، ليعمل طبيباً بالمستشفى المركزي، مرتقياً السلم الوظيفي والمهني سريعاً نظراً لمهارته الفائقة في عمله.

وفي المستشفى تقابل مع إحدى الممرضات اليهوديات وتدعى "جنة" التي تسلمت عملها حديثاً، فانبهر بجمالها الفتان وأنوثتها الفتاكة، وغرق في حبها دون أن يدري... أو يقاوم. ففي ذلك الوقت، كانت ضغوط أسرته ليتزوج تزداد يوماً بعد يوم... واختار له والده ابنة تاجر يهودي ثري، رآها عيزرا عدة مرات في المناسبات الدينية والعائلية، لكنها لم تترك لديه أثراً يدعوه ليقترب اليها. فصارح والده بمشاعره تجاه ابنة صديقه، وانشغل بعمله وبحبه لممرضته الحسناء.

وحدث ذات مرة أن تجرأ وأعلمها بحبه، فاستنكرت ذلك منه للفروق الشاسعة بينهما، فهي ابنة يهودي فقير، يمتهن النحت والنقش على النحاس، ولا قبل لأسرتها به. لكنه تناسى كل الفروق غير عابئ بفقرها، فهي غنية بالجمال الوفير... وهذا يكفيه.

استجابت جنة لعواطفه، وانقادت هي الأخرى تجاهه، مانحة إياه مشاعرها وقلبها عن قناعة. لكنه حبه لها كان أضعاف ما تكنه هي من حب. لذلك كان شديد الغيرة، يطاردها في ردهات المستشفى، وفي كل مكان. ولما صارحته بأنها لم تعد تطيق تصرفاته، عرض عليها الزواج في أسرع وقت، فرفضت بإصرار دون أن توضح لذلك سبباً.

تحير الدكتور عيزرا في أمر حبيبته، وساورته الشكوك والريب، لكنها قطعت عليه الطريق، واعترفت له بأنها قررت ألا تتزوج في بغداد مهما امتد بها العمر، إذ هي تحلم بالحياة في إسرائيل، والزواج هناك بمن يحبها، ويريدها.

أسقط في يده، ولم يسعفه عقله ليقول أي شيء. فلما طال صمته، همت بالانصراف، لكنه جذبها بشدة وبعينيه شعاعات من تحد، وقال إنه يوافق على زواجها في بغداد ثم يسعيان معاً بعد ذلك للهرب إلى إسرائيل. رفضت جنة ما أبداه من رأي .. ذلك لأن أسرته لن توافق على زواجهما، وبالتالي سيخسر الكثير وهو الذي اعتاد الحياة الناعمة بما يغدقه عليه والده من أموال.

وتمر الأيام وحبيبته في تبدل مستمر تجاهه، فيفطر قلبه، ويسير كطفل رضيع يسعى لحضن أمه الدافئ، يتلمس بين أحضانها الأمن والحنان. فكانت ترقب حبه الطاغي لها في تدلل، حريصة على ألا تمنحه ولو جرعة قليلة من أمل في زواجهما ببغداد.

لقد بدد إصرارها على الهجرة أمنه، وأحال ليله إلى كابوس مقيم خوفاً من صدمة اختفائها المفاجئ. لذلك أسرع بتأجير شقة جديدة بشارع السعدون كعيادة، ورجاها أن تقبل العمل معه لتكون بقربه طوال اليوم، فوافقت واثقة من شدة تعلقه بها، وكانت تمضر له أمراً.

لقد تحينت الوقت المناسب، وصارحته بأنها تعمل لصالح الموساد الإسرائيلي منذ مضي العام، وتنتظر انتهاء المهام المكلفة بها ليتحقق حلمها بالهجرة.

هزه الأمر وبعثر عقله، واضطربت له قسمات وجهه وحياته كلها، ولأنه يحبها لدرجة الجنون، لم يشأ أن يرفض مسلكها فيخسرها. لحظتئذ.. عانقته في امتنان، وأذاقته قبلة كالبركان أذهبت بإرادته، فكبلته معها بسلاسل من إثارة أنثوية فضحت ضعفه وخضوعه.

وبعد مرور عدة أيام – كانت أثناءها تختلي به كثيراً لتمنحه المزيد – طلبت منه أن يستقبل رئيسها في "العمل". ومثله ... مغيب العقل والإرادة، لم يستطيع أن يرفض هذا الأمر.

وفي اللقاء الأول بينهما، شرح له العميل الإسرائيلي الكثير عن معاناة السواد الأعظم من اليهود في العراق، ورغبة الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة في العمل على تهجير أكبر عدد منهم، إشفاقاً لحالهم أولاً، ولحاجة الدولة اليهودية إليهم ثانياً.

هكذا تم اللقاء بينهما في هدوء... ولم يغادر "الرئيس" العيادة إلا وأقنع الدكتور عيزرا، بضرورة الانضمام للمنظمة السرية الصهيونية، التي تنتشر فروعها في كل العراق.

لقد كان للحب أثره العجيب... إذ رحب الدكتور عيزرا بالعمل مع المنظمة، واتخاذ عيادته مقراً للقاءات السرية، بعيداً عن أعين رجال المخابرات، الذين ينقبون عن الخونة في كل مكان.

يا الهي ... ماذا فعل العراق بهؤلاء لينتقموا منه هكذا؟ جيوش من الخونة تفتك بأمنه، ويعملون فيه مباضعهم بلا رحمة، كأنهم رضعوا الخيانة متوارثة في جذورهم البعيدة المتوغلة في التاريخ السحيق.

باع الدكتور عيزرا وطنه بخساً للصهيونية، وكأنه ما ولد وعاش وتعلم على أرضه، وشرب من مائه، وتنسم هواءه. وأخضع لدورة تدريبية على أعمال التجسس، بواسطة ضابط إسرائيلي تسلل خصيصاً عبر شط العرب لتدريبه، ثم سافر إلى البصرة للحصول على دورة أخرى في استعمال جهاز اللاسلكي، ورجع إلى بغداد يحمل حقيبته الطبية، بداخلها الجهاز الثمين.

لقد اشتد إيمانه – كيهودي – بمهمته، وتعاظم حبه لإسرائيل متوازياً مع حب جنة، قانعاً بضرورة الهجرة اليهودية لتشتد الدولة، وتقوى أمام الجبروت العربي والجيوش التي تتسلح سراً لتدميرها.

ثم انقلب اهتمامه بقضية التهجير، إلى البحث في خبايا القوة العسكرية العراقية. هذا الأمر شغله تماماً واستحوذ على تفكيره. فقد كان يرى أن لديه قدرات هائلة، للعمل في مجال الأسرار العسكرية، التي تتنامى في الخفاء. أما مسألة التهجير فبإمكان آخرين أقل حرفية منه القيام بها.

كانت حبيبته وعشيقته جنة توافقه في رأيه، وتؤيده، وتدفعه دفعاً بغريزة الخيانة التي ولد بها اليهود، فأقنعته بضرورة استخدام جسدها معبراً للوصول إلى معرفة نوايا العراقيين، وخطط التسليح التي يضعونها للجيش، بالسيطرة على أعصاب عدد من الضباط، يتم الإيقاع بهم في حبائلها.

إن تعدد الانقلابات العسكرية للوصول إلى الحكم، منذ الإطاحة بالملكية عام 1958، جعل من الجيش العراقي لغزاً يصعب التكهن به. فكل رئيس جديد – وهو عسكري بالطبع – له بعده السياسي وقراءته الخاصة لخريطة الجيش وتضاريسها. ولقصر مدد الحكم، أصبح من العسير وضع رؤية محددة تترجم السياسات والنوايا. فالعراق يأتي في المرتبة الثانية بعد سوريا، في عدد مرات الانقلابات التي وقعت منذ استقلاله، حتى وصول صدام حسين إلى الحكم.

من هنا، ولهذه الأسباب، انشغل الدكتور عيزرا بأسرار السياسة والجيش في العراق، بعدما تبين له أن هناك دلائل قوية، تشير إلى مساع جادة لتسليح الجيش بأحدث الأسلحة السوفييتية، لمساندة دول المواجهة في صراعها ضد إسرائيل من جهة، وللوقوف ضد أطماع إيران من جهة أخرى.

فسياسة التخويف التي اتبعها الشاهنشاه محمد رضا بهلوي في المنطقة، كانت سبباً مهماً للبحث عن مصادر السلاح، وتدريب الجيش، ورفع درجة كفاءته واستعداده وتأهبه.

فكيف طوع الدكتور عيزرا جسد حبيبته لخدمة الجاسوسية؟.

ثور آشور

البداية كانت بطريق الصدفة البحتة، عندما لاحظت جنة نظرات ذات مغزى تفهمها الأنثى، لأحد المترددين على مكتب المحامي المواجه للعيادة. فلم تعر الأمر انتباهاً في البداية، لكن بعدما شاهدت الشخص نفسه بعد عدة أيام، وهو يرتدي البزة العسكرية برتبة عقيد، رمقته بسهم من لحاظها فأردته قتيلاً، وفوجئت به يدلف إلى العيادة كالمنوم التائه، يطلب منها مستأذناً استعمال التليفون. كانت حجة واهية تفضحها نبرات صوته ونظراته العطشى، زادتها ثقة في مواهبها، وطغيان أنوثتها.

ولأنه صيد ثمين لا يقاوم، تعاملت معه برقة متناهية، مبدية إعجابها بزيه العسكري المهندم. فأذكت غروره، وأيقظت لديه روح المغامرة، والشوق إلى العشق واندفاعات الشباب، فداوم على الاتصال بها تليفونياً يسمعها كلمات الإطراء، بينما هي تصده في دلال جاذب ساحر.

أطلعت عيزرا على ما تنويه للإيقاع بالعقيد عبد الجبار، فوافقها معرباً عن سعادته بإخلاصها للعمل، ورسما معاً خطة اصطياده المحكمة.

أعدت إحدى حجرات العيادة إعداداً جيداً، حيث زودت بأحدث كاميرات التصوير والأجهزة اللاقطة للصوت، ولما اتصل بها عبد الجبار ذات مساء أنبأته أنها بمفردها بالعيادة لسفر الطبيب. ابتلع الضابط الطعم، وعرض عليها أن يتناولا العشاء سوياً فأجابته باستحالة ذلك لأنها تنتظر مكالمة هامة من الدكتور عيزرا ... حينئذ عرض عليها أن يحمل العشاء إلى العيادة ليتناولاه معاً، فرحبت بعد تمنع خبيث، وهكذا ذهب برجليه إلى النهاية.

فبعد العشاء سحبته إلى الحجرة "الملغمة"، واكتشفت أن العقيد الفارع الطول، ذو الوجه العسكري الصارم والشارب الكث، يعاني ضعف رجولته، إلا أن العميلة المحنكة، أشعرته بأنه فحل من فحول "نينوى" ، وثور من ثيران "آشور" القديمة. فأقبل عليها نهماً كالجائع المجوع، لا يمل مذاقها أبداً ولا يشبع.

ولأنه يعرف "قدر" نفسه جيداً، أراد تعويض هشاشة رجولته بالظهور بمظهر الضابط الكفء، لذلك استجاب لتساؤلاتها، متباهياً بأهميته وعلمه بأمور الجيش وأسراره، تندفع منه المعلومات العسكرية كالشلال المحبوس، لا شيء يصده، أو يمنعه، للدرجة التي جعلت عيزرا يستغيث برؤسائه في "عبادان"، أن يبعثوا بمن يتسلم عشرات التقارير الغاية في الأهمية، والتي لا يستطيع اختزالها وبثها لاسلكياً.

لقد تحول العقيد عبد الجبار لكلب طيع أليف، أوهمته جنة بفحولته فعوضها بأدق الأسرار العسكرية، وحمل إليها خرائط تفصيلية لقواعد الصواريخ، والدفاع الجوي والمطارات، ليستعين بها في شروحه. فكانت تبدو متغابية أمامه ليسترسل أكثر في فضح ما برأسه من خبايا الجيش، وتتضاعف بذلك أشرطة التسجيل والأفلام التي تحمل إلى إيران، ثم تنقل فوراً إسرائيل. .

اتسعت عضوية شبكة الدكتور عيزرا، بفضل جسد الحبيبة المثير، لتشمل فئات أخرى عديدة في المجتمع الراقي ببغداد.

خمس سنوات كاملة اكتسب خلالها الطبيب اليهودي خبرات واسعة في فنون التجسس، وكيفية تجنيد العملاء والسيطرة عليهم، ملتزماً بالحس الأمني العالي، والسرية المطلقة لتحركاته. فتعدى نشاطه التجسسي نطاق الجيش، والتسليح، وانشغل بكل ما يخدم مصالح إلى في العراق.

وبفضل علاقاته وتشعب مهامه، أمكن له تهريب أكثر من مائتي يهودي عبر "الفاو" و "شط العرب" ميناء عبادان، وتسريب تقارير اقتصادية وعسكرية لإلى لا تقدر بثمن، فأغدقت عليه مخابراتها بالمال الوفير الذي ينفق منه بسخاء على أعوانه، ويتشري به ذمم الضعفاء في كل موقع يريد اقتحام أسراره.

هكذا استمر عيزرا يعمل في الخفاء، ملتزماً بمبادئه كيهودي يعمل لصالح وطنه الجديد، مشجعاً لحبيبته في استدراج ضعاف النفوس إلى فراشها، حيث تنزف الرجولة وتنسل مع غياب العقل كافة الأسرار سهلة بلا ضوابط.

لقد سخر نفسه ووقته وحياته للجاسوسية، ونسى في خضم التزاحم أمر الحب والغرام، على العكس من "جنة" التي التصقت به، ولم تنسى للحظة أن هناك اتفاقاً بينهما على الزواج في تل أبيب.

كانت تحس أحياناً كثيرة بأن آمالها مجرد سراب كاذب. فبعد سنوات في الجاسوسية، لا شيء يتحقق، ولا أحد يحس بمعاناة خوفها. فالعمر يجري وتذبل فيه أوراق الشباب، وتنطفئ رويداً .. رويداً... أغاريد الجمال وروعة الأنوثة.

تساءلت كثيراً: ما النهاية... ؟ ما المصير ... ؟ وهل تحدث معجزة ويتحول الوهم إلى واقع؟

الشهور والسنوات الطويلة في انتظار الأمل أرهقتها، ودمرت بداخلها البهجة، وقطعت حبال الصبر والثقة، وزعزعت إيمانها بالعمل الذي "كان" مقدساً، إذ تملكها إحساس مقيت بأنها مجردة داعرة حقيرة، تخلع ثيابها تلقائياً لكل عابر في سبيل ماذا؟

إلى ؟

وهل يحس من تعمل لصالحهم بمعاناتها.. ؟ بامتهانها لذاتها...؟ بجسدها الرخيص المنهك... ؟ بالقرف الذي يصيبها بالغثيان وهي تشم رائحة الأفواه النتنة، والعرق اللزج المتعفن الذي يزيد التصاق الأجساد العارية كل ليلة؟...

أعداد من البشر لا تستطيع حصرها، من كل لون وحجم، هتكوا ستر أنوثتها، وذبحوها ضحية لأمزجتهم الشاذة.

كل ذلك من أجل من؟ الأمل المنتظر بعيد المنال؟ عيزرا الحبيب ابتعد هو الآخر. لم تعد تشغله أو تثيره كما كانت من قبل... فقد فترت غيرته ورغبته فيها، ولم تعد تمثل لديه أي شيء. فقط .. تحولت في حياته إلى مجرد "معاونة" تساعده في خدمة الموساد، وامرأة تستجيب له بلا تمنع كلما أرادها... ونادراً ما كان يفكر بذلك طوال الفترة الأخيرة.

... قتامة بشعة عششت بأفقها، وطحنتها رحى الفكر بعدما أضحت هشيم امرأة تتعذب، تتشقق ألماً، لكنها آمنت بألا تخسره.

حساباتها المعقدة أوصلتها إلى تلك النتيجة، فتمنت أن يرجع لها الحبيب، العاشق، الغيور، وأن يعاود عرض رغبته بالزواج لو فعلها ونطق... لوافقت في الحال، لقبلت يديه ورأسه وقدميه فرحة مطمئنة. لكن ... هل ينطقها بعد سنوات من الصمت؟ إذن .. فلتحاول هي، فلا زالت تملك قدراً من جاذبية، وسحر، بل هي تملك ينابيع من حنان... كان عليها أن تهدأ قليلاً لكي تستعيد توازنها، وتتكلم معه، فتستريح.

لكن .. يا لسخرية القدر، فعندما تتعارض الرغبات وتتصادم الأماني، فالخسائر عندئذ بالقطع فادحة، والنتائج، قد تكون مهلكة ... !!

هدم المعبد

حوادث بسيطة قد تمر بحياتنا، لكن لا أحد يتصور أنها قد تجرفنا إلى طريق آخر، ربما نجد فيه سعادتنا، أو ينتهي بنا إلى كارثة لا نتوقعها.

بديهيات فشل الفيلسوف فردريك نيتشه في تعرية مشاعره والتسليم بها، إذ أضاع عمره كله مؤمناً بفلسفة "القوة"، والدعوة لمجتمع "السوبر مان"، بمعنى أن تعمل الحكومات على التخلص من الضعفاء والمرضى، وتبقى فقط على الأقوياء الأصحاء لكي ترتقي وتزدهر. فالضعفاء يستهلكون جهد الأقوياء، ووقتهم، وفي هذا استنزاف لثروات المجتمع.

وعندما كان في زيارة لشمال إيطاليا، رأى حوذياً يضرب حصانه بلا هوادة لأنه عجز عن جر العربة في طريق صاعد. فأشفق نيتشه على الحصان، وأسرع بدفع العربة مع المارة، صاباً جام غضبه على الحوذى غليظ القلب، ثم اكتشف فجأة فداحة خطئه، فندم ندماً شديداً، وتراجع عن فلسفته التي أذهبت بعقله.. وقتلته.

أما الدكتور عيزرا خزام، فلم يكن يشك للحظة أن "جنة" التي تعشقه لدرجة العبادة قد تسعى لتدميره، وقتله. لذلك .. استعذب تلهفها عليه وتذللها له.. وفي أعماقه كان يغمره انتشاء محبب كلما رآها خاضعة مستسلمة ... خائرة أمام حبها... وخوفها من ذلك المجهول المتوثب المنذر بالخطر.

كان طوال خمس سنوات قد مل مذاقها، وأصبح هاجسه الأكبر هو السعي بإخلاص لخدمة إسرائيل. لهذا .. نبذ حبه القديم منذ اقتحم عالم الجاسوسية، وخطا فيه خطوات تفوق ما كان يعتقد في نفسه، وقدراته. إلا أن حادثاً عابراً بدل فجأة كل شيء، وعجل بالنهاية.

لقد توقف ذات نهار بسيارته في إحدى إشارات المرور ببغداد، وبينما ينتظر الإشارة الخضراء، لمح فتاة ساحرة تعبر الشارع، كانت قسماتها تفوق الآلهة "عشتروت" جمالاً، خطواتها الرشيقة كظبي، يحجل طرباً فيزداد حسناً. فتسمر مكانه يتابعها بنظريه منجذباً، وطاردها من بعدها بإصرار صياد لا يهمد.

كانت الفتاة قبطية تدعى "زهيرة"، صبية في ريعان شبابها، غضة بضة، تسلب العقل والفؤاد. تقدم الدكتور عيزرا لخطبتها باذلاً أمواله لاسترضاء أهلها، مستعداً للتخلي عن يهوديته فور إعلان الموافقة.

أحست جنة بنفوره منها، برغم مشاعر الحب الفياضة التي تغدقها عليه، وبحاستها الأنثوية أدركت بأن هناك امرأة. وبدأت رحلة البحث عنها حتى وقفت على الحقيقة المرة، فصعقتها الصدمة، وزلزلت ما بقي عندها من أمل ضعيف. ولما طالبته بأن يقطع علاقته بزهيرة ويتزوجها، سخر منها قائلاً:

Ø المرأة التي اعتادت كل الرجال يشق عليها أن تكتفي برجل واحد.

صرخت في حدة:

Ø عيزرا ... ماذا تقول؟ أنت تعرف بالقطع أنه "عملي"... وليس حباً في الرجال.

قال فيما يشبه التهكم:

Ø نعم ... أعرف ذلك... وأعرف أيضاً أن "عملك" انقلب إلى "هوس" ما له من علاج.

صارخة وقد تحشرج صوتها:

Ø هوس؟ أتسمي ما يحدث بيننا هوساً.. ؟

Ø جنة...

تقاطعه:

Ø خمس سنوات وأنا أمنحك نفسي... أتظنني "مريضة" لا حل لي؟ ... ماذا.

قال في حدة:

Ø جنة ... أرجوكي ...

Ø ألأني أحبك أكثر من نفسي ... وأعمل كل ما يرضيك ويسعدك توصمني بالشذوذ؟

إذن ... ماذا كنت تظنني أفعل مع طوابير أتباعك وزبائنك؟ أأكون الداعرة المهذبة؟ هم يرونني مهووسة .. فكنت أفتعل ولا أنفعل ... كنت أمنح ولا أُمنح... أنت بنفسك طلبت مني مرات ومرات أن "أُمثل" جميع الأدوار .. أنسيت ذلك ... ؟ أم أنك زهدت فيّ؟

Ø حببتك يوماً ما وطلبتك للزواج فتمنعت.

Ø "يوماً ما" ؟ أكنت تكرهني طوال السنوات الفائتة؟ لماذا إذن كنت تعاشرني حتى شهر مضى؟

Ø كفى ... كفى ... جنة ...

Ø لا ... أريد أن أعرف يا عيزرا .. أرجوك، لا تخجل من مصارحتي .. أرجوك قلها لأستريح.

Ø لا وقت للحديث الآن .. وراءنا عمل ينتظرنا...

Ø عيزرا ... سأنسى كل ما قلته الآن .. لكن، عاهدني أن تكون لي .. ستجدني خادمة لك ... أنا أحبك فلا تذبحني بسكين بارد أكثر من ذلك...

Ø جنة . قلت لك كفى الآن . فما عساك تريدين؟

Ø نعم يا عيزرا ... هذا يكفي، لكن عليك أن تعلم أنني متعبة وبحاجة للراحة بالمنزل، فلا تطالبني بأي عمل الآن على الأقل.

ومصدومة، محطمة، منكسرة، لملمت بقاياها، وذهبت إلى السلطات تطلب السماح لها بالسفر إلى إيران للعلاج ، وبعرضها على القومسيون الطبي، تبين أنها سليمة من الأمراض التي تستدعي السفر إلى الخارج.

لزمت جنة بيتها في محاولة "لتجميع" ذاتها المهرئة، إلى أن حدثت كارثة يناير 1966، عندما ألقي القبض على "زالة" العميلة اليهودية، أثناء اقتحامها مقر شركة الإنشاءات ليلاً.

لقد اعترفت "زالة" بحداثتها في عالم الجاسوسية، وبأن شريكها الذي مات بالسكتة القلبية في الشارع لحظة القبض عليه، هو رئيسها المسؤول عنها "ضابط الحالة". وأن التكليفات تجيء من عبادان لباقي أعضاء الشبكة الذين لا تعرفهم.

ومع إعادة التحقيق معها عدة مرات، أوضحت بأن هناك طبيباً يهودياً لا تعرف اسمه الحقيقي كان يأوي رئيسها الذي مات.

قامت أجهزة الأمن باعتقال عدد كبير من الأطباء اليهود المشكوك في تصرفاتهم وولائهم، ووضعتهم رهن التحقيق والاستجواب. وكان من بينهم الدكتور عيزرا خزام.

ولما علمت جنة بأمر اعتقال عيزرا، سيطر عليها الرعب والهلع، وفكرت في نهايتها إذا ما اعترف، وباتت تنتظر كل لحظة طرقات رجال الأمن على بابها. فانضوت هلوعة، ذابلة، زائغة البصر.

وبينما تقلب الصحف بحثاً عن أخبار تهمها، قرأت تصريحاً لمسؤول كبير تعهد بمكافأة سخية لكل من يدلي بأية معلومات، تؤدي للقبض على جاسوس، وحماية أي عراقي يبلغ عن تورطه في أعمال جاسوسية، مهما كان حجمها.

قامت جنة على الفور وبدلت ملابسها، ثم غادرت منزلها إلى وزارة الداخلية، وطلبت مقابلة المسؤول الكبير لأمر هام فسمح لها ... وأحست بصدق نبرته وهو يعيد تأكيد ما صرح به للصحف، فاعترفت تفصيلياً بأمر الدكتور عيزرا، وقصتها مع الخيانة.

هكذا كشفت كل الأسرار والخبايا، وهدمت المعبد على من فيه، إذ ألقي القبض على اثنى عشر جاسوساً في شبكة عيزرا وتكشفت حقائق مذهلة عن تورط العديد من اليهود العراقيين، وانخراطهم في عمليات تجسس ليس بنية العمل على تهجير اليهود فحسب، إنما طالت الأسرار العسكرية وكل نواحي الجيش في العراق.

وكانت وقائع المحاكمة عجيبة... والأحكام التي صدرت أعجب... فقد صدر الحكم بإعدام الدكتور عيزرا وعبد الجبار رمياً بالرصاص، والشنق والحبس للباقين الأحد عشر... أما جنة المصدومة ، فقد حكم عليها رأفة بالسجن خمسة أعوام.

أما زهيرة، فقد عادت من جديد تجوب شوارع بغداد كغزال شارد، تطاردها الأعين الجائعة، فلا تلتفت أو تنصت، خوفاً من الوقوع في غرام جاسوس... آخر .. !!

عمار الحرازي08-02-2010, 01:04 AM

الجاسوسة الأردنية أمينة المفتي

في إحدى ضواحي عمان الراقية، ولدت أمينة داود المفتي عام 1939 لأسرة شركسية مسلمة، هاجرت الى الأردن منذ سنوات طويلة، وتبوأت مراكز سياسية واجتماعية عالية. فوالدها تاجر مجوهرات ثري، وعمها برتبة لواء في البلاط الملكي. أما أمها، فهي سيدة مثقفة تجيد أربع لغات، وذات علاقات قوية بسيدات المجتمع الراقي. كانت أمينة أصغر أخواتها – شقيقتان متزوجتان وثلاثة أشقاء آخرين – وتحظى بالدلال منذ طفولتها، فطلباتها كانت لا ترد أو تؤجل، وضحكاتها المرحة الساحرة كانت وشوشات الحبور في جنبات البيت الذي يشبه القصر.

وفي المرحلة الثانوية أوغلت فيها مظاهر الأنوثة، فبدت رقيقة الملامح، عذبة، شهية، طموحة، ذكية. لكنها كانت برغم تقاليد أسرتها المحافظة، تسخر من تقاليد الشرق وقيوده، وتحلم بالحب والانطلاق، والحرية.

وفي ثورة تقلباتها أحبت "بسام" الفلسطيني الأصل، وأطلقت تجاهه فيضانات المشاعر المتدفقة بلا حدود، أو انقطاع. لكنها صدمت بشدة عندما هجرها الى أخرى أجمل منها، وأكثر اتزاناً، وكتب لها يقول أنها أنانية، مغرورة، سريعة الغضب، شرسة الطباع. هكذا كشف لها الحبيب عن مساوئ تنشئتها، وأسلوبها الخاطئ في فهم الحياة. لأن حبها كان قوياً، جباراً، عاتياً، عصفت بها الصدمة، وزلزلت قلبها الصغير، وتملكتها رغبة مجنونة في الثأر والانتقام.

وكانت لكل تلك التصارعات آثارها السلبية على دراستها، إذ حصلت على الثانوية العامة بدرجات متوسطة، دفعتها للتفكير في السفر الى أوروبا للالتحاق بإحدى جامعاتها، وهذا تقليد متبع بين أبناء الأثرياء في الأردن.

وفي عام 1957 التحقت بجامعة فيينا، وأقامت بالمنزل رقم 56 شارع يوهان شتراوس لعدة أسابيع، قبلما يفتح القسم الداخلي أبوابه لإقامة الطالبات المغتربات.

لقد أسبغت الحياة الجديدة على أمينة سعادة غامرة، ودفئاً من نوع آخر وقد جمعتها الحجرة بطالبة مرحة في نهائي الطب – وتدعى جولي باتريك - من جوهانسبرج، ذات خبرة كبيرة بالحياة الاوروبية. وفي متنزهات المدينة الساحرة، والحرية اللانهائية لفتاة من الشرق، علمتها جولي التدخين، وحذرتها من العلاقات الجنسية مع الشباب حيث الحمل والاجهاض، وحببت اليها أسلوباً جنسياً خاصاً بالنساء، يرتقى بالمتعة الى ذروة الانتشاء، والأمان، فأقبلت أمينة على التساحق مع الفتاة الخبيرة بالشذوذ، وشيئاً فشيئاً أدمنت الفعل الخبيث حتى الثمالة، فقد رأت فيه انطلاقتها وتحررها من قيود الشرق، والخجل.

ومع انتهاء العام الدراسي الأول، وعودة جولي الى وطنها، افتقدت أمينة لسعات الخدر الجميل، فتقربت من فتاة أخرى تدعى جينفيف ووترود، وسعت لإدارة الدار لكي تشاركها الحجرة الواحدة، والشذوذ الذي تزداد جرعاته العطشى يوماً بعد يوم.

هكذا مرت سنوات الدراسة بجامعة فيينا، تصطخب بالرغبة والتحرر الى أن تحصل أمينة على بكالوريوس علم النفس الطبي MEDICAL PSYSHOLOGY وتعود في أغسطس 1961 الى عمان مكرهة، تضج بالمعاندة والنفور، وتحمل بداخلها طبائع أخرى، وأحاسيس مختلفة، وآلام الهجرة الى القيود والرقابة.

وفي غمرة معاناتها وكآبتها، تذكرت حبيبها الأول – بسام – فجابت عمان طولاً وعرضاً بحثاً عنه، وهزتها الحقيقة المرة عندما علمت بزواجه من فتاته الجميلة الفقيرة، وحاصرها السهوم والملل والحقد، ولم تجد حلاً لأزمتها إلا السفر ثانية الى النمسا، بدعوى استكمال دراستها العليا لنيل الدكتوراة، عازمة على ألا تعود الى الشرق أبداً.

آني موشيه

ثلاثة وعشرون عاماً ونيف هو عمر أمينة المفتي عندما عادت الى فيينا من جديد، تحمل قلباً ممزقاً، ووجهاً شاحباً، وكراهية لموروثاتها "العقيمة"، وجسداً أنهكه صمت رجفات النشوة، واصطكاكها.

لفحتها نسمات الحرية في أوروبا، وسلكت مسلك فتياتها في العمل والاعتماد على النفس، غير عابئة بما كان يرسله لها والدها من مصروف شهري. فعملت بروشة صغيرة للعب الأطفال، وساقت اليها الصدفة فتاة يهودية تدعى "سارة بيراد"، شاركتها العمل، والسكن، والشذوذ. فالتصقت بها أمينة، وسرعان ما انخرطت معها في تيار الهيبيز، الذي انتشرت أولى جماعاته في أوروبا في تلك الحقبة، متجاهلة رغبة أسرتها في تزويجها من ابن العم التاجر الثري. وفي زيارة لأسرة سارة في وستندورف، دق قلبها فجأة بقوة لم تستطع دفعها. إنها المرة الثانية التي يخالجها ذلك الشعور الرائع المشوق، فقد كان موشيه – شقيق سارة الأكبر – شاب لا يقاوم. إنه ساحر النظرات والكلام، حيوي الشباب رائق الطلعة.

 

كانت تعرف أنه طيار عسكري برتبة نقيب، يكبرها بنحو سبع سنوات تقريباً، شاعري، مهووس بموتسارت وبيزيه، ولوع بالشعر الأسود ونجلاوات الشرق.

وفي نزهة خلوية معه حاولت أمينة ألا تنحرف، لكنها ما كانت تتشبث إلا بالهواء، واستسلمت لأصابعه تتخلل شعرها، وتتحسس أصابعها المرتعشة، وتضغط ضغطاً ملهوفاً على مغاليق قوتها، فتنهار قواها، وترتج في عنف مع مذاقات أول قبلة من رجل، فأحست بروعة المذاق وقالت في نفسها:

وبين أحضانه الملتهبة، تأملت جسده العاري المشعر، وأسكرتها دفقات المتعة المتلاحقة، وغرقت من لذائذها في نهم وجوع، واشتياق.

حينئذ . . حينئذ فقط . . أفرغت كل مشاعرها بين يديه . وبصدق، وضعف، اعترفت له بحبها.

هكذا خطت أمينة المفتي خطوات الحرام مع الطيار اليهودي . . وهي المسلمة. وترنحت سكرى بلا وعي لتستقر في الحضيض . ولما أفاقت قليلاً . . هربت منه الى فيينا، يطاردها دنس الجسد، وغباء العقل، ورجفعة الرغبة.

وبمسكنها في شارع شتراوس حاولت أن تنسى، أن تغسل البدن المدنس بالخطايا، أن تمحو صورة أول رجل هتك ستر عفافها وأشعرها بفورة الأنثى، لكن مطارداته التليفونية لها كانت تسحق إرادتها، وتشتت عقلها الزائغ أمام جيوش عواطفه، فتخور صاغرة.

تعددت لقاءاتهما المحرمة وتحولت أمينة بين يديه الى امرأة لا تدخر وسعاً في إسعاده، وتغلبت على ضميرها قدر استطاعتها وهي تدعي لنفسها الحق في أن تعيش، وتحيا، وتجرب، وتمارس الحب بلا ندم في بلاد لا تعترف بالعذرية والعفاف.

هكذا مرت خمس سنوات في انحلال وترد، متناسية ما لأجله غادرت وطنها الى فيينا. وبعد جهد . . ساعدها موشيه في الحصول على شهادة دكتوراة مزورة في علم النفس المرضي – PATHOPYCHOLOGY – وهو فرع من علم النفس الطبي، وعادت أدراجها الى الأردن في سبتمبر 1966 ليستقبلها الأهل في حفاوة وفخر، ويطالبونها بإعلان موافقتها على الزواج من ابن عمها، لكنها تطلب منهم إمهالها حتى تفتتح مستشفاها الخاص في عمان.

 

وبينما إجراءات الترخيص للمستشفى تسير بشكلها العادي، وقع خلاف بينها وبين وكيل الوزارة المختص، فتشكوه الى وزير الصحة الذي أبدى اهتماماً بشكواها ويأمر بالتحقيق فيها على وجه السرعة. فتتشكك اللجنة القانونية في تصديقات الشهادة العلمية، وتطلب منها تصديقات جديدة من فيينا. وخوفاً من انكشاف التزوير وما يصاحب ذلك من فضيحة لها ولأسرتها، سافرت أمينة الى النمسا متخمة بالخوف، وبأعماقها غضب يفيض كراهية لبلدها.

هناك . . أسرعت الى موشيه يعاودها الحنين، غير عابئة بانكسار وطنها العربي بنكسة 1967، فكانت تعلن شماتتها بلا حرج أو خجل، إذ طفحت منها الكراهية لكل ما هو عربي، ولكل ما يمت للعرب بصلة.

وبين نتف الجليد المتساقطة في ديسمبر، كانا يعبران معاً جسراً خشبياً قديماً في المدينة، عندما استوقفها موشيه فجأة قائلاً:

Ø آمنة . . أتتزوجينني . . ؟

Ø دون أن تفكر أجابت وهي تحضنه في عنف:

Ø أوه موشيه الحبيب . . نحن زوجان يا عزيزي.

Ø أجابها بحسم ملاطفاً:

Ø أريده زواجاً رسمياً في المعبد.

وفي معبد شيمودت . . اعتنقت أمينة المفتى اليهودية ، وتزوجت من موشيه زواجاً محرماً شرعاً، واستبدلت اسمها بالاسم اليهودي الجديد "آني موشيه بيراد".

الحياة أفضل

عدة أشهر وأنا أرى العذاب والموت.. لا أرى أكثر منهما قرباً مني، وعندما أطلقوني ذات يوم بين بعض الأسرى ... اقترب مني أحدهم وبصوت مصري هامس، وبعينين تدوران في محجريهما خوفاً، كشف لي عن استسلام العديد من زملائنا بعدما أفضوا بما لديهم من أسرار عسكرية للمحققين، وانضمامهم لمنظمة "السلام الدولية" التي تضمن لهم عودة سالمة إلى مصر في أسرع وقت. ولاحظت فجأة أن أصابع يده البيضاء يكاد ينفجر منها الدم، ولا تبدو عليه مظاهر الهزال، بينما نحن نعاني الجفاف والوهن.

أيقنت حينئذ مائة بالمائة بأنه ضابط إسرائيلي يجيد العربية بطلاقة. فأوهمته بأنني أصدقه ولكن ليس عندي ما أقوله لهم... فأنا ضابط قادم لتوي من اليمن بعد عدة سنوات هناك... ولا أعرف بالضبط تشكيلات الجيش المصري .. أو عدد أفراده... أو تسليحه... أو حتى أسماء قادته بالكامل ... أو نظام التدريب الحديث الذي يطبق ... أو أماكن منصات الصواريخ أو المطارات السرية ومخازن الذخيرة.

قلت له ذلك ... وأنا أبدو صادقاً... لكنه لم يصدقني بالطبع فأنا بلا شك أعلم الكثير من خلال زملائي... وعندي معلومات قد تبدو تافهة لكن الاسرائيليين يعتمون بها جيداً.

بعدها تركني الضابط الإسرائيلي ليستدعيني المحقق في مساء ذات اليوم لتستقبلني فتاة إسرائيلية هادئة... وبالعربية حدثتني هي الأخرى قائلة: سيقتلونك الليلة لو لم تتعاون معهم. لقد سمعتهم يقررون ذلك.

كانت تحدثني في عطف بينما تسقيني أكواب العصير من دورق تحمله والخوف يسيطر عليها. قلت لها: هل أنت إسرائيلية؟. أجابتني لا ... إنني فلسطينية مسلمة واسمي "سهيلة" وأعمل ممرضة في المعسكر.

نصحتني بأن أصارحهم بما لدي لأنهم يعرفون كل شيء. ونظرت الي بإشفاق وهي تقول: هم وحوش لا تعرف الرحمة.

وتركتني مسرعة إلى حجرة أخرى وخطوات ثقيلة تقترب. وعندما جاء المحقق ومن خلفه جندي يحمل رشاشه... كنت أرتعد خوفاً، وتوقف لساني عن الكلام رعباً، وبعد تهديدي بكهربة عضوي الذكري قلت في نفسي إنني فقدت معنوياتي وكل شيء... لكنني لم أعد أملك إلا رجولتي... ساعتئذ اضطررت لأن أبوح ببعض ما لدي من معلومات... يريدونها مني مبدياً رغبتي في التعاون مع "منظمة السلام" من أجل منع الحرب بين إسرائيل والعرب.

عند ذلك فكوا قيودي وأودعوني حجرة مريحة، بلا كشافات إضاءة أو هواء ساخن أو ميكروفونات. ونقلوني إلى حجرة الطبيب الذي فحصني وحقني ببعض المقويات واستمروا في ملاحظتي طبياً مع الاهتمام بمأكلي ومشربي. واصطحبني جندي إسرائيلي لأول مرة إلى الحمام لأستحم بعد مائتي يوم فاحت أثناءها رائحة جسدي النتنة، وعهدوا بي إلى الحلاق، وألبسوني ثياباً جديدة نظيفة وانتقلت لمعسكر آخر جنوب بئر سبع اسمه "هازيريم" حيث أكدوا بكل الطرق أن بإمكانهم الوصول إلى في مصر في أي وقت.

لقد أسمعوني ما تفوهت به من سباب لمصر ولقيادتها، وفوجئت بصوري عارياً مع الإسرائيلية العارية فأحسست بالمهانة، وأشد ما آلمني هو تهديدي برسائل متفجرة تقضي على أسرتي وأقاربي، وأخذوني إلى "أشدود" ثم إلى "بات يام" جنوب تل أبيب وهناك رأيت ما لم أره في حياتي أو أحلامي، حياة أخرى في عالم ليس له وجود على سطح الأرض، عالم من السحر والخيال بلا حدود، وأحاطوني بفتيات تتفنن كل حسناء منهن في إمتاعي، وساقتني قدماي معهن بلا هدى أتذوق طعم حيوات أخرى، مفعمة بالصخب وبالمغريات... واللذائذ.. وسيطر علي هاجس غريب ترسب بعقلي، وهو أن الجنس مع إسرائيليات ليس بزنا...

وبعد حوالي الشهر أخذوني إلى منزل منعزل ... وشرعوا في تدريبي على استخدام الأحبار السرية والكربون السري الذي يفوق الأحبار، وتعلمت أيضاً استعمال الشفرة والاتصالات اللاسلكية وإطلاق النكت والشائعات الكاذبة، وكيفية جمع المعلومات العسكرية وأخبار التسليح ومخازن الأسلحة والتموين والذخيرة، وطلبوا مني أن أوافيهم بالمعلومات أولاً بأول على عنوان في بروكسل.

وفي نهاية الدورة التدريبية أكدوا على أن يدهم الطويلة لن تتركني أبداً أو تترك عائلتي... إذا ما أبلغت الجهات المختصة في مصر بأمر انضمامي إلى منظمة السلام.

واستمرت تهديداتهم لي حتى وأنا في طريقي إلى مصر مع مندوب الصليب الأحمر الدولي. حيث لم أصدق أبداً أنني قد أعود إلى مصر في يوم من الأيام. لكني أيقنت أنني على أرض الوطن أخيراً... حينما وجدتني أتمرغ بين أحضان أهلي وزوجتي وأصحابي.

ولعدة أسابيع كنت أحس بالغربة... وبوطأة الحمل الثقيل على كاهلي، ورغبة عارمة في البقاء تجتاحني فأكاد أصرخ محتجاً على وصفي بالبطل، ففي قرارة نفسي يقبع ذنب جبار يزمجر في عنف ويتضخم ... ويلتصق بجدران شراييني هاجس مؤلم يتعاظم يذكرني بأنني مجرم أثم لا أستحق الحياة.. وفي مكتب ضابط المخابرات العسكرية المصرية.. رفضت أن أصارحه بما صار اليه حالي، رفضت أن أبوح اليه بجرمي فكان سيغفر لي ويعذرني... إنه لم يلمح بذلك بل قالها صراحة دون لبس. إلا أنني كنت في ذعر مما سيصيب عائلتي وزوجتي الحبيبة التي جاءتني بطفل أسمته "بطل" وعلى مدى ساعة ونصف الساعة اعترفت بكل ما جرى لي، ما عدا انضمامي "لمنظمة السلام" إلى أن قبضت علي المخابرات العسكرية، وقدمتني للمحاكمة بتهمة التجسس.

 

لا وجه للمقارنة

كانت هذه اعترافات الملازم أول عبد الفتاح.. الضابط الأسير الذي عاد مقهوراً محطماً من أسره في إسرائيل. اعترافات يستعين بها الخبراء العسكريين وعلماء علم النفس والسلوك، لاستنباط نوازع مختلفة داخل العقل الانساني، وصراعات لا ترحم تدور بداخل الأسير، الذي افتقد أبسط مبادئ الأمان في الأسر، فسقط في وكر الجاسوسية خائراً واهناً مكرهاً ومضطراً، تلسعه صراخات الخوف من الموت على أيدي شرذمة من ذئاب... يرتجف بدنه لهفة لبريق من أمل يلوح من بعيد.. أمل ضعيف في الفوز بكسرة خبز .. أو رشفة ماء.

لقد أكدت تحقيقات المحكمة العسكرية أن الملازم أول عبد الفتاح عبد العزيز عوض، عاد من إسرائيل بعدما أجريت له عمليات "غسيل مخ" هناك... وضبط وهو "يحاول" جمع معلومات عسكرية "ينوي" إرسالها إلى المخابرات الاسرائيلية، سطرها ضمن رسالة مشفرة، وحكمت المحكمة على الضابط الاحتياطي بالأشغال الشاقة المؤبدة. ولم تحكم بإعدامه رأفة بظروف أسره ورحمة به... لأن تجسسه ليس نابعاً من ذاته بل هو اضطرار مغلوب وجواب أسير مكبل.

وأنا أرى أن هذا الحكم – قياساً بحالات أخرى – حكماً قاسياً... لأن الضابط المتهم لم يمارس التجسس بشكله المعروف، خلافاً لأزمته النفسية من جراء الأهوال التي مر بها.

فالجاسوس "أمين محمود محمد" المجند بالقوات المسلحة، والذي جنده شقيقه السيد (*) حكم عليه بالسجن "15" عاماً فقط في أكتوبر 1974... برغم أنه سرب معلومات هامة إلى إسرائيل عن وحدته بالجيش.

والجاسوس "محمد عمر حمودة" الذي سلم نفسه للقنصلية الإسرائيلية في استنبول، و "بهجت حمدان" الذي دربته الموساد لعدة سنوات على فن الجاسوسية، والجاسوس السكندري "السيد محمود" الذي تحالف مع الشيطان من أجل المال، والجواسيس: "جمال حسنين" ، و "فايز عبد الله"، و "عبد الحميد اللباد"، و "نبيل النحاس" ، و "مؤيد عثمان"، و "عماد إسماعيل"، و "عبد الملك"جاسوس المنصورة.

كل هؤلاء الجواسيس الخونة والعشرات غيرهم الذين تعاملوا مع المخابرات الإسرائيلية عن قناعة من أجل مطامع لهم في مال أو غرائز، أدينوا جميعاً بالأشغال الشاقة المؤبدة. وليس هناك وجه مقارنة بينهم وبين الضابط الأسير عبد الفتاح عوض، الذي عاد من أسره غارقاً في القهر والمذلة، بينما هم جميعاً كانوا غرقى بين أثداء الحسان، يرشفون اللذائذ ويفترشون الجمال... !!

عمار الحرازي08-02-2010, 01:44 AM

لماذا أنقذها السادات من الإعدام.؟

انشراح موسى ـ الجاسوسة التي ضاجعت مسؤول الموساد في تل أبيب

حب الجواسيس كحب الأفاعي .. مدمر وعجيب.

فالجاسوس عندما يعشق امرأة يبث فيها سمومه رويداً رويداً... فتموت ... أو قد تنقلب مثله إلى أفعى سامة... عندئذ تكون سمومه مصلاً واقياً يقيها خطره الفتاك ... فتتوحش... وتقوى لديها روح المغامرة... وتقامر بحياتها لمرة واحدة فقط.

والمرأة ... عندما تعشق جاسوساً.. فإن حبها له قد يحوله – أحياناً – من ثعبان قاتل إلى قط أليف لا يستخدم مخالبه... وربما منحه الثقة ليعمل بفاعلية أكثر ... تدعوها إلى مشاركته والدخول معه إلى وكر الجواسيس.

فالحبيبة التي صارت حية رقطاء... تضحي – تأكيداً لحبها – بكل ثمين في سبيل حبيبها.

وفي عالم الجاسوسية ... من باعت الوطن في سبيل الحب ... ما عزّ عليها بيع أولادها... أو قذفهم إلى وكر الثعابين..

وهذا ما فعلته انشراح بسبب الحب ... !!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق