الجمعة، 15 نوفمبر 2013

- امواج بحر الرومانسية - اخر اسمه سيظل دائماً بقائمة الخونة رجب عبد المعطي ... هل انتحر قبل إعدامه...؟ جواسيس الإسكندرية ... حفلت بالكثيرين منهم ملفات المخابرات والجاسوسية ... وكانت ظاهرة لافتة ومحيرة ألقت ظلالاً من الدهشة حول تباين ظروف سقوطهم في مصيدة الموساد .. ويمثل كل جاسوس منهم حالة مختلفة عن الآخر. فبعضهم كان بمقدوره ألا يسقط .. ولكن النفوس الوضيعة والضعيفة .. والطمع، والنمو المبكر لبذور الخيانة، أمور معقدة لا ترتبط مباشرة بقيم أو مفاهيم أو شرف، فهناك مردودات أخرى وترسبات تتفاعل وتنسجم وتصنع في النهاية جاسوساً... ويظل سؤالنا يتردد: لماذا كثر جواسيس الإسكندرية؟ في الأول من أكتوبر 1937 .. امتلأ منزل الحاج عبد المعطي بلفيف من الأهل والأصدقاء جاءوا يباركون مقدم مولوده الأول "رجب". ولأن الحاج عبد المعطي تاجر مشهور في حي القباري بالإسكندرية فقد انهالت عليه الهدايا من حيث لا يدري. فالمولود جاء بعد انتظار طويل مليء بالقلق والصبر والترقب. وتجارب لا حصر لها مع الأطباء والأدوية. وفي شهر رجب – جاء رجب. وبعد عدة أشهر حمل الرجل وزوجته أمتعتهما وحطا الرحال بأطهر أرض ورفعا أيديهما عند الكعبة يطلبان من الخالق جل شأنه أن يبارك لهما في رجب ويشكرانه على "عطيته". وشب الوحيد نبتاً طرياً يأكل بملعقة من ذهب كما يقولون... فقد وفر له أبوه كل أسباب الرغد، وجعل منه شاباً خنوعاً مدللاً كان مدعاة لأن يخفق إخفاقاً ذريعاً في الحصول على الثانوية العامة .. ومع عدة محاولات أثمرت جميعها عن خيبة أمل للأب اغتر الابن وأوهم نفسه بأن له من العقل ما لم يملكه غيره... ويستطيع – بدون شهادات – أن يصبح رجل أعمال مشهوراً ينافس عمالقة السوق والميناء ... ووسوس له الشيطان أنه فقط بحاجة إلى فرصة يثبت من خلالها أنه عبقري زمانه الملهم. حاول الحاج عبد المعطي إفاقة ابنه من سكرة الغرور وإعادته إلى طريق الصوات ففشل. إذ سيطرت على رجب عبقرية كاذبة نشأت من فراغ العقل والثقافة. وصار يحلم ليل نهار بشركة رجب للخدمات البحرية. ولما امتنع والده عن إمداده بالمال اللازم حتى يتحصن بالخبرة .. مضطراً وافق رجب على العمل في وظيفة كاتب حسابات بميناء الإسكندرية ... إرضاء لوالده. واستغرق في عمله الجديد حتى توسعت مداركه واستوعب الكثير من الخبرة بعد الاحتكاك الفعلي في الحياة. وبعد ثلاث سنوات من العمل في الميناء .. لم ينس حلمه الكبير ففاتح أباه ... وهذه المرة كان عنده إصرار عنيد على ألا يرجع. فلما عارضه والده بشدة غادر المنزل غاضباً.. وتحت ضغوط الأهل والأصدقاء.. رضخ الأب أخيراً أمام رغبة ابنه وأمده بعدة آلاف من الجنيهات وهو على ثقة من فشله وخسارته. وغمره للمرة المليون إحساس بندم شديد لأنه دلل ابنه وفتح له منذ الصغر خزينة أمواله بسحب منها كيفما يشاء...وتمنى بينه وبين نفسه لو أن الزمن عاد به إلى الوراء فيقوم على تربيته بالشكل الصحيح .. وينشئه فتى معتمداً على ذاته فيشب رجلاً يعرف قيمة العلم والقرش .. ويدرك جيداً أن للحياة ألف وجه ووجهاً.. ولكن ...فات الأوان وحسم الأمر ... !! من ناحية أخرى كان رجب يدرك ما يدور بعقل والده، وأراد أن يؤكد له كذب ظنه واعتقاده.. فتوسع في أعماله دون خبرة كافية بمنحنيات السوق وتقلباته. وكانت النتيجة المؤكدة خسارة جسيمة مُني بها وفشلاً ما بعده فشل .. وديوناً تزاحمت بأرقامها دفاتره. وجاءت نكسة يونيو 1967 وتعم حالة كساد ازدادت معها الأمور سوءاً، وحاول رجب باستماتة أن يقوم التيار القوي فخارت قواه وغرق في ديونه... وقام بتصفية الشركة وحزم حقائبه ووجد نفسه على ظهر مركب يشق مياه البحر إلى ميناء "بيريه" في اليونان. 1. نزل ببنسيون "بروتاجوراس" وحاول جاهداً أن يعثر على عمل لكنه باء بالإخفاق .. فلجأ إلى بحار يوناني يدعى "زاكوس" ربطتهما معاً إحدى سهرات الاسكندرية.. وكذب عليه مدعياً أنه ينجز إحدى صفقاته التجارية واستولى منه على خمسمائة دراخمة وخرب إلى "أثينا" العاصمة حيث ضاقت به المدينة الساحلية الساحرة. ووجد في أثينا أن الحياة بها أكثر ضجيجاً وحركة. 2. وفي بنسيون "زفيروس" جلس يفكر فيما وصل إليه من حال سيئة: لقد مر به شهر تقريباً ولم يعثر على عمل بعد. إنه الآن عاطل ينفق ليعيش... وعما قريب ستنفذ دراخماته فماذا سيعمل؟ هل ضاقت به الحياة أيضاً في أثينا؟ 3. مئات من المصريين جاءوا إلى اليونان يعملون في أي شيء وكل شيء.. لكنه يبحث عن عمل من نوع آخر يتناسب وعبقريته. وكثيراً ما حدث نفسه قائلاً "لا أحد يفهمني في هذا العالم"... لقد صور له خياله أنه مضطهد .. ومعظم عباقرة العالم اضطهدوا أيضاً قبله وها هو يواجه قوى الاضطهاد التي تطارده أينما حل وعليه بالصبر حتى يكتب له النجاح. 4. وبينما هو يتجول في شارع "سوفوكليس" التقى بشاب مصري من برديس جنوبي سوهاج يعمل في مصنع للعصائر .. عرض عليه أن يعمل معه في قسم التغليف لكنه أبى بشدة أن يعمل بوظيفة تافهة كهذه.. واستعرض له سيرة حياته السابقة في مصر... فما كان من الشاب الصعيدي إلى أن نصحه بالعودة إلى الإسكندرية لكي لا يقع فريسة سهلة في قبضة المخابرات الإسرائيلية... التي تتصيد الشباب المصري العاطل في اليونان وتغريه بالعمل معها مقابل مبالغ كبيرة. وسخر رجب في داخله من نصيحة الشاب له بالعودة... فقد كان والده يعاني الأمرين من حجم الديون التي خلفها له ومن مطاردة الدائنين في المتجر كل يوم. تزاحمت الأفكار في رأسه وغمرته إحساسات اليأس من صلاح أمره في أثينا .. والخوف من العودة يجر أذيال الخيبة والفشل .. وداهمه شعور بالضآلة وقال لنفسه "لن أيأس .. لن أستسلم أبداً مهما حدث". أيقظته دقات الباب من أفكاره. وكان الطارق موظف حسابات البنسيون. فطلب منه إمهاله عدة أيام .. وما كانت جيوبه تحوي سوى دراخمات قليلة لا تكفي لأسبوع واحد إلا بالكاد. هرب منه النوم واختنق صدره واهتزت أمامه الرؤى وعندما تذكر مقولة الشاب الصعيدي "المخابرات الإسرائيلية تدفع الكثير" قال لنفسه "لن أخسر أكثر مما خسرت" وأمسك بالقلم ليكتب: Ø السيد المبجل / سفير دولة إسرائيل في أثينا Ø أنا موظف مصري أقيم في بنسيون زفيروس. ضاقت بي الدنيا وظلمتني في الإسكندرية وفي أثينا. قال لي البعض إنكم تمدون يد المساعدة لكل من يلجأ إليكم وأنتم الملجأ الأخير لي. فأرجو أن أنال عطفكم واهتمامكم. Ø رجب عبد المعطي أثينا 27/12/1967 ولم تكد تمر ثلاثة أيام – حتى فوجئ بمندوب من السفارة الإسرائيلية ينتظره في صالة الاستقبال .. فاصطحبه إلى السفارة وهناك قابلوه بود وقالوا له: Ø وصلتنا رسالتك ولم نفهم منها ماذا تريد بالضبط؟ أجاب بصوت يغلفه الرجاء: Ø أريد أن أعمل في أثينا. سلمهم جواز سفره وتركوه ثلاث ساعات بمفرده .. ثم جاءوا له باستمارة من عدة صفحات ... تحمل اسم السفارة وشعار دولة إسرائيل .. وطلبوا منه أن يملأها ويكتب سيرة حياته وأسماء أصدقائه وأقاربه ووظائفهم. وبعدما تبين لهم أنه أمضى ثلاث سنوات في العمل داخل ميناء الإسكندرية... طلبوا منه أن يكتب تقريراً مفصلاً عن الميناء وأهميته الاقتصادية والعسكرية ففعل. واستعرض ما لديه من مظاهر "العبقرية" الفذة في شرح كل شيء عن الميناء بتفصيل مطول... فأذهلتهم المعلومات التي كتبها عن الميناء ... وأدرك ضابط الموساد الذي شرع في استجوابه بأنه وقع على كنز ثمين عليه أن يعمل على استثماره و"حلْب" ما لديه من معلومات. وفي الحال سددوا حسابات البنسيون كافة ونقلوه إلى فندق "أورفيوس"... وهو ابن ربة الفن الإغريقية .. وأعطوه مائتي دولار أمريكي وتركوه عدة أيام يمر نهاره وهو يغط في سبات عميق ... وفي الليل يتذوق طعم السهر في حانات وكباريهات أثينا المتحررة ... ويصاحب أجمل فتياتها وداعراتها في شارع "ارستيديس" الشهير. وعندما نفدت نقوده تماماً ود لو عاد إليه مندوب السفارة الإسرائيلية ببعض المال ليكمل مسيرة اللهو والسكر. وحدث ما توقعه وجاءه المندوب بمائتي دولار أخرى... فاستغرق في مجونه وتمنى لو استطاع أن يفعل أي شيء في سبيل أن يحيا حياة مرفهة في أثينا. أغرقته المخابرات الإسرائيلية بالمال حتى اطمأن إلى رجالها.. وكلما نفدت نقوده ذهب بنفسه لمقابلة أبو ابراهيم في السفارة الاسرائيلية يعرض عليه خدمات مقابل الدولارات التي يأخذها. فيؤجل ضابط الموساد الحديث في هذا الأمر لوقت آخر ... وينصرف رجب بالنقود فيرتع بين الحسان عاريات الظهر والنهود هو بينهن يختال اختيالاً. إن المال والنساء أهم أسلحة أجهزة المخابرات. بل هما الأساس الذي تبني عليه عملية صنع جاسوس أو اصطياد عميل. وأجهزة المخابرات ليست بالسذاجة التي تجعلها تنفق الملايين لاصطياد ضعاف النفوس والخونة الذين يسهل شراؤهم بالمال والفساد... ولذلك أقامت فروعاً لها ومكاتب في الخارج تحمل أسماء شركات وهمية لا نشاط حقيقي لها سوى البحث عن الخونة. ويعمل بهذه الفروع ضباط مخابرات على أعلى مستوى من الخبرة والكفاءة... وتخول لهم سلطات واسعة .. وتحت أيديهم مئات الآلاف من الدولارات... وطابور طويل من السكرتارية والمساعدين الأكفاء ... بخلاف أجمل الفتيات اللاتي اخترن الطريق الصعب وخطون خطوات طويلة من الخبرة والحنكة. فهن يعرفن عملهن جيداً ويبدعن فيه وطريقهن إلى الإبداع يبدأ وينتهي بالجسد. إنه السلاح السحري الذي يقتل مقاومة الهدف... ويحرك فيه غريزته المجنونة التي تحيله إلى إنسان بلا عقل أو إرادة. والمخابرات الإسرائيلية – الموساد – تفوقت كثيراً في هذه الأمور... وأصبحت أكثر أجهزة المخابرات خبرة في استخدام لغة الجسد... تلك اللغة التي يفهمها الجميع ولا تحتاج إلى مترجم أو قواميس تفسر مفرداتها.. ولكن الذي لا يعرفه أحد... أن الخونة الذين يسقطون في براثن الموساد .. يتحولون في لحظة ما إلى مجرد بهائم تدور في الساقية ... تطاردهم سياط الأوامر والطلبات التي لا تنتهي أبداً.. وأنها تقدر ما تدفع تريد المقابل أضعاف ما دفعته. وعندما يجف معين عميلها تنبذه كالكلب الأجرب وتلقي به في زوايا الذل والنسيان... وتعامله كخائن باع وطنه وأهله ولا قيمة لإنسان فقد انتماءه، وسلك كل المسالك نحو المال واللذة. لم يدرك رجب عبد المعطي هذه الحقائق بل اندفع بكل ثقله باتجاه المخابرات الإسرائيلية ... وصادق الكثير من ضباطها في أثينا ظناً منه أنهم سينقذونه من شبح الإفلاس الذي تعلق بتلابيبه ولا يود مفارقته. ورحب كثيراً بضابط الموساد – أبو إبراهيم – الذي فوجئ به يزوره في حجرته بالفندق الفخم ... ويحدثه طويلاً عن أزمة الشرق الأوسط والوضع المتفجر في المنطقة بسبب الحروب مع العرب ... وحقهم في أن يعيشوا فوق أرض الميعاد في سلام وأمان ... وأنهم ليسوا شعباً يحب سفك الدماء بل أمة مشردة ضعيفة تسعى إلى العيش في هدوء بلا حروب أو صراعات. واستعرض أبو إبراهيم في سرد أساطير وأحاجي اللص الذي يبرر مشروعية سرقاته ثم سأل رجب فجأة: Ø هل ترحب بالعمل معنا لصالح السلام؟ والابتسامة تملأ وجهه .. Ø بالطبع ... ولكن .. أي عمل بالتحديد؟ أخرج ضابط الموساد الخبير أربع ورقات ذات المائة دولار ودسها في يد رجب وهو يقول: Ø أنت كثير الأسئلة ... هل تعتقد أننا نريدك سفيراً لنا في مصر؟ Ø إذن .. ما هو المطلوب مني؟ Ø ألا تسأل كثيراً لكي لا أغضب منك .. عليك فقط أن تعرف أننا أصدقاء .. وأن لكل حديث أوان. هز رجب رأسه علامة على الرضوخ والطاعة ولحقه أبو إبراهيم بسؤال ذا مغزى: Ø هل لك صديقة في أثينا؟ أجابه على استحياء: Ø هجرتني فتاة تدعى انكسيميندرا لأنني لا أعرف اللغة اليونانية وقد ضاقت بإنكليزيتي الركيكة. Ø أوه ... أتقصد تلك الفتاة التي يملأ النمش وجهها؟ دعك منها وسوف أعرفك بفتاة رائعة تتحدث بالعربية وستكون معك ليل نهار في أثينا. تهلل وجهه وارتفع حاجباه دهشة وقال: Ø أين هي؟ أريدها حالاً... Ø ستكون إلى جوارك في الطائرة أثناء رجوعك من تل أبيب. بهت رجب ووقف فجأة كالملسوع وقال بصوت متلعثم: Ø تل أبيب؟ Ø نعم ... !! بسرعة قالها ضابط الموساد بلغة الواثق، وأضاف كأنه يأمره بتنفيذ قراره الذي لا رجعة فيه: Ø ستسافر إسرائيل بعد عدة أيام .. وفي الغد عليك أن تحضر اجتماعاً مهماً في السفارة لمناقشة خطوات تنفيذ هذا الأمر فهل عندك اعتراض؟ هربت الكلمات وغاصت في قرار عميق ... وأجاب رجب الذي بدا كالأبله لا يضبط خلجاته: Ø لا ... لا ... أنا لا أعترض ... إنها مفاجأة لي. Ø عندما كتبنا تقريراً عنك وأرسلناه إلى إسرائيل... طلبوا منا أن نأخذك في رحلة سريعة إلى هناك ليتعرفوا عليك أولاً. وثانياً هناك مفاجأة سارة تنتظرك. وثالثاً: لتختار صديقتك بنفسك من بين أجمل فتياتنا وتصحبها معك إلى أثينا. سكت رجب ولاحقه أبو إبراهيم: Ø المخابرات الإسرائيلية إذا أعطت فهي سخية بلا حدود. وإذا غضبت ومنعت فطوفان من الهلاك قادم. وثق يا رجب أننا ودودون معك إلى أقصى درجة .. أعطيناك أكثر من ألف وخمسمائة دولار حتى الآن ولم نطلب منك أدنى شيء. ألا يدل هذا على كرم منا أيها المكار؟، وربت كتف رجب الغارق في ذهوله وهو يقول في لغة ظاهرها الثقة وباطنها التهديد والبطش: Ø عليك ألا تضيع هذه الفرصة .. انتهزها... واركب قارب النجاة تنج نفسك من الطوفان والهلاك. وعندما قام ضابط الموساد منصرفاً لم يستغرق رجب في التفكير كثيراً. لقد ثبتت لديه النية واتخذ قراره...ولم يذهب إلى سريره لينام بل خرج ينزف دولارات الموساد على الخمر وجسد داعرة صحبها إلى شقتها وهو يمني نفسه بالجارية الاسرائيلية التي ستكون تحت إمرته. وفي الصباح الباكر كان يقف أمام باب سفارة إسرائيل تعلوه سحابة انكسار وبعينيه بريق خنوع ديّوث باع لحمه لمزايد !! استغرق الاجتماع به نحو الساعة .. كانوا أربعة من ضباط الموساد في أثينا وخامساً جاء من فيينا كان يبدو أنه أكبرهم دراية بالتعامل مع الخونة وتطويع الجواسيس. طلب من رجب أن يرسم له خريطة الميناء في الاسكندرية وأين يقع مكتبه بالضبط؟!! وفوجئ رجب بماكيت مصغر للميناء دخل به موظفان ووضعاه على منضدة تتوسط الحجرة .. أخذ رجب يشرح بتفصيل أكثر معلوماته عن الميناء. بل ويحدد أماكن مخازن التشوين التجارية ... ورصيف الميناء الذي يستقبل السفن الحربية السوفيتية... وسفن الشحن التي تجيء بالأسلحة المختلفة من ميناء أوديس السوفييتي على البحر الأسود ... ومخازن تشوين السلاح المؤقتة .. وبوابات التفتيش والمداخل والمخارج. وهكذا استمر يشرح لهم أسرار الميناء الحيوي، ولم يتركوا أدق التفاصيل إلا وسألوه عنها ثم طلبوا منه الانصراف والعودة صباح اليوم التالي ومعه أربع صور فوتوغرافية وجواز سفره. وبعد أن سلمهم الصور تسلم منهم وثيقة سفر إسرائيلية ذكر بها أنه إسرائيلي من تل أبيب واسمه "دافيد ماشول"... تسلم كذلك تذكرة سفر بالدرجة السياحية – أثينا تل أبيب على شركة العال الإسرائيلية – وأوصله مندوب من السفارة إلى المطار وتأكد من صعوده إلى الطائرة المتجهة إلى إسرائيل. وعندما جلس رجب في مقعده بالطائرة كان جسده يرتجف بشدة .. وتشوشت أفكاره للدرجة التي أصبح فيها كالمخمور الذي فقد تركيزه واتزانه ... وسرعان ما استعاد ثقته بنفسه وهو يرسم في خياله أحلام الثراء الذي ينتظره ... ووجه الفتاة المليحة التي سيختارها في إسرائيل ... وخطرت بباله فجأة فتاة من بورسعيد اسمها مايسة كانت قد هاجرت مع أهلها إلى المنصورة وتعرف عليها في إحدى الحفلات العائلية وأحبها بسرعة إيقاع عجيبة وافترقا أيضاً بلا وداع. لماذا خطرت بباله في تلك اللحظة بالذات؟ ضحك بصوت مسموع فرمقته سيدة تجلس بالقرب منه بنظرة تعجب وابتسمت .. وأغمض عينيه ثم نام.. واستيقظ والطائرة تحوم فوق مطار بن جوريون تنتظر الإذن بالهبوط. وعلى سلم الطائرة صافحه ثلاثة رجال .. ثم أدخلوه سيارة مسدلة التسائر كانت تنتظر أسفل جناح الطائرة .. سلكت به اتجاهاً آخر بعيداً عن بوابة خروج الركاب والجوازات ... ووجد نفسه في شوارع تل أبيب لا يصدق عينيه... وفي بيت يشبه الثكنة العسكرية على أطراف تل أبيب أدخلوه إحدى الشقق المخصصة لأمثاله من الخونة .. حيث كانت تنتظرهم بها فتاة رشيقة صافحته بحرارة .. ورحبت به بالعربية فسره ذلك كثيراً وقالوا له إن "زهرة" ستظل على خدمته طوال إقامته في الشقة. وتركوه ليستريح بضع ساعات وعادوا إليه ثانية فصحبهم لمبنى المخابرات الإسرائيلية في شارع الملك شاؤل بوسط المدينة .. وكان في استقباله عدد كبير من كبار رجال الموساد. ولعدة ساعات أخضع لتحقيق واستجواب تفصيلي لكل ما كتبه عن ميناء الاسكندرية. كان الاجتماع مغلقاً على الضباط المختصين والمحللين الذين أدركوا ميوله للنزعة العسكرية .. وكان ذلك واضحاً جداً من خلال إجاباته الحاسمة .. التي تشبه إجابة عسكرية مدعومة بلغة عسكرية بحتة .. وتغلفها تفاصيل استراتيجية دقيقة لا ينتبه اليها الرجل المدني الذي لم يجند بالقوات المسلحة. وفي ختام الاجتماع أعد له حفل استقبال كبير في إحدى القاعات بالمبنى .. حضره عدد أكبر من ضباط الموساد ورؤساء الأقسام ... وتم منح رجب عبد المعطي رتبة "رائد" في المخابرات الاسرائيلية، ولم يضيعوا وقتهم كثيراً في مظاهر الترحيب.. إذ أعدوه لدورة مكثفة بدأها أحد الضباط بمحاضرة طويلة عن "ذراع إسرائيل الطويلة" .. وأنها تجعل العدو يرتجف رعباً، وتمنح الإسرائيليين القدرة على النوم في هدوء. وأن الموساد نجحت في حل الكثير من مشاكل الدولة اليهودية وهي على استعداد للقيام بمهام أخرى. .. وإن عمليات الموساد ليست على درجة أقل أهمية .. بل هي أساس شهرتها. وجاء ضابط آخر كانت مهمته تدريبية فنية تتعلق باستخدام الشفرة والاستقبال بواسطة موجات خاصة بالراديو... وبعد أيام أجاد رجب استقبال الرسائل المشفرة وترجمتها بسرعة وكان عليه اجتياز دورة أخرى مهمة .. وجاءته هذه المرة ضابطة شابة تتحده العربية بطلاقة شرعت في تدريبه على كيفية استخدام الحبر السري في الكتابة وقراءة الرسائل المرسلة إليه بالحبر السري أيضاً... وكذلك استعمال شفرة خاصة للمراسلة لا يكتشفها أحد. استمرت برامج الدورة التدريبية المكثفة خمسة عشر يوماً كانت عصيبة ومرهقة. وبعد أن اجتاز الاختبارات بنجاح مذهل ... رافقته زهرة إلى منتجع خاص آمن يقع على بحيرة طبرية... وهناك أذاقته من لدائن أنوثتها ما حار فيه العقل وأذهل الشعور. قالتها له صراحة إنها هدية له لاجتيازه الاختبارات وتعاونه مع المخابرات الإسرائيلية بإخلاص... بل وأكدت له أنها عبدة له يفعل بها ما يشاء ... وعندما صارحها بأنه يستريح إليها ويود لو صاحبته إلى أثينا وعدته بأن تعرض طلبه على رؤسائها.. وفي تل أبيب أخبره الضابط المسؤول بأنه سيعود إلى الإسكندرية مرة أخرى ليعادوا نشاطه السابق في شركة رجب للخدمات البحرية. وأنهم سوف يمدونه بالأموال اللازمة لإحياء شركته وتجديدها... ولكي يتم تنفيذ ذلك عليه أن يمكث عدة أشهر في أثيناء .. ويشيع بين المصريين العائدين إلى مصر بأنه يمارس أنشطة تجارية رابحة جداً في أثينا .. ويجب عليه أن يتأكد من وصول هذه الأقاويل إلى مصر وإلى أهله بالذات. لقد تمكنوا خلال تلك المدة من تدريبه على كيفية إعداد التقارير وتلخيص الجمل واختصار عدد الكلمات. هذه الدورة المكثفة زرعت بداخله إيماناً حقيقياً واهماً بأنه صاحب رسالة مهمة أوكلت إليه. وبرغم أنهم بثوا لديه الثقة في مناعة المخابرات الإسرائيلية ضد كشف عملائها في الدول العربية .. واستماتها في استردادهم حال القبض عليهم ، إلا أنه أحس بالتعاطف معهم بعد عدة محاضرات عن تاريخ اليهود ... واضطهادهم على مر الأحقاب والعصور ... ومحاولات إبادتهم التي أسفرت عن تشريدهم ومقتل الملايين منهم ... وكانت آخر المحاولات تلك التي قام بها أدولف هتلر الذي أقام معسكرات لتجميع اليهود... ثم حرقهم في محارق خاصة لاستئصال كل يهود أوروبا.. وهكذا حشوه بأكاذيبهم المضللة لكسب عطفه. وعندما عاد رجب إلى أثينا برفقته زهرة .. كان بداخله إصرار غريب على التعاون مع الموساد لحماية إسرائيل وأمن إسرائيل ... من التهديد العربي الدائم والذي يدعو إليه جمال عبد الناصر ... وإصراره على إلقاء اليهود في البحر ليتخلص منهم .. وترسب بداخله اعتقاد بأن عبد الناصر ما هو إلا هتلر جديد جاء ليبيد اليهود الذين يدافعون عن أمنهم ... وحقهم في أن يعيشوا في سلام. غادر رجب مطار بن غوريون في تل أبيب في طريقه إلى أثينا ترافقه "زهرة" .. جميلة الجميلات والعبدة التي تحدثه بلغته وبلغة الجسد الناطقة. لم تكن مهمتها إفراغ ثورات رجولته المشتعلة دائماً بقدر ما كانت رقيبة على سلوكه وتصرفاته.. وتمتحن إخلاصه للمخابرات الاسرائيلية بين آن وآخر. وكلما حاولت تصيد أخطائه وجدته أكثر منها إخلاصاً لليهودية .. وإيماناً بحق الإسرائيليين في القدس وسائر أرض فلسطين. إنها تواجدت بجواره لتدفعه بقوة إلى عشقها والذوبان فيها. فكلما ازداد عشقاً لها... أخلص لإسرائيل .. وتفانى في خدمتها. استأجرت له المخابرات الإسرائيلية إحدى الشقق الصغيرة في حي دميتير الهادئ... وهيأت له من أسباب العيش والرخاء والإمتاع الكثير .. لتجعله لصيقاً بهم يدور في فلكهم لا يستطيع فكاكاً. وعلموه كيف يتعامل مع المصريين الوافدين إلى اليونان للسياحة أو للبحث عن عمل. فالذين جاءوا للسياحة خصص لهم بعض الوقت وصحبهم للمزارات السياحية والأسواق والمتاحف... وأفاض في خدماته اليهم وحملهم الهدايا إلى أهله بالإسكندرية تأكيداً على تيسر أحواله وظروفه المالية في الخارج. وبدون توصية كانت صور حياته المختلفة تنقل إلى والده من خلال المصريين العائدين إلى مصر. صور وجوانب مشرقة رسمتها المخابرات الإسرائيلية بإحكام شديد.. وأضفت عليها هالة من النجاحات أثلجت صدر أبيه بعدما فقد الأمل في إبنه ... وأرسل رجب خطاباته واضعاً في إسهاب عمله في إحدى الشركات الكبرى .. التي استوعبت مواهبه واكتشفت فيه عبقرية فذة دفعت بها إلى الأمام بعد تعثر طويل .. فارتقى في وظيفته واحتل مكانة مهمة في بلاد الإغريق. وأكد ذلك للأب كل من حملوا إليه هدايا ابنه الرقيقة له ولوالدته ولأصحابه. وضمت خطاباته صوراً فوتوغرافية مختلفة في مكتبه وفي مسكنه.. وفي إحدى رحلاته "إلى جزر بحر إيجه حيث الشاطئ يموج بالحسناوات يرتدين البكيني... ويطاردن شبح الملل بالرقص واللهو. لكل هذه المظاهر المزيفة .. صدق الأهل بالإسكندرية ما تبوأه رجب من نجاح .. فأرسل إليه والده يرجوه أن يعود إلى وطنه مرة ثانية ليعادو نشاطه من جديد .. وليؤكد نجاحاته على أرض وطنه بعدما صقلت شخصيته... ودرج على القيام بمهام صعبة أوصلته إلى القمة... فاستمهله رجب بعض الوقت، وانشغل بالعسي مع المصريين القادمين بحثاً عن عمل في أثينا فكان يصحبهم – بترتيب دقيق من الموساد – إلى الشركات البحرية في بيريه ... وإلى شركات تجارية أخرى في أثينا... على أمل أن يسقط من بينهم شاب آخر في براثن المخابرات الاسرائيلية. لأجل ذلك اختلط العميل الخائن بالمصريين المقيمين باليونان ووطد علاقاته بهم... وتعددت خدماته ومواقفه تجاه كل من يلجأ اليه فأحبه الشباب المصري هناك .. ووجدوا فيه صورة المصري الشهم النبيل ... في حين أنه كان يدير حوارات سياسية معهم .. ويسجل تقارير مطولة تحمل بين سطورها خسة نياته القذرة في خدمة جهاز مخابرات العدو .. فبدا كما لو كان قد اندرج لسنوات طويلة في صفوف أكاديمية الجواسيس في إسرائيل.. وأعيد مرانه وتدريبه في أثينا على استخدام الحس الأمني والملاحظة والتمويه والخداع. وهذه كلها أمور أسهب في شرحها "فيكتور أوستروفسكي" في كتابه: "الموساد" حيث بين لنا كيفية صنع جاسوس محترف في إسرائيل بواسطة أمهر الخبراء ... وأحدث دراسات علوم المخابرات والجاسوسية في العالم. فقبل أن يخرج الجاسوس من مخبئه ليمارس وظيفته يخضع لبرنامج مكثف لا بد له أن يجتازه بنجاح وهو عن "خداع المراقبة"... ويدرك جيداً إذا ما كان قد "ألقى بظلاله" أم لا... ومن النافذة يستطيع أن يرى الشخص الذي يقتفي أثره .. وكيف تابعه؟ وعندما يلتقي الجاسوس الظل وخاصة عند الخروج من فندق – مكتب – متجر. سيجري بسرعة لمدة خمس دقائق ... ويسير بعدها في خط متعرج إلى أحد المباني ويبحث عن نقطة مراقبة ليراقب . وهذه الطريقة ستعطي الجاسوس الفرصة ليعرف أسلوب المراقبة .. وعليه حينئذ أن يمتنع عن إثارة أية شبهات أو إتمام عمل .. ويركب وسيلة مواصلات إلى مكان آخر بالمدينة خلاف الذي كان يقصده. هكذا تدرب الجواسيس وأيقنوا أن هذا التصرف يتعلق بتكتيك السلامة الذي يجب أن يتبعه كل جاسوس. خاصة إذا كانت ظروف عمله معرضة لبعض الشكوك. واتبعت الموساد أيضاً مع رجب ذات النظرية التي شرحها "ديفيد تلبيني" في كتابه: "فرق الرصد" عن كيفية الإثارة التي تتولد لدى الجواسيس والعملاء الصغار من ذوي "الميول المظهرية"... وقد كان الخائن رجب يعشق اللكنة العسكرية في الحديث .. والمرافعات العسكرية في الوصف ولو لم يلتحق بالقوات المسلحة ... وعندما لاحظ خبراء الموساد هذا الاتجاه منحوه رتبة رائد في الجيش الاسرائيلي إشباعاً لغروره. لم تكن زهرة فتاة فراش للجواسيس الجدد بل إنها عميلة مدربة أخضعت فكرياً ومعنوياً وجسدياً لخدمة الموساد. عميلة تؤدي عملاً مهماً وأساسياً لصالح إسرائيل. وجسدها أحد أركان هذا العمل الأساسية. إنها تستغل جسدها في تطويع الجواسيس وربطهم بها... حيث درست وتعلمت أن لكل رجل عادات وميولاً.. خاصة تظهر جلية عندما يتجرد من ملابسه أمام امرأة عارية. قد تكون ميوله سوية أو شاذة .. لا يهم .. فإن لديها القدرة على احتواء كل أنواع الرجال وإشباعهم وتأكيد رجولتهم وتضخيم فحولتهم. إن الجنس بالنسبة إليها عمل مهم، وترتقي من خلاله وظيفياً ومهنياً إذا ما أبدعت فيه مع الخونة الذين يجري إعدادهم، وتنال شهادات شكر وتقدير بعد تطويعهم. ولذا ... لم يكن وجود زهرة على مسرح الحدث عملاً ثانوياً يحسب على جهاز المخابرات الاسرائيلي. إنه جزء مكمل لتعمية العميل عن الحقائق والثوابت .. وإخضاعه بتصويره في أوضاع شاذة تظهر مدى ضعفه... وخلق دفء عاطفي يزيل غمامة الخوف التي قد تؤثر في إقدام العميل فينشط ويبدع ويقوم بعمله خير قيام. مر عام ونيف ولم يزل رجب في أثينا في حضن المخابرات الإسرائيلية يترقب موعد رجوعه إلى الإسكندرية. وعندما اعتقد أنه هيأ "الجو" لعودته .. تحدث مع أبو ابراهيم ضابط الموساد في السفارة الاسرائيلية الذي أمهله عدة أيام ليكتب بذلك إلى رؤسائه .. ولما جاءت الموافقة .. اشاع رجب خبر عزمه على العودة إلى مصر غانماً بآلاف الدولارات التي جمعها من "أعماله الناجحة" في اليونان. وعندما أشار عليه البعض بإكمال مسيرة النجاح دون العودة – مؤقتاً – إلى مصر .. تملكته نعرة الوطنية المزيفة .. وأقسم ألا يحرم وطنه من خبرته وعبقريته التي يشهد بهما الأجانب. وأقيم حفل وداع صغير في أحد الفنادق حضره بعض المصريين الذين صادقهم هناك ... وبعد نهاية السهرة حمل حقائبه وتوجه إلى المطار في طريقه إلى القاهرة. كان الجو قائظاً في سبتمبر 1970 والإسكندرية لا زالت تموج بعشرات الآلاف من المصطافين .. الذين هربوا من لسعة القيظ وحرقة الوهج إلى الشواطئ الممتدة الجميلة وفي شقة الحاج عبد المعطي كانت جموع أخرى من البشر تتوافد لتهنئ الرجل بسلامة وصول ابنه الوحيد من اليونان. كان الرجل أسعد الناس على سطح الأرض.. وجهه يتهلل بشراً وسحنته تضحك خطوطها ويرقص قلبه طرباً. والخائن لا يستحي وهو يحكي عن عبقرية مزعومة .. ويختلق اقاصيص الوهم التي لقنته إياها مخابرات العدو .. فأفاض في الحديث والوصف وأضفى على نفسه بطولات وبطولات. وبعدما استقر به المقام عدة أيام، اصطحب مهندس الديكور إلى مكتبه القديم حيث كانت لافتة "شركة رجب للخدمات البحرية" قد ضربتها الشمس وتشققت قشرة خشبها. وبالداخل كان العنكبوت قد نسج خيوطه فخيمت على كل شيء وبدا المكتب كمقبرة مهجورة. وبينما كان المهندس يشرح له تصورات وتخيلات الشقة بعد تجديدها...حدث زلزال هز أعماق مصر كلها وضرب فيها الأمل والأمان .. وزحفت جموع الشعوب العربية لهول الصدمة عندما أعلن موت جمال عبد الناصر. العميل رقم 1041 امتلأت الشوارع بفيضان من البشر كالطوفان يجرف أمامه هدأة الحياة وغفلة الزمن زحف من الأحياء يغلي، وكتل ملتصقة من الحناجر تصرخ في هلع وبكاء مرير يمزق القلوب ... وشروخ بدت في الوجوه بفعل الدموع. وتوقفت الحياة ومادت موازين العقل فلا عقل يصدق أن الزعيم رحل. ودون أن يدري ... بكى رجب، وكان لا يدري أيبكي ناصر الأمل؟! أم يبكي بذور الخيانة التي تعملقت بداخله وعظمت فروعها؟ وود للحظات لو أن أقدام الباكين الحائرين داسته. لكنه سرعان ما استعظم ذاته وأبى ألا يضعف. بل سطر أولى رسائله، وكانت هذه الرسالة هي الخطوة العملية الأولى في عالم الجاسوسية... رداً على رسالة وصلته بطريق الراديو تطلب منه مراقبة حركة ميناء الإسكندرية وعما إذا كانت أسلحة سوفييتية تتدفق على مصر بعد موت زعيمها الأول أم لا ؟ وكانت الرسالة كالتالي: (رقم 2) سطور كتبت باللغة العربية بالحبر السري بين سطور الرسالة. (رقم 1) سطور كتبت باللغة الإنجليزية. الإسكندرية 24/1/1970 صديقي العزيز باولو: 1- خط عادي: وصلتني رسالتكم العزيزة إلى قلبي وكم سررت بها. 2- حبر سري: لا زالت أعمال التجديدات في مكتبي جارية وبالرغم من. 1- خط عادي: وتعجبت من فعل الزمن يفرق دائماً بين الأصدقاء. 2- حبر سري: ذلك أقوم بعملي وأراقب الميناء جيداً. 1- خط عادي: والمحبين، ولكنك يا صديقي مهما باعدت المسافات بيننا 2- حبر سري ومنذ صباح الأمس وأنا أراقب سفينة سوفييتية ضخمة. 1- خط عادي: تسكن بأعماق قلبي فالأيام الجميلة التي قضيتها معك. 2- حبر سري: ترسو على الرصيف وحولها حراسة مشددة. السفينة. 1- خط عادي: في جزر كيكلاديس . لا أستطيع مهما حييت أن 2- حبر سري: اسمها ستاليننجراد، وقال لي زميل قديم بالميناء: 1- خط عادي: أنسى طعم حلاوتها وروعتها والصور التي التقطت. 2- حبر سري: إن السفن السوفييتية تتردد بكثافة هذه الأيام. 1- خط عادي: لنا هناك تكاد تنطق بمدى شوقي إلى تجديد هذه. 2- حبر سري: على الإسكندرية ونادراً ما تظل الأرصفة خالية منها. 1- خط عادي: الذكريات الجميلة في جزر بحر أيجه وشوارع ومقاه. 2- حبر سري: وعلمت أن بعضها تنزل حمولتها بالليل فقط بواسطة. 1- خط عادي: ومتاجر أثينا الساحرة. إن قلبي يرقص طرباً. 2- حبر سري: الأضواء الكاشفة. ومنذ أسبوع بالضبط نزل. 1- خط عادي: كلما مرت ببالي هذه الأيام الجميلة. 2- حبر سري: عدد كبير من الجنود والخبراء السوفييت. 1- خط عادي: عزيزي باولو: أرجو أن ترسل لي صورة ابنتك. 2- حبر سري: في ذات الوقت الذي تفرغ فيه سفن مصرية أخرى. 1- خط عادي: الجميلة بياتريتشي التي لم يسعدني الحظ برؤيتها. 2- حبر سري: حمولاتها من القمح المستورد من استراليا ومن. 1- خط عادي: خلال زيارتكم القصيرة لليونان. وسوف أحاول. 2- حبر سري: البرازيل.. وشاهدت عدداً كبيراً من الشاحنات العسكرية. 1- خط عادي: في القريب أن أزوركم في إيطاليا وأرى مدينتكم. 2- حبر سري: تنقل صناديق خشبية ضخمة بعضها مغطى بغطاء. 1- خط عادي: الرائعة – تريستا – التي تعشقونها. ومن جانبكم. 2- حبر سري: أزرق أو كاكي وتتجه إلى طريق الإسكندرية. 1- خط عادي: لا تدخروا وسعاً في التفكير بجدية في زيارتي. 2- حبر سري: القاهرة الصحراوي، وأنزلت سفينتان حمولتهما. 1- خط عادي: مع احتفالات الكريسماس حيث المناخ هنا في. 2- حبر سري: من الخشب الزان من أسبانيا ورومانيا وتعطلت بالأمس. 1- خط عادي: مصر أكثر من رائع، وبالأخص في صعيد مصر حيث. 2- حبر سري: شاحنة على الطريق محملة بأجولة السكر المستورد. 1- خط عادي: آثار أجدادي الفراعنة تفوح منها رائحة التاريخ. 2- حبر سري: من الاتحاد السوفييتي وسأوافيكم بمشاهداتي. 1- خط عادي: تحياتي لكم وتمنياتي بالسعادة الدائمة. 2- حبر سري: أولاً بأول، وسوف أنتظر رسائلكم. 1- خط عادي: رجب 2- حبر سري: رقم / 1041 تحت الميكروسكوب ومع إطلالة الأيام الأولى في عام 1971 كان رجب قد انتهى من تشطيب مكتبه ... وليس حلة جديدة من بهاء تتفق ورونق أعمال الديكورات الفخمة .. التي تدل على ذوقه الأوروبي ويساره... افتتح المكتب جمع غفير من الأهل والأصدقاء، وملأت إعلانات الدعاية بالعربية والإنجليزية صفحات الأهرام تعلن عن ميلاد شركة خدمات بحرية متميزة ... قادرة على تحمل مسؤوليات الشحن والتفريغ وما يخصهما من إجراءات مع الجهات المختصة. وساعدته المخابرات الإسرائيلية كثيراً ليحصل على ثقة بعض الشركات البحرية العالمية ليصبح وكيلاً لها في الإسكندرية .. وتحول مكتبه إلى خلية نحل اضطر معها إلى الاستعانة بعدد كبير من الموظفين والسكرتارية، وازدحم المكتب بالزوار وذوي المصالح، وازدادت الخطابات الواردة إليه من الشركات الملاحية ومن رؤسائه في أثينا يغذونه بالمعلومات ... ويلقون أوامرهم وتوجيهاتهم ويدفعونه ليكبر أكثر وأكثر. فازدهرت أعماله بسبب التوكيلات العالمية التي حصل عليها، وصار اسمه مشهوراً ودخوله إلى الميناء بالتصاريح الممنوحة أمراً سهلاً وقويت علاقاته بالموظفين وبالمديرين. ولأنه يعمل في "المهنة" فقد كان سؤاله عن أحوال الميناء يوماً بيوم أمراً عادياً لا يثير ريبة ولا شكوكاً في نياته... وهذا هو ما كانت تقصده المخابرات الإسرائيلية... أي زرع جاسوس داخل ميناء الاسكندرية يرصد كل أسراره وأوضاعه دون أن يشك فيه أحد. ومرت الشهور تلو الشهور وهو لا يزال يرتقي سلم النجاح والشهرة، ولم ينس أفضال اليهود عليه للحظة واحدة. إنهم أولى أمره الذين ثبتوا قدميه على طريق النجاح، وهم الذين تسعى مصر ومن خلفها جميع الدول العربية للإضرار بهم رغم قلتهم ومحدودية أرضهم ومواردهم. لقد أكدوا له أنهم لا يريدون حروباً مع العرب.. فهم يدافعون عن رقعة صغيرة من الأرض يعيش عليها أطفالهم وضعافهم. وكلما شن أنور السادات هجماته من خلال خطبه السياسية .. كان رجب يرتعد خوفاً من حماس وعوده بأن هذا العام هو عام "الحسم" لتدمير إسرائيل... وكثرت الرسائل إلى رجب بطريق البريد والراديو .. وتعددت رسائله أيضاً إلى "أصدقائه". وانحبس النفس في رئتيه هلعاً يوم السادس من أكتوبر 1973 وجنودنا البواسل يعبرون الهزيمة ويدكون خط بارليف الحصين ويكتبون النصر غالياً بدمائهم. وعندما كانت مصر – بل والأقطار العربية كلها تزغرد للنصر ... كان رجب يبكي في مكتبه وينتفض جسده خوفاً وشفقة على شعب إسرائيل الذي يقتله العرب بلا رحمة مجتمعين. وكثرت في تلك الأثناء زياراته للميناء يستقص الأخبار ويستقي المعلومات بجرأة، دون أن يلفت انتباه أحد، لكثرة أسئلته عن السفن الراسية بالميناء وفي الغاطس تنتظر الدخول. لفتت رسائله المتعددة إلى أثينا وروما انتباه ضابط المخابرات المصري المكلف بمراقبة البريد الصادر إلى خارج مصر والوارد إليها. واكتشف أمر الرسائل المشفرة. وقام جهاز المخابرات المصرية بمراقبة بريد رجب عبد المعطي ... وجرى الكشف عن كل رسائله وصورت وأعيد إغلاق الرسائل بدقة متناهية.. لكي تكون دليل إدانة ضده أمام النيابة وعند محاكمته. وبينما كان الجاسوس مشحوناً بحماس النصر، وبدأت الخريطة السياسية للمنطقة تتشكل من جديد .. نشط رجب في رصد حركة الميناء المستمرة وأرسل الرسالة التالية إلى صديقه "الوهمي" ديميتريوس في اليونان: الإسكندرية 27/11/1974. عزيزي ديمتريوس. 1- خط عادي: تهنئتي القلبية بمناسبة عيد ميلادك السعيد، ولعلك . 2- حبر سري: سفن شحن متعددة من جنسيات مختلفة تدخل. 1- خط عادي: الآن في أحسن حال بعد الوعكة الصحية التي أصبتم. 2- حبر سري: الميناء لتفرغ حمولتها من المواد التموينية بكثرة. 1- خط عادي: بها منذ ثلاثة أسابيع. فكيف حالكم الآن؟!! 2- حبر سري: أيضاً تأكدت من وصول سفينة تشيكوسلوفاكية. 1- خط عادي: أحوالي على أحسن ما يرام، وأنوي إجراء بعض. 2- حبر سري: تحمل معدات عسكرية في صناديق يصعب الاقتراب. 1- خط عادي: أعمال الديكورات الحديثة بمكتبي، على ذلك. 2- حبر سري: منها بسبب الحراسة المشددة، ولا زالت. 1- خط عادي: فسأتغيب لمدة أسبوعين على الأكثر على شاطئ. 2- حبر سري: سفن عربية من الجزائر وليبيا تنزل حمولتها. 1- خط عادي: البحر الأحمر ريثما ينتهي مكتب الديكور من عمله. 2- حبر سري: من البطاطين والمواد الطبية وسفينة عملاقة. 1- خط عادي: ولسوف أعاود بعد ذلك نشاطي بشكل أفضل. حبر سري: تحمل علم بنما اسمها "ليليها مر" محملة بحوالي. 1- خط عادي: بعد هذه الإجازة التي أتشوق اليها لأتمكن. 2- حبر سري: 200 جرار زراعي ومعدات زراعية وميكانيكية. 1- خط عادي: من صيد السمك بعيداً عن زحام العمل والتوتر. 2- حبر سري: مختلفة وسفينة سوفيتية تحمل معدات توليد. 1- خط عادي: المستمر من جراء المشكلات المتوقعة. 2- حبر سري: كهرباء ضخمة وآلاف من الإطارات. 1- خط عادي: تهنئتي لك مرة أخرى وتحياتي وأشواقي. 2- حبر سري: الكاوتشوك مقاسات مختلفة وموتورات. 1- خط عادي: رجب. 2- حبر سري: رقم / 1041. قتلته ظنونه ... . وأخيراً .. بعد أن جمعت المخابرات العامة المصرية كل الأدلة التي تدينه ... توجهت قوة من رجال المخابرات صباح 13 يناير 1975 إلى مكتبه... اعتقد رجب أنهم "زبائن شغل" ولكن ... حينما أخبره قائد القوة بأنه ضابط مخابرات ... لم يستطع رجب أن يقف ... ظل ساكناً على كرسيه تتحرك ركبتاه لا إرادياً، واصطكت أسنانه فجأة، وزاغت عيناه في هلع لا حدود له. ومن قبيل الصدف العجيبة أن رجل البريد جاء برسالة من المخابرات الإسرائيلية – مرسلة من الداخل – أثناء وجود المخابرات في مكتبه حيث طلبوا منه حلها ... ووضعوا أمامه كتاب الشفرة التي عثروا عليه في درج سري بالمكتب مع كل أدوات التجسس المزود بها. لم يستطع رجب استيعاب الأمر على حقيقته. فقد كانت نظرات ذهوله تدل على مدى الرعب الذي أصابه... إنهم أفهموه في تل أبيب وفي أثينا أن المخابرات الاسرائيلية لم يحدث لها أن فشلت مرة واحدة في مهامها.. ولكن الفشل يأتي دائماً من العميل الذي قد يهمل تكتيكات الأمان التي يجب عليه أن يلتزم بها ولا يهملها أبداً. فجهاز المخابرات الاسرائيلي – حسبما اقنعوه – أفضل أجهزة المخابرات في العالم. ابتسم رجب في سخرية عندما تذكر ادعاءاتهم الباطلة، وبينما كانت قافلة السيارات تنطلق به إلى القاهرة – كانت المخابرات الإسرائيلية ترسل بالراديو رسالتها الدورية إلى عميلها: "ننتظر ردك على الرسالة التي وصلتك .. لا تتأخر، واستعد للسفر خلال شهر مارس إلى أثينا". وفي مبنى المخابرات المصرية جرى استجوابه فاعترف تفصيلياً – وهو مذهول – بقصة سقوطه في مصيدة المخابرات الإسرائيلية .. وعقدت له محكمة عسكرية وجهت اليه التهم الآتية: Ø باع نفسه ووطنه للعدو مقابل المنفعة المادية. Ø أمد العدو بمعلومات عسكرية واقتصادية تضر بأمن الدولة ومصلحة البلاد. Ø ارتضى لنفسه أن يحمل اسماً يهودياً وجواز سفر يهودياً ورتبة عسكرية يهودية. Ø التخابر مع دولة معادية "إسرائيل" بقصد الإضرار بالعمليات الحربية لمصر. Ø التخابر مع دولة أجنبية معادية لتسليمها سراً من أسرار الدفاع عن البلاد. وحكمت المحكمة بالإعدام شنقاً... وصدق المفتي ورئيس الجمهورية على الحكم. وأثناء انتظار التنفيذ ... شعر الخائن بعظم جرمه وفداحة مسلكه. وعامله المجرمون والقتلة في السجن معاملة سيئة، وكادوا أن يفتكوا به عدة مرات كلما سنحت لهم فرصة لقائه. وأنزوى الخائن يجتر ذكرياته فتتقلص عضلات جسده.. ومضت عليه عدة أسابيع، ذاق خلالها مرارة الحسرة والذل والمهانة... ونحتت بدنه عضات الندم .. حتى عثر عليه ذات يوم ملقى على الأرض بزنزانته وسط بركة من الدم المتجلظ ... وقد عثر على إحدى عدسي نظارته منزوعة ومهشمة... وتبين أن هناك ثمة قطع غائر بيده اليسرى طال شريانه. Ø ترى .. هل أصابه مس من العقل وأدرك فداحة جرمه فانتحر؟ Ø أم أنه استشعر الفارق الشاسع ما بين الرفاهية والحبس؟ Ø أو ربما ظن أن الموساد ستنقذه لا محالة فقتلته ظنونه؟ لا أحد يعرف.. Ø لكنه حتماً أفاق بعدما خسر الكثير.. Ø خسر نفسه وأهله ووطنه ... وكل شيء ... كل شيء ضاع.. لكن اسمه سيظل دائماً بقائمة الخونة ... أولئك الذين باعوا عروبتهم بثمن بخس... ولن يغفلهم التاريخ على مر الأحقاب ...!! عمار الحرازي07-25-2010, 02:02 AM اصطادته زينب لحبل المشنقة في مصر الجاسوس محمد إبراهيم كامل الشهير بماريو بداية لا بد منها سؤال محير مازلنا نبحث عن إجابته .. وننقب بين الصفحات لعلنا نعثر على تعليل منطقي يحل هذا اللغز الشائك .. لماذا الاسكندرية؟ عشرات من الجواسيس الخونة أنجبتهم المدينة الجميلة فعاشوا تحت سمائها واستنشقوا نسائمها وتمددوا على شواطئها الباسمة وبذرت بداخلهم فجأة بذور الخيانة ... فمدت جذورها تقتلع الحب الخصيب وتغتال خلايا الانتماء؟؟.. لماذا..؟!! عشرات الملفات من حولي عن جواسيس الإسكندرية .. كلما قرأت سطورها توجتني الدهشة ولا أجد إجابة شافية عما يدور بخلدي من تساؤلات. فالاسكندرية تختلف كثيراً عن كل مدن مصر ... وتتميز عنها بتنوع مصادر الرزق ووفرتها... سواء أكانت مشروعات إنمائية وصناعية مصرية .. أو شركات أجنبية متعددة كلها خلقت مهناً جديدة فتحت مجالات أوسع للاسترزاق والتعيش. ولا يمكننا بأي حال أن نقارن بينها وبين مدينة العريش مثلاً... التي برغم احتلالها عام 1967 ومعاناة أهلها من جراء تحكم المحتل وتضييق منابع الرزق .. إلا أن جواسيسها الذين عملوا لصالح العدو – اضطروا – بسبب الضغوط المادية والمعنوية إلى السقوط ... تدفعهم مشاكل لا قبل لهم بها. هؤلاء الجواسيس يقل عددهم كثيراً عن جواسيس الإسكندرية... بل إن جواسيس العريش لم ينفذ حكم الإعدام إلا في قلة منهم أشهرهم على الإطلاق إبراهيم شاهين زوج انشراح موسى ... بينما نجد ملفات الجاسوسية في الإسكندرية تحف بعشرات القضايا التي انتهت غالبيتها بإعدام الخونة .. فتتفوق بذلك عن سائر مدن مصر بما فيها القاهرة. وهذا أمر يدعونا للبحث عن جذور الجاسوسية في الإسكندرية ... وعمقها داخل البنية الاجتماعية التي اختلت بعد النكسة عام 1967.. وأيضاً نتيجة لعدم مواكبة ركب حضارة أشرقت علاماته.. ودوت بيارقة لتهرب أحاجي التخلف وأسانيده. وفي هذا الفصل نكتب عن جاسوس الإسكندرية "ماريو" أو "محمد إبراهيم فهمي كامل" الذي يعد من أشهر عملاء إسرائيل في مصر الذين يتم تجنيدهم بسهولة يكاد العقل لا يستوعبها أو يصدقها. وأيضاً كانت قصة سقوطه في قبضة مخابراتنا أكثر سهولة .. أما نهايته البشعة فلم يكن ليصدقها هو أو يتخيل خطوطها السوداء... جذور متآكلة منذ تفتحت عيناه على ضجيج الحياة في حي محرم بك المزدحم ذاب عشقاً في جرس الترام ... الذي كلما ملأ أذنية خرج إلى الشرفة يبتسم في انبهار وحيرة .. فنشأت بينه – منذ طفولته – وبين الترام قصة غرام دفعته للهرب من مدرسته ... والسعي وراءه راكباً لجميع خطوطه المختلفة ومحطاته. ولم يدم هذا الحب كثيراً إذ اندفع فجأة نحو السيارات فالتصق حباً بها ... والتحم عقله وقلبه الصغير بموتور السيارة مستغرقاً وقته كله.. حتى أخفق في دراسته الابتدائية... وأسرعت به خطاه إلى أول ورشة لميكانيكا السيارات يمتلكها إيطالي يدعى الخواجة "روبرتو" الذي اكتشف هذا الحب الجارف بين الولد والموتور فعلمه كيف يتفاعل معه؟! ويفهمه ويستوعبه. ولم تكد تمضي عدة أشهر فقط إلا وكان محمد أشهر صبي ميكانيكي في ورشة الخواجة روبرتو. كانت السيارات تقف موازية للرصيف بجوار الورشة بأعداد كبيرة... تنتظر أنامل محمد الذهبية وهي تداعب الآلة المعدنية الصماء... وتمر بين أجزائها في تناغم عجيب فتعمل بكفاءة ويتحسن صوت "نبض" الموتور .. ويزداد الصبي شهرة كل يوم. ورغم محاولات البعض استدراجه واستثمار خبرته وشهرته في عمل ورشة "مناصفة" بعيداً عن روبرتو، أجبروا على أن يتعاملوا معه كرجل لا كصبي في الخامسة عشرة من عمره. وكثيراً ما كان ينزعج عندما كان يخرج إلى الكورنيش مع أقرانه بسبب توقف السياراة ودعوة أصحابها له ليركب حتى منزله، فكبرت لدى الصبي روح الرجولة وارتسمت خطوطها المبكرة حيث كان مبعثها حبه الشديد للعمل والجدية والتفكير الطويل. وبعد عدة سنوات كانت الأحوال والصور قد تغيرت. صار الصبي شاباً يافعاً خبيراً بميكانيكا السيارات. تعلم اللغة الإيطالية من خلال الخواجة روبرتو والإيطاليين المترددين على الورشة وأصبح يجيد التعبير بها كأهلها.. فأطلق عليه اسم "ماريو". وعندما لسعته نظرات الإعجاب من "وجيدة".. دق قلبه بعنف وانتبه لموعد مرورها أمام الورشة حين عودتها من المدرسة. فواعدها والتقى بها ولم يطل به الأمر كثيراً... إذ تقدم لأسرتها وتزوجها بعدما اقنعتهم رجولته وسمعته الحميدة وشقته الجميلة في محرم بك. ثمانية أعوام من زواجه وكانت النقود التي يكسبها تستثمر في ورشة جديدة أقامها بمفرده. ومنذ استقل في عمله أخذ منه العمل معظم وقته وفكره حتى تعرف على فتاة قاهرية كانت تصطاف مع أهلها بالإسكندرية وأقنعها بالزواج.. ولأنها كانت ابنة أسرة ثرية فقد اشترى لها شقة في الدقي بالقاهرة وأثثها.. وأقام مع عروسه "تغريد" لبعض الوقت ثم عاد إلى الاسكندرية مستغرقاً في عمله متنقلاً ما بين وجيدة وتغريد ينفق هنا وهناك. وعندما توقف ذات يوم على الطريق الصحراوي بالقرب من الرست هاوس بجوار سيارة معطلة... أعجبته صاحبة السيارة ودار بينهما حوار قصير... على أثره ركبت معه السيارة الرائعة إلى القاهرة .. وفي الطريق عرف أنها راقصة مشهورة في شارع الهرم .. لسهر معها في الكباريهات وتنقل معها هنا وهناك... ثم جرجرته معها إلى شقتها...واعترف ماريو أن هذه الراقصة كانت أول من دفعه والخطوة الأولى نحو حبل المشنقة... ويقول في اعترافاته التفصيلية... (يتبع) الجسد ينادي في تلك الليلة شربت كثيراً وكلما رأيت جسد الراقصة المثير يرتعش أمام الزبائن ترتعش في جسدي خلجات الرغبة، وبعدما انتهت من فقراتها الراقصة في أربعة كباريهات ... عدنا إلى شقتها في المهندسين وبدلاً من أن أنام أو أذهب لشقتي حيث تنتظرني تغريد ... وجدتني أطوق خصرها بشدة وأطلب منها أن ترقص لي وحدي، فأبدلت ملابسها وعادت لي بلباس الرقص الشفاف الذي سلب عقلي وأفقدني الصواب. وذهبت إلى تغريد التي وجدتها تشتاق إلى جيوبي قبلما تشتاق إلي .. فافتعلت مشاجرة معها وعدت ثانية إلى الراقصة التي استقبلتني فرحة .. ومنذ ذلك اليوم وأنا لا أكاد أفارقها أو أبتعد عنها لأواصل عملي في الوشة. لقد استعنت ببعض الصبية الذين دربتهم على القيام بالعمل بدلاً مني .. فكنت أتغيب لعدة أيام في القاهرة وأعود لأجمع ما ينتظرني من مال لديهم ... وسرعان ما أرجع لأنفقه على الداعرات والراقصات ... ونساء يبعن بناتهن ورجال يبيعون لحم زوجاتهم من أجل جنيهات قليلة. ولأن للفلوس مفعول السحر فقد كنت أعامل كملك ... لأنني أصرف ببذخ على من يحطن بي من فتيات ونساء أشبعنني تدللاً ... وصورنني كأنني الرجل الأول لديهن، فأطلقت يدي ومددتها إلى مدخراتي في البنك شيئاً فشيئاً حتى أصبح رصيدي صفراً وتحولت الورشة إلى خرابة بعدما سرق الصبيان أدواتها وهرب منها الزبائن. حاولت أن أثوب إلى رشدي وكان الوقت قد فات، وخسرت سمتي بعدما خسرت نفسي... وأصبحت مصاريف وجيدة وتغريد تمثل عبئاً قاسياً على نفسي وأنا الذي لم يعضني الجوع أو تثقلني الحاجة من قبل ... فتألمت لحالي وقررت أن أخطو خطوة سريعة إلى الأمام وإلا ... فالمستقبل المجهول ينتظرني والفقر يسعى ورائي بشراسة ولا أستطيع مجابهته. تشاو .. تشاو .. تشاو .. استخرجت جواز سفر وحصلت على عناوين لبعض زبائني القدامى في إيطاليا وركبت السفينة الإيطالية "ماركو" إلى نابولي... وبعدما رأيت أضواء الميناء تتلألأ على صفحة المياه صحت بأعلى صوتي تشاو .. تشاو نابولي. وفي بنسيون قديم حقير وقفت أمام صاحبه العجوز أسأله هل زرت مصر من قبل؟ فقال الرجل لا ... ضحكت وقلت له أنني رأيتك في الاسكندرية منذ سنوات فجاءتني زوجته تسبقها حمم من الشتائم قائلة: ماذا تريد أيها المصري من زوجي؟ أتظن أنك فهلوي؟ انتبه لنفسك وإلا ... ففي نابولي يقولون: إذا كان المصري يسرق الكحل من العين .. فنحن نسرق اللبن من فنجان الشاي. وكان استقبالاً سيئاً في اول أيامي في إيطاليا. في اليوم التالي حاولت أن أتعرف على السوق وبالأخص أماكن بيع قطع الغيار المستعملة ... ولكن صديقاً إيطالياً توصلت إليه أخبرني أن في "ميلانو" أكبر أسواق إيطاليا للسيارات القديمة والمستعملة ... وثمنها يعادل نصف الثمن في نابولي. فاتجهت شمالاً إلى روما وقطعت مئات الكيلو مترات بالقطار السريع حتى ميلانو .. وبالفعل كانت الأسعار هناك أقل من نصفها في نابولي.. والتقيت في ميلانو بأحد زبائني القدامى الذي سهل لي مهمتي... ولفت انتباهي إلى أماكن بيع منتجات خان الخليلي في ميلانو بأسعار عالية. ابتعت طلباتي من قطع غيار سيارات الفيات 125 غير المتوافرة في السوق المصرية وعدت إلى الإسكندرية وخرجت من الجمرك بما معي من بضائع بواسطة زبائني الذين يعملون في الدائرة الجمركية .. وقمت ببيع قطع الغيار بأضعاف ثمنها وذهبت إلى خان الخليلي واشتريت بعضاً من بضائعه وسافرت مرة ثانية إلى إيطاليا... واعتدت أن أنزل ببنسيون "بياتريتشي" في روما ثم أتجه إلى ميلانو لعدة أيام .. أنجز خلالها مهمتي وأعود ثانية إلى روما ونابولي ثم إلى الاسكندرية. اعتدت السفر كثيراً وبدأت الأموال تتدفق بين أصابعي من جديد .. واتسعت علاقاتي بإيطاليين جدد بالإضافة للأصدقاء القدامى الذين يكنون لي كل الود. وفي ذات مرة وبينما كنت في خان الخليلي أنتقي بعض المعروضات التي أوصاني صديق إيطالي بشرائها... سألتني فتاة تبيع في محل صغير عما أريده .. وساعدتني في شراء بضائع جيدة بسعر رخيص وتكررت مرات الذهاب للشراء بواسطتها ولما عرفت أنني أسافر إلى إيطاليا بصفة مستمرة عرضت علي أن تسافر معي ذات مرة... لتشتري سيارة فيات مستعملة لتشغيلها تاكسياً في القاهرة. واطمأنت "زينب" وهذا هو اسمها – عندما أخبرتها أنني أعمل ميكانيكياً وأقوم بالإتجار في قطع الغيار. وتركتها لتجمع المبلغ المطلوب ثم أرسل لها من إيطاليا لأنتظرها هناك. أراد أصدقائي الإيطاليين أن أظل بينهم وأمارس عملاً ثابتاً أحصل بمقتضاه على إقامة في إيطاليا. وقد كان... إذ سرعان ما وجدوا لي عملاً في شركة "راواتيكس"... وبعدما حصلت على تصريح عمل وإقامة .. لم تتوقف رحلاتي إلى الاسكندرية ... فالمكسب كان يشجع على السفر بصفة مستمرة لكي أعرف احتياجات سوق قطع غيار السيارات في مصر ... والذي كان يمتصها بسرعة فائقة. وفي إحدى هذه السفريات وبينما كنت في مطار روما تقابلت بالصدفة مع صديق إيطالي قديم – يهودي – كانت بيننا "عشرة" طويلة واسمه "ليون لابي" فتبادلنا العناوين، وبعد عدة أيام جاءتني مكالمة تليفونية منه وتواعدنا للقاء في مطعم مشهور في ميلانو. أشفق "لابي" كثيراً على حالي بعدما شرحت له ظروفي وتعثراتي المالية وزواجي من امرأتين .. وسألته أن يتدبر صفقة تجارية كبيرة أجني من ورائها أموالاً طائلة ... فضحك "لابي" وقبل أن يقوم لينصرف ضربني على ظهر يدي وقال لي: "لا تقلق ماريو ... غداً سأجد لك حلاً، لا تقلق أبداً". القتيــل المصيدة في اليوم التالي وفي الثامنة مساء وقفت مرتبكاً للحظات أمام الباب المغلق... ثم نزلت عدة درجات من السلم وأخرجت علبة سجائري وأشعلت سيجارة ... وعندئذ سمعت وقع خطوات نسائية بمدخل السلم فانتظرت متردداً... وعندما رأيت الفتاة القادمة كدت أسقط على الأرض. كانت هي بنفسها الفتاة التي واقعتها في شقة "لابي" لكن ابتسامتها حين رأتني مسحت عني مظاهر القلق وهي تقول: Ø بونجورنو فرددت تحيتها بينما كانت تسحبني لأصعد درجات السلم ولا زالت ابتسامتها تغطي وجهها وقالت في دلال الأنثى المحبب: Ø أنا لم أخبر سنيور لابي بما حدث منك .. قلت في ثقة الرجل: Ø ماذا؟ ألم تهدديني بالانتحار من النافذة؟ بهمس كأنه النسيم يشدو: Ø أيها الفرعوني الشرس أذهلتني جرأتك ولم تترك لي عقلاً لأفكر .. حتى أنني كنت أحلم بعدها بـ "أونالترا فولتا"، لكنك هربت!! قلت لها: Ø يا ليتني فهمت ذلك. وانفتح الباب وهي تقول: Ø هل ترفض دعوتي على فنجان من القهوة الإيطالية؟ ووجدت نفسي في صالة القنصلية الإسرائيلية والفتاة لا زالت تسحبني وتفتح باب حجرة داخلية لأجد "لابي" فجأة أمامي. قام ليستقبلني بعاصفة من الهتاف: Ø ميو أميتشو ... ماريو ... أهلاً بك في مكتبك. وهللت الفتاة قائلة: Ø تصور ... تصور سنيور لابي أنه لم يسألني عن اسمي؟ قهقه لابي واهتز كرشه المترهل وهو يقول بصوت جهوري: Ø شكرية ...شكرية بالمصري سنيور ماريو تعني: جراتسيللا. واستمر في قهقهته العالية وصرخت الفتاة باندهاش: Ø أيكون لاسمي معنى بالعربية؟ اشرحه لي من فضلك سنيور ماريو. وكانت تضحك في رقة وهي تردد: Ø شوك ... ريا ... شوك ... ريا . جراتسيللا شوك .. ريا. ولم يتركني لابي أقف هكذا مندهشاً فقال للفتاة: Ø أسرعي بفنجانين من الـ "كافي" أيتها الكافيتييرا جراتسيللا. واستعرض لابي في الحديث عن ذكرياته بالإسكندرية قبل أن يغادرها إلى روما في منتصف الخمسينيات... وأفاض في مدح جمالها وشوارعها ومنتزهاتها... ثم تهدج صوته شجناً وهو يتذكر مراتع صباه وطال حديثنا وامتد لأكثر من ساعتين بينما كانت سكرتيرته الساحرة جراتسيللا لا تكف عن المزاح معي وهي تردد: Ø شوك ... ريا .. سنيوريتا شوك ... ريا ... وعندما سألتني أين أقيم فذكرت لها اسم الفندق الذي أنزل به... فقالت وكأنها لا تسكن ميلانو: Ø لم أسمع عن هذا الفندق من قبل. رد لابي قائلاً: Ø إنه فندق قديم غير معروف في الحي التاسع "الشعبي". قالت في تأفف: Ø أوه ... كيف تقيم في فندق كهذا؟ قال لابي موجهاً كلامه إليها: Ø خذيه إلى فندق "ريتزو" وانتظراني هناك بعد ساعتين من الآن. وربت لابي على كتفي في ود وهو يؤكد لي أنه يحتاجني لأمر هام جداً لن أندم عليه وسأربح من ورائه الكثير. وركبت السيارة إلى جوار جراتسيللا فانطلقت تغني أغنية "بالوردو بيلفا" أي "أيها الوحش الضاري" وفجأة توقفت عن الغناء وسألتني: Ø هل تكسب كثيراً من تجارتك يا ماريو؟ قلت لها: Ø بالطبع أكسب ... وإلا ... ما كنت أعدت الكرة بعد ذلك مرات كثيرة... Ø كم تكسب شهرياً على وجه التقريب؟ Ø حوالي ستمائة دولار. قالت في صوت مشوب بالحسرة: Ø وهل هذا المبلغ يكفي لأن تعيش؟ إن لابي يشفق لحالك كثيراً سنيور ماريو. Ø سنيور لابي صديقي منذ سنوات طويلة .. وأنا أقدر له ذلك. Ø إنه دائماً يحدثني عن الإسكندرية .. له هناك تراث ضخم من الذكريات ...!! وفي فندق ريتز .. صعدنا إلى الطابق الثاني حيث حجزت لي جراتسيللا جناحاً رائعاً وبينما أرتب بعض أوراقي فوجئت بها تقف أمامي في دلال وبإصبعها تشير لي قائلة: Ø "أونالترا فولتا" أيها المصري وهذه المرة "للإيطاليا نيتا" ... "محبة الوطن الإيطالي". وغرست أظافرها بجسدي بينما كنت أرتشف عبير أنوثتها وأتذوق طعمها الساحر وكانت لا تكف عن الهتاف: Ø ليوباردو ...ليوباردو .. ماريو إيجتسيانو . وعندما جاء لابي كان من الواضح أننا كنا في معركة شعواء انتهينا منها تواً.. أخرج من جيبه مظروفاً به خمسمائة دولار وقال لي إنه سيمر علي صباح الغد... وأوصاني أن أنام مبكراً لكي أكون نقي الذهن. وانصرفا بينما تملكتني الأفكار حيرى... ، ترى ماذا يريد مني؟ وما دخلي أنا فيما يريده لابي؟؟ وفي العاشرة والنصف صباحاً جاء ومعه شخص آخر يتحدث العربية كأهلها اسمه " إبراهيم " ... قال عنه لابي إنه خبير إسرائيلي يعمل في شعبة مكافحة الشيوعية في البلاد العربية. رحب إبراهيم بماريو وقال له بلغة جادة مفعمة بالثقة: Ø إسرائيل لا تريد منك شيئاً قد يضرك ...فنحن ناحرب الشيوعية ولسنا نريدك أن تخون وطنك... مطلقاً... نحن لا نفكر في هذ الأمر البتة. وكل المطلوب منك.. أن تمدنا بمعلومات قد تفيدنا عن نشاط الشيوعيين في مصر وانتشار الشيوعية وخطرها على المنطقة. وأردف ضابط المخابرات الإسرائيلي: Ø كل ذلك لقاء 500 دولار شهرياً لك. وعندما أوضحت له أنني لا أفهم شيئاً عن الشيوعية أو الاشتراكية. وأنني أريد فقط أن أعيش في سلام. ذكرني لابي بأحوالي السيئة بالإسكندرية والتي أدت إلى تشتتي هكذا بعدما كنت ذا سمعة حسنة في السوق. واعتقدت أنني يجب ألا أرفض هذا العرض... فهي فرصة عظيمة يجب استغلالها في وسط هذا الخضم المتلاطم من الفوضى التي لازمتني منذ أمد .. وتهدد استقرار حياتي. الحصار في روما عندما تسلمت زينب الرسالة الوافدة من إيطاليا، لم تكن تصدق أن يهتم بها هذا العابر المجهول إلى هذا الحد. كانت قد نسيته بعدما مرت عدة أشهر منذ التقت به في خان الخليلي حيث تعمل بائعة في محل للأنتيكات والتحف. وبعدما تردد عليها عدة مرات عرضت عليه السفر معه إلى إيطاليا لتشتري سيارة لتشغيلها سيارة أجرة في القاهرة .. فوعدها بأن يساعدها ثم اختفى فجأة ولم يعد يذهب إليها ... حتى جاءتها رسالته تحمل طابع البريد الايطالي وعنوانه وتليفونه هناك. أسرعت زينب بالخطاب إلى خالها الذي يتولى أمرها بعد وفاة والديها، ولكنه عارض الفكرة وعندما رأى منها إصراراً رضخ للأمر ووافقها.. سنوات وزينب تحلم بالسفر إلى الخارج للعمل. لقد بلغت الرابعة والعشرين من عمرها، ولم ترتبط بعد بعلاقات عاطفية تعوق أحلامها. لذلك تفوقت في دراستها بكلية الآداب – جامعة عين شمس وعشقت اللغة الإنجليزية عشقاً كبيراً... والتحقت بعد الجامعة بالعمل في خان الخليلي بالقرب من بيتها في شارع المعز لدين الله بحي الجمالية... حيث مسجد الحسين ورائحة التاريخ تعبق المكان وتنتشر على مساحة واسعة من الحي القديم العريق. حجزت زينب تذكرة الطائرة ذهاباً وإياباً على طائرة مصر للطيران .. وبحقيبتها كل ما لديها من مال وفرته لمثل هذه الفرصة. وفي مطار روما كان ماريو بانتظارها يملؤه الشوق لأول الضحايا الذين سيجندهم للعمل لصالح المخابرات الإسرائيلية. وعندما رأته كانت كمن عثر على شيء ثمين. إذ صدمتها اللغة الإيطالية التي لا تعرف منها حرفاً واحداً... وسرت كثيراً عندما وجدت ماريو يتحدث بها "كالطليان" أصحاب البلد. اصطحبها إلى فندق رخيص في روما ثم تركها لتستريح وذهب هو إلى مسكنه ليرتب خطة تجنيدها التي رسم خطوطها عدة مرات... وفي الصباح ذهب إلى الفندق حيث كانت الفتاة تنتظره فأخذها في جولة رائعة بسيارته لمنتزهات روما وأماكنها السياحية. ثم ذهب بها في اليوم التالي إلى أماكن بيع السيارات المستعملة. معتمداً أن يرفع لها أسعار السيارات مستغلاً جهلها باللغة الإيطالية... واعتمادها عليه أولاً وأخيراً. وتعمد أيضاً أن تطول مدة إقامتها في روما للبحث عن فرصة شراء سيارة أفضل وأرخص وأقنعها بشراء فيات 125 دفعت فيها معظم ما تملكه من مال... وما تبقى معها كان يكفي بالكاد مصاريف الشحن إلى الإسكندرية. وصدمت الفتاة بعدما تبين لها أن فاتورة الفندق امتصت النصيب الأكبر من نقودها .. ولم تعد تملك مصاريف الشحن كاملة. لقد خدعها ماريو عندما ذكر لها أرقاماً تقل بكثير الحقيقة عند شحن السيارة. صيد الغزلان تركها ماريو لعدة أيام دون أن يتصل بها بحجة أنه كان في ميلانو. وبكت زينب في حرقة وهي تحكي له عن حالها... وكيف أنها لم تعد تملك أية أموال لتعود إلى مصر بالسيارة الواقفة أمام الفندق ومتوسلة رجته أن يساعدها فوعدها بذلك. ومرت ثلاثة أيام أخرى كانت زينب قد باعت حليها ولم تتبق معها سوى ساعة يدها الجوفيال التي لا تساوي شيئاً يذكر. حاصرها ماريو جيداً وأفقدها التفكير واستعمل معها أسلوب "صيد الغزلان" بأن أغلق أمامها كل الطرق.. وترك لها فتحة ضيقة لتنفذ منها إلى شبكته لتقع فيها ولا تخرج. وظهر لها فجأة بعد غياب عدة أيام معتذراً بشدة .. واصطحبها للعشاء بأحد المطاعم الراقية... وبعد أن جلسا عزفت الموسيقى مقطوعة إيطالية شهيرة عنوانها "مولتي جراتسي ميو أميتشو" أي "شكراً جزيلاً يا صديقي" فقالت زينب لماريو: Ø طلبت منك قرضاً أرده لك في مصر فلم تجبني. اعتدل ماريو في مقعده وقال بسرعة: Ø نعم ... نعم ... لا مشكلة إذن ... بعد غد سأتلوى شحن سيارتك إلى الإسكندرية. Ø ولِم بعد غد؟ Ø مشغول أنا غداً... ولا أملك وقتاً مطلقاً "قالها ماريو وتعمد ألا ينظر لوجهها". Ø لقد وعدتني أن تدبر لي عملاً هنا في روما. فإن ذلك سيعفيك من إقراضي أية أموال. Ø ماذا تقولين؟ ألم أخبرك أنني أبحث بالفعل عن عمل مناسب لك؟ Ø أنت تقول "قالتها زينب مليئة بالحسرة والإحساس بالندم" فما كان من ماريو إلا أن أجاب: Ø عموماً ... بعد غد ستكون سيارتك على ظهر السفينة. أفهمت؟ وفي تلك اللحظة .. اقترب منها رجل وسيم تعدى الخمسين بقليل وقال بالإنجليزية بأدب جم: Ø أتسمحان لي بأن أطلب من إدارة المطعم إغلاق جهاز التكييف الحار حتى لا نصاب جميعاً بالبرد عند الخروج؟ ردت زينب في حماس بالغ ممزوج بالعرفان: Ø تفضل ... وشكراً يا سيدي أردف الرجل قائلاً: Ø معذرة ... هل أنت تونسية؟ أجابته بأن لكنتها تدل على ذلك وضحكت وقالت في افتخار: Ø أنا من الجمهورية العربية المتحدة. من القاهرة. هتف الرجل سعيداً: Ø أوه ...ناسر ... يا له من زعيم عبقري. وفي حركة مسرحية سريعة مد الرجل يده إلى محفظته.. وأخرج منها صورة لعبد الناصر يشرب من "القلة" ويجلس على الأرض بجوار صلاح سالم وأردف قائلاً: Ø تمنيت أن أراه وأصافحه ذات يوم. فهل يتحقق لي ذلك؟ Ø تعال إلى القاهرة يا سيدي وأعتقد أن ذلك ليس بالشيء الصعب. هكذا قالت زينب بفخر، وهي تتكلم الإنجليزية بطلاقة...، وتكلم ماريو يخاطب الرجل بالإيطالية: Ø أنتم تكرهون ناصر في الغرب ... وفي الشرق تتوقف الحياة تماماً حينما يتكلم .. تناقض غريب. أجاب الرجل في بشاشة: Ø نعم يا سيد .. ؟ Ø ماريو ... ماريو إيجتسيانو "ماريو المصري". Ø نعم ... نعم سنيور ماريو هذه حقيقة لا ننكرها.. فمنذ أزمة القناة والغرب لا ينسى ذلك لناصر أبداً. واعترضت زينب على حوارهما بالإيطالية فقال لها ماريو إن لغته الإنجليزية ضعيفة جداً .. وجاءت فاتورة الحساب ففوجئت زينب بالرجل الغريب يصر على دفعها.. وعندما تمسك ماريو بأريه قال الرجل: Ø إذن .. هلا قبلتما دعوتي على العشاء غداً؟ أجاب ماريو موافقاً بينما تحرجت زينب ثم فاجأهما ماريو بإعلان اعتذاره لارتباطه طوال الغد .. فأبدى الرجل الأنيق تفهمه ونظر إلى زينب فتراجعت الكلمات على لسانها .. عندها لم يمهلها وقتاً طويلاً لتفكر وقال موجهاً حديثاً اليها أنه سيلتقي بها في الثامنة مساء الغد في مطعم "فريسكو" .. فقالت زينب في اضطراب "بعدما نظر اليها ماريو موافقاً" إنها لا تعرف الأماكن جيداً. وبدأ الرجل سيلاً من الأسئلة عن جوانب حياتها فأجابته زينب بحسن نية وأخيراً قال لها في دبلوماسية شديدة تدل على خبرة عالية في إدارة حوار: Ø لقاء الغد ستترتب عليه أشياء كثيرة مهمة لكلينا .. !! وبعد انتهاء السهرة صحبهما بسيارته الفارهة وأنزل زينب أمام فندقها وانصرف... وقضت هي وقتاً طويلاً تفكر فيما يقصده بعبارته الأخيرة. وماذا سيترتب عليها من أشياء مهمة؟؟ وفي مساء اليوم التالي كان في انتظارها بردهة الفندق كما اتفقنا بالأمس ... وأخذها في جولة ليلية بنوادي روما وشوارعها ثم دلفا معاً إلى مطعم فريسكو الشهير .. حيث الأنواع الغريبة من الأسماك والمحار وكائنات بحرية مدهشة. كان الرجل قد التمس مكاناً هادئاً في ركن بعيد وتوقعت زينب بأنه من زبائن المطعم المعروفين، للاحترام الجم الذي قوبل به. ولكنه انتشلها من حيرتها وقال لها بحرارة: Ø آنسة زينب .. منذ الأمس وأنا في حيرة شديدة... وكما تعلمين فأنا رجل أعمال بريطاني معروف ... والذي لا تعرفينه أنني انفصلت عن شريك لي منذ مدة قصيرة .. وكنت أنوي توسيع أعمالي في لندن لكن أشار علي البعض باستثمار مشاريع إنمائية في جنوب أفريقيا ... وقمت بالفعل بالسفر إلى جوهانسبرج وزيارة كيب تاون وحصلت على بعض تقارير اقتصادية لتساعدني في اتخاذ قراري. حتى كان لقاء الأمس الذي سبب لي حيرة شديدة فبرغم حبي لناصر إلا أنني لم أفكر من قبل في السفر إلى القاهرة لدراسة السوق المصرية وإقامة بعض مشروعاتي بها. وتنهد الرجل فيما يشبه إحساساً بالندم وأردف: Ø إنني الآن – وبإصرار وثقة – أريد اقتحام السوق العربية من خلال مصر. ومن خلالك أنت. قالت له زينب في دهشة: Ø من خلالي أنا؟ Ø نعم ... فأنت مصرية وجامعية طموحة .. تملكين اللغة العربية والإنجليزية والثقافة... ويمكنني الاعتماد عليك في إعداد تقرير اقتصادي عن أحوال مصر الاقتصادية ومشاكل التنمية بها ومعوقات السوق. ومن خلال هذا التقرير سأقرر ما إذا كنت أستطيع إقامة مشاريع إنمائية في مصر من عدمه. ولذلك فهذا الأمر مهم بالنسبة لي ولك .. لأنك ستكونين مديرة لفرع القاهرة وتملكين حق اتخاذ قرارات لصالح مؤسستنا. حلم اليتيم انفرجت أسارير زينب وهللت بشراً وسعادة لهذا الخبر المنهمر الذي أغدق عليها فجأة. كانت تجلس أمامه ولا تملك بحقيبة يدها سوى ستة وعشرين دولاراً وبضع ليرات إيطالية لا تكفي ليوم آخر في روما... واغرورقت عيناها بدموع الفرح عندما فاجأها قائلاً: Ø ومنذ اليوم سيكون راتبك ثلاثمائة دولار شهرياً. صرخت بأعماقها لا تصدق أن غيمة النحس قد انقشعت ... وأن الحياة عادت لتضحك من جديد.. لقد مرت بها سنوات من الجوع والحرمان والحاجة .. وكلما ارتقت درجة من درجات الأمل انزلقت إلى الوهم وأحلام الخيال. الآن جاءت أحلام الواقع لتزيح أمامها الأوهام فتتراجع القهقري. كانت تبدو من قبل وكأنها تغرق في لجج من ماء ذي قوام .. الآن تطير في سماوات من الصفو اللذيذ. أخيراً تحقق الحلم الذي طال انتظار اليتيم له. حلم ليس بالمستحيل ولكنه كان المستحيل نفسه. يا الله. قالتها زينب وهي تتنهد فتغسل صدرها الصغير من تراكمات اليأس وخيوط الرجاء.أوصلها الرجل إلى الفندق بعدما منحها 600 دولار مرتب شهرين ودفع عنها حساب الفندق. وفوجئت زينب بماريو يسرع بحشن سيارتها ودفع مصاريفها ويودعها بالمطار. وفي مقعدها بالطائرة أغمضت عينيها وجلست تفكر في أمر ماريو. لقد أخبرته بأمر الجل فأظهر موافقته. وبرغم كونه تاجراً لم يأخذ منها مصاريف الشحن ... بل ألح عليها كثيراً لكي تأخذ منه مائة دولار في المطار. وسلمها حقيبة هدايا بها علبة ماكياج كاملة وزجاجتا بارفان وحزام جلدي أنيق. تشككت زينب في هذه الأمور وأخذت من جديد تستعرض شريط ما مر بها في روما. وتذكرت الدورة الإرشادية التي حضرتها في أحد مدرجات جامعة القاهرة قبل سفرها بأيام. كان المحاضر يشرح أساليب الموساد في اصطياد المصريين في الخارج. ولأن ماريو مصري مثلها ومجريات الأمور كلها كانت شبه طبيعية.. فقد طردت وساوسها التي تضخمت إلى حين .. وقررت أمراً في نفسها. وفي مطار القاهرة انتحت بأحد الضباط جانباً وسألته سؤالاً واحداً. وفي اليوم التالي ... كانت تستقل سيارة صحبتها إلى مقر جهاز المخابرات المصرية.. قالت كل شيء بدقة وسردت تفاصيل رحلتها إلى ايطاليا وكيف خدعها ماريو لتنفق كل ما لديها من نقود. وحكت ظروفها النفسية السيئة التي مرت بها وكيفية تقرب رجل الأعمال البريطاني منها في تلك الظروف. وكيف شحن ماريو سيارتها إلى الاسكندرية على نفقاته.. وهو التاجر الذي يسعى للكسب... ؟ بل إنه عرض عليها مائة دولار أخرى. ولماذا لم يعطها رجل الأعمال عنوانه في بريطانيا لتراسله وتبعث اليه بالتقارير التي طلبها؟ لقد أخبرها أن ماريو سيسافر إلى القاهرة عما قريب وعليها أن تسلمه التقرير الاقتصادي الوافر الذي ستعده عن مصر. وتذكرت زينب أيضاً كيف أن ماريو طلب منها في المطار أن تهتم جيداً بالعمل الذي أوكل إليها ولا تهمله. وعندما سألته هل لديك عنوان مكتب رجل الأعمال ؟!! أجاب بنعم في حين أنه من المنطقي أن يكون معها عنوانه. لقد سلمها 600 دولار وهي بلا شك لقاء قبولها التجسس على وطنها. صراع العقولوفوجئت زينب بما لم تتوقعه على الإطلاق ...صور عديدة لها مع ماريو ...قال ضابط المخابرات المصري أن المخابرات العربية على علم بأمره ... وتراقب تحركاته وتنتظر دليل إدانته وقال لها أيضاً: Ø إن إسرائيل منذ قيامها في عام 1948 وهي تسعى بشتى السبل لمعرفة كل ما يجري في البلاد العربية من نمو اقتصادي وتسلح وما لديها من قوات وعتاد .. ولذلك لجأت لشراء ضعاف النفوس والضمائر وجعلتهم يعملون لحسابها.. وينظمون شبكات التجسس المتعددة في العواصم العربية... حتى إذا كشفت واحدة تقوم الأخرى مكانها وتتابع نشاط جواسيسها. وتنفق إسرائيل الملايين على هذه الشبكات للصرف عليها. وأن السبب الرئيسي لسقوط بعض الأفراد في مصيدة المخابرات الإسرائيلية هو ضعف الحالة المادية. وبالإضافة إلى الأموال الطائلة التي تنفقها الموساد على عملائها... فإنها تغرقهم أيضاً في بحور الرغبة وتشبع فيهم نزواتهم ... وبذلك تتم له السيطرة عليهم. لذا .. فقد أعلنت المخابرات المصرية في يناير عام 1968 بأنها ستساعد كل من تورط مع العدو .. ووقع في فخ الجاسوسية بالإغراء أو التهديد. وأنها على استعداد للتغاضي عن كل ما أقدم عليه أي مواطن عربي .. إذا ما تقدم بالإبلاغ عن تورطه مع الموساد مهما كان منغمساً في التجسس ... وذلك لتفويت الفرصة على المخابرات الإسرائيلية. ووعد الزعيم جمال عبد الناصر صراحة بحماية كل من تورط بالتجسس لأي سبب. وقد أسفرت هذه الخطة عن تقدم سبعة مصريين إلى جهاز المخابرات المصرية يعترفون بتورطهم ويشرحون ظروف سقوطهم. وأضاف الضابط : Ø لقد تكلمنا مع ماريو عدة مرات من قبل ... وأفهمناه بطريقة غير مباشرة بأننا على استعداد لمساعدة المتورطين دون أن يعاقبوا. لكن يبدو أنه استلذ أموال الموساد. وسيسقط على يديك يا زينب لأننا سنحصل على دليل إدانته من خلالك. ووضعت المخابرات المصرية خطة محكمة لاصطياد ماريو.. وفي أول اتصال هاتفي من روما بعد أيام من وصولها.. أخبرته زينب بأنها مشغولة "بترجمة الكتاب" – وهو مصطلح سبق لهما أن اتفقا عليه – وعندما سألها عن المدة التي تكفي لإنجاز "الترجمة" لأنه ينوي المجيء لمصر بعد يومين طلبت منه – حسب الخطة – أن يتأخر عدة أيام حتى تنجز العمل. اطمأن ماريو وصديقه لردود زينب .. وقنعا بأنها منهمكة في إعداد التقرير ... فلو أن هناك شيء ما يرتبت في الخفاء لما ترددت في إيهامه بأنها أنجزت ما طلب منها .. وفي مكالمة أخرى بعدها بثمانية أيام ... زفت غليه النبأ الذي ينتظره ... وينتظره أيضاً رجال الموساد في روما... وعلى ذلك أكد لها بأنه سيصل إلى القاهرة عما قريب. سقوط الخائن وبعد اللقاء المسجل بالصوت والصورة. اتجه الخائن إلى شارع نوال بالدقي حيث شقة زوجته تغريد. فمكث معها يوماً واحداً وحمل كاميرته الخاصة التي تسلمها من الموساد وركب إلى الإسكندرية بالطريق الزراعي ... يصور المنشآت الجديدة التي تقوم على جانبي الطريق ... ويراقب أية تحركات لمركبات عسكرية أو شاحنات تحمل المدرعات ... وأمضى مع زوجته وجيدة عدة ساعات ثم عاد إلى القاهرة مرة ثانية بالطريق الصحراوي .. وكرر ماريو هذا السيناريو لمدة أسبوع بشكل متصل.. كان إخلاصه للموساد قوياً كعقيدة الإنسان أو إيمانه بمبدأ ما.. فآلاف الدولارات التي حصل عليها من الموساد بدلت دماءه وخلايا مصريته وأعمته عن عروبته.. وجعلت منه كائناً فاقد الهوية والشعور .. بل كان لأموال إسرائيل الحرام فعل السحر في قلبه وزعزعة ثوابت إسلامه. فلقد نسي أن اسمه محمد ابراهيم فهمي كامل ... مسلم .. من مصر ... وأن ماريو ليس اسمه الحقيقي الذي ينادى به. وفي إيطاليا كثيراً ما مر على مساجد روما – دون قصد – فكان يتعجب ويتساءل: ماذا يعني الدين والأنبياء والرسل؟ إن الدين هو "البنكنوت"... وعندما اتصلت به معشوقته جراتسيللا – عميلة الموساد – تستقصي أخباره وأخبار ضحيته زينب أجابها بأن كل شيء على ما يرام. وحدد لها ميعاد سفره إلى إيطاليا. وبعدما أنهت زينب إجراءات الإفراج الجمركي عن سيارتها ... استعدت "هكذا ادعت له" للسفر معه... فأخبرها بموعد الطائرة وأنه سيمر عليها ليصحبها إلى المطار. وقبل السفر بعدة ساعات كان ماريو قد أعد أدواته... وخبأ الأفلام التي صورها بجيوب سرية داخل حقائبه ونزع البطانة الداخلية لها وأخفى التقارير السرية التي أعدها بنفسه ثم أعاد إلصاقها مرة ثانية بإحكام فبدت كما كانت من قبل. ومن بين تلك التقارير كان تقرير زينب الذي كان لدى المخابرات المصرية صورة عنه. وبينما كان ماريو يغادر منزله بالدقي في طريقه إلى زينب ثم إلى المطار... فوجئ بلفيف من الأشخاص يستوقفونه .. وأقتيد إلى مبنى المخابرات وأمام المحقق أنكر خيانته لكن الأفلام والتقارير التي ضبطت كانت خير دليل على سقوطه في وكر الجاسوسية ... فاعترف مذهولاً بعمالته للموساد .. وأمام المحكمة العسكرية وجهت اليه الجرائم الآتية: Ø الحصول على أسرار عسكرية بصورة غير مشروعة وإفشاؤها إلى المخابرات الإسرائيلية. Ø الحصول على مبلغ "7 آلاف دولار" مقابل إفشاء الأسرار لدولة معادية "إسرائيل". Ø التخابر مع العدو لمعاونته في الإضرار بمصر في العمليات الحربية. Ø تحريض مواطنة مصرية على ارتكابها التخابر .. والحصول على أسرار هامة بقصد إفشائها للعدو. وبرئاسة العميد أسعد محمود إسماعيل وعضوية المقدم فاروق خليفة والمقدم أحمد جمال غلاب بحضور ممثل النيابة العسكرية والمقدم عز الدين رياض صدر الحكم في مايو 1970 بإعدام ماريو شنقاً بعد أن كرر الخائن اعترافه بالتجسس على وطنه... وبيه لأسراره العسكرية مقابل سبعة آلاف دولار. وصدق رئيس الجمهورية على الحكم لعدم وجود ما يستدعي الرحمة بالجاسوس. لم تنس المخابرات المصرية الدور الكبير الذي لعبته زينب للإيقاع بالخائن ماريو واصطياده إلى حيث غرفة الإعدام ومشنقة عشماوي في أحد سجون القاهرة. وكانت زينب بالفعل – أول مصرية – تصطاد جاسوساً محترفاً في روما ... لإعدامه في القاهرة.!! عمار الحرازي07-25-2010, 02:13 AM اغتصب طفلا يهوديا فأوشى به للشرطة العراقية زكي حبيب ـ الزاحف على الممر الزاحف على الممر ... !! كان إنساناً مريضاً... لا علاج أبداً لمرضه... فهو يعشق الشذوذ لدرجة الإدمان... وبسبب ذلك ظل يسعى حول فرائسه في كل مكان ... إلى أن أوقعه حظه السيئ في نفق مظلم .. أوصله إلى النهاية ... !! الانتصار الهزيل سبق أن قلنا أن إسرائيل ترى في العراق العدو المبين، وهي بالطبع لن تقف موقف المتفرج السلبي أمام مصالحها، لذلك فلا عجب أن هي أعادت الكرة مرات ومرات في محاولات محمومة، لإجهاض "العقول" التي تقف ضد أطماعها ومصالحها وسياساتها في العراق. لقد أفقدتها لطمة إعدام الضابط الإسرائيلي والعملاء الخمسة توازنها، إذ كان لا مفر من القيام بعملية ناجحة في بغداد تحفظ ماء وجهها. وتعيد الثقة لعملائها هناك، الذين تملكهم الرعب خوفاً من الإعدام كزملائهم السابقين. وكان انتصار الموساد في عملية واحدة، كفيل بأن يعيد ثقة هؤلاء المهتزة، في حتمية التعامل معهم. وما هو إلا شهور وجيزة، إلا ونصبت شباكها حول "زكي حبيب" التاجر اليهودي الشاذ. كان حبيب شاباً يافعاً ثرياً، تعدى السابعة والثلاثين من عمره يعمل تاجراً للملبوسات، اشتهر بميوله الشاذة مع الأطفال، وكثرة إنفاقه على هوايته بإغداق الهدايا على ضحاياه. وحدث أن تمكن صبي يهودي من سرقة مبلغ كبير من خزانته انتقاماً لاغتصابه، فجن جنونه، وألهاه البحث عن الصبي عن تجارته، فتعرض لخسائر أخرى أغرقته في الديون وأوشك على الإفلاس. وساقت إليه الصدف صائد ماهر، يبحث عن ضعاف النفوس للإيقاع بهم في فخ الجاسوسية والخيانة. ولأنه ضعيف بطبعه أمام نزواته، وخائن لا يعرف الأمان طريقاً إليه، كان من السهل اصطياده، فانخرط في الجاسوسية لصالح الموساد دون جهد يذكر، بعدما حصل على المال اللازم لتسديد ديونه، مستغلاً متجره بشارع الرشيد – أكبر شوارع بغداد – في إدارة عمله التجسسي، مستعيناً بعدد لا بأس به من العملاء اليهود الذين يسكبون المعلومات بين يديه كل يوم. لقد كان مكلفاً بجمع أكبر قدر من المعلومات العسكرية عن الجيش العراقي، وإمداداته، وتشكيلاته، وقواعده. وكذا، معلومات عن الضباط الذين كانت تربطهم به بعض العلاقات. وانصب محور اهتمامه على القطاع الشمالي والغربي من العراق، حيث كانت قواعد الصواريخ والرادارات والدفاع الجوي. وبعدما قطع شوطاً في عمله، جاءته أوامر قاطعة بالكف عن البحث في الأمور العسكرية، وتوجيه نشاطه لدفع حركة الهجرة اليهودية لإسرائيل. ابتهج حبيب لذلك كثيراً. ففي النشاط الجديد تكمن غاية لذته... كيف ... ؟ استغل حبيب رغبة أعداد كبيرة من فقراء اليهود في الهجرة، وأقام محطات "تجميع" سرية لهم بأماكن مختلفة خارج بغداد. وإذا ما وجد ضالته بين أطفال إحدى الأسر، انتهز الفرصة ومارس هوايته الشاذة تحت التهديد بإيقاف ترتيبات الهجرة، فيضطر الأباء إلى غض الطرف عن أفعاله، في احتجاج صامت جرياً وراء الحلم الأكبر، حلم الوطن القومي والخير الموعود. هكذا ظل العميل الإسرائيلي طوال عام 1951 يتصيد الفقراء ويأويهم، في انتظار الوقت المناسب، لتسريبهم عبر شط العرب إلى إيران فإسرائيل، منتهزاً الفرصة بين آونة وأخرى للانفراد بالصغار، إلى أن حدث ووقع في خطأ داهم، عندما اغتصب صبياً يهودياً عنوة اسمه "عقيد" يتيم الأبوين تملؤه الرغبة في الهجرة للحاق بخالته في حيفا... وما إن تخلص منه الصبي ذو الأربعة عشر عاماً، حتى أسرع من فوره إلى الشرطة، واعترف بما حدث له من حبيب، ونشاطه السري في تهريب اليهود. استشعر العميل الإسرائيلي الخطر، واستطاع الهرب في آخر لحظة والاختباء لدى أحد أعوانه بمنطقة نائية، وعلم فرع الموساد في "عبادان" بأمر الجاسوس الهلوع، فأُبلغ أن يظل بمخبئه إلى أن يجدوا له وسيلة آمنة لإخراجه من العراق... حتى لا تثار فضيحة أخرى تهدد خطة تهجير اليهود. ولأن المخابرات البريطانية دأبت طوال عهدها على خدمة الصهيونية، فقد تطوعت بالمساعدة، وتحملت هي وحدها مسؤولية العملية كلها. أمضى رئيس فرع المخابرات البريطانية في بغداد وقتاً طويلاً مع ضباطه للتشاور والبحث، وأسفر الأمر في النهاية عن وضع خطة دقيقة محكمة، يقوم فيها أعوان زكي حبيب بدور رئيسي لإنجاحها. في ذلك الوقت كانت فرق كاملة من الشعبة الثانية (المخابرات)، تمشط بغداد وضواحيها بحثاً عن الجاسوس الهارب وأعوانه، الذين لا يعرف الصبي "عقيد" سوى أشكالهم فقط! لذا فقد كان ضيفاً مقيماً لدى الشعبة الثانية، يجوب الشوارع والأحياء مع رجالها في محاولة التعرف على أحد هؤلاء العملاء المجهولين. هذا في الوقت الذي استقل فيه حبيب شاحنة بضائع، انطلقت به في سواد الليل وأنزلته بجوار سور مطار بغداد، فارتقاه في غمضة عين، وظل يزحف لمسافة طويلة على أرض المطار باتجاه طائرة بريطانية كانت تقف على ممر فرعي في طريقها إلى لندن. كان باب الشحن مفتوحاً، وثمة عمال يجيئون ويذهبون بعربات البضائع القطارية يفرغونها ببطن الطائرة، ومن خلال إحدى النوافذ بالطائرة، كانت هناك عيون ترقب الزاحف المتربص، الذي سنحت له الفرصة أخيراً، فقفز في سرعة مذهلة إلى عنبر البضائع، واندس بين الأمتعة حابساً أنفاسه. بعدها، تحركت الطائرة وأسرعت جرياً على الممر ثم صعدت إلى السماء... !! استقبل العميل الهارب بحفاوة في لندن من قبل رجال الموساد، الذين سفّروه رأساً إلى تل أبيب، حيث استقبل هذه المرة بضجة إعلامية مثيرة، ومنح اسم "مردخاي بن بوارت" وألحق من فوره بالعمل في جهاز الموساد. أما صورته فقد وضعت بداخل برواز زجاجي ضخم بمدخل مبنى المخابرات، يضم "الأبطال" الذين قدموا خدمات عظيمة لإسرائيل. كانت الضجة الإعلامية في إسرائيل على أشدها، واحتلت قصة "بن بوارت" صدر الصفحات الأولى في الصحف والمجلات، إذ أحيطت عملية هرب الجاسوس بهالة مبهرة من الثقة والتفاخر، أوصلت بأحد ضباط الموساد إلى التصريح عبر الإذاعة بأن يد إسرائيل الطولى تطوق أعوانها أينما كانوا، وأن لا شيء يصعب على مخابرات إسرائيل، في أي موقع من العالم. وفي خضم النشوة المسكرة، أعلن فجأة في بغداد نبأ هو بمثابة اللطمة القوية التي أفقدت الموساد توازنها للمرة الثانية، وضيعت عليها نشوة الانتصار الهزيل الذي تحول إلى انتكاسة، وفضيحة مدوية... يا جو ... لم ينج... !! كان الصبي "عقيد" يجوب شوارع بغداد برفقة رجال مكتب الشعبة الثانية، بحثاً عن أي من أعوان زكي حبيب، وتوقفت بهم السيارة بالقرب من مدخل شارع النهر الموازي لشارع الرشيد، وترجل الفريق ليلتحم بزحام الشارع التجاري المشهور. لم يكن "عقيد" يهتم بالفرجة على السلع والبضائع، فمهمته صعبة ومحددة – التفرس في وجوه المارة – لعلى وعسى. وبشرفة أحد المكاتب التجارية بالشارع، جلس يتابع أفواج البشر التي تملأ المكان ضجيجاً وحركة. وبينما هو كذلك، لمح ضالته المنشودة، فصرخ لمرافقيه الذين انطلقوا كطلقة مدفع، إلى رجل كان يشق طريقه بصعوبة وسط الزحام. أمسكوا به فتعرف عليه الصبي عن قرب، واقتادوه مكبلاً إلى مبنى الشعبة الثانية، حيث عثروا بمحفظته على جيب سري، به كمية من سم "الساكسيوتوكسين"، الذي يسبب الموت الفوري بسبب شل أجهزة التنفس والعصب والعضلات. أنكر المعتقل في البداية معرفته بالصبي أو بزكي حبيب، وادعى بأنه ترك اليهودية وتنصر، لذلك، فهناك مؤامرات تحاك ضده في اليهود الذين يطاردونه وينغصون عليه حياته، وبرر سبب وجود السم معه بأنه يعاني مشاكل نفسية سيئة، كان سببها موت ابنته بالحمى التيفودية، وبوار تجارته، وتراكم الديون عليه مما دفعه للتفكير بالانتحار كثيراً؛ وعجز عن إيضاح كيفية حصوله على السم. وبتضييق الخناق حوله تفجرت مفاجآت مذهلة، إذ انهارت أعصاب "سعيل يا جو" على حين بغتة، بعد تجويعه لأربعة أيام في حبس انفرادي، وطلب منهم راجياً ألا يعدموه، مقابل أن يدلي باعترافات تفصيلية عن النشاط الاستخباري الإسرائيلي في العراق. وبعدما وعدوه، اعترف بأنه عضو بإحدى شبكات التجسس، وأنه اشترك بالفعل في تهريب اليهود مع زكي حبيب، كما أدلى بسيل جارف من الأسماء والعناوين، والأسرار التي لم تخطر ببال. وخلال ساعات معدودة منذ لحظة اعترافه، استطاعت المخابرات العراقية القبض على 34 يهودياً عراقياً، تضمهم عدة شبكات، يمتهنون التجارة والتدريس والطب والمحاسبة، ويعيشون حياتهم بشكل طبيعي في المجتمع. وبعد اكتمال التحقيق معهم، أعلنت وسائل الإعلام الخبر الذي تلقته إسرائيل كالصاعقة، وأصيب رجال الموساد بخيبة أمل كبرى، إذ اكتشفوا وقوعهم في خطأ مخابراتي جسيم، عندما سمحوا لعملائهم بالعمل مع أكثر من شبكة جاسوسية في آن واحد، يقودها أفراد معروفون للجميع. نقلت وكالات الأنباء العالمية وقائع المحاكمة العلنية في بغداد، وتكشفت أمام العالم أجمع نوايا إسرائيل تجاه العراق، وقوبل الأمر باستنكار شديد من الجمعيات الأهلية اليهودية في بغداد والبصرة، التي رأت أن تدخل إسرائيل فيه إفساد للمناخ المستقر لليهود في العراق. وكانت الفاجعة الكبرى لإسرائيل، هروب جواسيسها الباقين في بغداد إلى إيران، خشية سقوطهم في قبضة المخابرات، فيلقوا مصير من سبقوهم إلى حبل المشنقة. أما الصبي "عقيد"، فقد تحول إلى بطل قومي، تسابقت الوزارات والهيئات والمؤسسات لتكريمه، وبعدما أدرك بنفسه حجم المؤامرات الصهيونية التي تحاك ضد اليهود العراقيين، وقف أمام جمع غفير من الصحفيين والمراسلين الأجانب، ليعلن على الملأ بأنه يهودي عراقي يحب وطنه، ولن يفكر يوماً بالهجر إلى إسرائيل لأنها دولة إرهابية ، ووجه نداءاً لخالته هناك لتعود ثانية إلى العراق. لقد انهالت التبرعات عليه من كل صوب، وتحول فجأة إلى ثري يمتلك المنزل الفاخر والأرصدة. وفي عام 1955 عندما بلغ الثامنة عشر من عمره، أشهر إسلامه وتحول إلى "عبد الرحمن". لكن ... هل انتهى أمر الموساد في العراق بعد سلسلة الفشل المتلاحقة التي أصابت عملياته؟ لا ... لم تنته بعد فصول الرواية الطويلة، ولم نقرأ معاً سوى فصل واحد قصير من فصولها ! ! ويشتعل الصراع عانى جهاز الموساد من إحجام عملائه الباقين في العراق عن العمل. وكان العدد القليل المتبقي منهم لا يفي بالغرض المطلوب. لذلك قام رئيس الموساد بزيارة سرية سريعة إلى إيران، حيث التقى برئيس المخابرات "السافاك"، وطلب منه "تسهيل" دخول بعض ضباط الموساد لإيران، لتدريب كوادر جديدة من العراقيين. كانت إيران في تلك الوقت، يدفعها حافز قوي في إزالة معالم العروبة عن "الخليج العربي"، الذي أطلقت عليه "الخليج الفارسي" فأرادت أن تنسبه إليها، متجاهلة نصف دستة من الدول العربية التي تطل عليه، ولها فيه أكثر ما لإيران. ومدفوعاً ... كان الشاه يريد أن يتحول الخليج العربي إلى "بحيرة" إيرانية، ليفرض سطوته على المياه والشواطئ، وسكان الدول وحكوماتها، ووجدها فرصة سانحة من خلال إسرائيل، التي سارع بالاعتراف بها عند قيامها، إذ وعدته إسرائيل بالقيام على خدمة مصالح إيران، للهيمنة على آبار النفط في الخليج، وتنظيم مرور الناقلات، وبمساندتها له ضد العراق بتأليب الأكراد العراقيين ضد السلطات، بل وشجعت الشاه على الاستحواذ والسيطرة على ميناء الفاو، وشط العرب، والمنفذ الوحيد للعراق على الخليج. لكل هذه الاعتبارات منحت المخابرات الإسرائيلية صلاحيات كثيرة في إيران، وتحولت مدينتي "عبادان" و "المحمرة" إلى مركزين لانطلاق الجواسيس إلى العراق عبر شط العرب إلى البصرة ثم لسائر المدن. وأقيمت لذلك مراكز متعددة لتدريب الجواسيس على أعمال النسف، والتخريب، وتسميم المياه، وتدمير المراكز الحساسة والمباني الهامة في بغداد، وإشعال الحرائق في المعابد اليهودية والمقاهي لترويع اليهود والمواطنين، وتزييف العملة، وترويج الإشاعات الكاذبة. من ناحية أخرى، استعان جهاز السافاك بخبرة رجال المخابرات الإسرائيلية، في كيفية إجهاض المظاهرات، وأساليب القمع والتعذيب الوحشية لتطبيقها على معارضي نظام حكم الشاه. وكان هناك عدد ضخم من ضباط الموساد على أرض إيران، منهم ستة عشر ضابطاً يقيمون بصفة دائمة في الأراضي المحاذية للعراق، يشرفون على عمليات التجسس، ويوجهون شبكات الجواسيس داخل القطر الآمن. وبرغم يقظة المخابرات العراقية، وجهاز مكافحة التجسس بها، إلا أن الموساد كلما سقطت لها شبكة جاسوسية، تقيم أخرى مكانها، معتمدة على الجالية اليهودية التي يصل عددها لسبعين ألف يهودي. وكان سلاحها دائماً وأبداً المال والجنس، مستغلة تعدد الطوائف المذهبية والديانات والتعصب. ذلك أن الدين أو المذهب يسهل من خلاله التغلغل، إذا ما كان هناك عدم استقرار سياسي يقابله اضطراب بين أفراد العقائد المختلفة. فالعراق هو القطر العربي الأول – قبل سوريا – الذي يعج بأصحاب الملل والمذاهب المتعددة، الذين يمارسون طقوسهم في حرية لا يشوبها القلق، مهما ارتجت مقاعد السلطة. ففي العراق جنباً إلى جنب يعيش المسلمون من أهل السنة، والشيعة، والأكراد، والزيديون، والمسيحيون، واليهود، والصابئة، وعبدة الفرج، وعبدة النار... الخ. تعدد عجيب في الديانات والمذاهب والنحل، هو بمثابة مناخ خصب لنمو بذور ضعاف النفوس، ومرتعاً سهلاً لهواة تصيد الجواسيس، الذين أجادوا اللعب على أوتار العقائد. فإسرائيل تتعامل مع العراق – شأنها كشأن مصر – بحذر شديد، نظراً لما تملكه من ثروة بشرية واقتصادية كبيرة، وجيش منظم مدرب ومسلح. لقد كان النمو الاقتصادي المضطرد، مع وجود الجيش المدرب في العراق، أمراً مفزعاً حقاً لإسرائيل. خاصة مع وجود سبعين ألف يهودي عراقي، لا زالوا يحتفظون بولائهم الشديد للوطن الأول، ولم تغرهم الدعايات الصهيونية الكاذبة عن واحة الديموقراطية في الوطن العربي التي هي إسرائيل. لذلك ... لم تتوان الدولة اليهودية للحظة، عن الدفع بأعداد هائلة من الجواسيس داخل نسيج المجتمع، وتعويض الشبكات التي تسقط بأخرى أكثر تدريباً وحفرية وفناً. واستمر التقاتل بالأدمغة في حرب شرسة لا هوادة فيها بين جهازي المخابرات. فطالما هناك إغراءات، يتواجد الخونة، ويشتعل الصراع. وفي بداية عام 1966، حدثت مفاجأة لم تتوقعها الموساد أبداً، ولم تحسب لها حساباً من قبل، إذ كانت الخسائر فادحة جداً، والدوي يجلجل صداه في جنبات الكرة الأرضية... !! عمار الحرازي07-25-2010, 02:17 AM سعيد العبد الله ...صريع لغة الجسد " ... إن دور المرأة في عمل المخابرات والجاسوسية لا يمكن إغفاله... فامرأة جميلة ذكية مدربة – في بلاد يسيطر عليها الجوع الجنسي – تكون أفضل من عشرة جواسيس مهرة. فسلاحها هو سحرها ... وجسدها ... وعندما تنصب شباكها... يأتيها أعتى الرجال طائعاً ... خاضعاً... ضعيفاً ... !! ".تاريخ الزعيمة لم تكن رحلة ترفيهية تلك التي خاضتها "شولا كوهين" من "اليعقوبة" شمالي بغداد، إلى البصرة فميناء عبادان الإيراني .. إنما كانت رحلة مأساة عجيبة شاقة، يخيم عليها القلق والخوف والحذر، وتحمل مع كل خطوة رائحة العذاب والموت، سعياً وراء حلم الوطن الجديد في إسرائيل. تحملت شولا ذات السبعة عشر ربيعاً ما يفوق طاقتها، إلى أن وصلت وعائلتها لميناء حيفا. وما أن استقرت في تل أبيب حتى صفعتها الكوارث واحدة تلو الأخرى، دون أن تدرك الصغيرة الجميلة البضة لماذا؟ فعندما قتل والدها في انفجار عبوة ناسفة بسوق تل أبيب تأوهت هلعاً لا تصدق... وازداد صراخها المكتوم وهي ترى أحلامها تتحطم فوق صخرة الوهم شيئاً فشيئاً. فإسرائيل ليست هي الجنة الموعودة، بل الخدعة الكبرى التي روجوا لها، ومن أجلها ضحوا بالكثير في سبيل الهرب من العراق. مات والدها فلم تقو أمها على تصديق الحقيقة فخرت صريعة المعاناة والمرض، وألفت شولا صراخ شقيقها الأكبر، محتجاً على ميراث أبيه من الأبناء الستة والمسؤولية التي أثقلت كاهله، حتى التقت "بعازار"، ونبض قلبها الصغير بالحب لأول مرة، وظنت أن ثمة أمل جديد أشرق بحياتها، بيد أنها فجعت شر فجيعة بقتله هو الآخر في اشتباك مسلح مع أصحاب الأرض والوطن. هكذا أسودت الحياة في وجهها وركنت إلى الصمت والانزواء تفكر فيما أصابها، وماذا عساها أن تفعل؟ فتملكتها رغبة الانتقام من العرب، لكن شغلتها معاناة الحياة اليومية، والجوع الذي لا يكف صراخه ينهش العقل والبدن.. وبعد عام قضته مقعدة ماتت أمها، وطفق شقيقها ينفث غضبه بوجه إخوتها، فخرجت تسعى للعمل بإحدى العيادات بشارع "تساهالون هاروفيم"، ووفقت في الحصول على وظيفة مؤقتة، لمؤهلاتها الأنثوية المثيرة الصارخة فأسبغ عليها الراتب الضئيل مسحة من الطمأنينة والثقة بنفسها، وأحسب بالعيون الجائعة تعريها كل لحظة وترغبها. فالجسد الممشوق المتناسق الأعضاء يغري بالالتهام، والعيون الناعسة الواسعة ذات الرموش الطويلة الكثيفة ترسم أروع صور العناق، والفم المبسام الأملود الدقيق يوحي بمذاقات القبل. وطاردتها العيون والشهقات والهمسات والأيدي الجائعة، فاستسلمت لجنرال في الجيش الإسرائيلي من أصل بولندي يجيد العربية، كان دائم التردد على العيادة، وبين يديه تكشفت لها خطوط الحقيقة وتفاصيلها، فقد أدركت لأول مرة أنها تملك سلاحاً فتاكاً تستطيع به أن تقهر أية قوة... أنوثتها الطاغية... وكانت تشبه قنبلة ذرية تذيب بلهيبها الأجساد، وتسيطر بها في يسر على الأعصاب والعقول. أدق عليها الجنرال الإسرائيلي بالمال والهدايا، فظنت أنها امتلكته، حتى استوعبت الأمر في النهاية. فالجنرال ما هو إلا ضابط كبير في جهاز المخابرات، تقرب إليها مستغلاً ظروفها، وعلى وعد بتأمين حياتها أغرقها في محيط الجنس والمال، ثم كاشفها برغبته في أن تعمل لصالح الجهاز لتحافظ على أمن إسرائيل من جهة، ومن جهة أخرى كي تعيش عيشة رغدة لا تحلم بها فتاة في مثل سنها في إسرائيل. لم تكن شولا أمام واقعها المؤلم تستطيع رفض هذا العرض. فهي تحلم بالمجد المفقود الذي كم رنت إليه، إضافة إلى استيقاظ رغبة الانتقام لديها من العرب الذين قتلوا والدها وحبيبها، وتسببوا في موت أمها كمداً. لكل ذلك أعلنت موافقتها راضية مقتنعة، لتبدأ بعدها أغرب مغامراتها في عالم المخابرات والجاسوسية، فتستحق عن جدارة لقب "الزعيمة" الذي أطلق عليها في الموساد، ذلك لأن ما قامت به لصالح إسرائيل على مدى تسع سنوات متصلة، مثير جداً... وجريء... وعجيب كل العجب... !! نساء إسرائيل مهما تطورت أجهزة الاستخبارات في العالم فلا يمكن إغفال دور المرأة في ميدان التجسس، فامرأة جميلة .. ذكية ... بمقدورها أن تكون جاسوسة كاملة تفوق الرجل، إذا استغلت مهاراتها وحدة ذكائها وسلطان سحرها، خاصة في بلاد يسيطر عليها "الجوع الجنسي" كبلادنا العربية. فالجاسوس الرجل... يعتمد في الغالب على مهاراته وقوته البدنية، وشجاعته واندفاعه إلى درجة الإجرام.. وهو عادة يعمل سراً في الخفاء. أما المرأة الجاسوسة... فسلاحها سحرها وفتنتها وجسدها. ولذلك تظهر في أكثر الحالات ضمن هالات الأضواء على حلبات المسارح والملاهي، تعرض فتنتها فتثير النفوس، وتلقي شباكها ليأتيها من يرغبها طائعاً... خاضعاً.. ضعيفاً... وخلال اعتراك لهيب الأجساد العارية، والقبلات، ورعشات الرغبة الساحرة، تنسكب المعلومات بلا ضابط، وتفشي الأسرار المصفدة بالكتمان وتباح كل المحظورات. وقد يتساءل البعض: Ø هل تقبل المرأة في عالم المخابرات والجاسوسية، أن تضحي بشرفها للسيطرة على أعصاب شخص ما؟ وللإجابة نقول: Ø نعم. فأجهزة المخابرات في العالم كله تعتبر التضحية بالشرف، وبكل ما هو ثمين، أمر جائز في سبيل الوطن، بل ويعد ذلك أثمن معاني الوطنية. وعلى ذلك، يطلب من الجاسوسات أن يستسلمن لشخصيات بعينها، توصلاً لجمع معلومات سرية تفيد المصلحة العامة، والعنصر النسائي في المخابرات الإسرائيلية بوجه خاص أمر إجباري. فإسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم منذ عام 1948، التي تفرض التجنيد الإجباري على النساء وقت "السلم"، حيث تستخدم النساء والفتيات في شتى المجالات العسكرية والسرية والجاسوسية، لتحقيق أهداف إسرائيل في الأمن والتوسع حتى ولو بالجنس. فالجنس سلاح اليهود منذ القدم، وقد أجادوا استخدامه وأتقنوه لدرجة الاحتراف وتفوقوا بذلك على الأمم الأخرى. ومن النادر جداً أن تخلو قصة تجنيد جاسوس لإسرائيل من المرأة والجنس. ولم أصادف أبداً حتى الآن في عشرات المراجع والملفات التي بين يدي عن الجاسوسية اليهودية، حالة واحدة لجاسوس جندته إسرائيل خلت من الجنس، حتى في حالة الخائنة هبة سليم التي اشتهرت باسم عبلة كامل، فقد استغلت أنوثتها كجاسوسة إسرائيلية، وأغرت الضابط المصري المقدم فاروق الفقي، وفعلت معه كما تفعل نساء الموساد في غرف النوم. وفي حالة الأردنية أمينة داود المفتي، فأؤكد بأنها لم تتعاون مع الموساد بعد نصب "مصيدة العسل" المعتادة. لكن ارتباطها جنسياً بطيار يهودي في فيينا – وهي المسلمة – ثم زواجهما لأمر بشع ومقيت. وهذا ما حدث أيضاً مع انشراح المصرية التي سيطر عليها ضابط الارتباط الإسرائيلي بالجنس في تركيا. إنه واقع محير وشائك، رجال أوقعت بهم فتيات، وفتيات أوقع بهن رجال. عالم عجيب حقاً، كلما تبصرنا أسراره تملكتنا الدهشة وازددنا اقتناعاً بأن الجنس هو المحرك الأول للجاسوسية، دستورها المقدس عند اليهود منذ الأزل وحتى اليوم... أما المال فيأتي في المرتبة الثانية مهما بدت رغبة الثراء متوشحة، أثيرة !! في بناية الأمباسادور التحقت شولا أرازي كوهين بالموساد قانعة، وخضعت لتدريب مبدئي في مبنى خاص يقع في "كيريا" بتل أبيب، وأوكلت لأمهر خبراء الموساد مهمة ترويض تلك المخلوقة العجيبة الجمال ليصنعوا منها جاسوسة ذكية، مثقفة، لبقة، تجيد إدارة الحوار واجتذاب الرجال والسيطرة على أعصابهم. ونظراً لكونها شرقية من العراق ولم تحظ بقدر كاف من التعليم... فقد بعثوا بها إلى لندن لتمتزج بالمجتمع والدنيا هناك وتتعلم التحدث بالانجليزية. وعلى مدار عام ونصف العام استطاعوا أن يستخرجوا منها خلاصة مخلوقة ثانية، مدربة على فنون التجسس والإغواء والسيطرة. وبأوراق ثبوتية مزورة، سافرت إلى بيروت في سبتمبر 1952، لتبدأ من هناك أولى مهامها التجسسية واثقة من قدراتها الفائقة، لا تحمل أسلحة فتاكة سوى جسدها المثير. وفي ساحة المطار الخارجية، تهافت عليها سائقو الأجرة، وأوصلها أحدهم إلى وسط بيروت حيث نزلت بفندق "الغراند أوتيل"، وفي المساء غادرت الفندق تملأ مسامعها شهقات الإعجاب طوال تجوالها في شوارع المدينة المكتظة بالجمال. كان عليها أن تستتر وراء وظيفة ما، أو مهمة جاءت بها إلى بيروت، ولم يكن الأمر بحاجة إلى إثباتات. فقد ادعت بأنها مندوبة لإحدى الشركات السياحية الأوروبية، جاءت للبحث عن وكلاء في لبنان، فانفتحت لها بذلك الأبواب المغلقة، واقتربت كثيراً من برسيخ أقدامها تمهيداً للعمل... خاصة بعدما تركت الفندق، وانتقلت إلى إحدى الشقق الفاخرة ببناية "الأمباسادور" الشهيرة. كانت مهمتها الأولى البحث عن مسؤول لبناني له نفوذ قوي في الدوائر الرسمية، تستطيع من خلاله أن تنفذ إلى ما تصبو إليه.. وأخيراً عثرت على ضالتها في شخص موظف كبير اسمه "محمود عوض" ... كان يشغل آنذاك أكثر من ست وظائف حكومية... فذهبت لمقابلته للاستفسار عن إجراءات تمديد إقامتها، فسقط في شباكها وخر صريع سحرها، وتعمد تطويل الإجراءات ليراها كثيراً، فتركت له جواز سفرها وأخلفت ميعادها معه... ثم اتصلت هاتفياً به لتخبره بمرضها وأعطته عنوان شقتها ليرسل به اليها. وكما توقعت الجاسوسة المدربة، فقد ذهب إليها اللبناني الذائب بنفسه يحمل جواز سفرها وباقة من الورود، فاستقبلته بملابس شفافة تفضح معالم جسدها، وكان عطرها الفواح الذكي ينشر جواً من الأحلام والرغبة والاشتهاء... ومنحته في النهاية جسدها مقابل خدمته.. فبات منذ تلك اللحظة عبداً لجمالها تحركه كفيما تشاء، ولا يرفض لها أمراً. انشغل محمود عوض بمعشوقته وهو المسؤول المهم بإحدى الدوائر، وشهدت شقة الأمبا سادور المحرمة التي تستغرق معظم وقته. فكان ينزف مع رجولته أسراراً حيوية للغاية تمس لبنان وأمنه. إذ كان يعوض ضعفه الشديد أمام أنوثتها الفتاكة بسرد تفاصيل عمله، وتتملكه نشوة الانتشاء عندما يجيب باستفاضة عن استفساراتها ويراها منبهرة مشدوهة "متغابية"، وبعد انصرافه على أوراقها تكتب كل ما تفوه به، وتخطط لما سيكون عليه الحال في اللقاء التالي. الطابور النائم كانت أوليات مهام شولا كوهين في بيروت، السيطرة على أكبر عدد من المسؤولين الحكوميين بواسطة الجنس، حتى إذا ما ترقوا في وظائفهم وأصبحوا ذوي شأن في صناعة القرار، أعيد من جديد إيقاظهم للعمل لصالح إسرائيل، وهؤلاء يطلق عليهم العملاء النائمون. فحينما يتبوءون المناصب العليا، يسهل إخضاعهم لتمييع المواقف السياسية المستقبلية ضد إسرائيل، ويشكلون بذلك طابوراً طويلاً من المسؤولين يدور في فلك إسرائيل .. وينفذ سياساتها دونما انحراف عن الخط المرسوم. لذلك، وسعت شولا من علاقاتها بالمسؤولين اللبنانيين، وكانت الدائرة شيئاً فشيئاً، تتسع لتشمل موظفين رسميين بشتى الجهات الحكومية، كلهم سقطوا صرعى الجسد الناعم الملتهب وفورانات الإثارة. وبالطبع، لم تكن شولا بقادرة وحدها على إشباع رغبات كل هؤلاء، إنما عمدت بحاستها المهارية إلى التعرف على فتيات حسناوات، باحثات عن المال، جمعتهن حولها وسخرتهن لتوثيق دائرة معارفها. واستلزم منها ذلك تأجير شقة أخرى، لتخفيف حدة زحام جوعى اللذاذات بشقتها. وفي عام 1956 كانت تستأجر خمسة منازل في مختلف أنحاء بيروت، مجهزة بأفخر أنواع الأثاث، ومزودة بكاميرات دقيقة وأجهزة تسجل كل ما يجري بغرف النوم، وكانت أشهر فتاة لديها، طفلة أرمينية تدعى "لوسي كوبيليان" عمرها أربعة عشر عاماً تخلب بجمالها الألباب وتذيب العقول. هذه الطفلة المرأة كانت إحدى نقاط القوة في شبكة شولا.. فقد تهافت عليها الرجال كالذباب، وسجدوا لجمالها وفتنتها، أما شولا – الزعيمة – فآثرت ألا تمنح جسدها إلا لكبار المسؤولين ذوي المراكز الحساسة كي تستخلص بنفسها ما تريده منهم. ولما تزاحم العمل، رأت الموساد أن تعضد شولا في مهمتها، فضمت إليها اليهودية "راشيل رافول" في طرابلس، وبانضمام راشيل، اتخذت شبكة شولا مساراً جديداً لم يكن في الحسبان..فالعضوة الجديدة مدربة وماهرة جداً.. ولها خبرة طويلة بأعمال الدعارة في لبنان. وبالتعاون مع "إدوارد هيس" ضابط الارتباط الإسرائيلي في بيروت، أمكن القيام بعدة عمليات جريئة لتهريب أموال اليهود اللبنانيين المهاجرين لإسرائيل، بوسيلة "إشهار الإفلاس"، التي سهلت عملية "إميل نتشوتو" التاجر اللبناني اليهودي، الذي هرب لإسرائيل بعدما سرق ملايين الليرات من البنوك والتجار. وكذا عملية "إبراهيم مزراحي" التاجر الطرابلسي الشهير الذي هرب أيضاً بالملايين إلى اليونان، ثم لإسرائيل، بينما انخرطت زوجته "ليلى مزراحي" في خدمة الشبكة ... لتسهيل عمليات تهريب أخرى بما لها من علاقات بزوجات أثرياء اليهود. وبتهريب يهود لبنان بأموالهم المسروقة إلى إسرائيل..أضير الاقتصاد اللبناني ضرراً بالغاً، واضطرت بعض المصارف إلى الاستغناء عن خدمات بعض موظفيها المتورطين، وكاد للعملية كلها أن تنكشف لو لم يكن هناك مسؤولون كبار أمكن السيطرة عليهم من قبل.. استطاعوا في الوقت المناسب عمل تغطية للفضيحة وإخمادها إلى حين. جنت شولا كوهين ثمار عملها، واستشعرت قيمة مهمتها في بيروت للسيطرة على الكبار بالجنس، ذلك لأن محمود عوض أول الخاضعين لها لم يتوان عن التستر على نشاطها، ومساعدتها بما يملك من سلطات في نهب اقتصاد بلده. هكذا دفع النجاح شولا كوهين لتطور من أسلوب عملها، وتنتهج مسلكاً أكثر فعالية في العمل. ابن الجنوب العاشق بعدما اتسع نطاق شبكة الجاسوسية، وبالتالي تعددت مصادر التقارير والأسرار، كانت شولا تعاني من صعوبة نقل المعلومات المتدفقة عليها إلى إسرائيل، ورأت أن الحل يكمن في تجنيد أحد اللبنانيين قاطني الجنوب نظراً لسهولة تسلله إلى إسرائيل بالمعلومات والتقارير، دون أن تثير تحركاته أحداً. فكرت جدياً بهذه الحيلة، في ذات الوقت الذي سعت فيه لإيجاد مركز يجمعها بجواسيسها، وبواسطة كبار المسؤولين اللبنانيين، استأجرت عميلة الموساد إحدى الكافيتريات بشارع "الحمراء"، وحولتها إلى "بار" يزدان بالديكورات والحسناوات أطلقت عليه اسم بار "الرامبو". ومع الخمر والليل وجدت ضالتها المنشودة في شخص ابن الجنوب الساذج – محمد سعيد العبد الله – الذي حملته ساقاه ذات مساء إلى البار ..فتسمر منبهراً باللحم الأبيض يتراقص ويتمايع، معلناً ويعلن عن مواطن الإثارة في صراحة..وثقلت عليه رغباته المكبوتة فتاه عقله، وأحكمت شولا سيطرتها عليه بعدما تأكد لديها أنه سقط لآخره في براثنها. وفي ليلة حمراء أريقت فيها الخمور المعتقة، وذبلت العيون وتراخت الأعصاب في وهن، فاتحته في الأمر. وكم كانت واثقة من إجابته، فإنه على استعداد لأن يفعل كل شيء في سبيل ألا يخسرها، أو يضيع لحظة واحدة من أوقات المتعة التي أدمنها. فحملته بالتقارير والمعلومات، وتسلل بها إلى الجانب الإسرائيلي..ولم يرجع اليها بأوامر الموساد الجديد فقط، بل اصطحب معه ابن عمه "فايز العبد الله" الشاب المغامر..الذي يعرف الدروب الجبلية ومواطن الضعف الأمني بمناطق الحدود الجنوبية. وعلى انفراد، أخبر شولا بأن ابن عمه مستعد هو الآخر للانضمام إلى شبكة الجاسوسية مقابل المال. فلم تمنحه شولا المال وحده، بل وهبته أجمل فتياتها اللاتي ضيعن لبه، وسحرنه بما لم يألفه من متع النشوة، ليدور في النهاية كسابقيه في فلك الخيانة والتردي. وأخيراً جاء لها سعيد بابن العم الثالث "نصرت العبد الله" طائعاً مختاراً هو الآخر، وكأنما عائلة العبد الله قد جبلت كلها على الخيانة واعتادتها.. وبذلك أمكن لشولا أن تنقل ملفات تقاريرها أولاً بأول عبر هؤلاء الثلاثة إلى قادتها في إسرائيل دونما صعوبة...أو تشكك من الجهات الأمنية اللبنانية.. بذلك..تحول ملهى الرامبو إلى مركز لاصطياد الجواسيس وملتقى لهم في ذات الوقت، وأيضاً، ليعاين كبار الموظفين اللبنانيين الفتيات المثيرات المختارات فتتضاعف خدماتهم لشبكة شولا..في وقت لم تكن ظروف الأمن في لبنان مهيأة لتتبع النشاط التجسسي الاسرائيلي في بيروت، بسبب انشغال الميليشيات الطائفية بتسليح نفسها، على حساب قوة الجيش والأمن الداخلي. لقد انقلبت المفاهيم العسكرية في لبنان حتى أن قوى الأمن الداخلي كانت في حالة صراع لا يتوقف مع الجيش. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تبودلت الأدوار أيضاً وتسلمت قوى الجيش حراسة بعض المرافق العامة بدلاً من قوى الأمن الداخلي، واستعمل الجيش كنقاط أمنية منفردة بعيداً عن ملاحقة الميليشيات العسكرية، التي كانت تستولي على آليات الجيش ومدرعاته وأسلحته، واعتقاد رئيس الجمهورية اللبناني في قصر "بعبدا" أنه هو لبنان، وهو الشرعية. وبسيطرة العقلية العائلية على نظام إدارة الحكم والدولة، كان هناك استرخاء أمني أدى إلى تغلغل الجواسيس وانتشارهم في ربوع لبنان، حيث لا يوجد جهاز مخابراتي نشط بتعقب الجاسوسية المضادة... أو يعمل على وقف سيلان المعلومات الحيوية عن الدولة إلى العدو المتربص في أقصى الجنوب. عزيز الأحدب تغافل محمود عوض، المسؤول اللبناني الكبير عما تقوم به شولا في لبنان..مكتفياً بالليالي الملتهبة بين أحضان الحسان، ولما أدرك قيمة الخدمات التي يؤديها مقابل الجنس، صارح شولا بأنه الخاسر بلا شك..وطالبها بمقابل مادي حيث أن هدفه الأسمى في الحياة هو المال والثراء. انزعجت شولا لطلبه الجديد فهو ثري في الأصل، وما كان يطلب منها سوى فتيات صغيرات جميلات يعدن إليه شبابه. وبرغم سيطرتها عليه بوسائل عدة، منها تصويره في أوضاع شائنة مع أكثر من تسع فتيات، إلا أنها نفت فكرة تهديده، ذلك لأنه يعرف جيداً كل المتعاملين معها من ذوي المراكز، وكتبت بذلك إلى رؤسائها فوافقوا على رأيها، فأغدقت عليه الأموال مقابل تقاريره عن موظفي الدولة والدوائر الرسمية، التي كان يحملها العبد الله إلى الإسرائيليين عبر الحدود في أوقات معينة متفق عليها. وفي مايو 1958، وصل إلى بيروت ضابط سوري مسؤول، اجتمع من فوره بأحد ضباط الأمن اللبنانيين، وأبلغه بنشاطات شولا كوهين المشبوهة.. وإحاطتها بأسرار غاية في السرية عن الجيش اللبناني والسوري معاً.. تجلبها من خلال شخصيات على مستوى المسؤولية في البلدين على علاقة بها. كانت خيبة أمل الضابط السوري كبيرة، عندما أخبره زميله اللبناني بأن شولا بعيدة عن الشبهات. وتم حفظ محضر الاجتماع في الأدراج برغم تأكيدات السوريين. وفي بداية عام 1961 وقع محضر الاجتماع تحت يد ضابط لبناني شهم اسمه "عزيز الأحدب" فقرأ ما تحويه السطور.. وبدأ في جمع المعلومات في سرية تامة عن شولا.. وفوجئ بعد عدة أشهر من المراقبات والتحريات بأن الفتاة تدير أكبر شبكة جاسوسية إسرائيلية في لبنان.. امتدت نشاطاتها لتشمل كل مناحي الحياة المدنية والعسكرية، ليس ذلك فحسب، بل تجمعت لديه أدلةكافية، بأنها وراء عمليات تهريب اليهود اللبنانيين إلى إسرائيل، بواسطة "آل العبدالله" الذين يجيدون استخدام الدروب الوعرة في الجنوب. هكذا، وبعد تسع سنوات من التجسس، ألقى عزيز الأحدب القبض على شولا كوهين في أغسطس 1961، واعترفت في الحال على شركائها، واثقة من أن نجدة ستجيئها حالاً من إسرائيل. وأمام القضاء العسكري اللبناني تكشفت حقائق مذهلة، عن تورط شخصيات عديدة مسؤولة، في إمدادها بأدق الأسرار والتقارير التي تمس لبنان وكيانه. أصدرت المحكمة في 25 يوليو 1962 حكماً بالسجن مدة عشرين عاماً على شولا كوهين، التي أطلق عليها اليهود لقب "الزعيمة" و 15 عاماً على زميلتها راشيل رافول. أما محمود عوض فقد قضى نحبه في سجن الرملة في يونيو 1962 إثر نوبة قلبية فاجأته قبل الحكم عليه، فلقي جزاء ربه وحكمه العادل. لكن المثير للدهشة حقاً، أن يصدر حكماً بسجن آل العبد الله الثلاثة عشرون شهراً فقط لكل منهم ... إلى جانب أحكام أخرى بالسجن تقل عن عام على مسؤولين لبنانيين ضالعين في الجاسوسية، بما يؤكد ما ذكرناه آنفاً من ميوعة القوانين الجنائية التي يعمل بها في لبنان، وكانت سبباً رئيسياً من أسباب تحول بيروت إلى أشهر عاصمة عربية يأمن فيها الجواسيس على رقابهم، وساحة تباع فيها الأسرار القومية بأجساد النساء وتشترى..!!. عمار الحرازي07-25-2010, 02:25 AM السيد محمود .. علّم أخوه التجسس ... فاحترف..!! عالم المخابرات والجاسوسية عجيب كل العجب. إنه بالفعل يفتقد العواطف... ولا تصنف أبداً تحت سمائه، حتى وإن بدت المشاعر مشتعلة متأججة – فهي زائفة في مضمونها، ووجودها فقط لخدمة الموقف ثم تنتهي إلى أفول. لقد كتبنا عن سمير باسيلي أول جاسوس في العالم يجند أباه. وكتبنا عن إبراهيم شاهين ابن سيناء الذي جند زوجته انشراح وأولاده الثلاثة. وفي هذا الفصل نكتب عن جاسوس آخر من جواسيس الإسكندرية، استغل شقيقه المجند بالقوات المسلحة، وجنده ليحصل من وراء معلوماته العسكرية على مال وفير. كلها قصص تؤكد أن علاقات الدم والرحم ومشاعر الحب – تتوه بين غمام عالم الجاسوسية الغامض ... وتمحي ... في لحظة يغيب فيها العقل .. ويغتال الانتماء.. !! الصدمة الفجائية بالرغم من التنسيق الاستخباري الأمريكي الصهيوني الذي وصل إلى أعلى المستويات ...فقد جاءت حرب أكتوبر 1973 لتثبت عجز المخابرات الإسرائيلية والأمريكية وهزيمتها معاً إزاء هذه الحرب المفاجئة. فقد طار زيفي زامير رئيس الموساد (كما طار من قبله مائير عميت قبل حرب يونيو 1967) إلى كل من أوروبا وأمريكا بمهمة سرية.. ليحاول التحقق من المعلومات التي وردت اليهم قبل حرب أكتوبر باستعدادات العرب للهجوم على إسرائيل. وفي صباح السادس من أكتوبر بعث ببرقية محمومة من نيويورك إلى غولدا مائير رئيس وزراء إسرائيل تقول: "إن الحرب ستبدأ اليوم". وكان الأوان قد فات. وكانت مفاجأة الحرب التي منيت بها إسرائيل، نتيجة "الفكرة" الخاطئة التي يتمسك بها القادة الإسرائيليون، والمستندة إلى أن الحرب لن تقع بسبب عجز العرب عن القيام باتخاذ قرار الهجوم ضدهم. كقد كانت هذه "الفكرة" متأصلة الجذور في أذهان العسكريين الإسرائيليين، حتى أن الجنرال "إلياهو زعيرا" – الذي كان يشغل منصب رئيس الاستخبارات العسكرية – ذهب في ظهر ذلك اليوم إلى مؤتمر صحفي في تل أبيب وهو مطمئن إلى حقيقة "الفكرة". وعندما تكلم بهدوء وثقة إلى الصحفيين قائلاً: "لن تقع الحرب". اقتحم المكان ضابط برتبة ميجر ودفع ببرقية إلى الجنرال زعيرا في غرفة المؤتمر الصحفي، وعندما قرأها هذا، خرج من الغرفة ولم ينبس ببنت شفة، ولم يعد مرة أخرى. وأدرك الصحفيون الحقيقة على الفور، فقد وقعت الحرب، وفي جمع أرجاء تل أبيب... أخذت صفارات الإنذار ترسل صيحاتها.هذا التقييم الغير صحيح للمعلومات التي تجمعت لدى المخابرات الإسرائيلية، والتي وصلتها قبل الحرب بمدة كافية وتتعلق بالحشود المصرية والسورية، أكد على تقصير المخابرات الإسرائيلية في تحليل النوايا العربية... والاستعدادات العسكرية التي سارت بخطوات دقيقة وسرية للغاية، وخدعت أجهزة المخابرات الصهيونية والأمريكية، بما يدل على جهل هذه الأجهزة بمؤشرات الحروب والأزمات .. مما أدى إلى تفويض نظرية الأمن الإسرائيلي القائمة على قوة جهاز مخابراتها، وعلى عنصر إنجاح الطيران في تنفيذ الضربة الوقائية وإفشال الاستعدادات العربية. وبعد توقف الحرب، عمدت الحكومة الإسرائيلية إلى التحقيق في كارثة يوم الغفران وشكلت لجنة "إغرانات" لتحديد موضع الخلل والتقصير... وقد رأت اللجنة أن الاستخبارات العسكرية هي المسؤولة عن تقييم نوايا وقدرات القوات العربية... وأشارت إلى أربعة مسؤولين بها غير مرغوب فيهم ويفضل تسريحهم... كان على رأسهم بالطبع إلياهو زعيرا رئيس المخابرات العسكرية. ولذلك، نشطت أجهزة المخابرات الإسرائيلية المختلفة... وعملت على تلافي هذا الخطأ المدمر الذي راح ضحية له آلاف الجنود والضباط، وسبب الذعر في كل أرجاء إسرائيل، وقررت ألا تترك معلومة، ولو تافهة صغيرة، إلا وحللتها وتأكدت من صحة ما جاء بها. وذلك من خلال تجنيد طابور طويل من العملاء والجواسيس في كل البلاد العربية... يمدون إسرائيل بجسر متصل من المعلومات السرية يومياً، فتستطيع بذلك تدارك أية كوارث أخرى قبل وقوعها. وكان لا بد من القيام بعدة انتصارات هامة... تعيد الثقة إلى هذا الجهاز الذي أثبت فشله في التنبؤ بحرب أكتوبر. وعلى هذا الأساس .. صعّدت قيادة جديدة لأجهزة المخابرات الإسرائيلية، تتعطش لإثبات جدارتها ومقدرتها، وأخذت على نفسها أمر حماية إسرائيل من الخطر الدائم المحيط بها. ورصدت ملايين الدولارات تحت تصرف هذه الأجهزة. وكان للموساد الإسرائيلي نصيب أكبر منها لتجنيد العملاء والجواسيس، وشراء ضعاف النفوس في كل مكان. ولم تعد المخابرات الإسرائيلية تلقى بالاً للعناصر التي تعيش على هامش الحياة، بل سعت لتجنيد البارزين في المجتمع، ومن ذوي المراكز الدقيقة الهامة. إذ لم يعد عمل الجواسيس مقصوراً على الإنصات إلى ثرثرات سكير في حفل كوكتيل... أو تخاويف جاهل بالأمور يدعى المعرفة بكك شيء، وإنما أصبحت مهمة الجاسوس تتعلق إلى حد بعيد بالحصول على الوثاقئق السرية وتصويرها ... وإعادتها إلى مكانها الذي أخذت منه... ومن ثم إرسال ما صوره إلى مركز اتصاله. وأيقنت المخابرات الإسرائيلية أن المعلومات المجموعة .. سواء بالوسائل البشرية أو التكتيكية، لا تكتسب قيمتها الكاملة .. إلا بعد الدراسة والتحليل والتركيب والاستقراء م نقبل خبراء أخصائيين على مستوى عال من العلم والخبرة. وبسبب الخوف من "مفاجآت" العرب الغير سارة – أطلقت إسرائيل جواسيسها داخل البلاد العربية، يجمعون لها الأسرار العسكرية والصناعية... وكل ما يتصل بأ/ور الحياة اليومية بما فيها أرقام هواتف وعناوين المسؤولين. وهذا ليس عبثاً من جانب العدو، إنما هو عمل مخابراتي أصيل، وتخريبي يؤدي إلى نتائج خطيرة فيما لو أتيح استعمال هذه المعلومات... فعملاء إسرائيل السريين لا يتورعون عن ارتكاب أية جريمة مهما كانت حقارتها لتحقيق أهدافهم ومهامهم. ويبدو أن المخابرات العربية قد تفهمت بحق تغير أسلوب جهاز المخابرات الإسرائيلي... خاصة بعد تجديد دماء رؤسائه ومديري أقسامه المختلفة .. والحرص على اصطياد الخونة العرب في كل مكان .. ودفعهم إلى بلادهم بعد دورات تدريبية ينشطون بها مداركهم... ويوقظون لديهم الحاسة الأمنية .. ويزرعون بداخلهم الولاء لإسرائيل بإغراءات المال والجنس، وبالتهديد أحياناً كثيرة. لذلك .. فقد كان على المخابرات العربية أن تنشط هي الأخرى لتواجه هذا النشاط المضاد. وكان أن أعلن مسؤول كبير في المخابرات المصرية في 10/10/1974 بأن أي مواطن مصري تورط تحت أي ظروف مع جهاز المخابرات الإسرائيلي، فإنه في حالة التبليغ عن ذلك فور وصوله إلى البلاد أو لأي سفارة من سفاراة مصر... فسوف يعفى نهائياً من أية مسؤولية جنائية... ولا توجد له أي تهمة مهما كانت درجة تورطه. وأضاف المسؤول: إن المخابرات المصرية تعلم الأساليب التي تتبعها المخابرات الإسرائيلية .. والظروف التي يقع تحتها المواطن مرغماً، مما يغفر له ما وقع فيه مادام قد قام بالإبلاغ خدمة لوطنه. وفي نهاية البيان ... أعلن المسؤول الكبير نبأ القبض على جاسوسين شقيقين يقومان بالتجسس لصالح المخابرات الاسرائيلية .. وأنهما بين أيدي المحققين لاستجوابهما... وسوف يحالان للمحكمة المختصة فور انتهاء التحقيق. فلنفتح ملف القضية ونقرأ ما به دراسة الحالة في الثاني عشر من مارس 1929 ولد "السيد محمد محمود محمد" بالإسكندرية لأسرة ثرية يعمل معظم أفرادها في "البحر". وانصرف السيد عن دراسته مبكراً ولم يحصل على الشهادة الإعدادية، فكان شغفه بالبحر أعظم من فصل المدرسة لديه. لذا .. فقد أثمر هذا الحب لكل ما هو "بحري" عن خبير بالشؤون البحرية يشهد له الجميع بذلك. وكان عمله في ميناء الاسكندرية قد أتاح له – من خلال عائلته – الارتباط بصداقات عديدة بالعاملين بالميناء، ومعرفة أدق التفاصيل عنه. وفي الثانية والعشرين من عمره .. أحب ابنة صديق للأسرة يعمل في الميناء أيضاً. وتزوج من "إخلاص" وعاشت معه في شقة رائعة بمنطقة سيدي جابر. ومرت به الأعوام وهو يكبر بين أصحاب المهنة وتتسع علاقاته واتصالاته. وينجح في عمله إلى مدى بعيد. فاستثمر هذا النجاح وامتلك 40% من الباخرة التجارية اللبنانية "م. باهي" وترك العمل على الشاطئ لينتقل إلى عمق البحر، إذ عمل مساعداً للقبطان... وبدأ يبتعد كثيراً عن الاسكندرية في رحلاته إلى موانئ العالم... فزداد الماماً بعلوم البحر والطقس .. وامتلأت جيوبه بالمال فاستثمره هذه المرة في الزواج من فتاة صغيرة رائعة الجمال .. كان قد التقى بها في المعمورة ورآها "غادة" حسناء تمرح على الشاطئ كأنها عروس البحر. لقد كلفه الزواج منها مبالغ طائلة أرهقت ميزانيته. وتورط بسببها حتى اضطربت أحواله المادية أكثر بعدما احتاجت الباخرة لـ "عمرة" كاملة، كان عليه أن يدفع 40% من تكلفتها، فقد كانت بينهم وبين شركة التأمين مشاكل طائلة أدت إلى تعسرهم مالياً. وأمام أزمته الطاحنة .. اضطر السيد محمود إلى "رهن" نسبة من نصيبه في الباخرة، وكان من تلك الفترة قد دخل بكل قوة إلى دائرة الإفلاس التي تضيق حوله وتعتصره. كان السيد محمود قد قارب الأربعين من عمره، وسيم أنيق المظهر، خبير بالأمور البحرية... وأعلى خبرة بشؤون النساء وأنواع الخمور... وكان لا ييأس إذا ما صدته امرأة أو تجاهلته فتاة جميلة. فهو يملك من وسائل اجتذابها ما يحير العقول، يساعده على ذلك لسان زلف رقيق، وعينان بريقهما عجيب كل العجب يسهل له مسعاه، وكانت علاقاته النسائية متعددة برغم زواجه من اثنتين.. ولا يكف عن إثبات ذاته أمام الفتيات الصغيرات اللاتي ينجذبن سريعاً لطلاوة حديثه وجرأته، ولقدرته الفائقة على احتوائهن. كان أيضاً يستغل المال في شراء النساء بالهدايا القيمة التي يجلبها من الخارج كلما عاد محملاً بها... في وقت كانت الأسواق المحلية تفتقر إلى البضائع المستوردة التي تلقى إقبالاً شديداً خاصة حوائج النساء. كل ذلك ساعد بطريقة أو بأخرى على تعدد علاقاته النسائية ومفاخرته بذلك أمام أصدقائه الذين طالما حسدوه لحظه الواسع من الجنس اللطيف. هذه المغامرات ... خلافاً لليالي الأنس والفرفشة... التي كان يقيمها في شقة خاصة في سبورتنج .. كانت تستنزف منه أموالاً كثيرة أيضاً، وأدت إلى ابتعاده – مؤقتاً – عن هوايته في تصيد النساء .. التي أرهقت مدخراته وإن كانت قد قضت عليها بالفعل. وأثناء توقف الباخرة للإصلاح بميناء نابولي الإيطالي... ذهب السيد محمود إلى روما... وبالمصادفة قابله هناك صديق قديم من يهود الاسكندرية اسمه فيتورا ... قال له إنه يعمل ضابطاً إدارياً في شركة السفن التجارية الايطالية. وعلى مدار جلسات طويلة بينهما... استعرضا مراحل حياتيهما الماضية والحاضرة. وشكا له فيتورا شوقه الشديد لزيارة الاسكندرية، فدعاه السيد محمود لزيارته هنا وهو على ثقة بأنه لن يلبي دعوته... لكن خاب ظنه عندما فوجئ به يزوره بالاسكندرية. وخلال هذه الزيارة الغير المتوقعة .. تكشف لفيتورا أمر صاحبه ومدى معاناته... بسبب أزمته المادية الحرجة التي تنغص عليه حياته، وتتهدد مستقبله كله. خاصة وهو صاحب بيتين وزوجتين ... وحجم المصروفات يزداد كل يوم يمر. وصارحه السيد بمدى يأسه من صلاح حاله والسفينة قد فتحت فاها ولا تريد إغلاقه، وأنه أخيراً باع نصيبه بالديون التي تراكمت عليه وتضخمت. وطلب من صديقه اليهودي راجياً أن يبحث له عن عمل في أي مكان من العالم. وبعد تفكير .. أخبره فيتورا أنه سيعمل على تقديمه لصديق إنجليزي يعمل صحفياً على منظمة "حلف شمال الأطلسي" ويقيم في أمستردام بهولندا. وعندما سأله السيد عن نوع العمل الذي قد يقوم به مع صديقه الصحفي، أخبره فيتورا أن مجال الصحافة ليس له حدود. لأنه يتدخل في شتى المجالات وليس قاصراً على معلومات بعينها. ولما أكد له أن الصحافة الأجنبية تدفع كثيراً... تهلل السيد محمود فرحاً... وطلب بإلحاح من فيتورا أن يسعى عند صديقه الانجليزي، وأنه مستعد للتعامل معه كمراسل صحفي بالشكل الذي يرضاه. وفي اليوم التالي ادعى فيتوار أنه اتصل بصديقه في أمستردام وعرض عليه الأمر، فوافق وطلب موافاته بعدة تقارير اقتصادية وتجارية وسياسية... مع التركيز على ميناء الاسكندرية وكتابة بيانات شاملة عنه وعن الحركة التجارية والملاحية والتسويقية من خلاله. فرح السيد محمود كثيراً واستغرق عدة أيام في كتابة التقارير بعدما زار الميناء الحيوي للاستعانة بصداقاته هناك في الحصول على إجابات وافرة على العديد من التساؤلات... ثم حزم حقيبته وسافر برفقة صديقه إلى أمستردام رأساً حيث نزلا بفندق "أمريكا" الفخم. وفي الفندق... زاره الصحفي البريطاني "ميشيل جاي طومسون" – الذي هو في الأصل ضابط مخابرات إسرائيلي – واستغرق وقتاً طويلاً في الحديث معه ومناقشته فيما جاء بتقاريره الهامة... ووجد السيد محمود نفسه يعيش حياته السابقة من جديد حيث الخمر والنساء الجميلات.. وبخاصة كريستينا الرائعة التي قدمها له طومسون كصحفية تعمل معه. وغاب عن ليومين تاركاً كريستينا معه وتحت أمرته. الجاسوس المغيب العقل كانت الفتاة اليهودية المثيرة تعلم أنه زوج لاثنتين. وزير نساء خبير بأمورهن، ولذا كان عليها أن تكون مختلفة عن كل النساء اللاتي عرفهن. فأبدعت في إثارته إلى درجة الهوس. وفي حجرته بالفندق لم تسكره الخمر بقدر ما أسكره دلالها... وجسدها الأنثوي الذي تفوح منه رائحة الرغبة... فكانت تدعوه اليها وتتمنع، وكلما اقترب منها زادته لسعات النشوة ليمتشق سلاح الصبر وما صبر لديه، فيهوى سكراناً بين يديها، يمتص معتق الخمر من نهر الحياة بين نهديها، وترتجف خلجاته نشوانة لفعل اللذة الساحرة، ويقسم بأنه ما ذاق من قبل طعم امرأة، ولا ذهب عقله بلا خمر إلا معها. فتضحك العميلة المدربة في نعومة آسرة، وتخبره بأنها تعمل مع طومسون لصالح المخابرات الأمريكية... إضافة إلى عملها في "حلف شمال الأطلسي" فلم يندهش العاشق الغارق بين أحضانها أو يحس بمدى الخطر الذي يحيط به. وعندما جاءه طومسون ...أبلغه تحيات فيتورا الذي سافر إلى استراليا، "حيث انتهت مهمته إلى هنا". رجع السيد إلى القاهرة ومعه مئات الدولارات... والعديد من الهدايا التي حرم من حملها لفترة طويلة. وأيضاً – يحمل عدة تكليفات محددة عليه الكتابة عنها بتفصيل. وأغراه ضابط الموساد بمبلغ كبير لكل تقرير مفصل... يحوي معلومات قيمة لا تتوافر في المادة الصحفية المنشورة في الصحف المصرية. وما هي إلا أسابيع حتى سافر إلى أمستردام مرة ثانية بحقيبته عدة تقارير غاية في الأهمية. وإحصائيات عن حركة ميناء الإسكندرية اليومية. اندهش طومسون لغزارة المعلومات التي جلبها تلميذ الجاسوسية الجديد. أهدى إليه كريستينا لعدة أيام مكافأة له، فغيبت عقله وحركت بداخله كل إرهاصات النشوة وتياراتها المتلاحقة. نوع آخر من النساء هي. دربها خبراء الموساد على التعامل مع المطلوب تجنيده بأساليب شتى تجعله يعشق الجنس... ويدمنه ... فكانت تزرع لديه اعتقادات الفحولة التي لا يتمتع بها سواه. وبنعومة الحية تنسج معه قصة حب ملتهبة مفعمة بالرومانسية الخالصة ثم تمتزج بالجنس فيختلط الأمرين ويقع الضحية فريسة الرغبة الشديدة في الارتواء والتي عادة ما تنطفئ أو تخمد. فالعميلة المدربة تملك سلاح تأججها الدائم. والقدرة على السيطرة على الضحية بسلاح الضعف وعدم إيثار اللذات... هكذا تفعل عميلة الموساد التي تخرجت من أكاديمية الجواسيس في إسرائيل برتبة عسكرية ... وترتقي وظيفياً كلما أجادت استخدام لغة الجسد في "العمل". فالجسد الانثوي – مادة خصبة تجتذب ضعاف النفوس ... أمثال السيد محمود الذي نظر في بلاهة إلى فتاته العارية وهي تقترب من لحظات الذروة ... حينما تصرخ وتخبره في ضعف أنها إسرائيلية تحبه وتعشقه وتعبده. ويكمل صعود المرتفع وحين يهبط.. تكرر عليه القول فلا يهتم. وتفهم من ذلك أنه سقط... سقط لآخره في عشقها وحبائلها... ولأنه مغيب العقل فلا مفر من استسلامه. وبعد عدة أيام – كان في طريقه إلى الاسكندرية – عميلاً للموساد الاسرائيلي، فهناك أحاديث سجلت له، وأفلام فاضحة تظهر لحظات ضعفه وشذوذه مع العميلة المدربة، وهناك ما هو أهم – التقارير الخطيرة التي كتبها بخط يده. أغمض عينيه ولم يهتم بالنداءات المستمرة التي كانت تصدر عن جهاز المخابرات المصرية... والتي تعفي أي مصري تورط مع الموساد بشرط الإبلاغ الفوري ... وتجاهل كل تلك النداءات لظنه أن إبلاغهم بالأمر... معناه حرمانه من آلاف الجنيهات التي يحصل عليها مقابل عدة تقارير لا يبذل في جمعها مجهوداً يذكر ... فالمعلومات متوفرة بكثافة وكل معلومة لها ثمن يحدده هو حسب أهميتها. عليه إذن أن يبحث عن كل ما هو مهم لتزداد مكافآته. ويكبر راتبه الشهري الذي حددوه له بـ 500 دولار .. مبلغ كبير بلا شك من أين له بمثله إذا امتهن أية مهنة؟ كان يكتب تقاريره التفصيلية وبضمنها كل المعلومات التي تصل إليه... ويتوقع أرقاماً معينة ثمناً لها.. ويسرع بالسفر إلى أمستردام كلما تضخمت لديه المعلومات ليجد في انتظاره كريستينا وطومسون. هي تمنحه جسدها، وتزيل عنه أعباء الخوف الذي يتملكه عندما تنشر الصحف المصرية قصة القبض على جاسوس لإسرائيل... وطومسون يعمل على إزالة الخوف منه بتدريبه على استخدام الشيفرة في الكتابة بالحبر السري، وعلى استعمال الراديو لاستقبال التعليمات من خلاله بالشيفرة وطريقة حلها وأسلوب تنفيذها... وتدريبه أيضاً على كيفية تمييز الأسلحة بالنظر. وكان طومسون يؤكد له بصفة مستمرة... أن التدريب الجيد فيه تأمين له .. وحصانة ضد الخطأ الذي قد يوقع به ... ويحثه دائماً على الالتجاء إلى العلم... وإلى التزود بالحس الأمني العالي لحماية نفسه. المصير الأسود ومع جرعة التدريب العالية التي نالها... عاد السيد لاستئناف نشاطه بشهية مفتوحة ومحفظته متخمة بالأموال ... وحقائبه ملأى بالهدايا... وعرف أكثر وأكثر قيمة كل معلومة يجمعها. خاصة المعلومات العسكرية. ولما كانت مصادر معلوماته العسكرية معدومة.. فكر في تجنيد شقيقه الأصغر "أمين" المجند بالقوات المسلحة. فاستغل حاجته الى النقود فترة تجنيده... للإنفاق على نفسه على حبيبته التي يستعد للزواج منها، ولعب على هذا الوتر، وكلما أمد شقيقه بالنقود كلما أخضعه له. لم يكن الأمر صعباً على أمين هو الآخر، فببعض معلومات عسكرية لا قيمة لها عنده ... يمنحه السيد مقابلاً كبيراً لها .. وعندما سأله أمين ذات مرة ضاحكاً: هه يا أخي ...هل تعمل جاسوساً؟‍! انتفض كالملسوع واكفهر وجهه وقام على الفور وصفعه بشدة قائلاً: Ø إياك أن تخبر أحداً بهذا الأمر ... أنا أعطيك مبالغ طائلة مقابل معلوماتك، وكلمة واحدة وتنتهي حياتنا الى الأبد. وانخرس أمين ولملم جرأته وانغمس مضطراً بسبب المال إلى الاستمرار في إمداد شقيقه بالمعلومات. وذات مرة .. عرض عليه السيد أن يجلب له خرائط عسكرية... ولوحات هندسية لتصميمات بعض المواقع الهامة. وتخوف أمين في البداية، وأمام إغراءات المال استجاب أخيراً ولكنه ساومه على الثمن، وتفاصلا في المبلغ حتى اتفقا. وعندما رأى طومسون الصور العسكرية واللوحات البالغة السرية... احتضن الجاسوس الخائن وقال له "سأكتب حالاً بذلك الى إسرائيل وسأطلب لك مكافأة سخية" وجاء الرد من تل أبيب يفيض كرماً وسخاءً. هذه المرة .. لم يهتم السيد كثيراً بعشيقته التي لم تأت لمقابلته، بل انحصر اهتمامه في القيمة المادية التي سيتحصل عليها ثمناً لما أمدهم به، ولم يمكث كثيراً بأوروبا إذ عاد على وجه السرعة... حيث جاءه مولود جديد من زوجته غادة بعد محاولات فاشلة سابقة، وحيث ينتظره أخوه أمين ...الذي يجهز شقته استعداداً للزواج من حبيبته "توحة". كانت حرب أكتوبر قد انتهت. وكثف أمين من نشاطه في تصوير المستندات العسكرية والخرائط قبل خروجه من الجيش إلى الحياة المدنية. وحرمانه من المبالغ الخيالية التي يحصل عليها من شقيقه، وهذا ما أوقع بالخائن وبشقيقه في قبضة المخابرات المصرية... فقد حامت شكوك حوله مصادر المال الذي ينفقه أمين بشراهة، ولفت انتباه أحد زملائه اهتمامه بالحجرة التي تحوي تصميمات هندسية سرية لممرات الطائرات في المطارات الحربية... وقواعد يجري إنشائها في عدة مواقع سرية. ووصلت الشكوك إلى القائد الذي جمع التحريات عن الجندي أمين ... فاتضح له أنه يغدق بالهدايا على زملائه...وأقام صداقات قوية للحصول على أجازات من القوات المسلحة يقضيها في اللهو والمجون. وبوضعه تحت المراقبة هو وشقيقه السيد، وكانت النتيجة الحتمية سقوطهما في قبضة المخابرات المصرية وهما في غفلة من الزمن لا يتصوران أن أمرهما قد ينكشف في يوم من الأيام. هكذا فاجأ فريق من رجال المخابرات العسكرية شقة أمين... وتم العثور على وثائق عسكرية هامة، تحوي خرائط ولوحات لمواقع استراتيجية، اعترف أمين في الحال أنه جلبها لشقيقه السيد مقابل مائة جنيه... وبمداهمة شقة السيد وجدوه يخبئ وثائق أخرى بجيب سحري بقاع حقيبته... فانهار لا يصدق ...وأخذ يلطم خديه ويردد: - الطمع والنسوان ضيعوني ... وأنا أستاهل. وضبطت لديه كل أدوات التجسس ... الأحبار السرية... جهاز الراديو .. جدول الشيفرة .. الكاميرا... الخ. واستمر التحقيق معهما، ابتداء من 28 مارس 1974 حتى ديسمبر 1974 حيث اعترفا خلاله بتهمة التجسس لصالح المخابرات الإسرائيلية.. وعندما نطق القاضي بالحكم، دوت صرخات عالية في القاعة من ثلاثة نساء، كن إخلاص وغادة وتوحة، واقتيد السيد محمود ليقضي 25 عاماً في أحد سجون الصحراء، وكان منظراً عجيباً في قفص المتهمين بالمحكمة، إذ أمسك أمين بتلابيب شقيقه الأكبر وغرس فيه أظافره وأنيابه وهو يصرخ: Øأنت السبب يا مجرم، أنا ح أقتلك... ح اقتلك... ضيعت خمستاشر سنة من عمري أونطة يا ... ... وباعدوا بينهما واقتيد كل منهما في عربة مصفحة حيث ينتظرهما مصير أسود .. لا ضوء فيه ولا شعاع...فالطريق غامض.


- امواج بحر الرومانسية - اخر

اسمه سيظل دائماً بقائمة الخونة

رجب عبد المعطي ...

هل انتحر قبل إعدامه...؟

جواسيس الإسكندرية ... حفلت بالكثيرين منهم ملفات المخابرات والجاسوسية ... وكانت ظاهرة لافتة ومحيرة ألقت ظلالاً من الدهشة حول تباين ظروف سقوطهم في مصيدة الموساد .. ويمثل كل جاسوس منهم حالة مختلفة عن الآخر. فبعضهم كان بمقدوره ألا يسقط .. ولكن النفوس الوضيعة والضعيفة .. والطمع، والنمو المبكر لبذور الخيانة، أمور معقدة لا ترتبط مباشرة بقيم أو مفاهيم أو شرف، فهناك مردودات أخرى وترسبات تتفاعل وتنسجم وتصنع في النهاية جاسوساً... ويظل سؤالنا يتردد:

لماذا كثر جواسيس الإسكندرية؟

في الأول من أكتوبر 1937 .. امتلأ منزل الحاج عبد المعطي بلفيف من الأهل والأصدقاء جاءوا يباركون مقدم مولوده الأول "رجب". ولأن الحاج عبد المعطي تاجر مشهور في حي القباري بالإسكندرية فقد انهالت عليه الهدايا من حيث لا يدري. فالمولود جاء بعد انتظار طويل مليء بالقلق والصبر والترقب. وتجارب لا حصر لها مع الأطباء والأدوية. وفي شهر رجب – جاء رجب.

وبعد عدة أشهر حمل الرجل وزوجته أمتعتهما وحطا الرحال بأطهر أرض ورفعا أيديهما عند الكعبة يطلبان من الخالق جل شأنه أن يبارك لهما في رجب ويشكرانه على "عطيته". وشب الوحيد نبتاً طرياً يأكل بملعقة من ذهب كما يقولون... فقد وفر له أبوه كل أسباب الرغد، وجعل منه شاباً خنوعاً مدللاً كان مدعاة لأن يخفق إخفاقاً ذريعاً في الحصول على الثانوية العامة .. ومع عدة محاولات أثمرت جميعها عن خيبة أمل للأب اغتر الابن وأوهم نفسه بأن له من العقل ما لم يملكه غيره... ويستطيع – بدون شهادات – أن يصبح رجل أعمال مشهوراً ينافس عمالقة السوق والميناء ... ووسوس له الشيطان أنه فقط بحاجة إلى فرصة يثبت من خلالها أنه عبقري زمانه الملهم.

حاول الحاج عبد المعطي إفاقة ابنه من سكرة الغرور وإعادته إلى طريق الصوات ففشل. إذ سيطرت على رجب عبقرية كاذبة نشأت من فراغ العقل والثقافة. وصار يحلم ليل نهار بشركة رجب للخدمات البحرية.

ولما امتنع والده عن إمداده بالمال اللازم حتى يتحصن بالخبرة .. مضطراً وافق رجب على العمل في وظيفة كاتب حسابات بميناء الإسكندرية ... إرضاء لوالده. واستغرق في عمله الجديد حتى توسعت مداركه واستوعب الكثير من الخبرة بعد الاحتكاك الفعلي في الحياة.

وبعد ثلاث سنوات من العمل في الميناء .. لم ينس حلمه الكبير ففاتح أباه ... وهذه المرة كان عنده إصرار عنيد على ألا يرجع. فلما عارضه والده بشدة غادر المنزل غاضباً.. وتحت ضغوط الأهل والأصدقاء.. رضخ الأب أخيراً أمام رغبة ابنه وأمده بعدة آلاف من الجنيهات وهو على ثقة من فشله وخسارته. وغمره للمرة المليون إحساس بندم شديد لأنه دلل ابنه وفتح له منذ الصغر خزينة أمواله بسحب منها كيفما يشاء...وتمنى بينه وبين نفسه لو أن الزمن عاد به إلى الوراء فيقوم على تربيته بالشكل الصحيح .. وينشئه فتى معتمداً على ذاته فيشب رجلاً يعرف قيمة العلم والقرش .. ويدرك جيداً أن للحياة ألف وجه ووجهاً.. ولكن ...فات الأوان وحسم الأمر ... !!

من ناحية أخرى كان رجب يدرك ما يدور بعقل والده، وأراد أن يؤكد له كذب ظنه واعتقاده.. فتوسع في أعماله دون خبرة كافية بمنحنيات السوق وتقلباته. وكانت النتيجة المؤكدة خسارة جسيمة مُني بها وفشلاً ما بعده فشل .. وديوناً تزاحمت بأرقامها دفاتره.

وجاءت نكسة يونيو 1967 وتعم حالة كساد ازدادت معها الأمور سوءاً، وحاول رجب باستماتة أن يقوم التيار القوي فخارت قواه وغرق في ديونه... وقام بتصفية الشركة وحزم حقائبه ووجد نفسه على ظهر مركب يشق مياه البحر إلى ميناء "بيريه" في اليونان.

1. نزل ببنسيون "بروتاجوراس" وحاول جاهداً أن يعثر على عمل لكنه باء بالإخفاق .. فلجأ إلى بحار يوناني يدعى "زاكوس" ربطتهما معاً إحدى سهرات الاسكندرية.. وكذب عليه مدعياً أنه ينجز إحدى صفقاته التجارية واستولى منه على خمسمائة دراخمة وخرب إلى "أثينا" العاصمة حيث ضاقت به المدينة الساحلية الساحرة. ووجد في أثينا أن الحياة بها أكثر ضجيجاً وحركة.

2. وفي بنسيون "زفيروس" جلس يفكر فيما وصل إليه من حال سيئة: لقد مر به شهر تقريباً ولم يعثر على عمل بعد. إنه الآن عاطل ينفق ليعيش... وعما قريب ستنفذ دراخماته فماذا سيعمل؟ هل ضاقت به الحياة أيضاً في أثينا؟

3. مئات من المصريين جاءوا إلى اليونان يعملون في أي شيء وكل شيء.. لكنه يبحث عن عمل من نوع آخر يتناسب وعبقريته. وكثيراً ما حدث نفسه قائلاً "لا أحد يفهمني في هذا العالم"... لقد صور له خياله أنه مضطهد .. ومعظم عباقرة العالم اضطهدوا أيضاً قبله وها هو يواجه قوى الاضطهاد التي تطارده أينما حل وعليه بالصبر حتى يكتب له النجاح.

4. وبينما هو يتجول في شارع "سوفوكليس" التقى بشاب مصري من برديس جنوبي سوهاج يعمل في مصنع للعصائر .. عرض عليه أن يعمل معه في قسم التغليف لكنه أبى بشدة أن يعمل بوظيفة تافهة كهذه.. واستعرض له سيرة حياته السابقة في مصر... فما كان من الشاب الصعيدي إلى أن نصحه بالعودة إلى الإسكندرية لكي لا يقع فريسة سهلة في قبضة المخابرات الإسرائيلية... التي تتصيد الشباب المصري العاطل في اليونان وتغريه بالعمل معها مقابل مبالغ كبيرة. وسخر رجب في داخله من نصيحة الشاب له بالعودة... فقد كان والده يعاني الأمرين من حجم الديون التي خلفها له ومن مطاردة الدائنين في المتجر كل يوم.

تزاحمت الأفكار في رأسه وغمرته إحساسات اليأس من صلاح أمره في أثينا .. والخوف من العودة يجر أذيال الخيبة والفشل .. وداهمه شعور بالضآلة وقال لنفسه "لن أيأس .. لن أستسلم أبداً مهما حدث".

أيقظته دقات الباب من أفكاره. وكان الطارق موظف حسابات البنسيون. فطلب منه إمهاله عدة أيام .. وما كانت جيوبه تحوي سوى دراخمات قليلة لا تكفي لأسبوع واحد إلا بالكاد.

هرب منه النوم واختنق صدره واهتزت أمامه الرؤى وعندما تذكر مقولة الشاب الصعيدي "المخابرات الإسرائيلية تدفع الكثير" قال لنفسه "لن أخسر أكثر مما خسرت" وأمسك بالقلم ليكتب:

Ø السيد المبجل / سفير دولة إسرائيل في أثينا

Ø أنا موظف مصري أقيم في بنسيون زفيروس. ضاقت بي الدنيا وظلمتني في الإسكندرية وفي أثينا. قال لي البعض إنكم تمدون يد المساعدة لكل من يلجأ إليكم وأنتم الملجأ الأخير لي. فأرجو أن أنال عطفكم واهتمامكم.

Ø رجب عبد المعطي أثينا 27/12/1967

ولم تكد تمر ثلاثة أيام – حتى فوجئ بمندوب من السفارة الإسرائيلية ينتظره في صالة الاستقبال ..

فاصطحبه إلى السفارة وهناك قابلوه بود وقالوا له:

Ø وصلتنا رسالتك ولم نفهم منها ماذا تريد بالضبط؟

أجاب بصوت يغلفه الرجاء:

Ø أريد أن أعمل في أثينا.

سلمهم جواز سفره وتركوه ثلاث ساعات بمفرده .. ثم جاءوا له باستمارة من عدة صفحات ... تحمل اسم السفارة وشعار دولة إسرائيل .. وطلبوا منه أن يملأها ويكتب سيرة حياته وأسماء أصدقائه وأقاربه ووظائفهم.

وبعدما تبين لهم أنه أمضى ثلاث سنوات في العمل داخل ميناء الإسكندرية... طلبوا منه أن يكتب تقريراً مفصلاً عن الميناء وأهميته الاقتصادية والعسكرية ففعل. واستعرض ما لديه من مظاهر "العبقرية" الفذة في شرح كل شيء عن الميناء بتفصيل مطول... فأذهلتهم المعلومات التي كتبها عن الميناء ... وأدرك ضابط الموساد الذي شرع في استجوابه بأنه وقع على كنز ثمين عليه أن يعمل على استثماره و"حلْب" ما لديه من معلومات.

وفي الحال سددوا حسابات البنسيون كافة ونقلوه إلى فندق "أورفيوس"... وهو ابن ربة الفن الإغريقية .. وأعطوه مائتي دولار أمريكي وتركوه عدة أيام يمر نهاره وهو يغط في سبات عميق ... وفي الليل يتذوق طعم السهر في حانات وكباريهات أثينا المتحررة ... ويصاحب أجمل فتياتها وداعراتها في شارع "ارستيديس" الشهير. وعندما نفدت نقوده تماماً ود لو عاد إليه مندوب السفارة الإسرائيلية ببعض المال ليكمل مسيرة اللهو والسكر.

وحدث ما توقعه وجاءه المندوب بمائتي دولار أخرى... فاستغرق في مجونه وتمنى لو استطاع أن يفعل أي شيء في سبيل أن يحيا حياة مرفهة في أثينا. أغرقته المخابرات الإسرائيلية بالمال حتى اطمأن إلى رجالها.. وكلما نفدت نقوده ذهب بنفسه لمقابلة أبو ابراهيم في السفارة الاسرائيلية يعرض عليه خدمات مقابل الدولارات التي يأخذها. فيؤجل ضابط الموساد الحديث في هذا الأمر لوقت آخر ... وينصرف رجب بالنقود فيرتع بين الحسان عاريات الظهر والنهود هو بينهن يختال اختيالاً.

إن المال والنساء أهم أسلحة أجهزة المخابرات. بل هما الأساس الذي تبني عليه عملية صنع جاسوس أو اصطياد عميل. وأجهزة المخابرات ليست بالسذاجة التي تجعلها تنفق الملايين لاصطياد ضعاف النفوس والخونة الذين يسهل شراؤهم بالمال والفساد... ولذلك أقامت فروعاً لها ومكاتب في الخارج تحمل أسماء شركات وهمية لا نشاط حقيقي لها سوى البحث عن الخونة. ويعمل بهذه الفروع ضباط مخابرات على أعلى مستوى من الخبرة والكفاءة... وتخول لهم سلطات واسعة .. وتحت أيديهم مئات الآلاف من الدولارات... وطابور طويل من السكرتارية والمساعدين الأكفاء ... بخلاف أجمل الفتيات اللاتي اخترن الطريق الصعب وخطون خطوات طويلة من الخبرة والحنكة. فهن يعرفن عملهن جيداً ويبدعن فيه وطريقهن إلى الإبداع يبدأ وينتهي بالجسد. إنه السلاح السحري الذي يقتل مقاومة الهدف... ويحرك فيه غريزته المجنونة التي تحيله إلى إنسان بلا عقل أو إرادة.

والمخابرات الإسرائيلية – الموساد – تفوقت كثيراً في هذه الأمور... وأصبحت أكثر أجهزة المخابرات خبرة في استخدام لغة الجسد... تلك اللغة التي يفهمها الجميع ولا تحتاج إلى مترجم أو قواميس تفسر مفرداتها.. ولكن الذي لا يعرفه أحد... أن الخونة الذين يسقطون في براثن الموساد .. يتحولون في لحظة ما إلى مجرد بهائم تدور في الساقية ... تطاردهم سياط الأوامر والطلبات التي لا تنتهي أبداً.. وأنها تقدر ما تدفع تريد المقابل أضعاف ما دفعته. وعندما يجف معين عميلها تنبذه كالكلب الأجرب وتلقي به في زوايا الذل والنسيان... وتعامله كخائن باع وطنه وأهله ولا قيمة لإنسان فقد انتماءه، وسلك كل المسالك نحو المال واللذة.

لم يدرك رجب عبد المعطي هذه الحقائق بل اندفع بكل ثقله باتجاه المخابرات الإسرائيلية ... وصادق الكثير من ضباطها في أثينا ظناً منه أنهم سينقذونه من شبح الإفلاس الذي تعلق بتلابيبه ولا يود مفارقته. ورحب كثيراً بضابط الموساد – أبو إبراهيم – الذي فوجئ به يزوره في حجرته بالفندق الفخم ... ويحدثه طويلاً عن أزمة الشرق الأوسط والوضع المتفجر في المنطقة بسبب الحروب مع العرب ... وحقهم في أن يعيشوا فوق أرض الميعاد في سلام وأمان ... وأنهم ليسوا شعباً يحب سفك الدماء بل أمة مشردة ضعيفة تسعى إلى العيش في هدوء بلا حروب أو صراعات.

 

واستعرض أبو إبراهيم في سرد أساطير وأحاجي اللص الذي يبرر مشروعية سرقاته ثم سأل رجب فجأة:

Ø هل ترحب بالعمل معنا لصالح السلام؟

والابتسامة تملأ وجهه ..

Ø بالطبع ... ولكن .. أي عمل بالتحديد؟

أخرج ضابط الموساد الخبير أربع ورقات ذات المائة دولار ودسها في يد رجب وهو يقول:

Ø أنت كثير الأسئلة ... هل تعتقد أننا نريدك سفيراً لنا في مصر؟

Ø إذن .. ما هو المطلوب مني؟

Ø ألا تسأل كثيراً لكي لا أغضب منك .. عليك فقط أن تعرف أننا أصدقاء .. وأن لكل حديث أوان.

هز رجب رأسه علامة على الرضوخ والطاعة ولحقه أبو إبراهيم بسؤال ذا مغزى:

Ø هل لك صديقة في أثينا؟

أجابه على استحياء:

Ø هجرتني فتاة تدعى انكسيميندرا لأنني لا أعرف اللغة اليونانية وقد ضاقت بإنكليزيتي الركيكة.

Ø أوه ... أتقصد تلك الفتاة التي يملأ النمش وجهها؟ دعك منها وسوف أعرفك بفتاة رائعة تتحدث بالعربية وستكون معك ليل نهار في أثينا.

تهلل وجهه وارتفع حاجباه دهشة وقال:

Ø أين هي؟ أريدها حالاً...

Ø ستكون إلى جوارك في الطائرة أثناء رجوعك من تل أبيب.

بهت رجب ووقف فجأة كالملسوع وقال بصوت متلعثم:

Ø تل أبيب؟

Ø نعم ... !!

بسرعة قالها ضابط الموساد بلغة الواثق، وأضاف كأنه يأمره بتنفيذ قراره الذي لا رجعة فيه:

Ø ستسافر إسرائيل بعد عدة أيام .. وفي الغد عليك أن تحضر اجتماعاً مهماً في السفارة لمناقشة خطوات تنفيذ هذا الأمر فهل عندك اعتراض؟

هربت الكلمات وغاصت في قرار عميق ... وأجاب رجب الذي بدا كالأبله لا يضبط خلجاته:

Ø لا ... لا ... أنا لا أعترض ... إنها مفاجأة لي.

Ø عندما كتبنا تقريراً عنك وأرسلناه إلى إسرائيل... طلبوا منا أن نأخذك في رحلة سريعة إلى هناك ليتعرفوا عليك أولاً. وثانياً هناك مفاجأة سارة تنتظرك. وثالثاً: لتختار صديقتك بنفسك من بين أجمل فتياتنا وتصحبها معك إلى أثينا.

سكت رجب ولاحقه أبو إبراهيم:

Ø المخابرات الإسرائيلية إذا أعطت فهي سخية بلا حدود. وإذا غضبت ومنعت فطوفان من الهلاك قادم. وثق يا رجب أننا ودودون معك إلى أقصى درجة .. أعطيناك أكثر من ألف وخمسمائة دولار حتى الآن ولم نطلب منك أدنى شيء. ألا يدل هذا على كرم منا أيها المكار؟، وربت كتف رجب الغارق في ذهوله وهو يقول في لغة ظاهرها الثقة وباطنها التهديد والبطش:

Ø عليك ألا تضيع هذه الفرصة .. انتهزها... واركب قارب النجاة تنج نفسك من الطوفان والهلاك.

وعندما قام ضابط الموساد منصرفاً لم يستغرق رجب في التفكير كثيراً. لقد ثبتت لديه النية واتخذ قراره...ولم يذهب إلى سريره لينام بل خرج ينزف دولارات الموساد على الخمر وجسد داعرة صحبها إلى شقتها وهو يمني نفسه بالجارية الاسرائيلية التي ستكون تحت إمرته. وفي الصباح الباكر كان يقف أمام باب سفارة إسرائيل تعلوه سحابة انكسار وبعينيه بريق خنوع ديّوث باع لحمه لمزايد !!

استغرق الاجتماع به نحو الساعة .. كانوا أربعة من ضباط الموساد في أثينا وخامساً جاء من فيينا كان يبدو أنه أكبرهم دراية بالتعامل مع الخونة وتطويع الجواسيس. طلب من رجب أن يرسم له خريطة الميناء في الاسكندرية وأين يقع مكتبه بالضبط؟!! وفوجئ رجب بماكيت مصغر للميناء دخل به موظفان ووضعاه على منضدة تتوسط الحجرة ..

أخذ رجب يشرح بتفصيل أكثر معلوماته عن الميناء. بل ويحدد أماكن مخازن التشوين التجارية ... ورصيف الميناء الذي يستقبل السفن الحربية السوفيتية... وسفن الشحن التي تجيء بالأسلحة المختلفة من ميناء أوديس السوفييتي على البحر الأسود ... ومخازن تشوين السلاح المؤقتة .. وبوابات التفتيش والمداخل والمخارج.

وهكذا استمر يشرح لهم أسرار الميناء الحيوي، ولم يتركوا أدق التفاصيل إلا وسألوه عنها ثم طلبوا منه الانصراف والعودة صباح اليوم التالي ومعه أربع صور فوتوغرافية وجواز سفره. وبعد أن سلمهم الصور تسلم منهم وثيقة سفر إسرائيلية ذكر بها أنه إسرائيلي من تل أبيب واسمه "دافيد ماشول"... تسلم كذلك تذكرة سفر بالدرجة السياحية – أثينا تل أبيب على شركة العال الإسرائيلية – وأوصله مندوب من السفارة إلى المطار وتأكد من صعوده إلى الطائرة المتجهة إلى إسرائيل.

وعندما جلس رجب في مقعده بالطائرة كان جسده يرتجف بشدة .. وتشوشت أفكاره للدرجة التي أصبح فيها كالمخمور الذي فقد تركيزه واتزانه ... وسرعان ما استعاد ثقته بنفسه وهو يرسم في خياله أحلام الثراء الذي ينتظره ... ووجه الفتاة المليحة التي سيختارها في إسرائيل ... وخطرت بباله فجأة فتاة من بورسعيد اسمها مايسة كانت قد هاجرت مع أهلها إلى المنصورة وتعرف عليها في إحدى الحفلات العائلية وأحبها بسرعة إيقاع عجيبة وافترقا أيضاً بلا وداع. لماذا خطرت بباله في تلك اللحظة بالذات؟ ضحك بصوت مسموع فرمقته سيدة تجلس بالقرب منه بنظرة تعجب وابتسمت .. وأغمض عينيه ثم نام.. واستيقظ والطائرة تحوم فوق مطار بن جوريون تنتظر الإذن بالهبوط.

وعلى سلم الطائرة صافحه ثلاثة رجال .. ثم أدخلوه سيارة مسدلة التسائر كانت تنتظر أسفل جناح الطائرة .. سلكت به اتجاهاً آخر بعيداً عن بوابة خروج الركاب والجوازات ... ووجد نفسه في شوارع تل أبيب لا يصدق عينيه...

وفي بيت يشبه الثكنة العسكرية على أطراف تل أبيب أدخلوه إحدى الشقق المخصصة لأمثاله من الخونة .. حيث كانت تنتظرهم بها فتاة رشيقة صافحته بحرارة .. ورحبت به بالعربية فسره ذلك كثيراً وقالوا له إن "زهرة" ستظل على خدمته طوال إقامته في الشقة.

وتركوه ليستريح بضع ساعات وعادوا إليه ثانية فصحبهم لمبنى المخابرات الإسرائيلية في شارع الملك شاؤل بوسط المدينة .. وكان في استقباله عدد كبير من كبار رجال الموساد. ولعدة ساعات أخضع لتحقيق واستجواب تفصيلي لكل ما كتبه عن ميناء الاسكندرية.

كان الاجتماع مغلقاً على الضباط المختصين والمحللين الذين أدركوا ميوله للنزعة العسكرية .. وكان ذلك واضحاً جداً من خلال إجاباته الحاسمة .. التي تشبه إجابة عسكرية مدعومة بلغة عسكرية بحتة .. وتغلفها تفاصيل استراتيجية دقيقة لا ينتبه اليها الرجل المدني الذي لم يجند بالقوات المسلحة.

وفي ختام الاجتماع أعد له حفل استقبال كبير في إحدى القاعات بالمبنى .. حضره عدد أكبر من ضباط الموساد ورؤساء الأقسام ... وتم منح رجب عبد المعطي رتبة "رائد" في المخابرات الاسرائيلية، ولم يضيعوا وقتهم كثيراً في مظاهر الترحيب.. إذ أعدوه لدورة مكثفة بدأها أحد الضباط بمحاضرة طويلة عن "ذراع إسرائيل الطويلة" .. وأنها تجعل العدو يرتجف رعباً، وتمنح الإسرائيليين القدرة على النوم في هدوء. وأن الموساد نجحت في حل الكثير من مشاكل الدولة اليهودية وهي على استعداد للقيام بمهام أخرى.

.. وإن عمليات الموساد ليست على درجة أقل أهمية .. بل هي أساس شهرتها.

وجاء ضابط آخر كانت مهمته تدريبية فنية تتعلق باستخدام الشفرة والاستقبال بواسطة موجات خاصة بالراديو... وبعد أيام أجاد رجب استقبال الرسائل المشفرة وترجمتها بسرعة وكان عليه اجتياز دورة أخرى مهمة .. وجاءته هذه المرة ضابطة شابة تتحده العربية بطلاقة شرعت في تدريبه على كيفية استخدام الحبر السري في الكتابة وقراءة الرسائل المرسلة إليه بالحبر السري أيضاً... وكذلك استعمال شفرة خاصة للمراسلة لا يكتشفها أحد.

استمرت برامج الدورة التدريبية المكثفة خمسة عشر يوماً كانت عصيبة ومرهقة. وبعد أن اجتاز الاختبارات بنجاح مذهل ... رافقته زهرة إلى منتجع خاص آمن يقع على بحيرة طبرية... وهناك أذاقته من لدائن أنوثتها ما حار فيه العقل وأذهل الشعور. قالتها له صراحة إنها هدية له لاجتيازه الاختبارات وتعاونه مع المخابرات الإسرائيلية بإخلاص... بل وأكدت له أنها عبدة له يفعل بها ما يشاء ... وعندما صارحها بأنه يستريح إليها ويود لو صاحبته إلى أثينا وعدته بأن تعرض طلبه على رؤسائها..

وفي تل أبيب أخبره الضابط المسؤول بأنه سيعود إلى الإسكندرية مرة أخرى ليعادوا نشاطه السابق في شركة رجب للخدمات البحرية. وأنهم سوف يمدونه بالأموال اللازمة لإحياء شركته وتجديدها... ولكي يتم تنفيذ ذلك عليه أن يمكث عدة أشهر في أثيناء .. ويشيع بين المصريين العائدين إلى مصر بأنه يمارس أنشطة تجارية رابحة جداً في أثينا .. ويجب عليه أن يتأكد من وصول هذه الأقاويل إلى مصر وإلى أهله بالذات.

لقد تمكنوا خلال تلك المدة من تدريبه على كيفية إعداد التقارير وتلخيص الجمل واختصار عدد الكلمات. هذه الدورة المكثفة زرعت بداخله إيماناً حقيقياً واهماً بأنه صاحب رسالة مهمة أوكلت إليه. وبرغم أنهم بثوا لديه الثقة في مناعة المخابرات الإسرائيلية ضد كشف عملائها في الدول العربية .. واستماتها في استردادهم حال القبض عليهم ، إلا أنه أحس بالتعاطف معهم بعد عدة محاضرات عن تاريخ اليهود ... واضطهادهم على مر الأحقاب والعصور ... ومحاولات إبادتهم التي أسفرت عن تشريدهم ومقتل الملايين منهم ... وكانت آخر المحاولات تلك التي قام بها أدولف هتلر الذي أقام معسكرات لتجميع اليهود... ثم حرقهم في محارق خاصة لاستئصال كل يهود أوروبا.. وهكذا حشوه بأكاذيبهم المضللة لكسب عطفه.

وعندما عاد رجب إلى أثينا برفقته زهرة .. كان بداخله إصرار غريب على التعاون مع الموساد لحماية إسرائيل وأمن إسرائيل ... من التهديد العربي الدائم والذي يدعو إليه جمال عبد الناصر ... وإصراره على إلقاء اليهود في البحر ليتخلص منهم .. وترسب بداخله اعتقاد بأن عبد الناصر ما هو إلا هتلر جديد جاء ليبيد اليهود الذين يدافعون عن أمنهم ... وحقهم في أن يعيشوا في سلام.

غادر رجب مطار بن غوريون في تل أبيب في طريقه إلى أثينا ترافقه "زهرة" .. جميلة الجميلات والعبدة التي تحدثه بلغته وبلغة الجسد الناطقة.

لم تكن مهمتها إفراغ ثورات رجولته المشتعلة دائماً بقدر ما كانت رقيبة على سلوكه وتصرفاته.. وتمتحن إخلاصه للمخابرات الاسرائيلية بين آن وآخر. وكلما حاولت تصيد أخطائه وجدته أكثر منها إخلاصاً لليهودية .. وإيماناً بحق الإسرائيليين في القدس وسائر أرض فلسطين.

إنها تواجدت بجواره لتدفعه بقوة إلى عشقها والذوبان فيها. فكلما ازداد عشقاً لها... أخلص لإسرائيل .. وتفانى في خدمتها.

استأجرت له المخابرات الإسرائيلية إحدى الشقق الصغيرة في حي دميتير الهادئ... وهيأت له من أسباب العيش والرخاء والإمتاع الكثير .. لتجعله لصيقاً بهم يدور في فلكهم لا يستطيع فكاكاً. وعلموه كيف يتعامل مع المصريين الوافدين إلى اليونان للسياحة أو للبحث عن عمل. فالذين جاءوا للسياحة خصص لهم بعض الوقت وصحبهم للمزارات السياحية والأسواق والمتاحف... وأفاض في خدماته اليهم وحملهم الهدايا إلى أهله بالإسكندرية تأكيداً على تيسر أحواله وظروفه المالية في الخارج. وبدون توصية كانت صور حياته المختلفة تنقل إلى والده من خلال المصريين العائدين إلى مصر.

صور وجوانب مشرقة رسمتها المخابرات الإسرائيلية بإحكام شديد.. وأضفت عليها هالة من النجاحات أثلجت صدر أبيه بعدما فقد الأمل في إبنه ... وأرسل رجب خطاباته واضعاً في إسهاب عمله في إحدى الشركات الكبرى .. التي استوعبت مواهبه واكتشفت فيه عبقرية فذة دفعت بها إلى الأمام بعد تعثر طويل .. فارتقى في وظيفته واحتل مكانة مهمة في بلاد الإغريق. وأكد ذلك للأب كل من حملوا إليه هدايا ابنه الرقيقة له ولوالدته ولأصحابه. وضمت خطاباته صوراً فوتوغرافية مختلفة في مكتبه وفي مسكنه.. وفي إحدى رحلاته "إلى جزر بحر إيجه حيث الشاطئ يموج بالحسناوات يرتدين البكيني... ويطاردن شبح الملل بالرقص واللهو.

لكل هذه المظاهر المزيفة .. صدق الأهل بالإسكندرية ما تبوأه رجب من نجاح .. فأرسل إليه والده يرجوه أن يعود إلى وطنه مرة ثانية ليعادو نشاطه من جديد .. وليؤكد نجاحاته على أرض وطنه بعدما صقلت شخصيته... ودرج على القيام بمهام صعبة أوصلته إلى القمة... فاستمهله رجب بعض الوقت، وانشغل بالعسي مع المصريين القادمين بحثاً عن عمل في أثينا فكان يصحبهم – بترتيب دقيق من الموساد – إلى الشركات البحرية في بيريه ... وإلى شركات تجارية أخرى في أثينا... على أمل أن يسقط من بينهم شاب آخر في براثن المخابرات الاسرائيلية.

لأجل ذلك اختلط العميل الخائن بالمصريين المقيمين باليونان ووطد علاقاته بهم... وتعددت خدماته ومواقفه تجاه كل من يلجأ اليه فأحبه الشباب المصري هناك .. ووجدوا فيه صورة المصري الشهم النبيل ... في حين أنه كان يدير حوارات سياسية معهم .. ويسجل تقارير مطولة تحمل بين سطورها خسة نياته القذرة في خدمة جهاز مخابرات العدو .. فبدا كما لو كان قد اندرج لسنوات طويلة في صفوف أكاديمية الجواسيس في إسرائيل.. وأعيد مرانه وتدريبه في أثينا على استخدام الحس الأمني والملاحظة والتمويه والخداع. وهذه كلها أمور أسهب في شرحها "فيكتور أوستروفسكي" في كتابه: "الموساد" حيث بين لنا كيفية صنع جاسوس محترف في إسرائيل بواسطة أمهر الخبراء ... وأحدث دراسات علوم المخابرات والجاسوسية في العالم.

فقبل أن يخرج الجاسوس من مخبئه ليمارس وظيفته يخضع لبرنامج مكثف لا بد له أن يجتازه بنجاح وهو عن "خداع المراقبة"... ويدرك جيداً إذا ما كان قد "ألقى بظلاله" أم لا... ومن النافذة يستطيع أن يرى الشخص الذي يقتفي أثره .. وكيف تابعه؟ وعندما يلتقي الجاسوس الظل وخاصة عند الخروج من فندق – مكتب – متجر. سيجري بسرعة لمدة خمس دقائق ... ويسير بعدها في خط متعرج إلى أحد المباني ويبحث عن نقطة مراقبة ليراقب . وهذه الطريقة ستعطي الجاسوس الفرصة ليعرف أسلوب المراقبة .. وعليه حينئذ أن يمتنع عن إثارة أية شبهات أو إتمام عمل .. ويركب وسيلة مواصلات إلى مكان آخر بالمدينة خلاف الذي كان يقصده.

هكذا تدرب الجواسيس وأيقنوا أن هذا التصرف يتعلق بتكتيك السلامة الذي يجب أن يتبعه كل جاسوس. خاصة إذا كانت ظروف عمله معرضة لبعض الشكوك.

واتبعت الموساد أيضاً مع رجب ذات النظرية التي شرحها "ديفيد تلبيني" في كتابه: "فرق الرصد" عن كيفية الإثارة التي تتولد لدى الجواسيس والعملاء الصغار من ذوي "الميول المظهرية"... وقد كان الخائن رجب يعشق اللكنة العسكرية في الحديث .. والمرافعات العسكرية في الوصف ولو لم يلتحق بالقوات المسلحة ... وعندما لاحظ خبراء الموساد هذا الاتجاه منحوه رتبة رائد في الجيش الاسرائيلي إشباعاً لغروره.

لم تكن زهرة فتاة فراش للجواسيس الجدد بل إنها عميلة مدربة أخضعت فكرياً ومعنوياً وجسدياً لخدمة الموساد. عميلة تؤدي عملاً مهماً وأساسياً لصالح إسرائيل. وجسدها أحد أركان هذا العمل الأساسية.

إنها تستغل جسدها في تطويع الجواسيس وربطهم بها... حيث درست وتعلمت أن لكل رجل عادات وميولاً.. خاصة تظهر جلية عندما يتجرد من ملابسه أمام امرأة عارية. قد تكون ميوله سوية أو شاذة .. لا يهم .. فإن لديها القدرة على احتواء كل أنواع الرجال وإشباعهم وتأكيد رجولتهم وتضخيم فحولتهم. إن الجنس بالنسبة إليها عمل مهم، وترتقي من خلاله وظيفياً ومهنياً إذا ما أبدعت فيه مع الخونة الذين يجري إعدادهم، وتنال شهادات شكر وتقدير بعد تطويعهم.

ولذا ... لم يكن وجود زهرة على مسرح الحدث عملاً ثانوياً يحسب على جهاز المخابرات الاسرائيلي. إنه جزء مكمل لتعمية العميل عن الحقائق والثوابت .. وإخضاعه بتصويره في أوضاع شاذة تظهر مدى ضعفه... وخلق دفء عاطفي يزيل غمامة الخوف التي قد تؤثر في إقدام العميل فينشط ويبدع ويقوم بعمله خير قيام.

مر عام ونيف ولم يزل رجب في أثينا في حضن المخابرات الإسرائيلية يترقب موعد رجوعه إلى الإسكندرية. وعندما اعتقد أنه هيأ "الجو" لعودته .. تحدث مع أبو ابراهيم ضابط الموساد في السفارة الاسرائيلية الذي أمهله عدة أيام ليكتب بذلك إلى رؤسائه .. ولما جاءت الموافقة .. اشاع رجب خبر عزمه على العودة إلى مصر غانماً بآلاف الدولارات التي جمعها من "أعماله الناجحة" في اليونان. وعندما أشار عليه البعض بإكمال مسيرة النجاح دون العودة – مؤقتاً – إلى مصر .. تملكته نعرة الوطنية المزيفة .. وأقسم ألا يحرم وطنه من خبرته وعبقريته التي يشهد بهما الأجانب. وأقيم حفل وداع صغير في أحد الفنادق حضره بعض المصريين الذين صادقهم هناك ... وبعد نهاية السهرة حمل حقائبه وتوجه إلى المطار في طريقه إلى القاهرة.

كان الجو قائظاً في سبتمبر 1970 والإسكندرية لا زالت تموج بعشرات الآلاف من المصطافين .. الذين هربوا من لسعة القيظ وحرقة الوهج إلى الشواطئ الممتدة الجميلة وفي شقة الحاج عبد المعطي كانت جموع أخرى من البشر تتوافد لتهنئ الرجل بسلامة وصول ابنه الوحيد من اليونان.

كان الرجل أسعد الناس على سطح الأرض.. وجهه يتهلل بشراً وسحنته تضحك خطوطها ويرقص قلبه طرباً. والخائن لا يستحي وهو يحكي عن عبقرية مزعومة .. ويختلق اقاصيص الوهم التي لقنته إياها مخابرات العدو .. فأفاض في الحديث والوصف وأضفى على نفسه بطولات وبطولات.

وبعدما استقر به المقام عدة أيام، اصطحب مهندس الديكور إلى مكتبه القديم حيث كانت لافتة "شركة رجب للخدمات البحرية" قد ضربتها الشمس وتشققت قشرة خشبها. وبالداخل كان العنكبوت قد نسج خيوطه فخيمت على كل شيء وبدا المكتب كمقبرة مهجورة.

وبينما كان المهندس يشرح له تصورات وتخيلات الشقة بعد تجديدها...حدث زلزال هز أعماق مصر كلها وضرب فيها الأمل والأمان .. وزحفت جموع الشعوب العربية لهول الصدمة عندما أعلن موت جمال عبد الناصر.

 

العميل رقم 1041

امتلأت الشوارع بفيضان من البشر كالطوفان يجرف أمامه هدأة الحياة وغفلة الزمن زحف من الأحياء يغلي، وكتل ملتصقة من الحناجر تصرخ في هلع وبكاء مرير يمزق القلوب ... وشروخ بدت في الوجوه بفعل الدموع. وتوقفت الحياة ومادت موازين العقل فلا عقل يصدق أن الزعيم رحل.

ودون أن يدري ... بكى رجب، وكان لا يدري أيبكي ناصر الأمل؟! أم يبكي بذور الخيانة التي تعملقت بداخله وعظمت فروعها؟

وود للحظات لو أن أقدام الباكين الحائرين داسته. لكنه سرعان ما استعظم ذاته وأبى ألا يضعف. بل سطر أولى رسائله، وكانت هذه الرسالة هي الخطوة العملية الأولى في عالم الجاسوسية... رداً على رسالة وصلته بطريق الراديو تطلب منه مراقبة حركة ميناء الإسكندرية وعما إذا كانت أسلحة سوفييتية تتدفق على مصر بعد موت زعيمها الأول أم لا ؟ وكانت الرسالة كالتالي:

(رقم 2) سطور كتبت باللغة العربية بالحبر السري بين سطور الرسالة.

(رقم 1) سطور كتبت باللغة الإنجليزية. الإسكندرية 24/1/1970

صديقي العزيز باولو:

1- خط عادي: وصلتني رسالتكم العزيزة إلى قلبي وكم سررت بها.

2- حبر سري: لا زالت أعمال التجديدات في مكتبي جارية وبالرغم من.

1- خط عادي: وتعجبت من فعل الزمن يفرق دائماً بين الأصدقاء.

2- حبر سري: ذلك أقوم بعملي وأراقب الميناء جيداً.

1- خط عادي: والمحبين، ولكنك يا صديقي مهما باعدت المسافات بيننا

2- حبر سري ومنذ صباح الأمس وأنا أراقب سفينة سوفييتية ضخمة.

1- خط عادي: تسكن بأعماق قلبي فالأيام الجميلة التي قضيتها معك.

2- حبر سري: ترسو على الرصيف وحولها حراسة مشددة. السفينة.

1- خط عادي: في جزر كيكلاديس . لا أستطيع مهما حييت أن

2- حبر سري: اسمها ستاليننجراد، وقال لي زميل قديم بالميناء:

1- خط عادي: أنسى طعم حلاوتها وروعتها والصور التي التقطت.

2- حبر سري: إن السفن السوفييتية تتردد بكثافة هذه الأيام.

1- خط عادي: لنا هناك تكاد تنطق بمدى شوقي إلى تجديد هذه.

2- حبر سري: على الإسكندرية ونادراً ما تظل الأرصفة خالية منها.

1- خط عادي: الذكريات الجميلة في جزر بحر أيجه وشوارع ومقاه.

2- حبر سري: وعلمت أن بعضها تنزل حمولتها بالليل فقط بواسطة.

1- خط عادي: ومتاجر أثينا الساحرة. إن قلبي يرقص طرباً.

2- حبر سري: الأضواء الكاشفة. ومنذ أسبوع بالضبط نزل.

1- خط عادي: كلما مرت ببالي هذه الأيام الجميلة.

2- حبر سري: عدد كبير من الجنود والخبراء السوفييت.

1- خط عادي: عزيزي باولو: أرجو أن ترسل لي صورة ابنتك.

2- حبر سري: في ذات الوقت الذي تفرغ فيه سفن مصرية أخرى.

1- خط عادي: الجميلة بياتريتشي التي لم يسعدني الحظ برؤيتها.

2- حبر سري: حمولاتها من القمح المستورد من استراليا ومن.

1- خط عادي: خلال زيارتكم القصيرة لليونان. وسوف أحاول.

2- حبر سري: البرازيل.. وشاهدت عدداً كبيراً من الشاحنات العسكرية.

1- خط عادي: في القريب أن أزوركم في إيطاليا وأرى مدينتكم.

2- حبر سري: تنقل صناديق خشبية ضخمة بعضها مغطى بغطاء.

1- خط عادي: الرائعة – تريستا – التي تعشقونها. ومن جانبكم.

2- حبر سري: أزرق أو كاكي وتتجه إلى طريق الإسكندرية.

1- خط عادي: لا تدخروا وسعاً في التفكير بجدية في زيارتي.

2- حبر سري: القاهرة الصحراوي، وأنزلت سفينتان حمولتهما.

1- خط عادي: مع احتفالات الكريسماس حيث المناخ هنا في.

2- حبر سري: من الخشب الزان من أسبانيا ورومانيا وتعطلت بالأمس.

1- خط عادي: مصر أكثر من رائع، وبالأخص في صعيد مصر حيث.

2- حبر سري: شاحنة على الطريق محملة بأجولة السكر المستورد.

1- خط عادي: آثار أجدادي الفراعنة تفوح منها رائحة التاريخ.

2- حبر سري: من الاتحاد السوفييتي وسأوافيكم بمشاهداتي.

1- خط عادي: تحياتي لكم وتمنياتي بالسعادة الدائمة.

2- حبر سري: أولاً بأول، وسوف أنتظر رسائلكم.

1- خط عادي: رجب

2- حبر سري: رقم / 1041

تحت الميكروسكوب

ومع إطلالة الأيام الأولى في عام 1971 كان رجب قد انتهى من تشطيب مكتبه ... وليس حلة جديدة من بهاء تتفق ورونق أعمال الديكورات الفخمة .. التي تدل على ذوقه الأوروبي ويساره...

افتتح المكتب جمع غفير من الأهل والأصدقاء، وملأت إعلانات الدعاية بالعربية والإنجليزية صفحات الأهرام تعلن عن ميلاد شركة خدمات بحرية متميزة ... قادرة على تحمل مسؤوليات الشحن والتفريغ وما يخصهما من إجراءات مع الجهات المختصة.

وساعدته المخابرات الإسرائيلية كثيراً ليحصل على ثقة بعض الشركات البحرية العالمية ليصبح وكيلاً لها في الإسكندرية .. وتحول مكتبه إلى خلية نحل اضطر معها إلى الاستعانة بعدد كبير من الموظفين والسكرتارية، وازدحم المكتب بالزوار وذوي المصالح، وازدادت الخطابات الواردة إليه من الشركات الملاحية ومن رؤسائه في أثينا يغذونه بالمعلومات ... ويلقون أوامرهم وتوجيهاتهم ويدفعونه ليكبر أكثر وأكثر. فازدهرت أعماله بسبب التوكيلات العالمية التي حصل عليها، وصار اسمه مشهوراً ودخوله إلى الميناء بالتصاريح الممنوحة أمراً سهلاً وقويت علاقاته بالموظفين وبالمديرين.

ولأنه يعمل في "المهنة" فقد كان سؤاله عن أحوال الميناء يوماً بيوم أمراً عادياً لا يثير ريبة ولا شكوكاً في نياته... وهذا هو ما كانت تقصده المخابرات الإسرائيلية... أي زرع جاسوس داخل ميناء الاسكندرية يرصد كل أسراره وأوضاعه دون أن يشك فيه أحد. ومرت الشهور تلو الشهور وهو لا يزال يرتقي سلم النجاح والشهرة، ولم ينس أفضال اليهود عليه للحظة واحدة.

إنهم أولى أمره الذين ثبتوا قدميه على طريق النجاح، وهم الذين تسعى مصر ومن خلفها جميع الدول العربية للإضرار بهم رغم قلتهم ومحدودية أرضهم ومواردهم.

لقد أكدوا له أنهم لا يريدون حروباً مع العرب.. فهم يدافعون عن رقعة صغيرة من الأرض يعيش عليها أطفالهم وضعافهم. وكلما شن أنور السادات هجماته من خلال خطبه السياسية .. كان رجب يرتعد خوفاً من حماس وعوده بأن هذا العام هو عام "الحسم" لتدمير إسرائيل... وكثرت الرسائل إلى رجب بطريق البريد والراديو .. وتعددت رسائله أيضاً إلى "أصدقائه".

وانحبس النفس في رئتيه هلعاً يوم السادس من أكتوبر 1973 وجنودنا البواسل يعبرون الهزيمة ويدكون خط بارليف الحصين ويكتبون النصر غالياً بدمائهم.

وعندما كانت مصر – بل والأقطار العربية كلها تزغرد للنصر ... كان رجب يبكي في مكتبه وينتفض جسده خوفاً وشفقة على شعب إسرائيل الذي يقتله العرب بلا رحمة مجتمعين. وكثرت في تلك الأثناء زياراته للميناء يستقص الأخبار ويستقي المعلومات بجرأة، دون أن يلفت انتباه أحد، لكثرة أسئلته عن السفن الراسية بالميناء وفي الغاطس تنتظر الدخول.

لفتت رسائله المتعددة إلى أثينا وروما انتباه ضابط المخابرات المصري المكلف بمراقبة البريد الصادر إلى خارج مصر والوارد إليها. واكتشف أمر الرسائل المشفرة. وقام جهاز المخابرات المصرية بمراقبة بريد رجب عبد المعطي ... وجرى الكشف عن كل رسائله وصورت وأعيد إغلاق الرسائل بدقة متناهية.. لكي تكون دليل إدانة ضده أمام النيابة وعند محاكمته.

وبينما كان الجاسوس مشحوناً بحماس النصر، وبدأت الخريطة السياسية للمنطقة تتشكل من جديد .. نشط رجب في رصد حركة الميناء المستمرة وأرسل الرسالة التالية إلى صديقه "الوهمي" ديميتريوس في اليونان:

الإسكندرية 27/11/1974. عزيزي ديمتريوس.

1- خط عادي: تهنئتي القلبية بمناسبة عيد ميلادك السعيد، ولعلك .

2- حبر سري: سفن شحن متعددة من جنسيات مختلفة تدخل.

1- خط عادي: الآن في أحسن حال بعد الوعكة الصحية التي أصبتم.

2- حبر سري: الميناء لتفرغ حمولتها من المواد التموينية بكثرة.

1- خط عادي: بها منذ ثلاثة أسابيع. فكيف حالكم الآن؟!!

2- حبر سري: أيضاً تأكدت من وصول سفينة تشيكوسلوفاكية.

1- خط عادي: أحوالي على أحسن ما يرام، وأنوي إجراء بعض.

2- حبر سري: تحمل معدات عسكرية في صناديق يصعب الاقتراب.

1- خط عادي: أعمال الديكورات الحديثة بمكتبي، على ذلك.

2- حبر سري: منها بسبب الحراسة المشددة، ولا زالت.

1- خط عادي: فسأتغيب لمدة أسبوعين على الأكثر على شاطئ.

2- حبر سري: سفن عربية من الجزائر وليبيا تنزل حمولتها.

1- خط عادي: البحر الأحمر ريثما ينتهي مكتب الديكور من عمله.

2- حبر سري: من البطاطين والمواد الطبية وسفينة عملاقة.

1- خط عادي: ولسوف أعاود بعد ذلك نشاطي بشكل أفضل.

حبر سري: تحمل علم بنما اسمها "ليليها مر" محملة بحوالي.

1- خط عادي: بعد هذه الإجازة التي أتشوق اليها لأتمكن.

2- حبر سري: 200 جرار زراعي ومعدات زراعية وميكانيكية.

1- خط عادي: من صيد السمك بعيداً عن زحام العمل والتوتر.

2- حبر سري: مختلفة وسفينة سوفيتية تحمل معدات توليد.

1- خط عادي: المستمر من جراء المشكلات المتوقعة.

2- حبر سري: كهرباء ضخمة وآلاف من الإطارات.

1- خط عادي: تهنئتي لك مرة أخرى وتحياتي وأشواقي.

2- حبر سري: الكاوتشوك مقاسات مختلفة وموتورات.

1- خط عادي: رجب.

2- حبر سري: رقم / 1041.

قتلته ظنونه

... . وأخيراً .. بعد أن جمعت المخابرات العامة المصرية كل الأدلة التي تدينه ... توجهت قوة من رجال المخابرات صباح 13 يناير 1975 إلى مكتبه... اعتقد رجب أنهم "زبائن شغل" ولكن ... حينما أخبره قائد القوة بأنه ضابط مخابرات ... لم يستطع رجب أن يقف ... ظل ساكناً على كرسيه تتحرك ركبتاه لا إرادياً، واصطكت أسنانه فجأة، وزاغت عيناه في هلع لا حدود له.

ومن قبيل الصدف العجيبة أن رجل البريد جاء برسالة من المخابرات الإسرائيلية – مرسلة من الداخل – أثناء وجود المخابرات في مكتبه حيث طلبوا منه حلها ... ووضعوا أمامه كتاب الشفرة التي عثروا عليه في درج سري بالمكتب مع كل أدوات التجسس المزود بها.

لم يستطع رجب استيعاب الأمر على حقيقته. فقد كانت نظرات ذهوله تدل على مدى الرعب الذي أصابه... إنهم أفهموه في تل أبيب وفي أثينا أن المخابرات الاسرائيلية لم يحدث لها أن فشلت مرة واحدة في مهامها.. ولكن الفشل يأتي دائماً من العميل الذي قد يهمل تكتيكات الأمان التي يجب عليه أن يلتزم بها ولا يهملها أبداً. فجهاز المخابرات الاسرائيلي – حسبما اقنعوه – أفضل أجهزة المخابرات في العالم.

ابتسم رجب في سخرية عندما تذكر ادعاءاتهم الباطلة، وبينما كانت قافلة السيارات تنطلق به إلى القاهرة – كانت المخابرات الإسرائيلية ترسل بالراديو رسالتها الدورية إلى عميلها:

"ننتظر ردك على الرسالة التي وصلتك .. لا تتأخر، واستعد للسفر خلال شهر مارس إلى أثينا".

وفي مبنى المخابرات المصرية جرى استجوابه فاعترف تفصيلياً – وهو مذهول – بقصة سقوطه في مصيدة المخابرات الإسرائيلية .. وعقدت له محكمة عسكرية وجهت اليه التهم الآتية:

Ø باع نفسه ووطنه للعدو مقابل المنفعة المادية.

Ø أمد العدو بمعلومات عسكرية واقتصادية تضر بأمن الدولة ومصلحة البلاد.

Ø ارتضى لنفسه أن يحمل اسماً يهودياً وجواز سفر يهودياً ورتبة عسكرية يهودية.

Ø التخابر مع دولة معادية "إسرائيل" بقصد الإضرار بالعمليات الحربية لمصر.

Ø التخابر مع دولة أجنبية معادية لتسليمها سراً من أسرار الدفاع عن البلاد.

وحكمت المحكمة بالإعدام شنقاً... وصدق المفتي ورئيس الجمهورية على الحكم. وأثناء انتظار التنفيذ ... شعر الخائن بعظم جرمه وفداحة مسلكه. وعامله المجرمون والقتلة في السجن معاملة سيئة، وكادوا أن يفتكوا به عدة مرات كلما سنحت لهم فرصة لقائه. وأنزوى الخائن يجتر ذكرياته فتتقلص عضلات جسده.. ومضت عليه عدة أسابيع، ذاق خلالها مرارة الحسرة والذل والمهانة... ونحتت بدنه عضات الندم .. حتى عثر عليه ذات يوم ملقى على الأرض بزنزانته وسط بركة من الدم المتجلظ ... وقد عثر على إحدى عدسي نظارته منزوعة ومهشمة... وتبين أن هناك ثمة قطع غائر بيده اليسرى طال شريانه.

Ø ترى .. هل أصابه مس من العقل وأدرك فداحة جرمه فانتحر؟

Ø أم أنه استشعر الفارق الشاسع ما بين الرفاهية والحبس؟

Ø أو ربما ظن أن الموساد ستنقذه لا محالة فقتلته ظنونه؟ لا أحد يعرف..

Ø لكنه حتماً أفاق بعدما خسر الكثير..

Ø خسر نفسه وأهله ووطنه ... وكل شيء ... كل شيء ضاع..

لكن اسمه سيظل دائماً بقائمة الخونة ... أولئك الذين باعوا عروبتهم بثمن بخس... ولن يغفلهم التاريخ على مر الأحقاب ...!!

عمار الحرازي07-25-2010, 02:02 AM

اصطادته زينب لحبل المشنقة في مصر

الجاسوس محمد إبراهيم كامل الشهير بماريو

بداية لا بد منها

سؤال محير مازلنا نبحث عن إجابته .. وننقب بين الصفحات لعلنا نعثر على تعليل منطقي يحل هذا اللغز الشائك .. لماذا الاسكندرية؟

عشرات من الجواسيس الخونة أنجبتهم المدينة الجميلة فعاشوا تحت سمائها واستنشقوا نسائمها وتمددوا على شواطئها الباسمة وبذرت بداخلهم فجأة بذور الخيانة ... فمدت جذورها تقتلع الحب الخصيب وتغتال خلايا الانتماء؟؟..

لماذا..؟!!

عشرات الملفات من حولي عن جواسيس الإسكندرية .. كلما قرأت سطورها توجتني الدهشة ولا أجد إجابة شافية عما يدور بخلدي من تساؤلات. فالاسكندرية تختلف كثيراً عن كل مدن مصر ... وتتميز عنها بتنوع مصادر الرزق ووفرتها... سواء أكانت مشروعات إنمائية وصناعية مصرية .. أو شركات أجنبية متعددة كلها خلقت مهناً جديدة فتحت مجالات أوسع للاسترزاق والتعيش. ولا يمكننا بأي حال أن نقارن بينها وبين مدينة العريش مثلاً... التي برغم احتلالها عام 1967 ومعاناة أهلها من جراء تحكم المحتل وتضييق منابع الرزق .. إلا أن جواسيسها الذين عملوا لصالح العدو – اضطروا – بسبب الضغوط المادية والمعنوية إلى السقوط ... تدفعهم مشاكل لا قبل لهم بها.

هؤلاء الجواسيس يقل عددهم كثيراً عن جواسيس الإسكندرية... بل إن جواسيس العريش لم ينفذ حكم الإعدام إلا في قلة منهم أشهرهم على الإطلاق إبراهيم شاهين زوج انشراح موسى ... بينما نجد ملفات الجاسوسية في الإسكندرية تحف بعشرات القضايا التي انتهت غالبيتها بإعدام الخونة .. فتتفوق بذلك عن سائر مدن مصر بما فيها القاهرة. وهذا أمر يدعونا للبحث عن جذور الجاسوسية في الإسكندرية ... وعمقها داخل البنية الاجتماعية التي اختلت بعد النكسة عام 1967.. وأيضاً نتيجة لعدم مواكبة ركب حضارة أشرقت علاماته.. ودوت بيارقة لتهرب أحاجي التخلف وأسانيده.

وفي هذا الفصل نكتب عن جاسوس الإسكندرية "ماريو" أو "محمد إبراهيم فهمي كامل" الذي يعد من أشهر عملاء إسرائيل في مصر الذين يتم تجنيدهم بسهولة يكاد العقل لا يستوعبها أو يصدقها. وأيضاً كانت قصة سقوطه في قبضة مخابراتنا أكثر سهولة .. أما نهايته البشعة فلم يكن ليصدقها هو أو يتخيل خطوطها السوداء...

جذور متآكلة

منذ تفتحت عيناه على ضجيج الحياة في حي محرم بك المزدحم ذاب عشقاً في جرس الترام ... الذي كلما ملأ أذنية خرج إلى الشرفة يبتسم في انبهار وحيرة .. فنشأت بينه – منذ طفولته – وبين الترام قصة غرام دفعته للهرب من مدرسته ... والسعي وراءه راكباً لجميع خطوطه المختلفة ومحطاته.

ولم يدم هذا الحب كثيراً إذ اندفع فجأة نحو السيارات فالتصق حباً بها ... والتحم عقله وقلبه الصغير بموتور السيارة مستغرقاً وقته كله.. حتى أخفق في دراسته الابتدائية... وأسرعت به خطاه إلى أول ورشة لميكانيكا السيارات يمتلكها إيطالي يدعى الخواجة "روبرتو" الذي اكتشف هذا الحب الجارف بين الولد والموتور فعلمه كيف يتفاعل معه؟! ويفهمه ويستوعبه. ولم تكد تمضي عدة أشهر فقط إلا وكان محمد أشهر صبي ميكانيكي في ورشة الخواجة روبرتو.

 

كانت السيارات تقف موازية للرصيف بجوار الورشة بأعداد كبيرة... تنتظر أنامل محمد الذهبية وهي تداعب الآلة المعدنية الصماء... وتمر بين أجزائها في تناغم عجيب فتعمل بكفاءة ويتحسن صوت "نبض" الموتور .. ويزداد الصبي شهرة كل يوم. ورغم محاولات البعض استدراجه واستثمار خبرته وشهرته في عمل ورشة "مناصفة" بعيداً عن روبرتو، أجبروا على أن يتعاملوا معه كرجل لا كصبي في الخامسة عشرة من عمره. وكثيراً ما كان ينزعج عندما كان يخرج إلى الكورنيش مع أقرانه بسبب توقف السياراة ودعوة أصحابها له ليركب حتى منزله، فكبرت لدى الصبي روح الرجولة وارتسمت خطوطها المبكرة حيث كان مبعثها حبه الشديد للعمل والجدية والتفكير الطويل.

وبعد عدة سنوات كانت الأحوال والصور قد تغيرت.

صار الصبي شاباً يافعاً خبيراً بميكانيكا السيارات. تعلم اللغة الإيطالية من خلال الخواجة روبرتو والإيطاليين المترددين على الورشة وأصبح يجيد التعبير بها كأهلها.. فأطلق عليه اسم "ماريو".

وعندما لسعته نظرات الإعجاب من "وجيدة".. دق قلبه بعنف وانتبه لموعد مرورها أمام الورشة حين عودتها من المدرسة. فواعدها والتقى بها ولم يطل به الأمر كثيراً... إذ تقدم لأسرتها وتزوجها بعدما اقنعتهم رجولته وسمعته الحميدة وشقته الجميلة في محرم بك.

ثمانية أعوام من زواجه وكانت النقود التي يكسبها تستثمر في ورشة جديدة أقامها بمفرده. ومنذ استقل في عمله أخذ منه العمل معظم وقته وفكره حتى تعرف على فتاة قاهرية كانت تصطاف مع أهلها بالإسكندرية وأقنعها بالزواج.. ولأنها كانت ابنة أسرة ثرية فقد اشترى لها شقة في الدقي بالقاهرة وأثثها.. وأقام مع عروسه "تغريد" لبعض الوقت ثم عاد إلى الاسكندرية مستغرقاً في عمله متنقلاً ما بين وجيدة وتغريد ينفق هنا وهناك. وعندما توقف ذات يوم على الطريق الصحراوي بالقرب من الرست هاوس بجوار سيارة معطلة... أعجبته صاحبة السيارة ودار بينهما حوار قصير... على أثره ركبت معه السيارة الرائعة إلى القاهرة .. وفي الطريق عرف أنها راقصة مشهورة في شارع الهرم .. لسهر معها في الكباريهات وتنقل معها هنا وهناك... ثم جرجرته معها إلى شقتها...واعترف ماريو أن هذه الراقصة كانت أول من دفعه والخطوة الأولى نحو حبل المشنقة... ويقول في اعترافاته التفصيلية... (يتبع)

الجسد ينادي

في تلك الليلة شربت كثيراً وكلما رأيت جسد الراقصة المثير يرتعش أمام الزبائن ترتعش في جسدي خلجات الرغبة، وبعدما انتهت من فقراتها الراقصة في أربعة كباريهات ... عدنا إلى شقتها في المهندسين وبدلاً من أن أنام أو أذهب لشقتي حيث تنتظرني تغريد ... وجدتني أطوق خصرها بشدة وأطلب منها أن ترقص لي وحدي، فأبدلت ملابسها وعادت لي بلباس الرقص الشفاف الذي سلب عقلي وأفقدني الصواب.

وذهبت إلى تغريد التي وجدتها تشتاق إلى جيوبي قبلما تشتاق إلي .. فافتعلت مشاجرة معها وعدت ثانية إلى الراقصة التي استقبلتني فرحة .. ومنذ ذلك اليوم وأنا لا أكاد أفارقها أو أبتعد عنها لأواصل عملي في الوشة.

لقد استعنت ببعض الصبية الذين دربتهم على القيام بالعمل بدلاً مني .. فكنت أتغيب لعدة أيام في القاهرة وأعود لأجمع ما ينتظرني من مال لديهم ... وسرعان ما أرجع لأنفقه على الداعرات والراقصات ... ونساء يبعن بناتهن ورجال يبيعون لحم زوجاتهم من أجل جنيهات قليلة.

ولأن للفلوس مفعول السحر فقد كنت أعامل كملك ... لأنني أصرف ببذخ على من يحطن بي من فتيات ونساء أشبعنني تدللاً ... وصورنني كأنني الرجل الأول لديهن، فأطلقت يدي ومددتها إلى مدخراتي في البنك شيئاً فشيئاً حتى أصبح رصيدي صفراً وتحولت الورشة إلى خرابة بعدما سرق الصبيان أدواتها وهرب منها الزبائن.

حاولت أن أثوب إلى رشدي وكان الوقت قد فات، وخسرت سمتي بعدما خسرت نفسي... وأصبحت مصاريف وجيدة وتغريد تمثل عبئاً قاسياً على نفسي وأنا الذي لم يعضني الجوع أو تثقلني الحاجة من قبل ... فتألمت لحالي وقررت أن أخطو خطوة سريعة إلى الأمام وإلا ... فالمستقبل المجهول ينتظرني والفقر يسعى ورائي بشراسة ولا أستطيع مجابهته.

تشاو .. تشاو .. تشاو ..

استخرجت جواز سفر وحصلت على عناوين لبعض زبائني القدامى في إيطاليا وركبت السفينة الإيطالية "ماركو" إلى نابولي... وبعدما رأيت أضواء الميناء تتلألأ على صفحة المياه صحت بأعلى صوتي تشاو .. تشاو نابولي.

وفي بنسيون قديم حقير وقفت أمام صاحبه العجوز أسأله هل زرت مصر من قبل؟ فقال الرجل لا ... ضحكت وقلت له أنني رأيتك في الاسكندرية منذ سنوات فجاءتني زوجته تسبقها حمم من الشتائم قائلة:

ماذا تريد أيها المصري من زوجي؟ أتظن أنك فهلوي؟ انتبه لنفسك وإلا ... ففي نابولي يقولون: إذا كان المصري يسرق الكحل من العين .. فنحن نسرق اللبن من فنجان الشاي. وكان استقبالاً سيئاً في اول أيامي في إيطاليا.

في اليوم التالي حاولت أن أتعرف على السوق وبالأخص أماكن بيع قطع الغيار المستعملة ... ولكن صديقاً إيطالياً توصلت إليه أخبرني أن في "ميلانو" أكبر أسواق إيطاليا للسيارات القديمة والمستعملة ... وثمنها يعادل نصف الثمن في نابولي. فاتجهت شمالاً إلى روما وقطعت مئات الكيلو مترات بالقطار السريع حتى ميلانو .. وبالفعل كانت الأسعار هناك أقل من نصفها في نابولي.. والتقيت في ميلانو بأحد زبائني القدامى الذي سهل لي مهمتي... ولفت انتباهي إلى أماكن بيع منتجات خان الخليلي في ميلانو بأسعار عالية.

ابتعت طلباتي من قطع غيار سيارات الفيات 125 غير المتوافرة في السوق المصرية وعدت إلى الإسكندرية وخرجت من الجمرك بما معي من بضائع بواسطة زبائني الذين يعملون في الدائرة الجمركية .. وقمت ببيع قطع الغيار بأضعاف ثمنها وذهبت إلى خان الخليلي واشتريت بعضاً من بضائعه وسافرت مرة ثانية إلى إيطاليا... واعتدت أن أنزل ببنسيون "بياتريتشي" في روما ثم أتجه إلى ميلانو لعدة أيام .. أنجز خلالها مهمتي وأعود ثانية إلى روما ونابولي ثم إلى الاسكندرية.

اعتدت السفر كثيراً وبدأت الأموال تتدفق بين أصابعي من جديد .. واتسعت علاقاتي بإيطاليين جدد بالإضافة للأصدقاء القدامى الذين يكنون لي كل الود.

وفي ذات مرة وبينما كنت في خان الخليلي أنتقي بعض المعروضات التي أوصاني صديق إيطالي بشرائها... سألتني فتاة تبيع في محل صغير عما أريده .. وساعدتني في شراء بضائع جيدة بسعر رخيص وتكررت مرات الذهاب للشراء بواسطتها ولما عرفت أنني أسافر إلى إيطاليا بصفة مستمرة عرضت علي أن تسافر معي ذات مرة... لتشتري سيارة فيات مستعملة لتشغيلها تاكسياً في القاهرة. واطمأنت "زينب" وهذا هو اسمها – عندما أخبرتها أنني أعمل ميكانيكياً وأقوم بالإتجار في قطع الغيار. وتركتها لتجمع المبلغ المطلوب ثم أرسل لها من إيطاليا لأنتظرها هناك.

أراد أصدقائي الإيطاليين أن أظل بينهم وأمارس عملاً ثابتاً أحصل بمقتضاه على إقامة في إيطاليا. وقد كان... إذ سرعان ما وجدوا لي عملاً في شركة "راواتيكس"... وبعدما حصلت على تصريح عمل وإقامة .. لم تتوقف رحلاتي إلى الاسكندرية ... فالمكسب كان يشجع على السفر بصفة مستمرة لكي أعرف احتياجات سوق قطع غيار السيارات في مصر ... والذي كان يمتصها بسرعة فائقة.

وفي إحدى هذه السفريات وبينما كنت في مطار روما تقابلت بالصدفة مع صديق إيطالي قديم – يهودي – كانت بيننا "عشرة" طويلة واسمه "ليون لابي" فتبادلنا العناوين، وبعد عدة أيام جاءتني مكالمة تليفونية منه وتواعدنا للقاء في مطعم مشهور في ميلانو.

أشفق "لابي" كثيراً على حالي بعدما شرحت له ظروفي وتعثراتي المالية وزواجي من امرأتين ..

وسألته أن يتدبر صفقة تجارية كبيرة أجني من ورائها أموالاً طائلة ... فضحك "لابي" وقبل أن يقوم لينصرف ضربني على ظهر يدي وقال لي:

"لا تقلق ماريو ... غداً سأجد لك حلاً، لا تقلق أبداً".

القتيــل المصيدة

في اليوم التالي وفي الثامنة مساء

وقفت مرتبكاً للحظات أمام الباب المغلق... ثم نزلت عدة درجات من السلم وأخرجت علبة سجائري وأشعلت سيجارة ... وعندئذ سمعت وقع خطوات نسائية بمدخل السلم فانتظرت متردداً... وعندما رأيت الفتاة القادمة كدت أسقط على الأرض.

كانت هي بنفسها الفتاة التي واقعتها في شقة "لابي" لكن ابتسامتها حين رأتني مسحت عني مظاهر القلق وهي تقول:

Ø بونجورنو

فرددت تحيتها بينما كانت تسحبني لأصعد درجات السلم ولا زالت ابتسامتها تغطي وجهها وقالت في دلال الأنثى المحبب:

Ø أنا لم أخبر سنيور لابي بما حدث منك ..

قلت في ثقة الرجل:

Ø ماذا؟ ألم تهدديني بالانتحار من النافذة؟

بهمس كأنه النسيم يشدو:

Ø أيها الفرعوني الشرس أذهلتني جرأتك ولم تترك لي عقلاً لأفكر .. حتى أنني كنت أحلم بعدها بـ "أونالترا فولتا"، لكنك هربت!!

قلت لها:

Ø يا ليتني فهمت ذلك.

وانفتح الباب وهي تقول:

Ø هل ترفض دعوتي على فنجان من القهوة الإيطالية؟

ووجدت نفسي في صالة القنصلية الإسرائيلية والفتاة لا زالت تسحبني وتفتح باب حجرة داخلية لأجد "لابي" فجأة أمامي. قام ليستقبلني بعاصفة من الهتاف:

Ø ميو أميتشو ... ماريو ... أهلاً بك في مكتبك.

وهللت الفتاة قائلة:

Ø تصور ... تصور سنيور لابي أنه لم يسألني عن اسمي؟

قهقه لابي واهتز كرشه المترهل وهو يقول بصوت جهوري:

Ø شكرية ...شكرية بالمصري سنيور ماريو تعني: جراتسيللا.

واستمر في قهقهته العالية وصرخت الفتاة باندهاش:

Ø أيكون لاسمي معنى بالعربية؟ اشرحه لي من فضلك سنيور ماريو.

وكانت تضحك في رقة وهي تردد:

Ø شوك ... ريا ... شوك ... ريا . جراتسيللا شوك .. ريا.

ولم يتركني لابي أقف هكذا مندهشاً فقال للفتاة:

Ø أسرعي بفنجانين من الـ "كافي" أيتها الكافيتييرا جراتسيللا.

واستعرض لابي في الحديث عن ذكرياته بالإسكندرية قبل أن يغادرها إلى روما في منتصف الخمسينيات... وأفاض في مدح جمالها وشوارعها ومنتزهاتها... ثم تهدج صوته شجناً وهو يتذكر مراتع صباه وطال حديثنا وامتد لأكثر من ساعتين بينما كانت سكرتيرته الساحرة جراتسيللا لا تكف عن المزاح معي وهي تردد:

Ø شوك ... ريا .. سنيوريتا شوك ... ريا ...

وعندما سألتني أين أقيم فذكرت لها اسم الفندق الذي أنزل به... فقالت وكأنها لا تسكن ميلانو:

Ø لم أسمع عن هذا الفندق من قبل.

رد لابي قائلاً:

Ø إنه فندق قديم غير معروف في الحي التاسع "الشعبي".

قالت في تأفف:

Ø أوه ... كيف تقيم في فندق كهذا؟

قال لابي موجهاً كلامه إليها:

Ø خذيه إلى فندق "ريتزو" وانتظراني هناك بعد ساعتين من الآن.

وربت لابي على كتفي في ود وهو يؤكد لي أنه يحتاجني لأمر هام جداً لن أندم عليه وسأربح من ورائه الكثير.

وركبت السيارة إلى جوار جراتسيللا فانطلقت تغني أغنية "بالوردو بيلفا" أي "أيها الوحش الضاري" وفجأة توقفت عن الغناء وسألتني:

Ø هل تكسب كثيراً من تجارتك يا ماريو؟

قلت لها:

Ø بالطبع أكسب ... وإلا ... ما كنت أعدت الكرة بعد ذلك مرات كثيرة...

Ø كم تكسب شهرياً على وجه التقريب؟

Ø حوالي ستمائة دولار.

قالت في صوت مشوب بالحسرة:

Ø وهل هذا المبلغ يكفي لأن تعيش؟ إن لابي يشفق لحالك كثيراً سنيور ماريو.

Ø سنيور لابي صديقي منذ سنوات طويلة .. وأنا أقدر له ذلك.

Ø إنه دائماً يحدثني عن الإسكندرية .. له هناك تراث ضخم من الذكريات ...!!

وفي فندق ريتز .. صعدنا إلى الطابق الثاني حيث حجزت لي جراتسيللا جناحاً رائعاً وبينما أرتب بعض أوراقي فوجئت بها تقف أمامي في دلال وبإصبعها تشير لي قائلة:

Ø "أونالترا فولتا" أيها المصري وهذه المرة "للإيطاليا نيتا" ... "محبة الوطن الإيطالي".

وغرست أظافرها بجسدي بينما كنت أرتشف عبير أنوثتها وأتذوق طعمها الساحر وكانت لا تكف عن الهتاف:

Ø ليوباردو ...ليوباردو .. ماريو إيجتسيانو .

وعندما جاء لابي كان من الواضح أننا كنا في معركة شعواء انتهينا منها تواً.. أخرج من جيبه مظروفاً به خمسمائة دولار وقال لي إنه سيمر علي صباح الغد...

وأوصاني أن أنام مبكراً لكي أكون نقي الذهن. وانصرفا بينما تملكتني الأفكار حيرى... ، ترى ماذا يريد مني؟ وما دخلي أنا فيما يريده لابي؟؟

وفي العاشرة والنصف صباحاً جاء ومعه شخص آخر يتحدث العربية كأهلها اسمه " إبراهيم " ... قال عنه لابي إنه خبير إسرائيلي يعمل في شعبة مكافحة الشيوعية في البلاد العربية.

رحب إبراهيم بماريو وقال له بلغة جادة مفعمة بالثقة:

Ø إسرائيل لا تريد منك شيئاً قد يضرك ...فنحن ناحرب الشيوعية ولسنا نريدك أن تخون وطنك... مطلقاً... نحن لا نفكر في هذ الأمر البتة. وكل المطلوب منك.. أن تمدنا بمعلومات قد تفيدنا عن نشاط الشيوعيين في مصر وانتشار الشيوعية وخطرها على المنطقة.

وأردف ضابط المخابرات الإسرائيلي:

Ø كل ذلك لقاء 500 دولار شهرياً لك.

وعندما أوضحت له أنني لا أفهم شيئاً عن الشيوعية أو الاشتراكية. وأنني أريد فقط أن أعيش في سلام. ذكرني لابي بأحوالي السيئة بالإسكندرية والتي أدت إلى تشتتي هكذا بعدما كنت ذا سمعة حسنة في السوق. واعتقدت أنني يجب ألا أرفض هذا العرض... فهي فرصة عظيمة يجب استغلالها في وسط هذا الخضم المتلاطم من الفوضى التي لازمتني منذ أمد .. وتهدد استقرار حياتي.

 

الحصار في روما

عندما تسلمت زينب الرسالة الوافدة من إيطاليا، لم تكن تصدق أن يهتم بها هذا العابر المجهول إلى هذا الحد.

كانت قد نسيته بعدما مرت عدة أشهر منذ التقت به في خان الخليلي حيث تعمل بائعة في محل للأنتيكات والتحف. وبعدما تردد عليها عدة مرات عرضت عليه السفر معه إلى إيطاليا لتشتري سيارة لتشغيلها سيارة أجرة في القاهرة .. فوعدها بأن يساعدها ثم اختفى فجأة ولم يعد يذهب إليها ... حتى جاءتها رسالته تحمل طابع البريد الايطالي وعنوانه وتليفونه هناك.

أسرعت زينب بالخطاب إلى خالها الذي يتولى أمرها بعد وفاة والديها، ولكنه عارض الفكرة وعندما رأى منها إصراراً رضخ للأمر ووافقها..

سنوات وزينب تحلم بالسفر إلى الخارج للعمل. لقد بلغت الرابعة والعشرين من عمرها، ولم ترتبط بعد بعلاقات عاطفية تعوق أحلامها. لذلك تفوقت في دراستها بكلية الآداب – جامعة عين شمس وعشقت اللغة الإنجليزية عشقاً كبيراً... والتحقت بعد الجامعة بالعمل في خان الخليلي بالقرب من بيتها في شارع المعز لدين الله بحي الجمالية... حيث مسجد الحسين ورائحة التاريخ تعبق المكان وتنتشر على مساحة واسعة من الحي القديم العريق.

حجزت زينب تذكرة الطائرة ذهاباً وإياباً على طائرة مصر للطيران .. وبحقيبتها كل ما لديها من مال وفرته لمثل هذه الفرصة. وفي مطار روما كان ماريو بانتظارها يملؤه الشوق لأول الضحايا الذين سيجندهم للعمل لصالح المخابرات الإسرائيلية.

وعندما رأته كانت كمن عثر على شيء ثمين. إذ صدمتها اللغة الإيطالية التي لا تعرف منها حرفاً واحداً... وسرت كثيراً عندما وجدت ماريو يتحدث بها "كالطليان" أصحاب البلد. اصطحبها إلى فندق رخيص في روما ثم تركها لتستريح وذهب هو إلى مسكنه ليرتب خطة تجنيدها التي رسم خطوطها عدة مرات...

وفي الصباح ذهب إلى الفندق حيث كانت الفتاة تنتظره فأخذها في جولة رائعة بسيارته لمنتزهات روما وأماكنها السياحية. ثم ذهب بها في اليوم التالي إلى أماكن بيع السيارات المستعملة. معتمداً أن يرفع لها أسعار السيارات مستغلاً جهلها باللغة الإيطالية... واعتمادها عليه أولاً وأخيراً.

وتعمد أيضاً أن تطول مدة إقامتها في روما للبحث عن فرصة شراء سيارة أفضل وأرخص وأقنعها بشراء فيات 125 دفعت فيها معظم ما تملكه من مال... وما تبقى معها كان يكفي بالكاد مصاريف الشحن إلى الإسكندرية.

وصدمت الفتاة بعدما تبين لها أن فاتورة الفندق امتصت النصيب الأكبر من نقودها .. ولم تعد تملك مصاريف الشحن كاملة. لقد خدعها ماريو عندما ذكر لها أرقاماً تقل بكثير الحقيقة عند شحن السيارة.

صيد الغزلان

تركها ماريو لعدة أيام دون أن يتصل بها بحجة أنه كان في ميلانو. وبكت زينب في حرقة وهي تحكي له عن حالها... وكيف أنها لم تعد تملك أية أموال لتعود إلى مصر بالسيارة الواقفة أمام الفندق ومتوسلة رجته أن يساعدها فوعدها بذلك.

ومرت ثلاثة أيام أخرى كانت زينب قد باعت حليها ولم تتبق معها سوى ساعة يدها الجوفيال التي لا تساوي شيئاً يذكر.

حاصرها ماريو جيداً وأفقدها التفكير واستعمل معها أسلوب "صيد الغزلان" بأن أغلق أمامها كل الطرق.. وترك لها فتحة ضيقة لتنفذ منها إلى شبكته لتقع فيها ولا تخرج. وظهر لها فجأة بعد غياب عدة أيام معتذراً بشدة .. واصطحبها للعشاء بأحد المطاعم الراقية... وبعد أن جلسا عزفت الموسيقى مقطوعة إيطالية شهيرة عنوانها "مولتي جراتسي ميو أميتشو" أي "شكراً جزيلاً يا صديقي" فقالت زينب لماريو:

Ø طلبت منك قرضاً أرده لك في مصر فلم تجبني.

اعتدل ماريو في مقعده وقال بسرعة:

Ø نعم ... نعم ... لا مشكلة إذن ... بعد غد سأتلوى شحن سيارتك إلى الإسكندرية.

Ø ولِم بعد غد؟

Ø مشغول أنا غداً... ولا أملك وقتاً مطلقاً "قالها ماريو وتعمد ألا ينظر لوجهها".

Ø لقد وعدتني أن تدبر لي عملاً هنا في روما. فإن ذلك سيعفيك من إقراضي أية أموال.

Ø ماذا تقولين؟ ألم أخبرك أنني أبحث بالفعل عن عمل مناسب لك؟

Ø أنت تقول "قالتها زينب مليئة بالحسرة والإحساس بالندم"

فما كان من ماريو إلا أن أجاب:

Ø عموماً ... بعد غد ستكون سيارتك على ظهر السفينة. أفهمت؟

وفي تلك اللحظة .. اقترب منها رجل وسيم تعدى الخمسين بقليل وقال بالإنجليزية بأدب جم:

Ø أتسمحان لي بأن أطلب من إدارة المطعم إغلاق جهاز التكييف الحار حتى لا نصاب جميعاً بالبرد عند الخروج؟

ردت زينب في حماس بالغ ممزوج بالعرفان:

Ø تفضل ... وشكراً يا سيدي

أردف الرجل قائلاً:

Ø معذرة ... هل أنت تونسية؟

أجابته بأن لكنتها تدل على ذلك وضحكت وقالت في افتخار:

Ø أنا من الجمهورية العربية المتحدة. من القاهرة.

هتف الرجل سعيداً:

Ø أوه ...ناسر ... يا له من زعيم عبقري.

وفي حركة مسرحية سريعة مد الرجل يده إلى محفظته.. وأخرج منها صورة لعبد الناصر يشرب من "القلة" ويجلس على الأرض بجوار صلاح سالم وأردف قائلاً:

Ø تمنيت أن أراه وأصافحه ذات يوم. فهل يتحقق لي ذلك؟

Ø تعال إلى القاهرة يا سيدي وأعتقد أن ذلك ليس بالشيء الصعب.

هكذا قالت زينب بفخر، وهي تتكلم الإنجليزية بطلاقة...، وتكلم ماريو يخاطب الرجل بالإيطالية:

Ø أنتم تكرهون ناصر في الغرب ... وفي الشرق تتوقف الحياة تماماً حينما يتكلم .. تناقض غريب.

أجاب الرجل في بشاشة:

Ø نعم يا سيد .. ؟

Ø ماريو ... ماريو إيجتسيانو "ماريو المصري".

Ø نعم ... نعم سنيور ماريو هذه حقيقة لا ننكرها.. فمنذ أزمة القناة والغرب لا ينسى ذلك لناصر أبداً.

واعترضت زينب على حوارهما بالإيطالية فقال لها ماريو إن لغته الإنجليزية ضعيفة جداً .. وجاءت فاتورة الحساب ففوجئت زينب بالرجل الغريب يصر على دفعها.. وعندما تمسك ماريو بأريه قال الرجل:

Ø إذن .. هلا قبلتما دعوتي على العشاء غداً؟

أجاب ماريو موافقاً بينما تحرجت زينب ثم فاجأهما ماريو بإعلان اعتذاره لارتباطه طوال الغد .. فأبدى الرجل الأنيق تفهمه ونظر إلى زينب فتراجعت الكلمات على لسانها .. عندها لم يمهلها وقتاً طويلاً لتفكر وقال موجهاً حديثاً اليها أنه سيلتقي بها في الثامنة مساء الغد في مطعم "فريسكو" .. فقالت زينب في اضطراب "بعدما نظر اليها ماريو موافقاً" إنها لا تعرف الأماكن جيداً. وبدأ الرجل سيلاً من الأسئلة عن جوانب حياتها فأجابته زينب بحسن نية وأخيراً قال لها في دبلوماسية شديدة تدل على خبرة عالية في إدارة حوار:

Ø لقاء الغد ستترتب عليه أشياء كثيرة مهمة لكلينا .. !!

وبعد انتهاء السهرة صحبهما بسيارته الفارهة وأنزل زينب أمام فندقها وانصرف... وقضت هي وقتاً طويلاً تفكر فيما يقصده بعبارته الأخيرة. وماذا سيترتب عليها من أشياء مهمة؟؟

وفي مساء اليوم التالي كان في انتظارها بردهة الفندق كما اتفقنا بالأمس ... وأخذها في جولة ليلية بنوادي روما وشوارعها ثم دلفا معاً إلى مطعم فريسكو الشهير .. حيث الأنواع الغريبة من الأسماك والمحار وكائنات بحرية مدهشة.

كان الرجل قد التمس مكاناً هادئاً في ركن بعيد وتوقعت زينب بأنه من زبائن المطعم المعروفين، للاحترام الجم الذي قوبل به. ولكنه انتشلها من حيرتها وقال لها بحرارة:

Ø آنسة زينب .. منذ الأمس وأنا في حيرة شديدة... وكما تعلمين فأنا رجل أعمال بريطاني معروف ... والذي لا تعرفينه أنني انفصلت عن شريك لي منذ مدة قصيرة .. وكنت أنوي توسيع أعمالي في لندن لكن أشار علي البعض باستثمار مشاريع إنمائية في جنوب أفريقيا ... وقمت بالفعل بالسفر إلى جوهانسبرج وزيارة كيب تاون وحصلت على بعض تقارير اقتصادية لتساعدني في اتخاذ قراري. حتى كان لقاء الأمس الذي سبب لي حيرة شديدة فبرغم حبي لناصر إلا أنني لم أفكر من قبل في السفر إلى القاهرة لدراسة السوق المصرية وإقامة بعض مشروعاتي بها.

وتنهد الرجل فيما يشبه إحساساً بالندم وأردف:

Ø إنني الآن – وبإصرار وثقة – أريد اقتحام السوق العربية من خلال مصر. ومن خلالك أنت.

قالت له زينب في دهشة:

Ø من خلالي أنا؟

Ø نعم ... فأنت مصرية وجامعية طموحة .. تملكين اللغة العربية والإنجليزية والثقافة... ويمكنني الاعتماد عليك في إعداد تقرير اقتصادي عن أحوال مصر الاقتصادية ومشاكل التنمية بها ومعوقات السوق. ومن خلال هذا التقرير سأقرر ما إذا كنت أستطيع إقامة مشاريع إنمائية في مصر من عدمه. ولذلك فهذا الأمر مهم بالنسبة لي ولك .. لأنك ستكونين مديرة لفرع القاهرة وتملكين حق اتخاذ قرارات لصالح مؤسستنا.

حلم اليتيم

انفرجت أسارير زينب وهللت بشراً وسعادة لهذا الخبر المنهمر الذي أغدق عليها فجأة. كانت تجلس أمامه ولا تملك بحقيبة يدها سوى ستة وعشرين دولاراً وبضع ليرات إيطالية لا تكفي ليوم آخر في روما... واغرورقت عيناها بدموع الفرح عندما فاجأها قائلاً:

Ø ومنذ اليوم سيكون راتبك ثلاثمائة دولار شهرياً.

صرخت بأعماقها لا تصدق أن غيمة النحس قد انقشعت ... وأن الحياة عادت لتضحك من جديد.. لقد مرت بها سنوات من الجوع والحرمان والحاجة .. وكلما ارتقت درجة من درجات الأمل انزلقت إلى الوهم وأحلام الخيال. الآن جاءت أحلام الواقع لتزيح أمامها الأوهام فتتراجع القهقري.

كانت تبدو من قبل وكأنها تغرق في لجج من ماء ذي قوام .. الآن تطير في سماوات من الصفو اللذيذ. أخيراً تحقق الحلم الذي طال انتظار اليتيم له. حلم ليس بالمستحيل ولكنه كان المستحيل نفسه.

يا الله. قالتها زينب وهي تتنهد فتغسل صدرها الصغير من تراكمات اليأس وخيوط الرجاء.أوصلها الرجل إلى الفندق بعدما منحها 600 دولار مرتب شهرين ودفع عنها حساب الفندق. وفوجئت زينب بماريو يسرع بحشن سيارتها ودفع مصاريفها ويودعها بالمطار.

وفي مقعدها بالطائرة أغمضت عينيها وجلست تفكر في أمر ماريو. لقد أخبرته بأمر الجل فأظهر موافقته. وبرغم كونه تاجراً لم يأخذ منها مصاريف الشحن ... بل ألح عليها كثيراً لكي تأخذ منه مائة دولار في المطار. وسلمها حقيبة هدايا بها علبة ماكياج كاملة وزجاجتا بارفان وحزام جلدي أنيق.

تشككت زينب في هذه الأمور وأخذت من جديد تستعرض شريط ما مر بها في روما. وتذكرت الدورة الإرشادية التي حضرتها في أحد مدرجات جامعة القاهرة قبل سفرها بأيام. كان المحاضر يشرح أساليب الموساد في اصطياد المصريين في الخارج. ولأن ماريو مصري مثلها ومجريات الأمور كلها كانت شبه طبيعية.. فقد طردت وساوسها التي تضخمت إلى حين .. وقررت أمراً في نفسها.

وفي مطار القاهرة انتحت بأحد الضباط جانباً وسألته سؤالاً واحداً. وفي اليوم التالي ... كانت تستقل سيارة صحبتها إلى مقر جهاز المخابرات المصرية.. قالت كل شيء بدقة وسردت تفاصيل رحلتها إلى ايطاليا وكيف خدعها ماريو لتنفق كل ما لديها من نقود. وحكت ظروفها النفسية السيئة التي مرت بها وكيفية تقرب رجل الأعمال البريطاني منها في تلك الظروف. وكيف شحن ماريو سيارتها إلى الاسكندرية على نفقاته.. وهو التاجر الذي يسعى للكسب... ؟ بل إنه عرض عليها مائة دولار أخرى. ولماذا لم يعطها رجل الأعمال عنوانه في بريطانيا لتراسله وتبعث اليه بالتقارير التي طلبها؟ لقد أخبرها أن ماريو سيسافر إلى القاهرة عما قريب وعليها أن تسلمه التقرير الاقتصادي الوافر الذي ستعده عن مصر.

وتذكرت زينب أيضاً كيف أن ماريو طلب منها في المطار أن تهتم جيداً بالعمل الذي أوكل إليها ولا تهمله. وعندما سألته هل لديك عنوان مكتب رجل الأعمال ؟!! أجاب بنعم في حين أنه من المنطقي أن يكون معها عنوانه. لقد سلمها 600 دولار وهي بلا شك لقاء قبولها التجسس على وطنها.

صراع العقولوفوجئت زينب بما لم تتوقعه على الإطلاق ...صور عديدة لها مع ماريو ...قال ضابط المخابرات المصري أن المخابرات العربية على علم بأمره ... وتراقب تحركاته وتنتظر دليل إدانته وقال لها أيضاً:

Ø إن إسرائيل منذ قيامها في عام 1948 وهي تسعى بشتى السبل لمعرفة كل ما يجري في البلاد العربية من نمو اقتصادي وتسلح وما لديها من قوات وعتاد .. ولذلك لجأت لشراء ضعاف النفوس والضمائر وجعلتهم يعملون لحسابها.. وينظمون شبكات التجسس المتعددة في العواصم العربية... حتى إذا كشفت واحدة تقوم الأخرى مكانها وتتابع نشاط جواسيسها. وتنفق إسرائيل الملايين على هذه الشبكات للصرف عليها.

وأن السبب الرئيسي لسقوط بعض الأفراد في مصيدة المخابرات الإسرائيلية هو ضعف الحالة المادية. وبالإضافة إلى الأموال الطائلة التي تنفقها الموساد على عملائها... فإنها تغرقهم أيضاً في بحور الرغبة وتشبع فيهم نزواتهم ... وبذلك تتم له السيطرة عليهم.

لذا .. فقد أعلنت المخابرات المصرية في يناير عام 1968 بأنها ستساعد كل من تورط مع العدو .. ووقع في فخ الجاسوسية بالإغراء أو التهديد. وأنها على استعداد للتغاضي عن كل ما أقدم عليه أي مواطن عربي .. إذا ما تقدم بالإبلاغ عن تورطه مع الموساد مهما كان منغمساً في التجسس ... وذلك لتفويت الفرصة على المخابرات الإسرائيلية.

ووعد الزعيم جمال عبد الناصر صراحة بحماية كل من تورط بالتجسس لأي سبب. وقد أسفرت هذه الخطة عن تقدم سبعة مصريين إلى جهاز المخابرات المصرية يعترفون بتورطهم ويشرحون ظروف سقوطهم.

وأضاف الضابط :

Ø لقد تكلمنا مع ماريو عدة مرات من قبل ... وأفهمناه بطريقة غير مباشرة بأننا على استعداد لمساعدة المتورطين دون أن يعاقبوا. لكن يبدو أنه استلذ أموال الموساد. وسيسقط على يديك يا زينب لأننا سنحصل على دليل إدانته من خلالك.

ووضعت المخابرات المصرية خطة محكمة لاصطياد ماريو..

وفي أول اتصال هاتفي من روما بعد أيام من وصولها.. أخبرته زينب بأنها مشغولة "بترجمة الكتاب" – وهو مصطلح سبق لهما أن اتفقا عليه – وعندما سألها عن المدة التي تكفي لإنجاز "الترجمة" لأنه ينوي المجيء لمصر بعد يومين طلبت منه – حسب الخطة – أن يتأخر عدة أيام حتى تنجز العمل.

اطمأن ماريو وصديقه لردود زينب .. وقنعا بأنها منهمكة في إعداد التقرير ... فلو أن هناك شيء ما يرتبت في الخفاء لما ترددت في إيهامه بأنها أنجزت ما طلب منها ..

وفي مكالمة أخرى بعدها بثمانية أيام ... زفت غليه النبأ الذي ينتظره ... وينتظره أيضاً رجال الموساد في روما... وعلى ذلك أكد لها بأنه سيصل إلى القاهرة عما قريب.

سقوط الخائن وبعد اللقاء المسجل بالصوت والصورة. اتجه الخائن إلى شارع نوال بالدقي حيث شقة زوجته تغريد. فمكث معها يوماً واحداً وحمل كاميرته الخاصة التي تسلمها من الموساد وركب إلى الإسكندرية بالطريق الزراعي ... يصور المنشآت الجديدة التي تقوم على جانبي الطريق ... ويراقب أية تحركات لمركبات عسكرية أو شاحنات تحمل المدرعات ... وأمضى مع زوجته وجيدة عدة ساعات ثم عاد إلى القاهرة مرة ثانية بالطريق الصحراوي .. وكرر ماريو هذا السيناريو لمدة أسبوع بشكل متصل..

كان إخلاصه للموساد قوياً كعقيدة الإنسان أو إيمانه بمبدأ ما.. فآلاف الدولارات التي حصل عليها من الموساد بدلت دماءه وخلايا مصريته وأعمته عن عروبته.. وجعلت منه كائناً فاقد الهوية والشعور .. بل كان لأموال إسرائيل الحرام فعل السحر في قلبه وزعزعة ثوابت إسلامه. فلقد نسي أن اسمه محمد ابراهيم فهمي كامل ... مسلم .. من مصر ... وأن ماريو ليس اسمه الحقيقي الذي ينادى به. وفي إيطاليا كثيراً ما مر على مساجد روما – دون قصد – فكان يتعجب ويتساءل: ماذا يعني الدين والأنبياء والرسل؟ إن الدين هو "البنكنوت"...

وعندما اتصلت به معشوقته جراتسيللا – عميلة الموساد – تستقصي أخباره وأخبار ضحيته زينب أجابها بأن كل شيء على ما يرام. وحدد لها ميعاد سفره إلى إيطاليا. وبعدما أنهت زينب إجراءات الإفراج الجمركي عن سيارتها ... استعدت "هكذا ادعت له" للسفر معه... فأخبرها بموعد الطائرة وأنه سيمر عليها ليصحبها إلى المطار.

وقبل السفر بعدة ساعات كان ماريو قد أعد أدواته... وخبأ الأفلام التي صورها بجيوب سرية داخل حقائبه ونزع البطانة الداخلية لها وأخفى التقارير السرية التي أعدها بنفسه ثم أعاد إلصاقها مرة ثانية بإحكام فبدت كما كانت من قبل. ومن بين تلك التقارير كان تقرير زينب الذي كان لدى المخابرات المصرية صورة عنه.

وبينما كان ماريو يغادر منزله بالدقي في طريقه إلى زينب ثم إلى المطار... فوجئ بلفيف من الأشخاص يستوقفونه .. وأقتيد إلى مبنى المخابرات وأمام المحقق أنكر خيانته لكن الأفلام والتقارير التي ضبطت كانت خير دليل على سقوطه في وكر الجاسوسية ... فاعترف مذهولاً بعمالته للموساد .. وأمام المحكمة العسكرية وجهت اليه الجرائم الآتية:

Ø الحصول على أسرار عسكرية بصورة غير مشروعة وإفشاؤها إلى المخابرات الإسرائيلية.

Ø الحصول على مبلغ "7 آلاف دولار" مقابل إفشاء الأسرار لدولة معادية "إسرائيل".

Ø التخابر مع العدو لمعاونته في الإضرار بمصر في العمليات الحربية.

Ø تحريض مواطنة مصرية على ارتكابها التخابر .. والحصول على أسرار هامة بقصد إفشائها للعدو.

وبرئاسة العميد أسعد محمود إسماعيل وعضوية المقدم فاروق خليفة والمقدم أحمد جمال غلاب بحضور ممثل النيابة العسكرية والمقدم عز الدين رياض صدر الحكم في مايو 1970 بإعدام ماريو شنقاً بعد أن كرر الخائن اعترافه بالتجسس على وطنه... وبيه لأسراره العسكرية مقابل سبعة آلاف دولار. وصدق رئيس الجمهورية على الحكم لعدم وجود ما يستدعي الرحمة بالجاسوس.

لم تنس المخابرات المصرية الدور الكبير الذي لعبته زينب للإيقاع بالخائن ماريو واصطياده إلى حيث غرفة الإعدام ومشنقة عشماوي في أحد سجون القاهرة.

وكانت زينب بالفعل – أول مصرية – تصطاد جاسوساً محترفاً في روما ... لإعدامه في القاهرة.!!

عمار الحرازي07-25-2010, 02:13 AM

اغتصب طفلا يهوديا

فأوشى به للشرطة العراقية

زكي حبيب ـ الزاحف على الممر

الزاحف على الممر ... !! كان إنساناً مريضاً... لا علاج أبداً لمرضه... فهو يعشق الشذوذ لدرجة الإدمان... وبسبب ذلك ظل يسعى حول فرائسه في كل مكان ... إلى أن أوقعه حظه السيئ في نفق مظلم .. أوصله إلى النهاية ... !!

الانتصار الهزيل

سبق أن قلنا أن إسرائيل ترى في العراق العدو المبين، وهي بالطبع لن تقف موقف المتفرج السلبي أمام مصالحها، لذلك فلا عجب أن هي أعادت الكرة مرات ومرات في محاولات محمومة، لإجهاض "العقول" التي تقف ضد أطماعها ومصالحها وسياساتها في العراق.

 

لقد أفقدتها لطمة إعدام الضابط الإسرائيلي والعملاء الخمسة توازنها، إذ كان لا مفر من القيام بعملية ناجحة في بغداد تحفظ ماء وجهها. وتعيد الثقة لعملائها هناك، الذين تملكهم الرعب خوفاً من الإعدام كزملائهم السابقين. وكان انتصار الموساد في عملية واحدة، كفيل بأن يعيد ثقة هؤلاء المهتزة، في حتمية التعامل معهم. وما هو إلا شهور وجيزة، إلا ونصبت شباكها حول "زكي حبيب" التاجر اليهودي الشاذ.

كان حبيب شاباً يافعاً ثرياً، تعدى السابعة والثلاثين من عمره يعمل تاجراً للملبوسات، اشتهر بميوله الشاذة مع الأطفال، وكثرة إنفاقه على هوايته بإغداق الهدايا على ضحاياه.

وحدث أن تمكن صبي يهودي من سرقة مبلغ كبير من خزانته انتقاماً لاغتصابه، فجن جنونه، وألهاه البحث عن الصبي عن تجارته، فتعرض لخسائر أخرى أغرقته في الديون وأوشك على الإفلاس. وساقت إليه الصدف صائد ماهر، يبحث عن ضعاف النفوس للإيقاع بهم في فخ الجاسوسية والخيانة.

ولأنه ضعيف بطبعه أمام نزواته، وخائن لا يعرف الأمان طريقاً إليه، كان من السهل اصطياده، فانخرط في الجاسوسية لصالح الموساد دون جهد يذكر، بعدما حصل على المال اللازم لتسديد ديونه، مستغلاً متجره بشارع الرشيد – أكبر شوارع بغداد – في إدارة عمله التجسسي، مستعيناً بعدد لا بأس به من العملاء اليهود الذين يسكبون المعلومات بين يديه كل يوم.

لقد كان مكلفاً بجمع أكبر قدر من المعلومات العسكرية عن الجيش العراقي، وإمداداته، وتشكيلاته، وقواعده. وكذا، معلومات عن الضباط الذين كانت تربطهم به بعض العلاقات. وانصب محور اهتمامه على القطاع الشمالي والغربي من العراق، حيث كانت قواعد الصواريخ والرادارات والدفاع الجوي.

وبعدما قطع شوطاً في عمله، جاءته أوامر قاطعة بالكف عن البحث في الأمور العسكرية، وتوجيه نشاطه لدفع حركة الهجرة اليهودية لإسرائيل.

ابتهج حبيب لذلك كثيراً. ففي النشاط الجديد تكمن غاية لذته... كيف ... ؟ استغل حبيب رغبة أعداد كبيرة من فقراء اليهود في الهجرة، وأقام محطات "تجميع" سرية لهم بأماكن مختلفة خارج بغداد. وإذا ما وجد ضالته بين أطفال إحدى الأسر، انتهز الفرصة ومارس هوايته الشاذة تحت التهديد بإيقاف ترتيبات الهجرة، فيضطر الأباء إلى غض الطرف عن أفعاله، في احتجاج صامت جرياً وراء الحلم الأكبر، حلم الوطن القومي والخير الموعود.

هكذا ظل العميل الإسرائيلي طوال عام 1951 يتصيد الفقراء ويأويهم، في انتظار الوقت المناسب، لتسريبهم عبر شط العرب إلى إيران فإسرائيل، منتهزاً الفرصة بين آونة وأخرى للانفراد بالصغار، إلى أن حدث ووقع في خطأ داهم، عندما اغتصب صبياً يهودياً عنوة اسمه "عقيد" يتيم الأبوين تملؤه الرغبة في الهجرة للحاق بخالته في حيفا...

وما إن تخلص منه الصبي ذو الأربعة عشر عاماً، حتى أسرع من فوره إلى الشرطة، واعترف بما حدث له من حبيب، ونشاطه السري في تهريب اليهود.

استشعر العميل الإسرائيلي الخطر، واستطاع الهرب في آخر لحظة والاختباء لدى أحد أعوانه بمنطقة نائية، وعلم فرع الموساد في "عبادان" بأمر الجاسوس الهلوع، فأُبلغ أن يظل بمخبئه إلى أن يجدوا له وسيلة آمنة لإخراجه من العراق... حتى لا تثار فضيحة أخرى تهدد خطة تهجير اليهود.

ولأن المخابرات البريطانية دأبت طوال عهدها على خدمة الصهيونية، فقد تطوعت بالمساعدة، وتحملت هي وحدها مسؤولية العملية كلها.

أمضى رئيس فرع المخابرات البريطانية في بغداد وقتاً طويلاً مع ضباطه للتشاور والبحث، وأسفر الأمر في النهاية عن وضع خطة دقيقة محكمة، يقوم فيها أعوان زكي حبيب بدور رئيسي لإنجاحها.

في ذلك الوقت كانت فرق كاملة من الشعبة الثانية (المخابرات)، تمشط بغداد وضواحيها بحثاً عن الجاسوس الهارب وأعوانه، الذين لا يعرف الصبي "عقيد" سوى أشكالهم فقط! لذا فقد كان ضيفاً مقيماً لدى الشعبة الثانية، يجوب الشوارع والأحياء مع رجالها في محاولة التعرف على أحد هؤلاء العملاء المجهولين.

هذا في الوقت الذي استقل فيه حبيب شاحنة بضائع، انطلقت به في سواد الليل وأنزلته بجوار سور مطار بغداد، فارتقاه في غمضة عين، وظل يزحف لمسافة طويلة على أرض المطار باتجاه طائرة بريطانية كانت تقف على ممر فرعي في طريقها إلى لندن.

كان باب الشحن مفتوحاً، وثمة عمال يجيئون ويذهبون بعربات البضائع القطارية يفرغونها ببطن الطائرة، ومن خلال إحدى النوافذ بالطائرة، كانت هناك عيون ترقب الزاحف المتربص، الذي سنحت له الفرصة أخيراً، فقفز في سرعة مذهلة إلى عنبر البضائع، واندس بين الأمتعة حابساً أنفاسه. بعدها، تحركت الطائرة وأسرعت جرياً على الممر ثم صعدت إلى السماء... !!

استقبل العميل الهارب بحفاوة في لندن من قبل رجال الموساد، الذين سفّروه رأساً إلى تل أبيب، حيث استقبل هذه المرة بضجة إعلامية مثيرة، ومنح اسم "مردخاي بن بوارت" وألحق من فوره بالعمل في جهاز الموساد.

أما صورته فقد وضعت بداخل برواز زجاجي ضخم بمدخل مبنى المخابرات، يضم "الأبطال" الذين قدموا خدمات عظيمة لإسرائيل.

كانت الضجة الإعلامية في إسرائيل على أشدها، واحتلت قصة "بن بوارت" صدر الصفحات الأولى في الصحف والمجلات، إذ أحيطت عملية هرب الجاسوس بهالة مبهرة من الثقة والتفاخر، أوصلت بأحد ضباط الموساد إلى التصريح عبر الإذاعة بأن يد إسرائيل الطولى تطوق أعوانها أينما كانوا، وأن لا شيء يصعب على مخابرات إسرائيل، في أي موقع من العالم.

وفي خضم النشوة المسكرة، أعلن فجأة في بغداد نبأ هو بمثابة اللطمة القوية التي أفقدت الموساد توازنها للمرة الثانية، وضيعت عليها نشوة الانتصار الهزيل الذي تحول إلى انتكاسة، وفضيحة مدوية...

يا جو ... لم ينج... !!

كان الصبي "عقيد" يجوب شوارع بغداد برفقة رجال مكتب الشعبة الثانية، بحثاً عن أي من أعوان زكي حبيب، وتوقفت بهم السيارة بالقرب من مدخل شارع النهر الموازي لشارع الرشيد، وترجل الفريق ليلتحم بزحام الشارع التجاري المشهور.

لم يكن "عقيد" يهتم بالفرجة على السلع والبضائع، فمهمته صعبة ومحددة – التفرس في وجوه المارة – لعلى وعسى. وبشرفة أحد المكاتب التجارية بالشارع، جلس يتابع أفواج البشر التي تملأ المكان ضجيجاً وحركة.

وبينما هو كذلك، لمح ضالته المنشودة، فصرخ لمرافقيه الذين انطلقوا كطلقة مدفع، إلى رجل كان يشق طريقه بصعوبة وسط الزحام. أمسكوا به فتعرف عليه الصبي عن قرب، واقتادوه مكبلاً إلى مبنى الشعبة الثانية، حيث عثروا بمحفظته على جيب سري، به كمية من سم "الساكسيوتوكسين"، الذي يسبب الموت الفوري بسبب شل أجهزة التنفس والعصب والعضلات.

أنكر المعتقل في البداية معرفته بالصبي أو بزكي حبيب، وادعى بأنه ترك اليهودية وتنصر، لذلك، فهناك مؤامرات تحاك ضده في اليهود الذين يطاردونه وينغصون عليه حياته، وبرر سبب وجود السم معه بأنه يعاني مشاكل نفسية سيئة، كان سببها موت ابنته بالحمى التيفودية، وبوار تجارته، وتراكم الديون عليه مما دفعه للتفكير بالانتحار كثيراً؛ وعجز عن إيضاح كيفية حصوله على السم.

وبتضييق الخناق حوله تفجرت مفاجآت مذهلة، إذ انهارت أعصاب "سعيل يا جو" على حين بغتة، بعد تجويعه لأربعة أيام في حبس انفرادي، وطلب منهم راجياً ألا يعدموه، مقابل أن يدلي باعترافات تفصيلية عن النشاط الاستخباري الإسرائيلي في العراق. وبعدما وعدوه، اعترف بأنه عضو بإحدى شبكات التجسس، وأنه اشترك بالفعل في تهريب اليهود مع زكي حبيب، كما أدلى بسيل جارف من الأسماء والعناوين، والأسرار التي لم تخطر ببال.

وخلال ساعات معدودة منذ لحظة اعترافه، استطاعت المخابرات العراقية القبض على 34 يهودياً عراقياً، تضمهم عدة شبكات، يمتهنون التجارة والتدريس والطب والمحاسبة، ويعيشون حياتهم بشكل طبيعي في المجتمع.

وبعد اكتمال التحقيق معهم، أعلنت وسائل الإعلام الخبر الذي تلقته إسرائيل كالصاعقة، وأصيب رجال الموساد بخيبة أمل كبرى، إذ اكتشفوا وقوعهم في خطأ مخابراتي جسيم، عندما سمحوا لعملائهم بالعمل مع أكثر من شبكة جاسوسية في آن واحد، يقودها أفراد معروفون للجميع.

نقلت وكالات الأنباء العالمية وقائع المحاكمة العلنية في بغداد، وتكشفت أمام العالم أجمع نوايا إسرائيل تجاه العراق، وقوبل الأمر باستنكار شديد من الجمعيات الأهلية اليهودية في بغداد والبصرة، التي رأت أن تدخل إسرائيل فيه إفساد للمناخ المستقر لليهود في العراق.

وكانت الفاجعة الكبرى لإسرائيل، هروب جواسيسها الباقين في بغداد إلى إيران، خشية سقوطهم في قبضة المخابرات، فيلقوا مصير من سبقوهم إلى حبل المشنقة.

أما الصبي "عقيد"، فقد تحول إلى بطل قومي، تسابقت الوزارات والهيئات والمؤسسات لتكريمه، وبعدما أدرك بنفسه حجم المؤامرات الصهيونية التي تحاك ضد اليهود العراقيين، وقف أمام جمع غفير من الصحفيين والمراسلين الأجانب، ليعلن على الملأ بأنه يهودي عراقي يحب وطنه، ولن يفكر يوماً بالهجر إلى إسرائيل لأنها دولة إرهابية ، ووجه نداءاً لخالته هناك لتعود ثانية إلى العراق.

لقد انهالت التبرعات عليه من كل صوب، وتحول فجأة إلى ثري يمتلك المنزل الفاخر والأرصدة. وفي عام 1955 عندما بلغ الثامنة عشر من عمره، أشهر إسلامه وتحول إلى "عبد الرحمن".

لكن ... هل انتهى أمر الموساد في العراق بعد سلسلة الفشل المتلاحقة التي أصابت عملياته؟

لا ... لم تنته بعد فصول الرواية الطويلة، ولم نقرأ معاً سوى فصل واحد قصير من فصولها ! !

ويشتعل الصراع

عانى جهاز الموساد من إحجام عملائه الباقين في العراق عن العمل. وكان العدد القليل المتبقي منهم لا يفي بالغرض المطلوب.

لذلك قام رئيس الموساد بزيارة سرية سريعة إلى إيران، حيث التقى برئيس المخابرات "السافاك"، وطلب منه "تسهيل" دخول بعض ضباط الموساد لإيران، لتدريب كوادر جديدة من العراقيين.

كانت إيران في تلك الوقت، يدفعها حافز قوي في إزالة معالم العروبة عن "الخليج العربي"، الذي أطلقت عليه "الخليج الفارسي" فأرادت أن تنسبه إليها، متجاهلة نصف دستة من الدول العربية التي تطل عليه، ولها فيه أكثر ما لإيران.

ومدفوعاً ... كان الشاه يريد أن يتحول الخليج العربي إلى "بحيرة" إيرانية، ليفرض سطوته على المياه والشواطئ، وسكان الدول وحكوماتها، ووجدها فرصة سانحة من خلال إسرائيل، التي سارع بالاعتراف بها عند قيامها، إذ وعدته إسرائيل بالقيام على خدمة مصالح إيران، للهيمنة على آبار النفط في الخليج، وتنظيم مرور الناقلات، وبمساندتها له ضد العراق بتأليب الأكراد العراقيين ضد السلطات، بل وشجعت الشاه على الاستحواذ والسيطرة على ميناء الفاو، وشط العرب، والمنفذ الوحيد للعراق على الخليج.

لكل هذه الاعتبارات منحت المخابرات الإسرائيلية صلاحيات كثيرة في إيران، وتحولت مدينتي "عبادان" و "المحمرة" إلى مركزين لانطلاق الجواسيس إلى العراق عبر شط العرب إلى البصرة ثم لسائر المدن. وأقيمت لذلك مراكز متعددة لتدريب الجواسيس على أعمال النسف، والتخريب، وتسميم المياه، وتدمير المراكز الحساسة والمباني الهامة في بغداد، وإشعال الحرائق في المعابد اليهودية والمقاهي لترويع اليهود والمواطنين، وتزييف العملة، وترويج الإشاعات الكاذبة.

من ناحية أخرى، استعان جهاز السافاك بخبرة رجال المخابرات الإسرائيلية، في كيفية إجهاض المظاهرات، وأساليب القمع والتعذيب الوحشية لتطبيقها على معارضي نظام حكم الشاه. وكان هناك عدد ضخم من ضباط الموساد على أرض إيران، منهم ستة عشر ضابطاً يقيمون بصفة دائمة في الأراضي المحاذية للعراق، يشرفون على عمليات التجسس، ويوجهون شبكات الجواسيس داخل القطر الآمن.

وبرغم يقظة المخابرات العراقية، وجهاز مكافحة التجسس بها، إلا أن الموساد كلما سقطت لها شبكة جاسوسية، تقيم أخرى مكانها، معتمدة على الجالية اليهودية التي يصل عددها لسبعين ألف يهودي. وكان سلاحها دائماً وأبداً المال والجنس، مستغلة تعدد الطوائف المذهبية والديانات والتعصب.

ذلك أن الدين أو المذهب يسهل من خلاله التغلغل، إذا ما كان هناك عدم استقرار سياسي يقابله اضطراب بين أفراد العقائد المختلفة.

فالعراق هو القطر العربي الأول – قبل سوريا – الذي يعج بأصحاب الملل والمذاهب المتعددة، الذين يمارسون طقوسهم في حرية لا يشوبها القلق، مهما ارتجت مقاعد السلطة.

ففي العراق جنباً إلى جنب يعيش المسلمون من أهل السنة، والشيعة، والأكراد، والزيديون، والمسيحيون، واليهود، والصابئة، وعبدة الفرج، وعبدة النار... الخ. تعدد عجيب في الديانات والمذاهب والنحل، هو بمثابة مناخ خصب لنمو بذور ضعاف النفوس، ومرتعاً سهلاً لهواة تصيد الجواسيس، الذين أجادوا اللعب على أوتار العقائد.

فإسرائيل تتعامل مع العراق – شأنها كشأن مصر – بحذر شديد، نظراً لما تملكه من ثروة بشرية واقتصادية كبيرة، وجيش منظم مدرب ومسلح.

لقد كان النمو الاقتصادي المضطرد، مع وجود الجيش المدرب في العراق، أمراً مفزعاً حقاً لإسرائيل. خاصة مع وجود سبعين ألف يهودي عراقي، لا زالوا يحتفظون بولائهم الشديد للوطن الأول، ولم تغرهم الدعايات الصهيونية الكاذبة عن واحة الديموقراطية في الوطن العربي التي هي إسرائيل.

لذلك ... لم تتوان الدولة اليهودية للحظة، عن الدفع بأعداد هائلة من الجواسيس داخل نسيج المجتمع، وتعويض الشبكات التي تسقط بأخرى أكثر تدريباً وحفرية وفناً. واستمر التقاتل بالأدمغة في حرب شرسة لا هوادة فيها بين جهازي المخابرات. فطالما هناك إغراءات، يتواجد الخونة، ويشتعل الصراع.

وفي بداية عام 1966، حدثت مفاجأة لم تتوقعها الموساد أبداً، ولم تحسب لها حساباً من قبل، إذ كانت الخسائر فادحة جداً، والدوي يجلجل صداه في جنبات الكرة الأرضية... !!

عمار الحرازي07-25-2010, 02:17 AM

سعيد العبد الله ...صريع لغة الجسد

" ... إن دور المرأة في عمل المخابرات والجاسوسية لا يمكن إغفاله... فامرأة جميلة ذكية مدربة – في بلاد يسيطر عليها الجوع الجنسي – تكون أفضل من عشرة جواسيس مهرة. فسلاحها هو سحرها ... وجسدها ... وعندما تنصب شباكها... يأتيها أعتى الرجال طائعاً ... خاضعاً... ضعيفاً ... !! ".تاريخ الزعيمة

لم تكن رحلة ترفيهية تلك التي خاضتها "شولا كوهين" من "اليعقوبة" شمالي بغداد، إلى البصرة فميناء عبادان الإيراني .. إنما كانت رحلة مأساة عجيبة شاقة، يخيم عليها القلق والخوف والحذر، وتحمل مع كل خطوة رائحة العذاب والموت، سعياً وراء حلم الوطن الجديد في إسرائيل.

تحملت شولا ذات السبعة عشر ربيعاً ما يفوق طاقتها، إلى أن وصلت وعائلتها لميناء حيفا. وما أن استقرت في تل أبيب حتى صفعتها الكوارث واحدة تلو الأخرى، دون أن تدرك الصغيرة الجميلة البضة لماذا؟

فعندما قتل والدها في انفجار عبوة ناسفة بسوق تل أبيب تأوهت هلعاً لا تصدق... وازداد صراخها المكتوم وهي ترى أحلامها تتحطم فوق صخرة الوهم شيئاً فشيئاً. فإسرائيل ليست هي الجنة الموعودة، بل الخدعة الكبرى التي روجوا لها، ومن أجلها ضحوا بالكثير في سبيل الهرب من العراق.

مات والدها فلم تقو أمها على تصديق الحقيقة فخرت صريعة المعاناة والمرض، وألفت شولا صراخ شقيقها الأكبر، محتجاً على ميراث أبيه من الأبناء الستة والمسؤولية التي أثقلت كاهله، حتى التقت "بعازار"، ونبض قلبها الصغير بالحب لأول مرة، وظنت أن ثمة أمل جديد أشرق بحياتها، بيد أنها فجعت شر فجيعة بقتله هو الآخر في اشتباك مسلح مع أصحاب الأرض والوطن.

هكذا أسودت الحياة في وجهها وركنت إلى الصمت والانزواء تفكر فيما أصابها، وماذا عساها أن تفعل؟ فتملكتها رغبة الانتقام من العرب، لكن شغلتها معاناة الحياة اليومية، والجوع الذي لا يكف صراخه ينهش العقل والبدن..

وبعد عام قضته مقعدة ماتت أمها، وطفق شقيقها ينفث غضبه بوجه إخوتها، فخرجت تسعى للعمل بإحدى العيادات بشارع "تساهالون هاروفيم"، ووفقت في الحصول على وظيفة مؤقتة، لمؤهلاتها الأنثوية المثيرة الصارخة فأسبغ عليها الراتب الضئيل مسحة من الطمأنينة والثقة بنفسها، وأحسب بالعيون الجائعة تعريها كل لحظة وترغبها.

فالجسد الممشوق المتناسق الأعضاء يغري بالالتهام، والعيون الناعسة الواسعة ذات الرموش الطويلة الكثيفة ترسم أروع صور العناق، والفم المبسام الأملود الدقيق يوحي بمذاقات القبل.

وطاردتها العيون والشهقات والهمسات والأيدي الجائعة، فاستسلمت لجنرال في الجيش الإسرائيلي من أصل بولندي يجيد العربية، كان دائم التردد على العيادة، وبين يديه تكشفت لها خطوط الحقيقة وتفاصيلها، فقد أدركت لأول مرة أنها تملك سلاحاً فتاكاً تستطيع به أن تقهر أية قوة... أنوثتها الطاغية... وكانت تشبه قنبلة ذرية تذيب بلهيبها الأجساد، وتسيطر بها في يسر على الأعصاب والعقول.

أدق عليها الجنرال الإسرائيلي بالمال والهدايا، فظنت أنها امتلكته، حتى استوعبت الأمر في النهاية. فالجنرال ما هو إلا ضابط كبير في جهاز المخابرات، تقرب إليها مستغلاً ظروفها، وعلى وعد بتأمين حياتها أغرقها في محيط الجنس والمال، ثم كاشفها برغبته في أن تعمل لصالح الجهاز لتحافظ على أمن إسرائيل من جهة، ومن جهة أخرى كي تعيش عيشة رغدة لا تحلم بها فتاة في مثل سنها في إسرائيل.

لم تكن شولا أمام واقعها المؤلم تستطيع رفض هذا العرض. فهي تحلم بالمجد المفقود الذي كم رنت إليه، إضافة إلى استيقاظ رغبة الانتقام لديها من العرب الذين قتلوا والدها وحبيبها، وتسببوا في موت أمها كمداً.

لكل ذلك أعلنت موافقتها راضية مقتنعة، لتبدأ بعدها أغرب مغامراتها في عالم المخابرات والجاسوسية، فتستحق عن جدارة لقب "الزعيمة" الذي أطلق عليها في الموساد، ذلك لأن ما قامت به لصالح إسرائيل على مدى تسع سنوات متصلة، مثير جداً... وجريء... وعجيب كل العجب... !!

نساء إسرائيل

مهما تطورت أجهزة الاستخبارات في العالم فلا يمكن إغفال دور المرأة في ميدان التجسس، فامرأة جميلة .. ذكية ... بمقدورها أن تكون جاسوسة كاملة تفوق الرجل، إذا استغلت مهاراتها وحدة ذكائها وسلطان سحرها، خاصة في بلاد يسيطر عليها "الجوع الجنسي" كبلادنا العربية.

فالجاسوس الرجل... يعتمد في الغالب على مهاراته وقوته البدنية، وشجاعته واندفاعه إلى درجة الإجرام.. وهو عادة يعمل سراً في الخفاء.

أما المرأة الجاسوسة... فسلاحها سحرها وفتنتها وجسدها. ولذلك تظهر في أكثر الحالات ضمن هالات الأضواء على حلبات المسارح والملاهي، تعرض فتنتها فتثير النفوس، وتلقي شباكها ليأتيها من يرغبها طائعاً... خاضعاً.. ضعيفاً... وخلال اعتراك لهيب الأجساد العارية، والقبلات، ورعشات الرغبة الساحرة، تنسكب المعلومات بلا ضابط، وتفشي الأسرار المصفدة بالكتمان وتباح كل المحظورات.

وقد يتساءل البعض:

Ø هل تقبل المرأة في عالم المخابرات والجاسوسية، أن تضحي بشرفها للسيطرة على أعصاب شخص ما؟

وللإجابة نقول:

Ø نعم. فأجهزة المخابرات في العالم كله تعتبر التضحية بالشرف، وبكل ما هو ثمين، أمر جائز في سبيل الوطن، بل ويعد ذلك أثمن معاني الوطنية.

وعلى ذلك، يطلب من الجاسوسات أن يستسلمن لشخصيات بعينها، توصلاً لجمع معلومات سرية تفيد المصلحة العامة، والعنصر النسائي في المخابرات الإسرائيلية بوجه خاص أمر إجباري.

فإسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم منذ عام 1948، التي تفرض التجنيد الإجباري على النساء وقت "السلم"، حيث تستخدم النساء والفتيات في شتى المجالات العسكرية والسرية والجاسوسية، لتحقيق أهداف إسرائيل في الأمن والتوسع حتى ولو بالجنس. فالجنس سلاح اليهود منذ القدم، وقد أجادوا استخدامه وأتقنوه لدرجة الاحتراف وتفوقوا بذلك على الأمم الأخرى.

ومن النادر جداً أن تخلو قصة تجنيد جاسوس لإسرائيل من المرأة والجنس. ولم أصادف أبداً حتى الآن في عشرات المراجع والملفات التي بين يدي عن الجاسوسية اليهودية، حالة واحدة لجاسوس جندته إسرائيل خلت من الجنس، حتى في حالة الخائنة هبة سليم التي اشتهرت باسم عبلة كامل، فقد استغلت أنوثتها كجاسوسة إسرائيلية، وأغرت الضابط المصري المقدم فاروق الفقي، وفعلت معه كما تفعل نساء الموساد في غرف النوم.

وفي حالة الأردنية أمينة داود المفتي، فأؤكد بأنها لم تتعاون مع الموساد بعد نصب "مصيدة العسل" المعتادة. لكن ارتباطها جنسياً بطيار يهودي في فيينا – وهي المسلمة – ثم زواجهما لأمر بشع ومقيت. وهذا ما حدث أيضاً مع انشراح المصرية التي سيطر عليها ضابط الارتباط الإسرائيلي بالجنس في تركيا.

إنه واقع محير وشائك، رجال أوقعت بهم فتيات، وفتيات أوقع بهن رجال. عالم عجيب حقاً، كلما تبصرنا أسراره تملكتنا الدهشة وازددنا اقتناعاً بأن الجنس هو المحرك الأول للجاسوسية، دستورها المقدس عند اليهود منذ الأزل وحتى اليوم... أما المال فيأتي في المرتبة الثانية مهما بدت رغبة الثراء متوشحة، أثيرة !!

في بناية الأمباسادور

التحقت شولا أرازي كوهين بالموساد قانعة، وخضعت لتدريب مبدئي في مبنى خاص يقع في "كيريا" بتل أبيب، وأوكلت لأمهر خبراء الموساد مهمة ترويض تلك المخلوقة العجيبة الجمال ليصنعوا منها جاسوسة ذكية، مثقفة، لبقة، تجيد إدارة الحوار واجتذاب الرجال والسيطرة على أعصابهم.

ونظراً لكونها شرقية من العراق ولم تحظ بقدر كاف من التعليم... فقد بعثوا بها إلى لندن لتمتزج بالمجتمع والدنيا هناك وتتعلم التحدث بالانجليزية.

وعلى مدار عام ونصف العام استطاعوا أن يستخرجوا منها خلاصة مخلوقة ثانية، مدربة على فنون التجسس والإغواء والسيطرة. وبأوراق ثبوتية مزورة، سافرت إلى بيروت في سبتمبر 1952، لتبدأ من هناك أولى مهامها التجسسية واثقة من قدراتها الفائقة، لا تحمل أسلحة فتاكة سوى جسدها المثير.

وفي ساحة المطار الخارجية، تهافت عليها سائقو الأجرة، وأوصلها أحدهم إلى وسط بيروت حيث نزلت بفندق "الغراند أوتيل"، وفي المساء غادرت الفندق تملأ مسامعها شهقات الإعجاب طوال تجوالها في شوارع المدينة المكتظة بالجمال.

كان عليها أن تستتر وراء وظيفة ما، أو مهمة جاءت بها إلى بيروت، ولم يكن الأمر بحاجة إلى إثباتات. فقد ادعت بأنها مندوبة لإحدى الشركات السياحية الأوروبية، جاءت للبحث عن وكلاء في لبنان، فانفتحت لها بذلك الأبواب المغلقة، واقتربت كثيراً من برسيخ أقدامها تمهيداً للعمل... خاصة بعدما تركت الفندق، وانتقلت إلى إحدى الشقق الفاخرة ببناية "الأمباسادور" الشهيرة.

كانت مهمتها الأولى البحث عن مسؤول لبناني له نفوذ قوي في الدوائر الرسمية، تستطيع من خلاله أن تنفذ إلى ما تصبو إليه.. وأخيراً عثرت على ضالتها في شخص موظف كبير اسمه "محمود عوض" ... كان يشغل آنذاك أكثر من ست وظائف حكومية... فذهبت لمقابلته للاستفسار عن إجراءات تمديد إقامتها، فسقط في شباكها وخر صريع سحرها، وتعمد تطويل الإجراءات ليراها كثيراً، فتركت له جواز سفرها وأخلفت ميعادها معه... ثم اتصلت هاتفياً به لتخبره بمرضها وأعطته عنوان شقتها ليرسل به اليها.

وكما توقعت الجاسوسة المدربة، فقد ذهب إليها اللبناني الذائب بنفسه يحمل جواز سفرها وباقة من الورود، فاستقبلته بملابس شفافة تفضح معالم جسدها، وكان عطرها الفواح الذكي ينشر جواً من الأحلام والرغبة والاشتهاء... ومنحته في النهاية جسدها مقابل خدمته.. فبات منذ تلك اللحظة عبداً لجمالها تحركه كفيما تشاء، ولا يرفض لها أمراً.

انشغل محمود عوض بمعشوقته وهو المسؤول المهم بإحدى الدوائر، وشهدت شقة الأمبا سادور المحرمة التي تستغرق معظم وقته. فكان ينزف مع رجولته أسراراً حيوية للغاية تمس لبنان وأمنه. إذ كان يعوض ضعفه الشديد أمام أنوثتها الفتاكة بسرد تفاصيل عمله، وتتملكه نشوة الانتشاء عندما يجيب باستفاضة عن استفساراتها ويراها منبهرة مشدوهة "متغابية"، وبعد انصرافه على أوراقها تكتب كل ما تفوه به، وتخطط لما سيكون عليه الحال في اللقاء التالي.

الطابور النائم

كانت أوليات مهام شولا كوهين في بيروت، السيطرة على أكبر عدد من المسؤولين الحكوميين بواسطة الجنس، حتى إذا ما ترقوا في وظائفهم وأصبحوا ذوي شأن في صناعة القرار، أعيد من جديد إيقاظهم للعمل لصالح إسرائيل، وهؤلاء يطلق عليهم العملاء النائمون. فحينما يتبوءون المناصب العليا، يسهل إخضاعهم لتمييع المواقف السياسية المستقبلية ضد إسرائيل، ويشكلون بذلك طابوراً طويلاً من المسؤولين يدور في فلك إسرائيل .. وينفذ سياساتها دونما انحراف عن الخط المرسوم.

لذلك، وسعت شولا من علاقاتها بالمسؤولين اللبنانيين، وكانت الدائرة شيئاً فشيئاً، تتسع لتشمل موظفين رسميين بشتى الجهات الحكومية، كلهم سقطوا صرعى الجسد الناعم الملتهب وفورانات الإثارة.

وبالطبع، لم تكن شولا بقادرة وحدها على إشباع رغبات كل هؤلاء، إنما عمدت بحاستها المهارية إلى التعرف على فتيات حسناوات، باحثات عن المال، جمعتهن حولها وسخرتهن لتوثيق دائرة معارفها. واستلزم منها ذلك تأجير شقة أخرى، لتخفيف حدة زحام جوعى اللذاذات بشقتها.

وفي عام 1956 كانت تستأجر خمسة منازل في مختلف أنحاء بيروت، مجهزة بأفخر أنواع الأثاث، ومزودة بكاميرات دقيقة وأجهزة تسجل كل ما يجري بغرف النوم، وكانت أشهر فتاة لديها، طفلة أرمينية تدعى "لوسي كوبيليان" عمرها أربعة عشر عاماً تخلب بجمالها الألباب وتذيب العقول.

هذه الطفلة المرأة كانت إحدى نقاط القوة في شبكة شولا.. فقد تهافت عليها الرجال كالذباب، وسجدوا لجمالها وفتنتها، أما شولا – الزعيمة – فآثرت ألا تمنح جسدها إلا لكبار المسؤولين ذوي المراكز الحساسة كي تستخلص بنفسها ما تريده منهم.

ولما تزاحم العمل، رأت الموساد أن تعضد شولا في مهمتها، فضمت إليها اليهودية "راشيل رافول" في طرابلس، وبانضمام راشيل، اتخذت شبكة شولا مساراً جديداً لم يكن في الحسبان..فالعضوة الجديدة مدربة وماهرة جداً.. ولها خبرة طويلة بأعمال الدعارة في لبنان.

وبالتعاون مع "إدوارد هيس" ضابط الارتباط الإسرائيلي في بيروت، أمكن القيام بعدة عمليات جريئة لتهريب أموال اليهود اللبنانيين المهاجرين لإسرائيل، بوسيلة "إشهار الإفلاس"، التي سهلت عملية "إميل نتشوتو" التاجر اللبناني اليهودي، الذي هرب لإسرائيل بعدما سرق ملايين الليرات من البنوك والتجار. وكذا عملية "إبراهيم مزراحي" التاجر الطرابلسي الشهير الذي هرب أيضاً بالملايين إلى اليونان، ثم لإسرائيل، بينما انخرطت زوجته "ليلى مزراحي" في خدمة الشبكة ... لتسهيل عمليات تهريب أخرى بما لها من علاقات بزوجات أثرياء اليهود.

وبتهريب يهود لبنان بأموالهم المسروقة إلى إسرائيل..أضير الاقتصاد اللبناني ضرراً بالغاً، واضطرت بعض المصارف إلى الاستغناء عن خدمات بعض موظفيها المتورطين، وكاد للعملية كلها أن تنكشف لو لم يكن هناك مسؤولون كبار أمكن السيطرة عليهم من قبل.. استطاعوا في الوقت المناسب عمل تغطية للفضيحة وإخمادها إلى حين.

جنت شولا كوهين ثمار عملها، واستشعرت قيمة مهمتها في بيروت للسيطرة على الكبار بالجنس، ذلك لأن محمود عوض أول الخاضعين لها لم يتوان عن التستر على نشاطها، ومساعدتها بما يملك من سلطات في نهب اقتصاد بلده.

هكذا دفع النجاح شولا كوهين لتطور من أسلوب عملها، وتنتهج مسلكاً أكثر فعالية في العمل.

ابن الجنوب العاشق بعدما اتسع نطاق شبكة الجاسوسية، وبالتالي تعددت مصادر التقارير والأسرار، كانت شولا تعاني من صعوبة نقل المعلومات المتدفقة عليها إلى إسرائيل، ورأت أن الحل يكمن في تجنيد أحد اللبنانيين قاطني الجنوب نظراً لسهولة تسلله إلى إسرائيل بالمعلومات والتقارير، دون أن تثير تحركاته أحداً.

فكرت جدياً بهذه الحيلة، في ذات الوقت الذي سعت فيه لإيجاد مركز يجمعها بجواسيسها، وبواسطة كبار المسؤولين اللبنانيين، استأجرت عميلة الموساد إحدى الكافيتريات بشارع "الحمراء"، وحولتها إلى "بار" يزدان بالديكورات والحسناوات أطلقت عليه اسم بار "الرامبو".

ومع الخمر والليل وجدت ضالتها المنشودة في شخص ابن الجنوب الساذج – محمد سعيد العبد الله – الذي حملته ساقاه ذات مساء إلى البار ..فتسمر منبهراً باللحم الأبيض يتراقص ويتمايع، معلناً ويعلن عن مواطن الإثارة في صراحة..وثقلت عليه رغباته المكبوتة فتاه عقله، وأحكمت شولا سيطرتها عليه بعدما تأكد لديها أنه سقط لآخره في براثنها.

وفي ليلة حمراء أريقت فيها الخمور المعتقة، وذبلت العيون وتراخت الأعصاب في وهن، فاتحته في الأمر. وكم كانت واثقة من إجابته، فإنه على استعداد لأن يفعل كل شيء في سبيل ألا يخسرها، أو يضيع لحظة واحدة من أوقات المتعة التي أدمنها. فحملته بالتقارير والمعلومات، وتسلل بها إلى الجانب الإسرائيلي..ولم يرجع اليها بأوامر الموساد الجديد فقط، بل اصطحب معه ابن عمه "فايز العبد الله" الشاب المغامر..الذي يعرف الدروب الجبلية ومواطن الضعف الأمني بمناطق الحدود الجنوبية.

وعلى انفراد، أخبر شولا بأن ابن عمه مستعد هو الآخر للانضمام إلى شبكة الجاسوسية مقابل المال. فلم تمنحه شولا المال وحده، بل وهبته أجمل فتياتها اللاتي ضيعن لبه، وسحرنه بما لم يألفه من متع النشوة، ليدور في النهاية كسابقيه في فلك الخيانة والتردي.

وأخيراً جاء لها سعيد بابن العم الثالث "نصرت العبد الله" طائعاً مختاراً هو الآخر، وكأنما عائلة العبد الله قد جبلت كلها على الخيانة واعتادتها..

وبذلك أمكن لشولا أن تنقل ملفات تقاريرها أولاً بأول عبر هؤلاء الثلاثة إلى قادتها في إسرائيل دونما صعوبة...أو تشكك من الجهات الأمنية اللبنانية..

بذلك..تحول ملهى الرامبو إلى مركز لاصطياد الجواسيس وملتقى لهم في ذات الوقت، وأيضاً، ليعاين كبار الموظفين اللبنانيين الفتيات المثيرات المختارات فتتضاعف خدماتهم لشبكة شولا..في وقت لم تكن ظروف الأمن في لبنان مهيأة لتتبع النشاط التجسسي الاسرائيلي في بيروت، بسبب انشغال الميليشيات الطائفية بتسليح نفسها، على حساب قوة الجيش والأمن الداخلي.

لقد انقلبت المفاهيم العسكرية في لبنان حتى أن قوى الأمن الداخلي كانت في حالة صراع لا يتوقف مع الجيش. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تبودلت الأدوار أيضاً وتسلمت قوى الجيش حراسة بعض المرافق العامة بدلاً من قوى الأمن الداخلي، واستعمل الجيش كنقاط أمنية منفردة بعيداً عن ملاحقة الميليشيات العسكرية، التي كانت تستولي على آليات الجيش ومدرعاته وأسلحته، واعتقاد رئيس الجمهورية اللبناني في قصر "بعبدا" أنه هو لبنان، وهو الشرعية.

وبسيطرة العقلية العائلية على نظام إدارة الحكم والدولة، كان هناك استرخاء أمني أدى إلى تغلغل الجواسيس وانتشارهم في ربوع لبنان، حيث لا يوجد جهاز مخابراتي نشط بتعقب الجاسوسية المضادة... أو يعمل على وقف سيلان المعلومات الحيوية عن الدولة إلى العدو المتربص في أقصى الجنوب.

عزيز الأحدب

تغافل محمود عوض، المسؤول اللبناني الكبير عما تقوم به شولا في لبنان..مكتفياً بالليالي الملتهبة بين أحضان الحسان، ولما أدرك قيمة الخدمات التي يؤديها مقابل الجنس، صارح شولا بأنه الخاسر بلا شك..وطالبها بمقابل مادي حيث أن هدفه الأسمى في الحياة هو المال والثراء.

انزعجت شولا لطلبه الجديد فهو ثري في الأصل، وما كان يطلب منها سوى فتيات صغيرات جميلات يعدن إليه شبابه.

وبرغم سيطرتها عليه بوسائل عدة، منها تصويره في أوضاع شائنة مع أكثر من تسع فتيات، إلا أنها نفت فكرة تهديده، ذلك لأنه يعرف جيداً كل المتعاملين معها من ذوي المراكز، وكتبت بذلك إلى رؤسائها فوافقوا على رأيها، فأغدقت عليه الأموال مقابل تقاريره عن موظفي الدولة والدوائر الرسمية، التي كان يحملها العبد الله إلى الإسرائيليين عبر الحدود في أوقات معينة متفق عليها.

وفي مايو 1958، وصل إلى بيروت ضابط سوري مسؤول، اجتمع من فوره بأحد ضباط الأمن اللبنانيين، وأبلغه بنشاطات شولا كوهين المشبوهة.. وإحاطتها بأسرار غاية في السرية عن الجيش اللبناني والسوري معاً.. تجلبها من خلال شخصيات على مستوى المسؤولية في البلدين على علاقة بها.

كانت خيبة أمل الضابط السوري كبيرة، عندما أخبره زميله اللبناني بأن شولا بعيدة عن الشبهات. وتم حفظ محضر الاجتماع في الأدراج برغم تأكيدات السوريين.

وفي بداية عام 1961 وقع محضر الاجتماع تحت يد ضابط لبناني شهم اسمه "عزيز الأحدب" فقرأ ما تحويه السطور.. وبدأ في جمع المعلومات في سرية تامة عن شولا.. وفوجئ بعد عدة أشهر من المراقبات والتحريات بأن الفتاة تدير أكبر شبكة جاسوسية إسرائيلية في لبنان.. امتدت نشاطاتها لتشمل كل مناحي الحياة المدنية والعسكرية، ليس ذلك فحسب، بل تجمعت لديه أدلةكافية، بأنها وراء عمليات تهريب اليهود اللبنانيين إلى إسرائيل، بواسطة "آل العبدالله" الذين يجيدون استخدام الدروب الوعرة في الجنوب.

هكذا، وبعد تسع سنوات من التجسس، ألقى عزيز الأحدب القبض على شولا كوهين في أغسطس 1961، واعترفت في الحال على شركائها، واثقة من أن نجدة ستجيئها حالاً من إسرائيل.

وأمام القضاء العسكري اللبناني تكشفت حقائق مذهلة، عن تورط شخصيات عديدة مسؤولة، في إمدادها بأدق الأسرار والتقارير التي تمس لبنان وكيانه.

أصدرت المحكمة في 25 يوليو 1962 حكماً بالسجن مدة عشرين عاماً على شولا كوهين، التي أطلق عليها اليهود لقب "الزعيمة" و 15 عاماً على زميلتها راشيل رافول.

أما محمود عوض فقد قضى نحبه في سجن الرملة في يونيو 1962 إثر نوبة قلبية فاجأته قبل الحكم عليه، فلقي جزاء ربه وحكمه العادل.

لكن المثير للدهشة حقاً، أن يصدر حكماً بسجن آل العبد الله الثلاثة عشرون شهراً فقط لكل منهم ... إلى جانب أحكام أخرى بالسجن تقل عن عام على مسؤولين لبنانيين ضالعين في الجاسوسية، بما يؤكد ما ذكرناه آنفاً من ميوعة القوانين الجنائية التي يعمل بها في لبنان، وكانت سبباً رئيسياً من أسباب تحول بيروت إلى أشهر عاصمة عربية يأمن فيها الجواسيس على رقابهم، وساحة تباع فيها الأسرار القومية بأجساد النساء وتشترى..!!.

عمار الحرازي07-25-2010, 02:25 AM

السيد محمود .. علّم أخوه التجسس ... فاحترف..!!

عالم المخابرات والجاسوسية عجيب كل العجب. إنه بالفعل يفتقد العواطف... ولا تصنف أبداً تحت سمائه، حتى وإن بدت المشاعر مشتعلة متأججة – فهي زائفة في مضمونها، ووجودها فقط لخدمة الموقف ثم تنتهي إلى أفول.

لقد كتبنا عن سمير باسيلي أول جاسوس في العالم يجند أباه. وكتبنا عن إبراهيم شاهين ابن سيناء الذي جند زوجته انشراح وأولاده الثلاثة.

وفي هذا الفصل نكتب عن جاسوس آخر من جواسيس الإسكندرية، استغل شقيقه المجند بالقوات المسلحة، وجنده ليحصل من وراء معلوماته العسكرية على مال وفير.

كلها قصص تؤكد أن علاقات الدم والرحم ومشاعر الحب – تتوه بين غمام عالم الجاسوسية الغامض ... وتمحي ... في لحظة يغيب فيها العقل .. ويغتال الانتماء.. !! الصدمة الفجائية

بالرغم من التنسيق الاستخباري الأمريكي الصهيوني الذي وصل إلى أعلى المستويات ...فقد جاءت حرب أكتوبر 1973 لتثبت عجز المخابرات الإسرائيلية والأمريكية وهزيمتها معاً إزاء هذه الحرب المفاجئة. فقد طار زيفي زامير رئيس الموساد (كما طار من قبله مائير عميت قبل حرب يونيو 1967) إلى كل من أوروبا وأمريكا بمهمة سرية.. ليحاول التحقق من المعلومات التي وردت اليهم قبل حرب أكتوبر باستعدادات العرب للهجوم على إسرائيل.

وفي صباح السادس من أكتوبر بعث ببرقية محمومة من نيويورك إلى غولدا مائير رئيس وزراء إسرائيل تقول: "إن الحرب ستبدأ اليوم". وكان الأوان قد فات. وكانت مفاجأة الحرب التي منيت بها إسرائيل، نتيجة "الفكرة" الخاطئة التي يتمسك بها القادة الإسرائيليون، والمستندة إلى أن الحرب لن تقع بسبب عجز العرب عن القيام باتخاذ قرار الهجوم ضدهم.

كقد كانت هذه "الفكرة" متأصلة الجذور في أذهان العسكريين الإسرائيليين، حتى أن الجنرال "إلياهو زعيرا" – الذي كان يشغل منصب رئيس الاستخبارات العسكرية – ذهب في ظهر ذلك اليوم إلى مؤتمر صحفي في تل أبيب وهو مطمئن إلى حقيقة "الفكرة".

وعندما تكلم بهدوء وثقة إلى الصحفيين قائلاً: "لن تقع الحرب". اقتحم المكان ضابط برتبة ميجر ودفع ببرقية إلى الجنرال زعيرا في غرفة المؤتمر الصحفي، وعندما قرأها هذا، خرج من الغرفة ولم ينبس ببنت شفة، ولم يعد مرة أخرى. وأدرك الصحفيون الحقيقة على الفور، فقد وقعت الحرب، وفي جمع أرجاء تل أبيب... أخذت صفارات الإنذار ترسل صيحاتها.هذا التقييم الغير صحيح للمعلومات التي تجمعت لدى المخابرات الإسرائيلية، والتي وصلتها قبل الحرب بمدة كافية وتتعلق بالحشود المصرية والسورية، أكد على تقصير المخابرات الإسرائيلية في تحليل النوايا العربية... والاستعدادات العسكرية التي سارت بخطوات دقيقة وسرية للغاية، وخدعت أجهزة المخابرات الصهيونية والأمريكية، بما يدل على جهل هذه الأجهزة بمؤشرات الحروب والأزمات .. مما أدى إلى تفويض نظرية الأمن الإسرائيلي القائمة على قوة جهاز مخابراتها، وعلى عنصر إنجاح الطيران في تنفيذ الضربة الوقائية وإفشال الاستعدادات العربية.

وبعد توقف الحرب، عمدت الحكومة الإسرائيلية إلى التحقيق في كارثة يوم الغفران وشكلت لجنة "إغرانات" لتحديد موضع الخلل والتقصير... وقد رأت اللجنة أن الاستخبارات العسكرية هي المسؤولة عن تقييم نوايا وقدرات القوات العربية... وأشارت إلى أربعة مسؤولين بها غير مرغوب فيهم ويفضل تسريحهم... كان على رأسهم بالطبع إلياهو زعيرا رئيس المخابرات العسكرية.

ولذلك، نشطت أجهزة المخابرات الإسرائيلية المختلفة... وعملت على تلافي هذا الخطأ المدمر الذي راح ضحية له آلاف الجنود والضباط، وسبب الذعر في كل أرجاء إسرائيل، وقررت ألا تترك معلومة، ولو تافهة صغيرة، إلا وحللتها وتأكدت من صحة ما جاء بها. وذلك من خلال تجنيد طابور طويل من العملاء والجواسيس في كل البلاد العربية... يمدون إسرائيل بجسر متصل من المعلومات السرية يومياً، فتستطيع بذلك تدارك أية كوارث أخرى قبل وقوعها. وكان لا بد من القيام بعدة انتصارات هامة... تعيد الثقة إلى هذا الجهاز الذي أثبت فشله في التنبؤ بحرب أكتوبر.

وعلى هذا الأساس .. صعّدت قيادة جديدة لأجهزة المخابرات الإسرائيلية، تتعطش لإثبات جدارتها ومقدرتها، وأخذت على نفسها أمر حماية إسرائيل من الخطر الدائم المحيط بها. ورصدت ملايين الدولارات تحت تصرف هذه الأجهزة. وكان للموساد الإسرائيلي نصيب أكبر منها لتجنيد العملاء والجواسيس، وشراء ضعاف النفوس في كل مكان.

ولم تعد المخابرات الإسرائيلية تلقى بالاً للعناصر التي تعيش على هامش الحياة، بل سعت لتجنيد البارزين في المجتمع، ومن ذوي المراكز الدقيقة الهامة. إذ لم يعد عمل الجواسيس مقصوراً على الإنصات إلى ثرثرات سكير في حفل كوكتيل... أو تخاويف جاهل بالأمور يدعى المعرفة بكك شيء، وإنما أصبحت مهمة الجاسوس تتعلق إلى حد بعيد بالحصول على الوثاقئق السرية وتصويرها ... وإعادتها إلى مكانها الذي أخذت منه... ومن ثم إرسال ما صوره إلى مركز اتصاله.

وأيقنت المخابرات الإسرائيلية أن المعلومات المجموعة .. سواء بالوسائل البشرية أو التكتيكية، لا تكتسب قيمتها الكاملة .. إلا بعد الدراسة والتحليل والتركيب والاستقراء م نقبل خبراء أخصائيين على مستوى عال من العلم والخبرة.

وبسبب الخوف من "مفاجآت" العرب الغير سارة – أطلقت إسرائيل جواسيسها داخل البلاد العربية، يجمعون لها الأسرار العسكرية والصناعية... وكل ما يتصل بأ/ور الحياة اليومية بما فيها أرقام هواتف وعناوين المسؤولين.

وهذا ليس عبثاً من جانب العدو، إنما هو عمل مخابراتي أصيل، وتخريبي يؤدي إلى نتائج خطيرة فيما لو أتيح استعمال هذه المعلومات... فعملاء إسرائيل السريين لا يتورعون عن ارتكاب أية جريمة مهما كانت حقارتها لتحقيق أهدافهم ومهامهم.

ويبدو أن المخابرات العربية قد تفهمت بحق تغير أسلوب جهاز المخابرات الإسرائيلي... خاصة بعد تجديد دماء رؤسائه ومديري أقسامه المختلفة .. والحرص على اصطياد الخونة العرب في كل مكان .. ودفعهم إلى بلادهم بعد دورات تدريبية ينشطون بها مداركهم... ويوقظون لديهم الحاسة الأمنية .. ويزرعون بداخلهم الولاء لإسرائيل بإغراءات المال والجنس، وبالتهديد أحياناً كثيرة.

لذلك .. فقد كان على المخابرات العربية أن تنشط هي الأخرى لتواجه هذا النشاط المضاد. وكان أن أعلن مسؤول كبير في المخابرات المصرية في 10/10/1974 بأن أي مواطن مصري تورط تحت أي ظروف مع جهاز المخابرات الإسرائيلي، فإنه في حالة التبليغ عن ذلك فور وصوله إلى البلاد أو لأي سفارة من سفاراة مصر... فسوف يعفى نهائياً من أية مسؤولية جنائية... ولا توجد له أي تهمة مهما كانت درجة تورطه.

وأضاف المسؤول: إن المخابرات المصرية تعلم الأساليب التي تتبعها المخابرات الإسرائيلية .. والظروف التي يقع تحتها المواطن مرغماً، مما يغفر له ما وقع فيه مادام قد قام بالإبلاغ خدمة لوطنه.

وفي نهاية البيان ... أعلن المسؤول الكبير نبأ القبض على جاسوسين شقيقين يقومان بالتجسس لصالح المخابرات الاسرائيلية .. وأنهما بين أيدي المحققين لاستجوابهما... وسوف يحالان للمحكمة المختصة فور انتهاء التحقيق.

 

فلنفتح ملف القضية ونقرأ ما به دراسة الحالة

في الثاني عشر من مارس 1929 ولد "السيد محمد محمود محمد" بالإسكندرية لأسرة ثرية يعمل معظم أفرادها في "البحر". وانصرف السيد عن دراسته مبكراً ولم يحصل على الشهادة الإعدادية، فكان شغفه بالبحر أعظم من فصل المدرسة لديه.

لذا .. فقد أثمر هذا الحب لكل ما هو "بحري" عن خبير بالشؤون البحرية يشهد له الجميع بذلك. وكان عمله في ميناء الاسكندرية قد أتاح له – من خلال عائلته – الارتباط بصداقات عديدة بالعاملين بالميناء، ومعرفة أدق التفاصيل عنه.

وفي الثانية والعشرين من عمره .. أحب ابنة صديق للأسرة يعمل في الميناء أيضاً. وتزوج من "إخلاص" وعاشت معه في شقة رائعة بمنطقة سيدي جابر.

ومرت به الأعوام وهو يكبر بين أصحاب المهنة وتتسع علاقاته واتصالاته. وينجح في عمله إلى مدى بعيد. فاستثمر هذا النجاح وامتلك 40% من الباخرة التجارية اللبنانية "م. باهي" وترك العمل على الشاطئ لينتقل إلى عمق البحر، إذ عمل مساعداً للقبطان... وبدأ يبتعد كثيراً عن الاسكندرية في رحلاته إلى موانئ العالم... فزداد الماماً بعلوم البحر والطقس .. وامتلأت جيوبه بالمال فاستثمره هذه المرة في الزواج من فتاة صغيرة رائعة الجمال .. كان قد التقى بها في المعمورة ورآها "غادة" حسناء تمرح على الشاطئ كأنها عروس البحر.

لقد كلفه الزواج منها مبالغ طائلة أرهقت ميزانيته. وتورط بسببها حتى اضطربت أحواله المادية أكثر بعدما احتاجت الباخرة لـ "عمرة" كاملة، كان عليه أن يدفع 40% من تكلفتها، فقد كانت بينهم وبين شركة التأمين مشاكل طائلة أدت إلى تعسرهم مالياً.

وأمام أزمته الطاحنة .. اضطر السيد محمود إلى "رهن" نسبة من نصيبه في الباخرة، وكان من تلك الفترة قد دخل بكل قوة إلى دائرة الإفلاس التي تضيق حوله وتعتصره.

كان السيد محمود قد قارب الأربعين من عمره، وسيم أنيق المظهر، خبير بالأمور البحرية... وأعلى خبرة بشؤون النساء وأنواع الخمور... وكان لا ييأس إذا ما صدته امرأة أو تجاهلته فتاة جميلة. فهو يملك من وسائل اجتذابها ما يحير العقول، يساعده على ذلك لسان زلف رقيق، وعينان بريقهما عجيب كل العجب يسهل له مسعاه، وكانت علاقاته النسائية متعددة برغم زواجه من اثنتين.. ولا يكف عن إثبات ذاته أمام الفتيات الصغيرات اللاتي ينجذبن سريعاً لطلاوة حديثه وجرأته، ولقدرته الفائقة على احتوائهن.

كان أيضاً يستغل المال في شراء النساء بالهدايا القيمة التي يجلبها من الخارج كلما عاد محملاً بها... في وقت كانت الأسواق المحلية تفتقر إلى البضائع المستوردة التي تلقى إقبالاً شديداً خاصة حوائج النساء.

كل ذلك ساعد بطريقة أو بأخرى على تعدد علاقاته النسائية ومفاخرته بذلك أمام أصدقائه الذين طالما حسدوه لحظه الواسع من الجنس اللطيف.

هذه المغامرات ... خلافاً لليالي الأنس والفرفشة... التي كان يقيمها في شقة خاصة في سبورتنج .. كانت تستنزف منه أموالاً كثيرة أيضاً، وأدت إلى ابتعاده – مؤقتاً – عن هوايته في تصيد النساء .. التي أرهقت مدخراته وإن كانت قد قضت عليها بالفعل.

وأثناء توقف الباخرة للإصلاح بميناء نابولي الإيطالي... ذهب السيد محمود إلى روما... وبالمصادفة قابله هناك صديق قديم من يهود الاسكندرية اسمه فيتورا ... قال له إنه يعمل ضابطاً إدارياً في شركة السفن التجارية الايطالية.

وعلى مدار جلسات طويلة بينهما... استعرضا مراحل حياتيهما الماضية والحاضرة. وشكا له فيتورا شوقه الشديد لزيارة الاسكندرية، فدعاه السيد محمود لزيارته هنا وهو على ثقة بأنه لن يلبي دعوته... لكن خاب ظنه عندما فوجئ به يزوره بالاسكندرية.

وخلال هذه الزيارة الغير المتوقعة .. تكشف لفيتورا أمر صاحبه ومدى معاناته... بسبب أزمته المادية الحرجة التي تنغص عليه حياته، وتتهدد مستقبله كله. خاصة وهو صاحب بيتين وزوجتين ... وحجم المصروفات يزداد كل يوم يمر. وصارحه السيد بمدى يأسه من صلاح حاله والسفينة قد فتحت فاها ولا تريد إغلاقه، وأنه أخيراً باع نصيبه بالديون التي تراكمت عليه وتضخمت. وطلب من صديقه اليهودي راجياً أن يبحث له عن عمل في أي مكان من العالم.

وبعد تفكير .. أخبره فيتورا أنه سيعمل على تقديمه لصديق إنجليزي يعمل صحفياً على منظمة "حلف شمال الأطلسي" ويقيم في أمستردام بهولندا. وعندما سأله السيد عن نوع العمل الذي قد يقوم به مع صديقه الصحفي، أخبره فيتورا أن مجال الصحافة ليس له حدود. لأنه يتدخل في شتى المجالات وليس قاصراً على معلومات بعينها.

ولما أكد له أن الصحافة الأجنبية تدفع كثيراً... تهلل السيد محمود فرحاً... وطلب بإلحاح من فيتورا أن يسعى عند صديقه الانجليزي، وأنه مستعد للتعامل معه كمراسل صحفي بالشكل الذي يرضاه.

وفي اليوم التالي ادعى فيتوار أنه اتصل بصديقه في أمستردام وعرض عليه الأمر، فوافق وطلب موافاته بعدة تقارير اقتصادية وتجارية وسياسية... مع التركيز على ميناء الاسكندرية وكتابة بيانات شاملة عنه وعن الحركة التجارية والملاحية والتسويقية من خلاله.

فرح السيد محمود كثيراً واستغرق عدة أيام في كتابة التقارير بعدما زار الميناء الحيوي للاستعانة بصداقاته هناك في الحصول على إجابات وافرة على العديد من التساؤلات... ثم حزم حقيبته وسافر برفقة صديقه إلى أمستردام رأساً حيث نزلا بفندق "أمريكا" الفخم.

وفي الفندق... زاره الصحفي البريطاني "ميشيل جاي طومسون" – الذي هو في الأصل ضابط مخابرات إسرائيلي – واستغرق وقتاً طويلاً في الحديث معه ومناقشته فيما جاء بتقاريره الهامة... ووجد السيد محمود نفسه يعيش حياته السابقة من جديد حيث الخمر والنساء الجميلات.. وبخاصة كريستينا الرائعة التي قدمها له طومسون كصحفية تعمل معه. وغاب عن ليومين تاركاً كريستينا معه وتحت أمرته.

الجاسوس المغيب العقل

كانت الفتاة اليهودية المثيرة تعلم أنه زوج لاثنتين. وزير نساء خبير بأمورهن، ولذا كان عليها أن تكون مختلفة عن كل النساء اللاتي عرفهن. فأبدعت في إثارته إلى درجة الهوس. وفي حجرته بالفندق لم تسكره الخمر بقدر ما أسكره دلالها... وجسدها الأنثوي الذي تفوح منه رائحة الرغبة... فكانت تدعوه اليها وتتمنع، وكلما اقترب منها زادته لسعات النشوة ليمتشق سلاح الصبر وما صبر لديه، فيهوى سكراناً بين يديها، يمتص معتق الخمر من نهر الحياة بين نهديها، وترتجف خلجاته نشوانة لفعل اللذة الساحرة، ويقسم بأنه ما ذاق من قبل طعم امرأة، ولا ذهب عقله بلا خمر إلا معها.

فتضحك العميلة المدربة في نعومة آسرة، وتخبره بأنها تعمل مع طومسون لصالح المخابرات الأمريكية... إضافة إلى عملها في "حلف شمال الأطلسي" فلم يندهش العاشق الغارق بين أحضانها أو يحس بمدى الخطر الذي يحيط به. وعندما جاءه طومسون ...أبلغه تحيات فيتورا الذي سافر إلى استراليا، "حيث انتهت مهمته إلى هنا".

رجع السيد إلى القاهرة ومعه مئات الدولارات... والعديد من الهدايا التي حرم من حملها لفترة طويلة. وأيضاً – يحمل عدة تكليفات محددة عليه الكتابة عنها بتفصيل. وأغراه ضابط الموساد بمبلغ كبير لكل تقرير مفصل... يحوي معلومات قيمة لا تتوافر في المادة الصحفية المنشورة في الصحف المصرية.

وما هي إلا أسابيع حتى سافر إلى أمستردام مرة ثانية بحقيبته عدة تقارير غاية في الأهمية. وإحصائيات عن حركة ميناء الإسكندرية اليومية.

اندهش طومسون لغزارة المعلومات التي جلبها تلميذ الجاسوسية الجديد. أهدى إليه كريستينا لعدة أيام مكافأة له، فغيبت عقله وحركت بداخله كل إرهاصات النشوة وتياراتها المتلاحقة.

نوع آخر من النساء هي. دربها خبراء الموساد على التعامل مع المطلوب تجنيده بأساليب شتى تجعله يعشق الجنس... ويدمنه ... فكانت تزرع لديه اعتقادات الفحولة التي لا يتمتع بها سواه. وبنعومة الحية تنسج معه قصة حب ملتهبة مفعمة بالرومانسية الخالصة ثم تمتزج بالجنس فيختلط الأمرين ويقع الضحية فريسة الرغبة الشديدة في الارتواء والتي عادة ما تنطفئ أو تخمد.

فالعميلة المدربة تملك سلاح تأججها الدائم. والقدرة على السيطرة على الضحية بسلاح الضعف وعدم إيثار اللذات... هكذا تفعل عميلة الموساد التي تخرجت من أكاديمية الجواسيس في إسرائيل برتبة عسكرية ... وترتقي وظيفياً كلما أجادت استخدام لغة الجسد في "العمل".

فالجسد الانثوي – مادة خصبة تجتذب ضعاف النفوس ... أمثال السيد محمود الذي نظر في بلاهة إلى فتاته العارية وهي تقترب من لحظات الذروة ... حينما تصرخ وتخبره في ضعف أنها إسرائيلية تحبه وتعشقه وتعبده. ويكمل صعود المرتفع وحين يهبط.. تكرر عليه القول فلا يهتم. وتفهم من ذلك أنه سقط... سقط لآخره في عشقها وحبائلها... ولأنه مغيب العقل فلا مفر من استسلامه. وبعد عدة أيام – كان في طريقه إلى الاسكندرية – عميلاً للموساد الاسرائيلي، فهناك أحاديث سجلت له، وأفلام فاضحة تظهر لحظات ضعفه وشذوذه مع العميلة المدربة، وهناك ما هو أهم – التقارير الخطيرة التي كتبها بخط يده.

أغمض عينيه ولم يهتم بالنداءات المستمرة التي كانت تصدر عن جهاز المخابرات المصرية... والتي تعفي أي مصري تورط مع الموساد بشرط الإبلاغ الفوري ... وتجاهل كل تلك النداءات لظنه أن إبلاغهم بالأمر... معناه حرمانه من آلاف الجنيهات التي يحصل عليها مقابل عدة تقارير لا يبذل في جمعها مجهوداً يذكر ... فالمعلومات متوفرة بكثافة وكل معلومة لها ثمن يحدده هو حسب أهميتها. عليه إذن أن يبحث عن كل ما هو مهم لتزداد مكافآته. ويكبر راتبه الشهري الذي حددوه له بـ 500 دولار .. مبلغ كبير بلا شك من أين له بمثله إذا امتهن أية مهنة؟

كان يكتب تقاريره التفصيلية وبضمنها كل المعلومات التي تصل إليه... ويتوقع أرقاماً معينة ثمناً لها.. ويسرع بالسفر إلى أمستردام كلما تضخمت لديه المعلومات ليجد في انتظاره كريستينا وطومسون. هي تمنحه جسدها، وتزيل عنه أعباء الخوف الذي يتملكه عندما تنشر الصحف المصرية قصة القبض على جاسوس لإسرائيل... وطومسون يعمل على إزالة الخوف منه بتدريبه على استخدام الشيفرة في الكتابة بالحبر السري، وعلى استعمال الراديو لاستقبال التعليمات من خلاله بالشيفرة وطريقة حلها وأسلوب تنفيذها... وتدريبه أيضاً على كيفية تمييز الأسلحة بالنظر. وكان طومسون يؤكد له بصفة مستمرة... أن التدريب الجيد فيه تأمين له .. وحصانة ضد الخطأ الذي قد يوقع به ... ويحثه دائماً على الالتجاء إلى العلم... وإلى التزود بالحس الأمني العالي لحماية نفسه.

المصير الأسود

ومع جرعة التدريب العالية التي نالها... عاد السيد لاستئناف نشاطه بشهية مفتوحة ومحفظته متخمة بالأموال ... وحقائبه ملأى بالهدايا... وعرف أكثر وأكثر قيمة كل معلومة يجمعها. خاصة المعلومات العسكرية.

ولما كانت مصادر معلوماته العسكرية معدومة.. فكر في تجنيد شقيقه الأصغر "أمين" المجند بالقوات المسلحة. فاستغل حاجته الى النقود فترة تجنيده... للإنفاق على نفسه على حبيبته التي يستعد للزواج منها، ولعب على هذا الوتر، وكلما أمد شقيقه بالنقود كلما أخضعه له.

لم يكن الأمر صعباً على أمين هو الآخر، فببعض معلومات عسكرية لا قيمة لها عنده ... يمنحه السيد مقابلاً كبيراً لها .. وعندما سأله أمين ذات مرة ضاحكاً: هه يا أخي ...هل تعمل جاسوساً؟‍!

انتفض كالملسوع واكفهر وجهه وقام على الفور وصفعه بشدة قائلاً:

Ø إياك أن تخبر أحداً بهذا الأمر ... أنا أعطيك مبالغ طائلة مقابل معلوماتك، وكلمة واحدة وتنتهي حياتنا الى الأبد.

وانخرس أمين ولملم جرأته وانغمس مضطراً بسبب المال إلى الاستمرار في إمداد شقيقه بالمعلومات.

وذات مرة .. عرض عليه السيد أن يجلب له خرائط عسكرية... ولوحات هندسية لتصميمات بعض المواقع الهامة. وتخوف أمين في البداية، وأمام إغراءات المال استجاب أخيراً ولكنه ساومه على الثمن، وتفاصلا في المبلغ حتى اتفقا.

وعندما رأى طومسون الصور العسكرية واللوحات البالغة السرية... احتضن الجاسوس الخائن وقال له "سأكتب حالاً بذلك الى إسرائيل وسأطلب لك مكافأة سخية" وجاء الرد من تل أبيب يفيض كرماً وسخاءً.

هذه المرة .. لم يهتم السيد كثيراً بعشيقته التي لم تأت لمقابلته، بل انحصر اهتمامه في القيمة المادية التي سيتحصل عليها ثمناً لما أمدهم به، ولم يمكث كثيراً بأوروبا إذ عاد على وجه السرعة... حيث جاءه مولود جديد من زوجته غادة بعد محاولات فاشلة سابقة، وحيث ينتظره أخوه أمين ...الذي يجهز شقته استعداداً للزواج من حبيبته "توحة".

كانت حرب أكتوبر قد انتهت. وكثف أمين من نشاطه في تصوير المستندات العسكرية والخرائط قبل خروجه من الجيش إلى الحياة المدنية. وحرمانه من المبالغ الخيالية التي يحصل عليها من شقيقه، وهذا ما أوقع بالخائن وبشقيقه في قبضة المخابرات المصرية...

فقد حامت شكوك حوله مصادر المال الذي ينفقه أمين بشراهة، ولفت انتباه أحد زملائه اهتمامه بالحجرة التي تحوي تصميمات هندسية سرية لممرات الطائرات في المطارات الحربية... وقواعد يجري إنشائها في عدة مواقع سرية.

ووصلت الشكوك إلى القائد الذي جمع التحريات عن الجندي أمين ... فاتضح له أنه يغدق بالهدايا على زملائه...وأقام صداقات قوية للحصول على أجازات من القوات المسلحة يقضيها في اللهو والمجون.

وبوضعه تحت المراقبة هو وشقيقه السيد، وكانت النتيجة الحتمية سقوطهما في قبضة المخابرات المصرية وهما في غفلة من الزمن لا يتصوران أن أمرهما قد ينكشف في يوم من الأيام.

هكذا فاجأ فريق من رجال المخابرات العسكرية شقة أمين... وتم العثور على وثائق عسكرية هامة، تحوي خرائط ولوحات لمواقع استراتيجية، اعترف أمين في الحال أنه جلبها لشقيقه السيد مقابل مائة جنيه... وبمداهمة شقة السيد وجدوه يخبئ وثائق أخرى بجيب سحري بقاع حقيبته... فانهار لا يصدق ...وأخذ يلطم خديه ويردد: - الطمع والنسوان ضيعوني ... وأنا أستاهل.

وضبطت لديه كل أدوات التجسس ... الأحبار السرية... جهاز الراديو .. جدول الشيفرة .. الكاميرا... الخ.

واستمر التحقيق معهما، ابتداء من 28 مارس 1974 حتى ديسمبر 1974 حيث اعترفا خلاله بتهمة التجسس لصالح المخابرات الإسرائيلية..

وعندما نطق القاضي بالحكم، دوت صرخات عالية في القاعة من ثلاثة نساء، كن إخلاص وغادة وتوحة، واقتيد السيد محمود ليقضي 25 عاماً في أحد سجون الصحراء، وكان منظراً عجيباً في قفص المتهمين بالمحكمة، إذ أمسك أمين بتلابيب شقيقه الأكبر وغرس فيه أظافره وأنيابه وهو يصرخ:

Øأنت السبب يا مجرم، أنا ح أقتلك... ح اقتلك... ضيعت خمستاشر سنة من عمري أونطة يا ... ... وباعدوا بينهما واقتيد كل منهما في عربة مصفحة حيث ينتظرهما مصير أسود .. لا ضوء فيه ولا شعاع...فالطريق غامض.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق