الجمعة، 15 نوفمبر 2013

مجموعة من الجواسيس المصريين

مجموعة من الجواسيس المصريين

تم الكشف عن شبكة لتجسس في القاهرة والتي جاءت ضمن سلسلة من قضايا التجسس الإسرائيلي داخل مصر في الفترة الأخيرة متورط فيها دبلوماسي مصري بسفارة مصر في تل أبيب ويدعى الدكتور عصام الصاوي وزعيمة الشبكة مديرة علاقات عامة بشركة سياحية تدعى نجلاء إبراهيم وهي أيضا لاعبة كرة اليد السابقة التي تعرفت عن طريق هذه اللعبة على خالد مسعد لاعب كرة اليد السابق بنادي الزمالك وتمكنت من تجنيده هو الآخر ليساعدها في هذه العمليات المشبوهة وكوَّن الثلاثة معاً شبكة قوية للتجسس وتهريب السائحين الأجانب إلى إسرائيل عبر الحدود المصرية عن طريق المنافذ والدروب الجبلية عند مدينة رفح.

وكانت الصدفة وحدها هي السبب وراء كشفها حيث بدأت الحكاية عندما تم تقديم بلاغ باختفاء 16 سائحا يحملون الجنسية الصينية في الجبال والدروب بمدينة رفح أثناء عمل رحلة سفاري سياحية وأكدت التحريات أن هؤلاء السائحين اختفوا عند الحدود المصرية الإسرائيلية التي عبروها إلى داخل إسرائيل.

وقادت التحقيقات مع الشركة المسؤولة عن نقل هذه المجموعة من السياح إلى أن مسؤولية برنامج الرحلة يقع ضمن مسؤولية مديرة العلاقات العامة وبمجرد استدعائها واتهامها بتهريب السائحين الصينيين إلى حدود إسرائيل اعترفت مديرة العلاقات العامة بالشركة وتدعى نجلاء إبراهيم على زميلها في الشركة خالد مسعد الذي وقع هو الآخر في يد الشرطة واعترفا تفصيلياً بكيفية عمليات الهروب وكيفية عمليات الاتصال بالجانب الإسرائيلي لتسهيل هذه العملية عبر الدروب والجبال من رفح إلى الأراضي الإسرائيلية وذلك مقابل 1800 دولار على الشخص الواحد.

تهريب وجاسوسية

وكانت المفاجأة التي فجرتها نجلاء إبراهيم المتهمة أن من يقوم بترتيب الاتصال والاتفاق مع الجانب الإسرائيلي لتسهيل عملية هروب الأجانب هو دبلوماسي مصري بسفارة تل أبيب مقابل حصوله على عمولة عن كل شخص يتم تهريبه إلى إسرائيل.

وبدخول هذا الدبلوماسي في دائرة الاتهام حولت القضية من قضية تهريب السياح الأجانب إلى إسرائيل إلى قضية تخابر مع جهاز الموساد الإسرائيلي وهو ما كشفت عنه التحقيقات التي جرت في سرية تامة حيث اتسعت دائرة الاتهام في القضية لتشمل 8 متهمين ثلاثة منهم بارزون والباقون عبارة عن موظفين بالشركة السياحية وعدد من البدو من مدينة رفح ممن لديهم خبرة بدروب المنافذ الجبلية المؤدية إلى دخول إسرائيل بخلاف عدد من الإسرائيليين الذين يسهلون عملية التنقل للسياح الأجانب داخل إسرائيل وكشفت التحقيقات أن هذه الشبكة تمكنت من تهريب عدد كبير من السائحين الأجانب إلى إسرائيل عبر الحدود المصرية وخاصة من دول الصين وروسيا وأوكرانيا ودول شرق آسيا. ووفق تقديرات بعض المسؤولين فإن محاولات التسلل في الشهور الأخيرة بلغ عددها ما بين 3 و 9 حالات في الأسبوع الواحد رغم خطورة التسلل وتعرض صاحبه لفقد حياته وهو ما يجعل المتسللين يعتمدون على عصابات التهريب مقابل مبالغ مالية تترواح ما بين 2000 و5000 دولار على الفرد الواحد تحت ستار شركات سياحية ومع تواطؤ بعض الإسرائيليين.

وقبل مضي أسبوع على اكتشاف شبكة التجسس أحبطت أجهزة الأمن المصرية محاولة جديدة لتهريب 30 سائحاً أجنبياً من مصر إلى إسرائيل.

وتعتبر جنوب سيناء نقطة إغراء للمتسللين الإسرائيليين الذين يتم القبض عليهم في الغالب بالقرب من منفذ طابا وغالباً ما يكونون من الضباط والجنود ولا يحملون جوازات سفر. وفي خلال الفترة من عام 1992م حتى عام 1997م سلمت مصر إسرائيل 31 متهماً في قضايا مختلفة منها ما هو تجسس ومنها ما هو مخدرات وتزوير عملة وأنشطة أخرى والباقون أفرج عنهم في مساء 13 أغسطس 1997م مع سفينة القمار الإسرائيلية مونتانا.

وقد كشفت تحقيقات نيابة أمن الدولة العليا أن شركة مازدا الإسرائيلية الكائنة أمام القنصلية المصرية في تل أبيب والمملوكة للإسرائيلي زائيفي روفائيل هي رأس الشبكة المنوط بها عملية تسيير خط النقل ما بين تل أبيب والقاهرة للعمالة الصينية والماليزية والفليبينية وغيرها التي تأتي إلى مصر تحت اسم السياحة ويتم تهريبها إلى إسرائيل عبر المدقات الصحراوية. وثبت من التحقيقات أن الشركة الإسرائيلية استطاعت تجنيد بعض العناصر أحدها ماليزي والآخر أفريقي فضلا عن الثلاثة المتورطين في شبكة التجسس د. عصام الصاوي ونجلاء إبراهيم وخالد سعد بهدف تشويه سمعة مصر حيث إن الهدف السياسي وراء عمليات تهريب السياح هذه هو إظهار ضعف مصر عن حماية حدودها الشرقية.

حرب الجواسيس

على الرغم من مرور 23 عاما هي عمر معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل إلا أن الجانب الإسرائيلي لم يتوقف عن نشاطه في تجنيد الأفراد والتخابر على المصالح القومية المصرية.

وفي الفترة الماضية تم كشف النقاب عن العديد من قضايا التجسس على مصر من قبل إسرائيل، أهمها كان عزام عزام ومجدي أنور وسمحان، وآخرها كان شريف الفيلالي ثم الشبكة التي ألقت أجهزة الأمن المصرية القبض عليها مؤخراً.

وملف التخابر بين مصر وإسرائيل مليء بالعديد من القضايا.

ومن أشهر هذه القضايا الجاسوس عزام عزام أخطر جاسوس إسرائيلي في مصر حتى الآن لأنه منذ أن حكم عليه بالسجن لمدة 15 عاماً وذلك عام 1997م وإسرائيل وقادتها لا يألون جهداً في المطالبة بالإفراج عنه، وتمّ لهم مرادهم وأفرج عنه بعد قضاء مدة ثماني سنوات في السجون المصرية، مقابل صفقة بين السلطات المصرية والإسرائيلية تقضي بالإفراج عن ستة من الطلاب المصريين ضلوا الطريق في الصحراء ودخلوا إسرائيل بطريقة الخطأ.

ففي عام 1996م تم القبض على عزام عزام متعب عزام والقبض على شبكة تجسس يتزعمها وتجنيد شاب مصري أثناء وجوده للتدريب في إسرائيل عن طريق عميلتي الموساد زهرة يوسف جريس ومنى أحمد شواهنة.

كانت المعلومات المطلوبة من عزام وشبكته هي جمع معلومات عن المصانع الموجودة في المدن الجديدة مدينة 6 أكتوبر والعاشر من رمضان من حيث النشاط والحركة الاقتصادية وكانت وسيلة عزام عزام جديدة للغاية وهي إدخال ملابس داخلية مشبعة بالحبر السري قادمة من إسرائيل مع عماد إسماعيل الذي جنده عزام.

وبعد القبض عليه حكم على عزام بالسجن 15 عاما.

ولم يعجب الحكم نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل وقتها الذي اعترض على حكم القضاء المصري. وآخر زيارة لعزام في السجن كانت من «داني نافيه» مستشار رئيس الوزراء الإسرائيلي شارون ووزير الدولة ومستشارته الصحفية ومندوب من السفارة الإسرائيلية بالقاهرة وقد طلب عزام منهم ضرورة الإسراع بالإفراج عنه لأنه ضاق بحياة السجن ووعده شارون أن يبذل أقصى جهده وحكومة إسرائيل لتحقيق هذا الهدف.

والغريب أن قادة إسرائيل دائما ما يضعون قضية الإفراج عن عزام عزام محل اهتماماتهم ويجعلونها رقم واحد على أجندة المباحثات بين مصر وإسرائيل، وعلى العكس تبدي الحكومة المصرية موقفاً واحداً وهو أن القضاء المصري له كامل السيادة ويتمتع بالنزاهة والاستقلال في أحكامه.

أما قضية الجاسوس سمير عثمان فقد حدثت في أغسطس 1997م عندما سقط الجاسوس في يد رجال الأمن أثناء قيامه بالتجسس مرتدياً بدلة الغوص حيث كانت مهمته التنقل عائما بين مصر وإسرائيل بعد أن جنده الموساد واعترف المتهم بأنه تم تجنيده عام 1988م على يد الموساد بعد أن ترك عمله في جهاز مصري حساس، وأضاف أنه سافر إلى اليونان والسودان وليبيا ومن هذه البلاد إلى تل أبيب، وأن الموساد جهزت له 4 جوازات سفر كان يستخدمها في تنقلاته وأثناء تفتيش منزله عثر على مستندات هامة وأدوات خاصة تستخدم في عمليات التجسس.

 

والقضية الغريبة في قضايا التجسس الإسرائيلي على مصر هي قضية الجاسوس سمحان موسى مطير فهي المرة الأولى التي يتم فيها تجنيد تاجر مخدرات ليكون جاسوسا لإسرائيل وهذا ما حدث مع سمحان الذي اتفق معه رجال الموساد على تسليمه مخدرات مقابل تسليمهم معلومات عن مصر وكان سمحان يعمل في فترة شبابه بإحدى شركات المقاولات التي لها أعمال في مصر وإسرائيل ومن هنا كان اتصاله بالموساد الإسرائيلي وعمل بتجارة المخدرات تحت ستار شركة مقاولات خاصة وكانت له علاقات اتصالات عديدة ببعض ضباط الموساد المعروفين ومعهم اتفق على صفقة جلب المخدرات مقابل تقديم معلومات هامة عن مصر إلى الموساد.

وسمحان جاسوس حريص للغاية فقد تلقى دروسا عديدة في كيفية الحصول على معلومات وكيفية استقبال الرسائل وكيفية إرسالها لكنه كان يحفظ المعلومات المطلوب الحصول عليها وينقلها شفاهة إلى ضباط الموساد الإسرائيلي، وكانت المعلومات المطلوبة من سمحان تتعلق بالوضع الاقتصادي لمصر وحركة البورصة المصرية وتدوال الأوراق المالية وكذلك تم تكلفتة بالحصول على معلومات تخص، بعض رجال الأعمال.

ومن أشهر قضايا التخابر لصالح إسرائيل كانت قضية الجاسوس شريف الفيلالي الذي سافر عام 1990م لاستكمال دراسته العليا بألمانيا وخلال إقامته بها تعرف على امرأة ألمانية يهودية تدعى (ايرينا) قامت بتقديمه إلى رئيس قسم العمليات التجارية بإحدى الشركات الألمانية الدولية والذي ألحقه بالعمل بالشركة وطلب منه تعلم اللغة العبرية تمهيداً لإرساله للعمل في إسرائيل وعندما فشل في تعلم اللغة العبرية سافر إلى إسبانيا وتزوج من امرأة يهودية مسنة، ثم تعرف على جريجروي شيفيتش الضابط بجهاز المخابرات السوفيتي السابق المتهم الثاني في القضية وعلم منه أنه يعمل في تجارة الأسلحة وكشف له عن ثرائه الكبير ثم طلب منه إمداده بمعلومات سياسية وعسكرية عن مصر وإمداده بمعلومات عن مشروعات استثمارية منها ما هو سياحي وزراعي بمساعدة ابن عمه سامي الفيلالي وكيل وزارة الزراعة، ووافق الفيلالي وبدأت اللقاءات مع ضابطين من الموساد وقد نجح رجال الأمن المصريون في القبض عليه فكانت أشهر قضية تجسس مع بداية عام 2000م وحكم عليه بالسجن 15 عاما.

 

قضية تجسس أخرى أحبطت قبل أن تبدأ وهي قضية مجدي أنور توفيق الذي حكم علية بالسجن 10 سنوات أشغالاً شاقة للسعي للتخابر مع الموساد الإسرائيلي ووجهت له أجهزة الأمن المصري تهمة السعي إلى التخابر مع دولة أجنبية وأيضا تهمة التزوير في أوراق رسمية حيث قام المتهم بتزوير شهادة من الأمانة العامة للصندوق المصري للتعاون الفني مع أفريقيا التابع لوزراء الخارجية تشير إلى عمله كوزير مفوض على غير الحقيقة، واعترف الجاسوس أنه قام بالاتصال بالقنصلية الإسرائيلية بالإسكندرية عن طريق الفاكس مبرراً أنه كان يريد عناوين بعض الأجهزة الدولية

- - امواج بحر الرومانسية - اخر كود من مواضيع العضو --><!-- s

عمار الحرازي07-22-2010, 05:15 AM

قصة هروب الصحفي المصري "نبيه سرحان" من مصر لإسرائيل

سمح له بالسفر إلى ليبيا بشرط عدم مهاجمة مصر

زوجته المصرية ليلى موسى:

vفي أثينا قال زوجي للسفارة الإسرائيلية أريد منكم "ميكروفونا" فقط فأعطوه برنامج "ابن الريف"

صحفي مصري لجا لإسرائيل عام 1968، فغير اسمه من "يوسف سمير" إلى "نبيه سرحان" وأسماء أخرى، وتابع الملايين من الشعوب العربية برنامجا إذاعيا كانت تبثه إسرائيل وموجه ضد مصر والدول العربية الأخرى بعنوان" ابن الريف"، والجميع يذكر حتما أول الكلمات التي كانت تبث في ذلك البرنامج الموجه:"إخواني يا ولد مصر الطيبين……" ابنة الصحفي المصري مطربة إسرائيلية "حياة سمير" ومعه زوجتان، الأولى مصرية "ليلى إبراهيم موسى" عايشت معه رحلة الهروب من مصر إلى إسرائيل والزوجة الثانية فلسطينية من مدينة " حلحول" " عناد رباح" عايشت معه رحلة أخرى في إسرائيل .

وقصة " ابن الريف" غريبة، مثيرة، يصعب توقعها إلا في أفلام " الحرب السرية" الغامضة، ولكنها حقيقة عاشها صحفي مصري ، اختفى 10 سنوات في إسرائيل تحت أسماء مختلفة وقال عن نفسه بأنه يهودي من اصل ليبي، حتى زيارة السادات للقدس، عندما وقف أمام الرئيس المصري الراحل السادات في مطار "بن غوريون" وقال له : أنا هنا في إسرائيل خلف الميكروفون".

ويقول في مقدمة كتابه الأخير" نبيه سرحان معهم في الغربة" أيضا:" وتجدني "أنا المصري" القاطن بين طرفي النزاع وعلى حدود مستوطنة "جيلو".."بيت جالا "، أشاهد بأم عيني، ليل نهار، نيران المدافع الثقيلة والدبابات والصواريخ والمروحيات العسكرية، ترمي بحممها سكان المدينة، بسبب بعض الطلقات من بنادق خفيفة لا تؤثر على الجانب الآخر، وتقابل هذه الطلقات بأقسى الوسائل من إغلاق وحصار للمدن الفلسطينية، والتي تساعد على خنق البقية الباقية حتى من أنفاس السماء، وجثامين تشيع من الجانبين، في كل لحظة، لحظات الألم و المعاناة، من شعبين قدر عليهما أن يعيشا معا، وأنا وزوجتي داخل بيتنا في منطقة "بيرعونا"، في هذه الظروف، وجدتني ابحث عن لقاءاتي مع اخوتي من المغتربين في آخر زياراتي للولايات المتحدة الأمريكية لاضعها في كتاب آخر".

الزوجة المصرية لابن الريف ليلى إبراهيم موسى:

عندما وقعت حرب حزيران 1967 كنت متزوجة من "يوسف سمير " منذ أسبوعين، وشارك في الحرب كمتطوع من الجيش الشعبي، وكنا نسكن في حي "روض الفرج" في منزل خاله، واذكر تلك المرحلة المؤلمة، بعد النكسة فقد تحولت القاهرة لمدينة أشباح، الجميع صامت والسواد في كل مكان، و استشهد في الحرب أعداد كبيرة من المصريين، وانتظرت عودته ولم يرجع، ومرت الشهور، واعتقدت بأنه استشهد في الحرب، وبعد تسعة اشهر وعند الساعة الخامسة صباحا، جاء المنزل والدي، حيث عدت لمنزل الأسرة طبعا في تلك الظروف، وكان عمري 14 عاما، وسمعته يقول لوالدي بأنه كان في سجن " أبو زعبل " بمصر، واخذ يتحدث عن اعتقاله، وكان آنذاك يكتب قصائد شعر ومقالات لإذاعة الشرق الأوسط المصرية، وعندما اندلعت الحرب كان في منطقة القنطرة، وزارهم في الموقع مذيع من الإذاعة، فتحدث "يوسف سمير" وقال:"قل لأحمد سعيد إننا مهزومين، و أن يكف عما يذيعه في الإذاعة من بيانات غير صحيحة، أن ما نسمعه في الإذاعة هو فضيحة".

وعندما سمع قائد الموقع كلامه، أمر الجنود بان يغمضوا عينيه، واقتادوه للسجن، وبقى في السجن تسعة اشهر دون أن يتمكن من إبلاغ ذويه، وبعد عودته، توجهت معه للقاهرة لمنزل خاله حيث كنا نسكن، وكان " يوسف" يائسا جدا، فوجد خاله قد باع أثاث منزلنا، واستولى على البيت وقال له :" لا بيت هنا".

فاضطررنا أن نتوجه للسكن في فندق متواضع جدا، ولم يكن معنا نقود، واخذ يبحث عن عمل، دون جدوى، حتى وافقت مطيعة على طباعة ديوان شعر له ، وطبع له، ولكن الأمن المصري صادر الديوان، فأصبحت الحياة مستحيلة والأبواب مغلقة ، فقرر أن يخرج من مصر، فسارع باستخراج جواز سفر مشترك له و لي، وقررنا السفر إلى ليبيا، في أوائل العام 1968، وكنت حاملا بابنتي "حياة "، وأسرعنا بالسفر برا إلى ليبيا، خوفا من أن يوضع اسمه في الحدود على القائمة السوداء، وكان يفترض عند نقطة الحدود في السلوم أن يتم التدقيق، فنزلنا من السيارة عند منتصف الليل، ونحمل حقائبنا، ومشينا في طرق بعيدة، حتى الساعة الثامنة صباحا، لتجاوز التدقيق الأمني المصري، فوصلنا لاخر نقطة مصرية حدودية، فرفضوا مرورنا، وطلبوا منا العودة لنقطة الأمن السابقة لختم الجواز، وتوسلنا إليهم، وعندئذ أرسلوا معنا سيارة لإيصالنا لختم الجواز، وهناك وجد اسمه ضمن القائمة السوداء، ممنوع من السفر، فعدنا إلى القاهرة، بعد رحلة العذاب تلك بدون جدوى.

وبعد عودتنا للقاهرة، كان " يوسف " محبطا للغاية، وبعنا كل ما نملكه وهي أشياء بسيطة وباع ساعة يده، واصطحبني معه إلى مكتب مسؤول مصري كبير وهو " شعراوي جمعة "، ودفعنا مكتبه وسمعت حوارا بينهما غريب جدا، فقد كان " يوسف " أو " نبيه سرحان " غاضبا جدا، وقال لشعراوي جمعة: "لقد حاولت أن اترك مصر لكم، ولكنكم رفضتم السماح لي بالخروج، لماذا؟ أنا اترك لكم مصر، افعلوا كما تريدون، واتركوني لشأني".

فتدخل سكرتير شعراوي جمعة لإسكات " نبيه سرحان " زوجي، فاسكته " نبيه " ووجه الحديث لشعراوي جمعة: " أنني لا املك أي شيء، تستطيع أن تفعل بي ما تشاء، اعتقلني، اقتلني، ولكن أريد أن أخبرك ، يوجد في جيبي 20 جنيها فقط، سأنزل واشتري مائة متر قماش واكتب عليها " يسقط شعراوي جمعة " واقف بجانبها اسفل مكتبك في الشارع".

ورد جمعة:" انك تتهجم علي، وانك تريد السفر للخارج لتهاجم مصر ولن نسمح لك بذلك".

وبعد حوار ونقاش ساخن، غير شعراوي جمعة من موقفه وقال اسمح لك بالسفر بشرط أن تتعهد بعدم مهاجمة مصر ووافق " نبيه سرحان" على ذلك ووقع على تعهد.

واخذ جواز السفر من جمعة، وقاله إنني سأذهب إلى لبنان كي اطبع كتبي لدى نزار قباني فأنا اعرفه و سيساعدني في ذلك".

وأضافت " ليلى موسى " : " و عدنا وسافرنا مجددا إلى ليبيا، ورفع الحظر الذي كان موجودا على سفر زوجي، ودخلنا ليبيا بشكل طبيعي، فتوجه زوجي وطلب مقابلة الملك السنوسي، وحمل معه كتبه و مقالاته، واصطحبني معه وكنت حاملا، وحالتي الصحية متعبة، وأخذني حتى يتأثر الملك السنوسي لوضعنا البائس، ودخلنا على الملك، ورحب بنا، وقال زوجي للملك السنوسي : لا مكان لي إلا هنا ، وزوجتي حالتها الصحية سيئة، ولا نقود معي. فقال الملك السنوسي : " أنت كاتب جيد، وكتاباتك تقوا انك سياسي اكثر من اللازم، وعلشان خاطر الست المريضة زوجتك، أوافق أن تكتب في جريدة " العلم "الليبية، في كل شيء تريده إلا السياسة لا، أنا على علاقة طيبة مع جمال عبد الناصر ومصر ولا أريد مشاكل مع أحد". وفعلا عمل زوجي في صحيفة " العلم" الليبية، واستأجرنا منزلا، وتحسن الحال، ولكنه لا يستطيع أن يبقى هادئا، فكتب مقالا في جريدة " العلم " الليبية أوصلنا لإسرائيل وهاجم في مقاله مصر، وكانت المخابرات المصرية آنذاك تتابع صحيفة " العلم "، فاحتجت مصر لدي الملك السنوسي، وخلال 24 ساعة أمر الملك السنوسي بطردنا من ليبيا، وتم إبلاغنا بقرار الإبعاد، وقالوا لنا : " لن نسلمكم لمصر، واختاروا أي دولة أخرى تريدون الذهاب لها". وسافرنا بالطائرة من مطار ليبيا ولم تقبلنا أي دولة أوروبية وننام في المطار ثم نعود لمطار طرابلس، وهكذا، حتى نفذت نقودنا، وقاموا في مطار ليبيا بجمع ثمن تذكرة سفر لنا من المسافرين، وآخر رحلة توجهنا بها إلى اليونان، وسمحت اليونان لنا بالدخول، ونحن في حالة يرثى لها، وأنا ما زلت حامل، وصحتي في تدهور بسبب الظروف التي واجهتها، وتطلب الأمر نقلي للمستشفى في أثينا، ثم خرجت من المستشفى، ومشيت مع " نبيه " مساء في ميدان بأثينا، وفجاءة تقابل زوجي مع دبلوماسي كوبي يعمل في السفارة الكوبية في مصر، ويعرفه " نبيه " فسلم عليه، وأعطاه الدبلوماسي عنوان الفندق الذي ينزل به، وذهبنا إليه، وتحدث زوجي عن مشكلته، فقال الدبلوماسي الكوبي : " لن تقبلك أي دولة كلاجئ، لا دولة عربية ولا أفريقية إلا دولة عدو مصر".

ويبدو أن زوجي اصبح يفكر بنفس الاتجاه، وبدون علمي، توجه لسفارة إسرائيل في أثينا، وطلب مقابلة القنصل، ولحسن حظه، قابل القنصل الإسرائيلي "ايلي دويك"، وهو يهودي من اصل مصري، وعاش فترة طويلة في مصر، ودرس في الجامعات المصرية ، أي انه وجد من يفهمه، ورحب به القنصل الإسرائيلي، وطلب زوجي اللجوء لإسرائيل، وقال للقنصل لا أريد منكم سوى " ميكروفون" ويقصد العمل الإذاعي".

وقالت زوجة الصحفي المصري : "طلب القنصل الإسرائيلي من زوجي، الانتظار حتى يأتي رد تل أبيب، فالمسالة ليست سهلة، وتأخذ وقتا، وجاءت موافقة مبدئية، ووضعه الإسرائيليون في أثينا على جهاز "كشف الكذب"!، وتمت الموافقة لعدة شهور، وخلال تلك الفترة كان يرسل لإذاعة إسرائيل، أشعارا ومسلسلات درامية إذاعية، وفي بداية العلاقة مع القنصل الإسرائيلي أعطاه الدبلوماسي الإسرائيلي 300 دولار لنفقاتنا".

 

وحول موقفها اتجاه اللجوء إلى إسرائيل قالت ليلى:" بعد أن ذهب للسفارة الإسرائيلية في أثينا، جاءني وابلغني بما حصل فصعقت وثارت ثائرتي، كيف تأخذني لإسرائيل، لمن قتلوا أبناءنا، هؤلاء الصهاينة القتلة، أنا أريد أن أعود إلى مصر مهما كان الأمر" فقال لي : " أنا لا أستطيع العودة لمصر، قرري ماذا تريدين، أما السفر معي لإسرائيل أو تعودي بمفردك إلى مصر".

وجدت نفسي أمام خيار صعب جدا، وفي النهاية وافقت على الذهاب معه لإسرائيل، ولكن بقينا شهورا في أثينا وهنالك موافقة إسرائيلية لدخولنا إسرائيل، فماذا ننتظر؟ وبدأت ألح على زوجي، خاصة أنني على وشك الولادة، واخذ من جانبه يضغط على السفارة الإسرائيلية، حتى تقرر سفرنا لإسرائيل وكنت في الأيام الأولى من الحمل بالشهر التاسع بابنتي" حياة "، ودخلنا إسرائيل، وأدخلوني المستشفى، وتمت الولادة، وعرضوا علينا الإقامة في " تل أبيب" فرفضت ذلك، وقلت للإسرائيليين إما أن نسكن في القدس أو نعود من حيث أتينا، فوافقوا، ومنذ ذلك الوقت ونحن نسكن في هذه البقعة الطاهرة قرب المسجد الأقصى".

وردا على السؤال لماذا اختفى زوجها خلف أسماء مزيفة قالت ليلى : " لقد اشترط علينا الإسرائيليون الصمت التام، وأن لا نقول أبدا بأننا مصريون خوفا على حياتنا والتزمنا الصمت 10 سنوات، وطلبوا منا أن نعرف على أنفسنا في المجتمع الإسرائيلي بأننا يهود من اصل ليبي، مهاجرون لإسرائيل، وبقينا بهذه الصورة حتى زيارة السادات للقدس. لقد صمت عشر سنوات كاملة، لم أتحدث و أنا منذ ثلاثين عاما وأنا أعيش على أمل العودة لمصر، أصبحت أعيش مثل الشعب الفلسطيني والذي يحلم بالعودة لبلده.."

وحول لقاء زوجها مع الرئيس السادات قالت:" عندما جاء الرئيس الراحل السادات في زيارته التاريخية للقدس، ذهب زوجي" نبيه سرحان " إلى مطار بن غوريون، كمذيع في الإذاعة الإسرائيلية، وهناك وجد زملاءه المذيعين والصحفيين وغيرهم ممن يعرفهم، وقد اصبحوا في مراكز كبيرة مسؤولين أو إعلاميين ضمن الوفد المرافق للرئيس السادات، وكان اللقاء بينهم حارا و حميما، فلم يكن أي منهم يعرف انه في إسرائيل ، كانوا يعتقدون انه في ليبيا، وصافح الرئيس السادات، فقال له الرئيس الراحل السادات : "أين اختفيت ،كنا نعتقد انك في ليبيا ، أنت سبقتني لإسرائيل".

وعندها سمعت الصحافة الإسرائيلية بالموضوع فكتبت خبرا صغيرا " مصري يكتشف عندنا في إسرائيل".

 

وردا على السؤال أن كان الرئيس السادات وافق على عودتها وزوجها لمصر فقالت : " لقد استغل زوجي زيارة الرئيس السادات لإسرائيل، وطلب منه الإذن بعودتنا أو زيارتنا لمصر، فوافق الرئيس السادات، ورحب برجوعنا، فذهبت للسفارة المصرية وطلبت تأشيرة دخول، وبعد كفاح طويل لعام ونصف، حصلت على الموافقة، وسافرت مع أولادي لمصر وبقي زوجي ولم يذهب معنا ، وقضينا أسبوعين في مصر ، وتجولنا في الأماكن السياحية وزرنا أقاربنا، ولكن الأولاد رفضوا العيش في مصر رغم إلحاحي عليهم، واثروا العيش في إسرائيل، وجميعهم اصبحوا فنانين، فابنتي" حياة " مطربة، وابني " سامي " ممثل، والبنات موسيقيا تدرسن جميعهن في الأكاديمية الموسيقية الإسرائيلية".

عمار الحرازي07-22-2010, 05:23 AM

ثعبان وحية في شوارع بغداد..!!

ناجي زلخا ـ الجاسوس اليهودي الذي قتل الطيارالعراقي لرفضه التعامل مع اسرائيل

عندما رآها مقبلة هتف في نفسه:

"يا الهي ... من أي سماء أتيت؟ ... ومن أي بطن ولدت؟ ... أمثلك يمشي على الأرض مثلنا ويلوك الشعير ؟؟".

ولكي يفوز بها، اشترط أبوها مهراً غالياً.. خيانة الوطن. فتزوجها... واستطاعت بأنوثتها الطاغية، أن تجند "جيشاً" من الخونة.

ومثلما قتلت زوجها عشقاً.. وخضوعاً... قادها هو بنفسه إلى حبل المشنقة، ليخنق الحب والجمال ... والحياة.

ويسدل الستار على أغرب قصة حب بين ثعبان وحية... داخل حجرة الإعدام... !!

كلهم عيزرا

بانكشاف أمر الدكتور عيزرا خزام وأعوانه، توإلى سقوط شبكات الموساد في العراق، نتيجة الخطأ الجسيم في نظام الاتصال بين الشبكات.

ذلك الخطأ الذي أفاد العراقيين، ومكنهم بسهولة من كشف تسع شبكات دفعة واحدة، مما أحدث فراغاً مخابراتياً كبيراً في إسرائيل، بسبب توقف سيل المعلومات عن الحياة المختلفة في العراق.

كان "عيزرا ناجي زلخا" أحد هؤلاء الرؤوس.. واحداً من أشرس الجواسيس وأمهرهم، الذين قادوا الصراع بالأدمغة بين المخابرات الإسرائيلية والمخابرات العراقية...

فهو يهودي عراقي، ماكر كالثعلب، وديع كالأرنب، شرس كالنمر ذو ألف مخلب، سهل جداً أن يتلون كالحرباء وفقاً للظروف والمواقف، لكنه على كل حال ثعباني الخطر، قلما يفلت مخلوق من لدغته.

ولد عيزرا ناجي زلخا بالموصل شمالي العراق أو يناير 1927، وحصل على شهادة متوسطة أهلته للعمل موظفاً في أرشيف وزارة التجارة ببغداد.

تعرف بمعلمة يهودية اسمها "ملاذ" في المعبد اليهودي، لا تحمل قدراً كبيراً من الجمال، لكنها رقيقة تفيض عذوبة وحناناً... فأحبها بإخلاص وتزوجا عام 1952، وعاشا معاً هانئين ترف حولهما السعادة، إلى أن أصيبت فجأة بالحمى التيفودية التي سرعان ما فتكت بها، ورحلت بعد عام واحد من الزواج، فعاش حياته من بعدها وحيداً، مهموماً، منشغلاً عن متع الحياة بالسباحة في بحر الذكريات.

أشفق عليه نفر من صحبه، وفي محاولة لمساعدته ليخرج من محنته، دفع دفعاً للعمل فترة مسائية بأحد المختبرات الطبية، فاستنزفه العمل ليل نهار، لكنه برغم ذلك، ظل وفياً لزوجته الراحلة، لم يغتنم فرصة واحدة للتجاوب مع اية امرأة أخرى تتقرب إليه.

وفي أحد الأعياد اليهودية، حمل باقة زهور إلى قبرها، استند برأسه إلى جدار القبر، وهجمت عليه الذكريات كالأعاصير. فاستغرقته تماماً، وتلبد حاله لينخرط في بكاء مرير، حفرت دموعه التخينة أخدودين نازفين على خديه.

التفت فجأة إلى صاحب اليد الحانية التي تربت على كتفه، فوجد رجلاً قارب الستين نحت الزمن آثاره على وجهه. جذبه الكهل فمشى إلى جواره يقص عليه حكايته، وأحزانه فتأثر الرجل وطالبه بالصبر، وأخذ يقص هو الآخر حكايات ومأثورات ليخفف عنه، ثم حدثه عن نفسه وعن زوجته فائقة الجمال، التي ماتت هي الأخرى في شبابها وهي تلد، فلم يعثر على من تماثلها جمالاً، وعاش بلا زوجة واهباً حياته لابنته الوحيدة التي أنجبها.

كان اليهودي الكهل – واسمه "بوشاط – يعمل تاجراً متجولاً بين أحياء بغداد الشعبية، يبيع بضائعه المختلفة بالأجل، فاشتهر بين النساء الفقيرات اللاتي أقبلن على سلعه، باسمات فرحات بحديثه العذب، ومداعباته الرقيقة لأطفالهن.

وكانت زيارة عيزرا لبوشا لأول مرة... بداية مثيرة لقصة من قصص الحب، والجاسوسية، والتوحش.

فبوشا التاجر المتوسط الحال، وقع منذ زمن في شرك الجاسوسية، وانضم لإحدى الخلايا السرية التي تعمل لصالح إسرائيل. وكانت مهمته جمع المعلومات عن فقراء اليهود في الأحياء الشعبية، ظروفهم المعيشية، وأعدادهم، وتعليمهم، وحرفهم، واتجاهات الرأي عندهم في مسألة الهجرة. فكان لذلك يكثف من زياراته للأحياء اليهودية ليكتب تقاريره عنهم. ويتردد على القبور لتصيد الأخبار من أفواه المكلومين، دون أن تعلم ابنته بنشاطه التجسسي، أو يحاول هو جرها إلى العمل معه.

ذهب عيزرا مطمئناً إلى صديقه الجديد بوشا الذي استقبله بترحاب كبير، وصارحه بأنه مغتبط لوفائه العظيم لزوجته الراحلة مثله. ونادى على ابنته، فأقبلت... أقبلت "روان"... كأنما أقبلت معها رائعات الحياة جميعها، وتجمعت في وجهها الرائق الصافي الساحر.

كالأبله فغر فاه، لا يصدق أن هناك من بني البشر من هي بمثل ذلك الجمال الفتان.

مدت يدها مرحبة بالضيف فارتبك عقله، إذ سلب بريق عينيها النجلاوين ما بقي عنده من إدراك. ومست أصابعها يده فمست فؤاده... ووجدانه.. حتى النخاع... وهتف في نفسه:

"يا الهي ... من أي سماء أتيت... ؟ ومن أي بطن ولدت.. ؟ أمثلك يمشي على الأرض مثلنا ويلوك الشعير .. ؟... !!"

رجع عيزرا إلى مسكنه إنساناً آخر، يشعر في قرارة نفسه بأن ابنة بوشا دحرته، وانتصرت على ذكرى الراحلة. فها هي قدماه تقودانه رغماً عنه إلى "روان". وها هو القلب يدق كلما ذكرها في خياله، أو جلس قبالتها، إن شرايينه عادت تنبض بالعشق من جديد، في تحنان وانتعاش، حتى الحياة كلها من حوله، تبدلت فيها الصور... وتجملت.

زار بوشا ذات مساء وكانت روان بمفردها ... دعته ابنة السابعة عشر للدخول فلبى، وجلس اليها كالتلميذ الغبي البليد الذي يجهل النطق والكلام.

تمنى لحظتئذ أن يصارحها بحبه. أن يضمها بين أحضانه ويدفن رأسه بين شعرها المنسدل كأستار الليل، أن يلثم أناملها وراحة يدها، ويتأمل هذا الوجه الساحر عن قرب.

استجمع جرأته وسألها هل تقبل به زوجاً، ضحكت كطفلة بريئة ملأى أنوثة، وقالت له: إن هذا الأمر بيد والدها لا بيدها، فصارح بوشا برغبته، ولحظتها... ضحك العجوز ساخراً، وسأله كم ديناراً يملك مهراً لها؟

فأجابه عيزرا بأنه يدخر ألف دينار، ولديه سكناً وعملاً حكومياً، وراتبه يفي بمتطلبات الحياة الزوجية.

قهقه اليهودي الذي يدرك مدى هيامه بابنته، وأخبره أن مهر ابنته الوحيدة عشرة آلاف لا تنقص ديناراً واحداً.

وجم عيزرا العاشق الموله، وغادر المنزل مقهوراً، تسبح روان بدمه وتسيطر على عقله، وفؤاده، وأعصابه.

مرت به ليال طويلة مريرة وهو يفكر ما العمل؟ وصدق حدس بوشا عندما زاره عيوزرا عراضاً ألفي دينار مهراً لروان.

سأله العجوز بخبث عن مصدر الألف الثانية فقال إنه تقدم إلى العمل بطلب "سلفة" تخصم من راتبه. ولما رفض طلبه للمرة الثانية، عرض عيزرا أن يستكتبه صكاً بألف دينار أخرى. لكن بوشا وافق أن تكون قيمة الصك ثمانية آلاف دينار.. على شرط.

سأله عيزرا عن شرطه الأخير، فأحكم اليهودي الخبير خنقة الشد، عندما عرض عليه مساعدته في إقناع من يعرفهم من اليهود للهجرة إلى إسرائيل، فإن تحديد موعد زواجهما مرهون بمدى ما يبذله من جهد في هذا المجال.

وافق عيزرا على الفور طالما أزيلت عثرة المهر، أما مسألة هجرة اليهود فذاك أمر واجب ولا يعد تضحية في نظره. فالدولة اليهودية كانت عبر إذاعتها العربية، تبث دعايتها ليل نهار بأحقية يهود العالم في أرض الميعاد. وهو كيهودي... تمنى أن يسافر لإسرائيل ليراها فقط قبل أن يقرر. فالدعاية المضادة في الإعلام العربي، كانت تصف إسرائيل أنها دولة الإرهاب والمذابح، وتصور الحياة بها كأنها الجحيم، وتنشر الكثير من الحوادث المؤسفة، تفضح إدعاءات إسرائيل التي واجهت كل ذلك بالرفض والاستنكار، متهمة الإعلام العربي بأنه يكذب، ويدعي، ويتحايل، لخداع اليهود، والكذب عليهم ليحجموا عن الهجرة.

كانت الحرب الدعائية دائماً في حالة غليان لا يتوقف. وكان إيمان عيزرا ناجي زلخا بقضية الوطن – إسرائيل – مزعزعاً. فهو ما عرف سوى العرق وطناً... آمناً، يضم عشرات الآلاف من اليهود على أرضه، وينعمون جميعاً بالحرية والأمن.

وتساءل: لما لا تكون إسرائيل صادقة فيما تدعيه؟ أن اليهود عاشوا على أرض فلسطين منذ آلاف السنين، ولهم حق تاريخي في فلسطين. فلماذا يحاربهم العرب؟

ثم ماذا سيخسر ليكسب روان... ؟ إن مجرد "إقناع" بعض اليهود بالهجرة ليس بالأمر الصعب. فالفقراء الذين سيتكلم معهم، يحسون بالضيق لسوء أحوالهم المعيشية، وقد يروا في الهجرة مخرجاً لهم من أزمتهم . إذن... ماذا سيخسر؟

هكذا استطاع بوشا اصطياد عميل جديد للموساد، يعمل "مجاناً" عن قناعة ... واثقاً من إخلاصه للعمل، لكي يفوز بابنته الرائعة بعد ذلك... !!

جاسوس للبيع

كانت باريس في ذلك الوقت من صيف 1960 تضج بالحياة والحركة والجمال... حيث يرتادها مشاهير العالم بحثاً عن الجديد في عالم الأزياء... أو لالتماس الهدوء بين ربوعها... وتنتشر بشوارعها شتى الوجوه والألوان والغرائب... فهي عاصمة النور في أوروبا... ومأوى الفن ... وملاذ الصعاليك... وهواة تصيد الفرص على مقاهيها... وايضاً... وكر آمن لصائدي الجواسيس والخونة لكل أجهزة المخابرات.

نزل بهجت حمدان بفندق "ستار" بوسط المدينة .. وهو فندق بسيط يرتاده شباب المغتربين – وغالبيتهم أفارقة وآسيويون – لرخص سعره ولقربه من قلب العاصمة حيث المطاعم الرخيصة والمقاهي ... وسهولة المواصلات.

ومنذ وطئ بهجت فرنسا ضايقته مشكلة اللغة... فهو يتكلم الألمانية بطلاقة وبعض الانجليزية... أما الفرنسية فكان يجهل مفرداتها البسيطة التي لا تمكنه من التحرك بثقة وسط أناس يرفضون التعامل بغير لغتهم.

وفي اليوم التالي فوجئ بموظف الاستقبال يرحب به باهتمام... وتحدث معه بالعربية السليمة... واصفاً له السنوات التي قضاها في بورسعيد موظفاً بإحدى شركات الملاحة حتى غادرها إبان أزمة 1956.

كان الفرنسي اليهودي يعمل مخبراً لرجال الموساد في باريس... تنحصر مهمته في التعرف على العرب النازحين الباحثين عن عمل... أو أولئك الذين قدموا للسياحة أو الدراسة ... ويتولى بعد ذلك تقديمهم – كل حسب حالته – إلى رجال الموساد ... فلما اطلع على ظروف بهجت أدرك بأنه صيد سهل ... فهو يمر بأزمة مالية ويواجه مشاكل مع زوجته الألمانية بسببها... فضلاً عن وظيفته السابقة في مصر التي قربته من الكثيرين من رجالاتها في مختلف المواقع.

لذلك ... رتب له دعوة للعشاء بأحد المطاعم الراقية... وهنا قدمه إلى صديقه "جورج سيمون" ضابط الموساد الذي ظهر بشخصية رجل الأعمال...

استشعر بهجت الأمان بعض الشيء... واطمأن باله وهو يتجاذب بالألمانية أطراف الحديث مع جورج سيمون... وطال الحديث بينهما في مجالات كثيرة تخص أحوال مصر اقتصادياً وتجارياً... حتى تطرقا إلى مشروع "الخمس سنوات" وفوجئ سيمون بمحدثه يخبره بأنه يمتلك ملفات كاملة عن المشروع يحتفظ بها في القاهرة... وكذا تقارير اقتصادية خطيرة تدرسها الحكومة المصرية خاصة بوزارة الاسكان.

وبعد عدة لقاءات وسهرات في النوادي الليلية – بأموال الموساد بالطبع – قام جورج سيمون أثناءها بعملية "تشريح" متكاملة لفريسته... من حيث ميوله ورغباته ونقاط ضعفه... فتبين له أن الشاب المصري المفلس "يعبد القرش" .. ولديه أسباب قوية لأن يطرق كل السبل من أج الحصول على المال.

لذلك لم يكن من الصعب استقطابه .. وإحاطته بشعاعات من أمل في العمل والثراء... وجاء الرد حاسماً من تل أبيب: "مطلوب تجنيده وبأي ثمن".

وكان الثمن زهيداً جداً عندما سلمه عميل الموساد ألفاً وخمسمائة فرنك فرنسي .. على وعد بإيجاد عمل محترم له إذا ما كتب تقريراً وافياً عن مشروع "الخمس سنوات"... والخطوات التي تمت بشأنه... والمعوقات التي تواجه مصر في تنفيذ سياساتها الاقتصادية... وكانت هذه الخطة أولى محاولات تجنيد بهجت حمدان.

إن عملية تجنيد جاسوس جديد تعد من أكثر النشاطات المخابراتية صعوبة وخطورة... ومنذ اللحظة الأولى في هذه العملية يجد صائد الجواسيس نفسه في موقف صعب... فالشخص الذي اختاره لتجنيده ربما يفطن إلى الحيلة ... وبذلك فقد كشف عن شخصيته له قبلما يتأكد من استجابته.

لذلك... فالمهارة هنا لها الدور الأساسي في عملية تجنيد الجواسيس الجدد.. بمعنى أن العميل يجب أن يكون واثقاً من تقديره للموقف... وأن يكون حذراً للغاية حتى يتمكن من التقهقر في الوقت المناسب إذا ما حالفه الفشل..

ولكي يضمن جورج سيمون إحكام حلقته حول بهجت حمدان ... رتب له لقاءً حاراً في "مصيدة العسل" مع سكرتيرته المتفجرة الأنوثة... وهذا الأسلوب تميزت به الموساد عن سائر أجهزة المخابرات للسيطرة على المطلوب تجنيدهم .. وتفننت في استخدامه بتوسع ...حيث يتم تصوير هؤلاء في أوضاع شاذة .. وتسجيل حوارات سياسية تدينهم ... فتنهار أعصابهم حين مواجهتهم ولا يستطيعون الخلاص أو الفكاك.

وما إن ووجه بهجت بالأفلام العارية التي تحوي مشاهد مؤسفة .. وأحاديث مليئة بالسباب للعرب وقادتهم... حتى بهت الصياد وتفصد عرقاً ... نعم .. بهت لأنه فوجئ بما لم يتوقعه أن يحدث له من قبل.

لقد صرخ بهجت حمدان في وجهه .

الصفقة الناجحة

كان اللعب قد أصبح مكشوفاً بين الصياد والفريسة... وكانت الخطة تقتضي أولا أن يسافر بهجت إلى فرانكفورت حيث الانطلاقة من هناك ... بعد ذلك يتم عمل "ساتر" يختفي وراءه.

وفي فرانكفورت استقر الجاسوس الجديد بأحد فنادقها... وأرسل إلى زوجته إنجريد فأسرعت اليه سعيدة بقدومه... وأنبأها بأنه التقى في باريس برجل أعمال كبير وعده بإيجاد عمل له في بورصة الأوراق المالية... ومكثا معاً عدة أيام في نزهات خلوية صافية ... إلى أن زاره "صموئيل بوتا" الخبير في أعمال البورصة والتجارة الدولية.

بدأ بوتا في تعليم بهجت كل ما يتصل بأعمال البورصة ودراسة السوق المصرفية، وعرفّه بالعديد من رجال الأعمال وهيأ له المناخ الملائم لكي يستوعب هذا النوع من العمل الذي يتطلب قدراً عالياً من الذكاء والمهارة ... وناضل ضابط المخابرات الاسرائيلية من أجل خلق رجل أعمال مصري ناجح .. للدفع به في الوقت المناسب إلى مصر ... فيتعرف على علية القوم ورجال الأعمال بها... مما يتيح له التغلغل بين الأوساط الراقية وذوي المناصب الحساسة.

إن المخابرات الإسرائيلية لا تصرف الآلاف من نقودها هباءً... بل تدرك بحق أن المنافع التي ستعود عليها بعد ذلك ستكون رائعة.

واستمراراً لخطة صنع جاسوس محترف ... انتقل بهجت إلى مدينة "بريمن" حيث قدمه بوتا للعديد من أصحاب شركات البترول والتجارة... وعمل لديهم لبعض الوقت فاكتسب خبرات هائلة... وصداقات متشعبة بصفته مواطن الماني متزوج من ألمانية.

وفي عام 1967، تأكد للإسرائيليين أن "الجاسوس النائم" بهجت حمدان أصبح ذا دراسة وعلم كبيرين بأمور التجارة الدولية... وأعمال البورصة.. تعضده جنسيته الألمانية في اقتحام مجالات التجارة والتصدير في أسواق الشرق الأوسط دون أية شكوك أو صعوبات تعترض طريقه.

وابتدأ عمله التجسسي بأن أرسل لشركة "مصر للبترول" يعرض عليها استيراد شحنات من البترول المصري بصفته مندوباً لإحدى الشركات الألمانية... وسافر إلى القاهرة ليدرس العرض مع الشركة ..

كانت نكسة يونيو قد تركت آثارها على شتى النشاطات في مصر .. وحطمت المناخ العام شعبياً وعسكرياً وسياسياً ... وفي القاهرة أخبره والده بأنه مني بخسارة فادحة في تجارته ... فأغدق بهجت على أسرته بالهدايا الثمينة في كل مرة يجيء فيها إلى القاهرة للتفاوض مع الشركة.

وبرغم فشله في عقد صفقة واحدة مع مصر للبترول بسبب طمعه في نسبة عمولة عالية .. اتجه – بتوجيه من بوتا – إلى تجارة السلاح ... فدرس هذا المجال باستفاضة ...وأخذ يبحث كيفية تقديم عروض للدول العربية لبيعها صفقات أسلحة ... خاصة .. وظروف المنطقة المشتعلة بالصراع تتطلب ذلك.

أعجبته الفكرة تماماً... وابتدأ بالأردن، لكنه فشل في أولى محاولاته لأن الأردن لا يبتاع السلاح عن طريق وسطاء. فعاد إلى القاهرة يحدوه الأمل في النجاح هذه المرة... وتقدم إلى المسؤولين بعدة عروض لتوريد بعض المهمات والمعدات اللازمة لقطاعات هامة في الدولة... وفوجئ بموافقة مبدئية على أحد العروض... ولكن طلب منه تأكيد جدية العرض باستيفاء بقية الأوراق... ومنها سابقة الأعمال.

كان بوتا – وهو الضابط الخبير – قد احترز جيداً في عمل "الساتر" للجاسوس المتحمس... وقام بتكوين شركة مساهمة تحمل اسم "نورد باو" للأعمال الإنشائية والتوريدات ... مديرها بهجت حمدان ورئيس مجلس إدارتها "ألبرت فيزر" ضابط المخابرات الاسرائيلي الذي يحمل جواز سفر ألماني... وكان هذا الساتر مأمن لبهجت ونقطة ارتكاز لتثبيت أقدامه... بعيداً عن شكوك رجال المخابرات المصرية الذين يتشككون في كل شيء...

وبناء عليه ... سافر بهجت حمدان إلى ألمانيا لإطلاع بوتا على سير الأمور... وكان على ثقة من نجاح الصفقة التي سيربح من ورائها عشرات الآلاف... فهنأه بوتا على الصفقة الجديدة وأمده بسابقة أعمال وتوريدات مزورة حملها إلى الحكومة المصرية... واصطحب معه ألبرت فيزر لمناقشة الأسعار المقدمة.

وفي القاهرة طلب المسؤولون منهما عينات ومبلغ 20 ألف دولار كتأمين ... وتمت الصفقة في نجاح أذهل الاسرائيليين... ذلك لأن عمليهم المدرب نال ثقة المسؤولين المصريين على اعتبار أنه مصري يسعى لخدمة وطنه.

بائع الوطن

لم تضيع الموساد وقتاً... فظروف عميلها بهجت حمدان في القاهرة تتيح له العمل بأمان ونشاط ... وكان عليها استثماره جيداً ليس بإمدادها بمعلومات فقط... بل بتكوين شبكة واسعة من أتباعه الذي يلمس ظروفهم عن قرب وينتقيهم بنفسه.

نظر بهجت حواليه وبدأ ينصب شباكه حول أولى ضحاياه... وهو المهندس محمد متولي مندور زوج شقيقته... الذي يعمل بشركة المقاولون العرب بمنطقة القناة، ونظراً لظروفه المادية السيئة فقد كان من السهل اصطياده بدعوى توفير فرصة عمل له في الخارج بواسطة شريكه "فيزر" في حال نجاح مشروعاتهما المرتقبة في مصر.

لأجل ذلك... تفانى مندور في خدمة الخائن وشريكه... ولكي يضمن كسب ودهما أكثر وأكثر استجاب لرغبتهما وأطلعهما على أسرار بعض العمليات الإنشائية السرية التي تتم على الجبهة بواسطة شركة المقاولون العرب.

طمعت الموساد في الحصول على رسومات هندسية لتصميمات الدشم والقواعد والمطارات العسكرية التي تقوم بها الشركة. ولتنفيذ ذلك – تعمد بهجت الابتعاد قليلاً عن مندور ومماطلته في أمر تشغيله في الخارج... وأخيراً، صارحه بأن شريكه يريد الاطمئنان على مدى كفاءته وخبرته. وطلب منه بعض الرسومات الهندسية العسكرية للإطلاع عليها لتأكيد مدى تميزه وخبرته في العمل والوقوف على مستواه العملي... فلم يعترض مندور وسلمه بالفعل الكثير من هذه الرسومات التي تعتبر سراً عسكرياً هاماً لا يجب البوح به... بل تمادى في شرح الأعمال الإنشائية التي يقومون بها على خط القنال وبمناطق أخرى بالصعيد والوجه البحري. وكان بهجت يسأله بخبرة الجاسوس الخبير ويسجل أقوال صهره أولاً بأول وينقلها إلى "فيزر" الذي لا يكف عن طلب المزيد والمزيد من المعلومات والرسومات.

وفي يوم الجمعة 22 مايو 1969 عاد بهجت من ألمانيا يحمل قائمة طويلة من أسئلة الموساد ومطلوب إجاباتها من خلال المهندس مندور.

من أجل ذلك... أخبره بهجت بأنه في سبيل الحصول على موافقة نهائية من الشركة للعمل بها براتب قدره مائتي جنيه مع إن راتبه حينذاك كان لا يتعدى "25" جنيهاً شهرياً.

. وبالتالي أراد مندور ألا يضيع هذه الفرصة التي ستبدل حالته المتعثرة إلى نعيم وازدهار... فتمادى في إمداده بعشرات اللوحات الهندسية والتصميمات العسكرية السرية جداً، ومعلومات غاية في الدقة سجلها الجاسوس واحتفظ بها لدى شقيقته الأخرى. ليسافر بها إلى ألمانيا.

ولكي يوسع من شبكة الجاسوسية بدأ بهجت يحوم حول جمعة خليفة المحامي صديق العائلة. وبإغراءات تعيينه مستشاراً قانونياً للشركة في مصر وتسفير ابنه لإكمال تعليمه في ألمانيا – دخل أخيراً وكر الجواسيس. وسافر إلى بون لرؤية ابنه الذي يدرس الهندسة بالفعل. وجلس مع فيزر لعدة جلسات يتناقشان في العقبات القانونية التي تقف أمام الشركة في مصر. واكتشف ضابط الموساد أن جمعة تربطه علاقات قوية برجال يشغلون مناصب رفيعة. فكلفه بالبحث عن بعض العسكريين "الكبار" الذين يتركون القوات المسلحة لاستخدامهم كمستشارين فنيين.

كان الغرض من ذلك تكوين شبكة تجسس قوية من خلال هؤلاء العسكريين... واستدراجهم في الحديث للإفصاح عن الأسرار العسكرية دون أن يعلموا أن كل كلمة ينطقون بها تصل رأساً إلى الموساد.

هؤلاء القادة العسكريون كانوا حلم الأحلام بالنسبة لبهجت. إنهم سيمنحونه شلالاً متدفقاً من المعلومات الغزيرة التي لا تنتهي . حيث سيمنحهم رواتب ضئيلة قياساً بآلاف الجنيهات التي ستملأ جيوبه.

في هذه الأثناء كانت إنجريد زوجته الألمانية تعيش حياة رغدة في ألمانيا... وتسكن شقة فاخرة في شارع راينهارت وتقود بنفسها سيارتها ماركة فورد، وتزخر شقتها بأروع التحف وأجمل السهرات مع صويحباتها... يملؤها الفخر بزوجها رجل الأعمال الناجح الذي أغدق عليها حباً ومالاً وهدايا ثمينة من كل بقاع الأرض.

زادت الأموال بين يدي بهجت حمدان فازداد إنفاقه وازداد طمعه... وسيطرت عليه شهوة المال الحرام فسعى إليه يطالبه ببيع أمنه وطنه وأرض وطنه وأهل وطنه... دون أن تتحرك لديه نبضة من ندم أو خلجة من شعور.

بهجت حمدان اصطاد قائده

كانت إسرائيل في تلك المرحلة وبعد انتصارها في يونيو 1967 تبث دعايتها على أنها ذات جيش لا يقهر ... وكانت طائراتها الحربية تصعد عملياتها الهجومية لتمتد إلى طول الجبهة من قناة السويس شمالاً إلى خليج السويس جنوباً. في ذات الوقت الذي استخدمت فيه قوات الكوماندوز المحمولة جواً في عمليات جريئة واسعة النطاق في عمل الأراضي المصرية ، فأظهرت أوجه الخلل والعجز في النظام الدفاعي المصري وأصيب عبد الناصر بعدها بأزمة قلبية من فرط الغضب والانفعال.

ففي الساعات الأولى من ليل 1/11/1968، استخدم العدو طائرات الهليوكوبتر بعيدة المدى من طراز "سيكورسكي"، و "سوبر فريلون"، في اختراق الدفاعات الجوية، والوصول إلى منطقة نائية في تجمع حمادي، ودمر أحد الأبراج الرئيسية لكهرباء الضغط العالي بأسلاكه، فانقطع التيار الكهربائي عن القاهرة والوجه البحري شمالاً. وكان الغرض من العملية هو إحداث الشلل في مصادر الطاقة في مصر.

كان الجاسوس بهجت حمدان يشعر بنشوة غامرة كلما دكت طائرات العدو قواعد الجيش المصري... الذي لم تقف قيادته عاجزة بشكل كلي عن التعامل مع العدو. بل واجهته لحد كبير بنفس أسلوبه.. وهاجمته في منطقة شرقي الدفرسوار وكبريت وأغارت عليه في مقر داره ودمرت قطعه البحرية في إيلات.

كل ذلك وكانت آلة الدعاية اليهودية تعمل بكفاءة شديدة وتبث الإحباط في نفوس العرب، من أجل إرهابهم إذا ما أقدموا على عمل حربي موسع ضد إسرائيل.

وبينما كانت القوات المسلحة تعيد تنظيم صفوفها... كانت المخابرات العامة المصرية تراقب تحركات بهجت يوسف حمدان .. الذي قدم إلى مصر وغادرها اثنتى عشرة مرة إلى ألمانيا. ولاحظ رجال المخابرات كثرة لقاءاته بصهره المهندس مندور وجمعة المحامي... وبعض رجال القوات المسلحة السابقين.

وبعد مراقبات وتحريات مكثفة ... تبين لرجال المخابرات أن هناك شبكة تجسس يرأسها بهجت... وعلى الفور جرى اعتقالهم جميعاً يوم 2 يونيو 1969، وفي مبنى المخابرات العامة ، ووجه بهجت بأدلة تجسسه فانهار في خلال عدة ساعات، وأفصح عن دوره الحقيقي ودور كل فرد من أفراد شبكة التجسس.

ومن مبنى المخابرات أرسل إلى فيزر طالباً منه الحضور إلى القاهرة على وجه السرعة... حيث وافقت الحكومة المصرية على العروض المقدمة إليها وأنه بانتظاره للتوقيع على العقود وبدء النشاط، وعندما جاء فيزر كانت المخابرات المصرية بانتظاره على سلم الطائرة..

وأثناء التحقيق مع أفراد الشبكة بواسطة العميد إسماعيل مكي ظهرت مفاجأة لبهجت... إذ اكتشف أن ضابط المخابرات الإسرائيلي "بوتا" يهودي مصري عاش بالإسكندرية وغادر مصر بعد عدوان 1956 مباشرة... وأنه زاول العمل في مصر كسمسار للقطن في بورصة الاسكندرية لعدة سنوات قبل مغادرتها.

اكتشف أيضاً أن المخابرات الإسرائيلية كانت تثق بنفسها أكثر من اللازم ويتملكها غرور قاتل. فبرغم احترافه لمهنة الجاسوسية بعد تدريبه الطويل في أوروبا.. وعدم تركه لدليل واحد يساعد على كشفه ... إلا أن المخابرات المصرية استطاعت اصطياده وأفراد شبكته بسهولة شديدة وفي وقت قياسي. وهذا بعد دليلاً أكيداً على يقظة رجالها الذين برعوا في إلقاء القبض على عشرات الجواسيس في تلك المرحلة العصيبة.

وبعد حوالي العام من اعتقال الجواسيس الأربعة... أصدرت المحكمة العسكرية حكمها بالأشغال الشاقة المؤبدة على الخائن بهجت حمدان "زواجه من إنجريد وحصوله على الجنسية الألمانية أنقذه من الإعدام" وبالسجن لمدة خمس سنوات لكل من ضابط الموساد والمهندس مندور وجمعة المحامي.

كانت لهذه الحادثة آثارها المرعبة في الموساد، لمعنى اعتقال أحد ضباطها من قبل المصريين، تكشف حقائق أساليب العمل المخابراتي الإسرائيلي في التجسس على البلاد العربية، بما يعني تغيير أنماط العمل المختلفة في النشاط الاستخباراتي.

كان هناك أيضاً الأثر النفسي الذي أصاب ضباط الموساد والعملاء العاملين خارج إسرائيل، إذ تخوف كل من المتعاملين معهم من الخونة العرب، ومن محاولات اصطيادهم بالخديعة والدهاء كما حدث للضابط الخبير فيزر، الذي وقع في شرك المخابرات المصرية.

لقد تندرت وسائل الإعلام العالمية بخيبة رجال الموساد، الذين قادتهم الثقة الزائدة إلى كشفهم. وكان بهجت حمدان بحق هو أول جاسوس في العالم يصطاد قائده... بعملية خداعية ذكية مكنت المخابرات المصرية من الحصول على معلومات ثمينة ... جاءت على لسان الضابط الأسير.

عمار الحرازي07-22-2010, 05:30 AM

سمير باسيلي ...

سمير وليم باسيلي ـ أول جاسوس يجند أباه للموساد

"عندما تخمد نبضات الحب صريعة الكبت .. والمعاناة .. والشجن، وتحترق الأعصاب فيرتجف الجسد رجفة الجوع... ينهار الجبان ويصير شبحاً بلا معالم.. فيسترخص الثمين بلا ندم ..

وعندها ... فهو لا يتورع أن يبيع الجذور بدريهمات . ويهون عليه بيع الأهل .. والأبناء .. والوطن ... !!"

السر العظيم

عندما ورط إبراهيم شاهين زوجته انشراح وأولاده الثلاثة... ودفعهم بحماس للتجسس لصالح الموساد.. لم يكن دافعه الانتقام منهم.

كذلك هبة سليم... التي جرجرت خطيبها المقدم فاروق الفقي للخيانة العظمى.. بالرغم من علمها أنه يحبها لدرجة الجنون.. لم يكن دافعها الانتقام منه.

أما جاسوس الإسكندرية... السيد محمود... الذي احتال على شقيقه أمين المجند بالقوات المسلحة... وأغرقه في أموال الموساد... فهو أيضاً لم يكن يقصد الانتقام منه.

لكن سمير وليم فريد باسيلي... كان يختلف كثيراً عن هؤلاء وغيرهم... إذ دفع بوالده – عن عمد – إلى وكر الجاسوسية ... للانتقام منه... وتشفياً به... وورطه في عمليات تجسس لحساب إسرائيل ... انتهت بمصير مهلك لكليهما.

كيف حدث ذلك... ؟

علماء النفس تحيروا... ووقفوا عاجزين أمام أحداث القصة المؤسفة.. وفشلوا تماماً في تحليل شخصية الابن المجرم... كما فشلوا من قبل مع إبراهيم وانشراح ...الذين قال عنهما أستاذ علم النفس النمساوي "فردريش يوجان":

"أعتقد أنهما مصابان بمرض "الجنون ذي الوجهين Folie a double forme ".. وهو مجموعة أعراض إكلينيكية قوامها خفض نغمة المزاج الوقتي LOWERING OF MOOD – TONE وصعوبة التفكير الذي يغلفه القلق وتسلط الأفكار ... وتهيج بعض الأحزان والهموم ...

ولأن حالة سمير باسيلي حالة فريدة من نوعها... خضعت للعديد من التحليلات النفسية ... وضعته في النهاية في مصاف المرضى .. وصنفه "يوجان" على أنه "الدوني السيكوباتي التكوين CONSTITUTIONAL PSYCHOPATHIC INFERIOR " ... والسيكوباتي هو دائماً في حالة توتر... لا يستفيد إلا قليلاً جداً بالخبرة أو العقاب... ولا يدين بأي ولاء حقيقي لأي مبدأ أو جماعة.

فلنقرأ معاً تفاصيل قصة سقوط سمير باسيلي... ولا نتعجب لتحورات النفس البشرية وتقلباتها... فتلك قضية شائكة معقدة .. ذلك لأن النفس البشرية سر لا يعلمه إلا خالقها سبحانه وتعإلى.

على مقهى برنسيس

حصل سمير على الثانوية العامة بصعوبة شديدة عام 1960 وتوقف عن إكمال دراسته بأحد المعاهد. فالأب ... كان بخيلاً شديد البخل... شرس الطباع في معاملته لأبنائه... لا يترك قط مساحة ضئيلة من التفاهم تقربهم منه، وكره سمير في أبيه سلوكه فأدمن الخروج من المنزل والسهر مع أصحابه... ولم تنطفئ برغم ذلك حرائق الصدام مع والده. لذلك فكر في السفر إلى ألمانيا بعدما ضاقت به الحياة وعضه الجوع.

وعندما عرض الأمر على أبيه لم يسلم من تهكمه وسخريته اللاذعة... وذكره بالفشل الذي أصبح سمة من سمات شخصيته.. رافضاً بشدة إمداده بنفقات السفر رغم توسط بعض أفراد الأسرة.

استدان سمير من أصدقائه ووجد نفسه فجأة على مقعده بالطائرة في طريقه إلى ألمانيا، يتنفس الصعداء ويلعن الفقر... ويسب والده الذي حطم كل الآمال لديه فأشعره باحتقاره لنفسه.. ودونيته.. وبث بأعماقه شعوراً مخجلاً بالضعف والحقارة.

لقد كان يبخل عليه بأبسط بوادر الحنان والأبوة... وحرمه الحب... فعاش معه مزوياً بلا هدف أو كيان. وأخذ سمير يجتر ذكرياته المرة مع والده البخيل .. الذي دأب على تسميم بدنه ليل نهار بالسباب والحط من شأنه... وتحريض أمه على طرده من المنزل كلما عاد متأخراً وحرمانه من العشاء والهدوء... مما أثار شجن الشاب الممزق.. وكثيراً ما كان يسأل نفسه أهو ابن شرعي لهذا الرجل أم لقيط وجدوه على الرصيف.

تحركت به الطائرة على الممر.. وقبل أن ترتفع مقدمتها عن أرض المطار... أخرج سمير منديله وبصق على معاناته وآلامه وحظه، وكأنه يبصق على كل ما يذكره بأيامه الكئيبة. وظل يسرح طوال رحلته في خيال جميل أفاق منه على صراخ عجلات الطائرة وهي تنزلق على أرض مطار ميونيخ. وشرع من فوره في محاولة تحقيق الحلم... فاتصل بمعارفه هناك لمساعدته.. وسريعاً حصل على وظيفة معقولة بشركة سيمونز الشهيرة فعاش حياة رائعة لم يكن خياله يقوى على وصفها أو يتخيلها.

مرت الأسابيع والشهور وفتانا منهمك في عمله لا يبغي سوى جمع المال... وبدأ رويداً رويداً في استطلاع الحياة الجديدة... التحرر الصاخب الذي يغش المجتمع من حوله... وساعده المال الذي ادخره على المغامرة... فانغمس في عالم آخر بعدما ضعف أمام إغراء المدينة الساحرة.. بحر هائج من اللذات لا ينتهي مد موجه أو يخمد.. أفرغ بين ضفتيه حياته السابقة لا يكاد يفيق من نشوته وسكرته إلا ويعود أكثر شراهة وطلباً.

ضمن له مرتبه الكبير التكيف مع حياته الجديدة... ولأنه فقد هويته – أراد أن يرسم لنفسه هوية جديدة ابتدعها هو ... وهيأت له الظروف خطوطها لخدمة أحلامه وطموحاته. وتبلورت شخصيته الجديدة على مقهى برنسيس حيث الخمر والرقص والنساء.

وذات مساء وكان الزحام على أشده جلس بجواره رجل أنيق ودار حديث بينهما وفهم سمير أن نديمه ينتظر صديقته التي جاءت تخطر كظبي رشيق نفر الجمود والوخم .. وصاح "هاتز مولار" ينادي على صديقته "جينفيف يارد" في ترحاب زائد .. وعرفها على سمير باسيلي الذي غاص في الذهول والمفاجأة.

كانت أنوثتها الطاغية تقتل، وصدرها العاري ترتج لمرآة الخلايا، وسيقانها المرمرية المثيرة تُطيّر العقل.

وعندما قامت للرقص معه .. حرقته نيران الجسد... وألهبته أنفاسها وهي ترسل تنهداً تسلل إلى عقله فأوقفه ودمر مقاومته.. وكانت يداها كالقيد تطوقان رقبته تماماً كالقيد الذي كبل به مصيره ومشواره المقبل. وعندما صحبها هانز وخرجا لم يستطع سمير صبراً.. فلاحقهما بسيل من الاتصالات التليفونية تعمدا ألا يردا عليها لبعض الوقت... إلى أن أوشك الشاب العاشق على الجنون... فدعاه "هانز" إلى شقته وجاءت "جين" كفتنة تتحرك فتتحرك معها الرغبات وتثور معلنة عن نفسها.

ترك هانز الشقة إثر مكالمة تليفونية وتمنى سمير لحظتئذ لو منحها كل غال لديه للفوز بقطرة واحدة من شهد أنوثتها.. ولكن عندما أفاضت عليه بكئوس من النشوة خارت إرادته... وود لو لم يفق من سكرته إلى الأبد.

وكانت خطة السقوط التي رسمتها الموساد أغرب من الغرابة... فبينما كان عارياً في الفراش المستعر قالت له جين وهي تمرر المنشفة على وجهه :

&Oslash; أنت مصري رائع، أشعرتني بأن "للحب" مذاقات لذيذة أخرى.

أجابها في ثقة:

&Oslash; هذا ما تعلمته منكم.

سألته في دلال:

&Oslash; ألم تكن لديك صديقة في مصر؟

قطب حاجبيه وأجاب بسرعة:

&Oslash; لا ... لا ... الجنس في مصر يمارس بشكل متحرر في الخيال... وفي السر فقط. والصداقة بين الجنسين لا تعرف الجنس ولكنها تضج بالكبت وتفوح منها أبخرة الرغبة.

في نعومة زائدة سألته وهي تفرك أذنه:

&Oslash; وماذا تقول عني أيها المصري الشقي؟

قال وهو يقبلها: أفردويت ابنة زيوس وهيرا التي ولدت من زبد الماء في بحر إيجه ، وهي الآن بأحضاني.

ردت وهي تحتضنه في تدلل:

&Oslash; لا تبالغ كثيراً!!.

ضغطها بين ذراعيه متولهاً وهو يقول:

&Oslash; أنت أروع فتاة عرفتها... ولن أتركك أبداً.

تنهدت في حزن:

&Oslash; للأسف يا سمير ... سأتركك مضطرة خلال أيام.

لن أعيش وحيداً

انتفض منزعجاً وهو يبعد وجهها عن صدره ليتأمله:

&Oslash; جين ؟ ماذا تقولين؟ عندما عثرت عليك امتلكت الحياة وسأموت بدونك.

عانقته وهي تقبله في حنان بالغ:

&Oslash; فضلت أن أصارحك الآن قبل أن أغادر ميونيخ فجأة.

تشبث بذراعيها فتألمت وقال:

&Oslash; سأجيء معك حتى آخر الدنيا فلا دنيا لي سواك.

&Oslash; مستحيل...

تنهد في زفرة طويلة وأردف:

&Oslash; سأثبت لك يا جين أن لا شيء مستحيل...

وفي نعومة الحية قالت:

&Oslash; أرجوك ... أنت لا تعرف شيئاً... فلا تضغط على أعصابي أكثر من ذلك.

هزها بين أحضانه وهو يردد:

&Oslash; أحبك لدرجة الجنون منذ رأيتك في البرنسيس يا أجمل برنسيس في الدنيا.

&Oslash; أحبك أيها المصري الأسمر "قالتها وهي تداعب شعره في ابتسامة عريضة".

مرت فترة صمت قبل أن يضيف:

&Oslash; تركت مصر وعندما رأيتك أحسست أنك وطن آخر... نعم أنت الآن لي وطن وأهل وحياة ... ولن أتركك ترحلين فأغترب وأحترق.

تبدلت نبرتها إلى نبرة حزن وهي تقول:

&Oslash; أنا أيضاً أعيش معذبة بعدما مات والدي منذ سنوات. إن الوحدة تقتلني وترهقني معاناة القتامة، لذلك فأنا أموت كل ليلة من التفكير والقلق. وبي حاجة إلى صديق وحبيب يؤازرني.

تساءل:

&Oslash; أليس هانز صديقا؟

أجابت مفتعلة الصدق والألم:

&Oslash; لا .. إنه رئيسي في العمل وفي ذات الوقت ملكه. إنني مثل سلعة تافهة يروجونها مجاناً.

تجهم وجهه وقطب حاجبيه وهو يسألها:

&Oslash; من ؟ من هؤلاء الذين تقصدين؟

تلتصق به كالخائف الذي يلوذ بمن يحميه..

&Oslash; ... ... ... ... ... ... ... ... ؟

في لهجة جادة يعاود سؤالها:

&Oslash; أجيبيني من فضلك جين ..

تزداد جين التصاقاً به ويرتعش جسدها بين يديه وتهمس بصوت متهدج:

&Oslash; لا أستطيع ... لا أستطيع ... مستحيل أن تثق بي بعد ذلك.

في إلحاح مشوب بالعطف:

&Oslash; أرجوك جين .. أنا أحبك ولن أتركك أبداً... من هؤلاء الذين تعملين معهم؟

ركزت نظراتها على عينيه موحية له بالأسف:

&Oslash; الموساد ..

&Oslash; موساد ؟ !!

ردد الاسم ويبدو أنه لم يفهم... إذ اعتقد أنهم جماعة من جماعات الهيبز التي كانت قد بدأت تنتشر في أوروبا وتطوف بالميادين هناك والشوارع.

&Oslash; نعم الموساد .. ألا تعرف الموساد؟

نظرت في عينيه بعمق تستقرئ ما طرأ على فكره .. واقتربت بشفتيها منه وأذاقته رحيق قبلة ملتهبة أنهتها فجأة وقالت له:

&Oslash; إنها المخابرات الإسرائيلية.

وأكملت مص شفتيه لتستشف من حرارته رد فعله.

ولما رأت جين أن حرارة تجاوبه لم تفتر بل إن امتزاج الشفاه كان على أشده.. تعمدت ألا تحاول استقراء أفكاره، وهيأت رائعات اللذائذ، وأسبغت عليه أوصاف الفحولة والرجولة فأنسته اسمه ووطنه الذي هجره.. والذي خط بالقلم أول مواثيق خيانته.

وبعد أن هدأت ثورة التدفق قالت له بخبث:

&Oslash; هل ستتركني أرحل؟ بيدك أن أظل بجانبك أو أعود إلى تل أبيب. أجاب كالمنوم:

&Oslash; بيدي أنا.. ؟ كيف ؟ لا أفهم شيئاً..

عانقته في ود مصطنع وبكت في براعة وهي تقول:

&Oslash; لقد كلفوني بالتعرف على الشباب العربي الوافد إلى ميونيخ، خاصة المصريين منهم وكتابة تقارير عما أعرفه من خلال حوارنا في السياسة والاقتصاد .. لكنني فشلت فشلاً ذريعاً بسبب اللغة. فالمصري أولاً ضعيف في الإنكليزية لأنه يهتم بالدويتش، وهم أمهلوني لمدة قصيرة وعلى ذلك لا مكان لي هنا.

وكان الأمر ثانوياً بالنسبة له:

&Oslash; ماذا بيدي لأقدمه لك؟

بتوسل شديد يغمسه الحنان قالت:

&Oslash; تترجم لي بعض التقارير الاقتصادية من الصحف المصرية والعربية وليس هذا بأمر صعب عليك.

أفاق قليلاً وقال:

&Oslash; وهل المخابرات الإسرائيلية تجهل ما بصحفنا لكي أقوم بالترجمة لها؟

أجابت في رقة:

&Oslash; يا حبيبي أريد فقط أن أؤكد لهم أنني ألتقي بمصريين وأقوم بعملي معهم.. ولا يهمني إن كانوا يترجمون صحفكم أو لا يترجمونها. أريد أن أظل بجانبك هنا في ميونيخ...

وطال الحوار بينهما وعندما خافت جين من الفشل في تجنيده.. أجهشت بالبكاء وهي تردد:

&Oslash; لا حظ لي في الحب... ويبدو أن صقيع الحياة سيظل يلازمني الى الأبد.

أخذتها نوبة بكاء هستيرية وهي تنعي حظها في الحب وافتقادها للدفء والحبيب... فما كان منه إلا أنه جذبها الى صدره بقوة وهو يقول:

&Oslash; مهما كنت ... لن أتركك ترحلين.

 

 

وأمام رغبته الجامحة وخدعة المشاعر... أسلم مصيره لها تفعل به ما تشاء... فجاءته بأوراق وكتب بخطه سيرة حياته... ومعلومات عن معارفه وأقاربه ووظائفهم وعناوينهم في مصر. وطلبت منه بتدلل أن يمدها بأخبار مصر من خلال المصريين الوافدين إلى ميونيخ. فلم يعترض بل كان شرطه الوحيد أن تظل بجانبه.

هكذا سقط سمير في براثن الموساد. وبعد أن غرق لأذنيه في مهامه التجسسية واستسهل المال الحرام... تركته جين لتبحث عن غيره... وانشغل هو باصطياد المصريين والتقاط الأخبار... وقبع في مطار ميونيخ ينتظر الطائرات القادمة من مصر عارضاً خدماته على الوافدين للمرة الأولى.. الذين يسعدون بوجود مصري مثلهم يرافقهم إلى حيث جاءوا ... ويقوم بتسهيل أعمالهم في المدينة.

أشهر قليلة ... واستطاع أن يقيم شبكة واسعة من العلاقات... خاصة مع بعض موظفي مصر للطيران وبعض المضيفين والمضيفات... ويعود إلى مسكنه في المساء ليكتب تقريره اليومي المفصل ... الذي يتسلمه منه مندوب من الموساد كل صباح... ويقبض آلاف الماركات مكافأة له.

الطماع والمغامر

وبعد أن استقرت أموره المالية كثيراً عرف أبوه طريقه.. فزاره في ميونيخ عدة مرات زاعماً أن المشاكل الاقتصادية في مصر تضخمت... وأنه يطلب مساعدته في الإنفاق على أسرته.

كان سمير يتلذذ كثيراً بتوسلات والده. بل يرسل في طلبه خصيصاً ليستمع إلى كلمات الرجاء تتردد على لسانه... وليرى نظرات التودد تملأ وجهه. وتضخم الإحساس بالشماتة عند الابن تجاه أبيه حتى وصل إلى درجة الانتقام.. وكان الانتقام بشعاً ويفوق كثيراً حجم الترسبات التي قبعت برأس الابن تجاه أبيه.

لقد دبر سمير كميناً محكماً لأبيه أوقعه في شراكه عندما صحبه إلى مكتب هانز مولار ضابط المخابرات الإسرائيلية في ميونيخ... والذي يبدو في ظاهره مكتباً للمقاولات.

ولأن وليم فريد باسيلي يعشق النقود .. أوضح له هانز أنه سبب الرفاهية التي يعيش فيها ابنه سمير. وأنه على استعداد أيضاً لبدء علاقة عمل بينهما وتأسيس شركة تجارية كبرى في القاهرة تدر عليهما ربحاً وفيراً...

عندها . تخيل وليم شركته الجديدة والأموال التي ستغدق عليه... تخيل أيضاً مقعده الوثير ومكتبه الفخم وسكرتيرته الجميلة وسيارته الحديثة.. وسافر بخياله يجوب شوارع القاهرة يختار موقع المكتب. فأيقظه هانز قائلاً إنه بحاجة إلى معلومات اقتصادية عن السوق المصرية... يستطيع من خلالها أن يحدد خطوطاً عريضة لنشاط الشركة. ولبى وليم الدعوة وجلس عدة ساعات يكتب تقريراً مفصلاً عن احتياجات السوق، وأحوال الاقتصاد في مصر.

دهش هانز لدقة المعلومات التي سردها وليم ومنحه فوراً 1000 مارك، ووعده بمبلغ أكبر مقابل كل تقرير يرسله من القاهرة.

نشط الجاسوس الجديد في كتابة التقارير وإرسالها إلى ألمانيا وفي الزيارة التالية لميونيخ فوجئ وليم بثورة هانز بسبب سطحية تقاريره المرسلة إليه. وقال له إن المكتب الرئيسي على استعداد لدفع خمسة آلاف مارك للتقارير المهمة وأنه على استعداد لتدريبه على كيفية جمع المعلومات وكتابتها بعد تصنيفها. وعندما سأله وليم عن المكتب الرئيسي أجابه بأنه في تل أبيب، وهو مكتب مختص بالشؤون الاقتصادية في دول العالم الثالث.

ارتبك وليم فناوله هانز خمسة آلاف مارك في مظروف مغلق قائلاً إنه هدية من إسرائيل من أجل التعاون المخلص. أما التقارير فلها مقابل أيضاً... وتسلم وليم خمسة آلاف أخرى فانكمش في مقعهده بعدما أدرك حقيقة موقفه ووضعه.

طمأنه هانز بأن علاقتهما لن تكشفها المخابرات المصرية، لأن هذه التقارير ليست مادة سرية فهي موجودة في الصحف القاهرية. وشيئاً فشيئاً... تطورت العلاقة بين هانز ووليم إلى علاقة بين ضابط مخابرات وجاسوس خائن، تحددت بدورات تدريبية خاضها الأب على يد ضباط فنيين، وانتفخت جيوبه بآلاف من الماركات بعدما كثرت تقاريره التي كان يجيد كتابتها بعد تحليلها... وتعمده مصادقة ضباط القوات المسلحة والعسكريين المسرحين من المحيطين به.

وفي كل زيارة لميونيخ كان هانز يحذره من قراءة قضايا التجسس في الصحف المصرية حتى لا يرتبك ويقع في قبضة المخابرات المصرية التي لا ترحم الخونة. وطمأنه على أسلوب عملهم الذي لا تستطيع المخابرات العربية كشفه. وحتى وإن حدث... فهم سيتولون رعاية أبنائه والإنفاق عليهم من بعده "وقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن إسرائيل تتنصل من الخونة بعد سقوطهم وأنها تأخذ فقط وتمنح قبل السقوط" .

أما الابن سمير ... فقد اتسعت دائرة نشاطه في التعرف على المصريين الوافدين وتصيد الأخبار منهم من خلال الدردشة العادية.. وهؤلاء الذين فشلوا في الحصول على عمل... وشرع بالفعل في تجنيد ثلاثة من المصريين. استطاعوا الرجوع إلى مصر وأخبروا جهاز المخابرات المصرية بتصرفات سمير .. ودوره في محاولات الإيقاع بهم لصالح المخابرات الإسرائيلية.. بواسطة فتيات جميلات يجدن استعمال لغة الجسد.

لقد جاءت البلاغات الثلاثة في فترة قصيرة ومن أشخاص لا يعرفون بعضهم، وكانت خطة المخابرات المصرية لاصطياد سمير وأبيه محسوبة بدقة بالغة ... وإحكام.

الحكم العادل

كان وليم قد افتتح مكتباً كبيراً للمقاولات في القاهرة استطاع من خلاله أن يمارس عمله في التجسس ... وجعل منه مقراً للقاءاته بالأشخاص الذين يستمد منهم معلوماته.. خاصة من العسكريين الذين أنهوا خدمتهم . حيث إنهم في الغالب يتفاخرون دائماً بدورهم وبعملهم السابق بصراحة مطلقة... أمام الأشخاص الذين يبدون انبهاراً بما يقولونه ويسردونه من أسرار عسكرية وتفاصيل دقيقة.

وفي أحد الأيام ... فوجئ وليم برجل ثري عائد من الخليج.. يريد الاستفسار عن إمكانية فتح مشاريع استثمارية وعمرانية كبيرة.

كان الرجل قد أمضى في الخليج سنوات طويلة ويجهل حاجة السوق المصرية للمشروعات... وتباهى وليم في سرد خبراته مستعيناً بإحصائيات تؤكد صدق حديثه.. واستطاع إقناع المصري الثري بقدرته على اكتشاف حاجات السوق وإدارة المشاريع. وبدا أن الرجل قد استشعر ذلك بالفعل إلا أن حجم ثروته ورغبته في عمل مشاريع عملاقة... استدعى من وليم الاستعانة بخبرة سمير فكتب له يطلب مجيئه وألح عليه في ذلك... وجاءه الرد من ابنه يخبره بميعاد قدومه.

وما هي إلا أيام حتى جاء الابن إلى القاهرة.. بصحبته شاب ألماني وصديقته أرادا التعرف على الآثار الفرعونية ... فصحبهما سمير إلى الأقصر حيث نزلوا بفندق سافوي الشهير على النيل .. ثم مكثوا يومين في أسوان وعادوا إلى القاهرة.

كان سمير طوال رحلته مع صديقيه يقوم باستعمال كاميرا حديثة ذات عدسة زووم في تصوير المصانع والمنشآت العسكرية طوال رحلة الذهاب والعودة... وفي محطة باب الحديد حيث الزحام وامتزاج البشر من جميع الجنسيات ... وقف سمير امام كشك الصحف واشترى عدة جرائد. وبعدما هموا بالانصراف... استوقفه شاب انيق يرتدي نظارة سوداء برفقته أربعة آخرين وطلب منه أن يسير بجانبه في هدوء.

ارتسمت على وجه سمير علامات الرعب .. وحاول أن يغلفها ببعض علامات الدهشة والاستفهام لكنه كان بالفعل يرتجف.

اعتذر الرجل الأنيق للضيف الألماني وصديقته... وودعهما سمير بلطف ومشى باتجاه البوابة إلى ميدان رمسيس يجر ساقيه جراً محاولاً أن يتماسك... لكن هيهات فالموقف صعب وعسير.

وعندما دلف إلى داخل السيارة سأله الرجل الأنيق ذو النظارة:

&Oslash; أتريد أن تعرف إلى أين تذهب؟

أجاب بصوت مخنوق:

&Oslash; أعرف !!

وعندما فكر في مصيره المحتوم ... أجهش بالبكاء... ثم أغمى عليه بعدما تملكه الرعب وأصابه الهلع... وحملوه منهاراً إلى مبنى المخابرات العامة ليجد والده هناك... نظراته أكثر هلعاً وصراخه لا يتوقف وهو يردد:

&Oslash; سمير هو السبب !!

واكتشف وليم أن الثري القادم من الخليج ما هو إلا ضابط مخابرات ... واكتشف أيضاً أن تقاريره التي كان يرسلها إلى الخارج تملأ ملفاً كبيراً.

ولم يستغرق الأمر كثيراً. فالأدلة دامغة والاعتراف صريح. وكان الحكم في مايو 1971 عادلاً لكليهما. الإعدام للإبن و15 عاماً أشغال شاقة للأب... وعار أبدي للأسرة حتى الجيل المائة .. وكانت النهاية الطبيعية لكل خائن باع ا لنفس والوطن.

عمار الحرازي07-22-2010, 05:41 AM

نبيل نحاس

من أشهر جواسيس الموساد العرب

نبيل نحاس ورحلة الموت الجميل . .

أشرس جواسيس إسرائيل في مصر، ظل يمارس تجسسه وخيانته في الظل لمدة "13 عاماً" متتالية، بعيداً عن أعين جهاز المخابرات المصرية، وعند سقوطه. . أصيبت المخابرات الإسرائيلية بلطمة شديدة أفقدتها توازنها. فقد تزامن سقوطه مع سقوط جواسيس آخرين اكتشف أمرهم، وفقدت الموساد بذلك مصدراً حيوياً من مصادرها في مصر، الذين أمدوها بمعلومات غاية في الأهمية طوال هذه السنوات بلا تعب أو كلل.

فقد كانت الجاسوسية عند نبيل النحاس قد وصلت إلى درجة الصقل والاحتراف، بعدما تعدت مراحلها الابتدائية الأولى، وتحولت مهنة التجسس عنده إلى أستاذية في التخفي والتمويه والبحث عن مصادر المعلومات. ووصلت درجة الثقة في معلوماته عند جهاز الموساد لمدى شاسع من الجدية والتأكيد.

جونايدا روتي

حوت التحقيقات التي أجريت مع العديد من الخونة بمعرفة المخابرات العربية . . سواء في مصر أو في سوريا أو العراق أسراراً مذهلة عن كيفية انتقاء الجواسيس . . فمراكز المخابرات الاسرائيلية بكافة فروعها – شأنها كشأن كافة أجهزة المخابرات الأخرى – تتخذ من النظرية القائلة بأن لدى كل إنسان نقطة ضعف.. ولكل إنسان ثمن . .نقطة انطلاق للتنقيب عن ضعاف النفوس واصطيادهم .. وتخضع عملية الإيقاع بهم والسيطرة عليهم لخطوات معقدة وشائكة.

من هذا المنطلق .. أجاد رجال الموساد استخدام هذه النظرية باتساع . . دون اعتبارات للشرف أو للفضيلة . . وأخذوا يطرقون كل السبل لتجنيد عملاء لها في كل مكان. فمن كان يبحث عن المال وجد ضالته لديهم.. ومن كان يسعى وراء نزواته وشهوته قذفوا اليه بأجمل نسائهم. . ومن ضاقت به الحياة في بلده أمنوا له عملاً وهمياً يقوده في النهاية إلى مصيدة الجاسوسية، دون أن يدري.

فالملاحظ. . أن "العميل" في الغالب لا يعرف أنه أصبح "عميلاً" في بداية تجنيده. . بل يكتشف ذلك بنفسه بعد انغماسه في التجسس .. وتكون شباك الجاسوسية قد كبلته وأطبقت عليه . . ولم تعد لديه أية وسيلة للفكاك.

حينئذ .. كالآلة الصماء يضطر إلى العمل دون إدراك للعواقب. .

والمثير في الأمر . . أن هناك بعض الجواسيس الذين سقطوا في قبضة المخابرات العربية كانوا يجهلون أنهم عملاء لإسرائيل. . وتبين لهم ذلك فقط عندما ووجهوا بالحقائق والأدلة التي تدينهم وتؤكد تورطهم. . ومن خلال اعترافات بعضهم – فتحي رزق، محمد أحمد حسن، جان ليون توماس، فؤاد محرم، سمير باسيلي. . الخ – نجد حقائق مثيرة عن كيفية اصطيادهم وتجنيدهم . .

حيث يستخدم صائدوا الجواسيس كل أسلحة التأثير النفسي والمغريات المختلفة لإذابة تركيزهم واحتوائهم. . فلكل صيد "طعم" خاص به يلقى اليه . . ومن خلال قصص الجواسيس التي بين أيدينا نجد أن بينها تشابهاً كبيراً. . ولا تكاد تختلف إحداها عن الأخرى إلا من ناحية تنوع الأسماء والأماكن والمواقف. ذلك أن صائدي الجواسيس في المخابرات الاسرائيلية لهم ميزة عجيبة وصفة واحدة .. وهي أن لكل منهم أنف كلب الصيد الذي يدرك مكان الفريسة بالشم ويحدد مكانها بدقة . . إلى جانب رادار حساس في أذنيه. . يضاف إلى ذلك "الكرم" الذي يصل لدرجة البذخ أحياناً. . واتقان شديد للغة العربية وعادات شعوبها.

هذه الصفات مجتمعة تؤمن للصياد أن يكتشف مكامن الضعف في الفريسة .. التي تكون على وشك الإفلاس . . أو قد تكون مصابة بانحراف جنسي . . أو تحلم بعلاقات حميمة مع ملكات الفتنة والأنوثة.

هذا ما حدث بالضبط مع الجاسوس "نبيل النحاس" الذي عبد الشهوة فأغرقته وأرقته.. وبسببها كان اصطياده سهلاً .. بسيطاً. . وما أسهل تصيد عشاق الجنس وعبدة اللذة.

تمتد جذور أسرته إلى "حاصبيا" في محافظة لبنان الجنوبية وتقع على نهر الحاصباني وبعد سنوات طويلة انتقلت الأسرة إلى "كفر شيما" بمنطقة الشويفات جنوبي بيروت ومن هناك إلى مصر وأقام والده بالسويس، وتزوج من فتاة مصرية أنجبت له "نبيل" عام 1936.

كان الطفل يحمل ملامح والده الشامي الأشقر وعذوبة أمه المصرية. . وتميز منذ الصغر بذكاء شديد يفوق أقرانه .. فتنبأ له الجميع بمستقبل مضمون ونجاح أكيد. .

وتلاحقت السنون سراعاً ونجح نبيل النحاس في الثانوية العامة والتحق بجامعة القاهرة طالباً بكلية التجارة. . وبخطوات واثقة شق طريقه نحو الحياة العملية بعد تخرجه متفوقاً. . تراوده طموحات لا حدود لها. .

ولم يطل به الانتظار طويلاً . . إذ سرعان ما عمل سكرتيراً في منظمة الشعوب الأفرو آسيوية التي كان يرأسها الأديب يوسف السباعي . . وكان عمله كتابة محاضر الجلسات والمؤتمرات على الآلة الكاتبة.

ومن خلال وظيفته وموقعه.. توسعت علاقاته وتشبعت .. وتبلورت شخصيته الجديدة التي نضجت مع ملاحة ورجولة تلفت انتباه الحسان .. وتجعل منه مأملاً لهن . . فأحطنه بدلالهن ليقطف منهن من يشاء ..

 

وبمرور الشهور استشعر نبيل النحاس ضآلة راتبه الذي تعدى المائة جنيه .. في ذات الوقت الذي كان فيه راتب زميله في مكان آخر لا يتعدى الخمسة عشر جنيهاً في ذلك الوقت عام 1959. . فعمله المرموق كان يتطلب مظهراً حسناً وملابس أنيقة تتناسب ومكانته .. إلى جانب حاجته للإنفاق على معيشته وعلى علاقاته النسائية وملذاته.. خاصة .. وقد ارتبط بعلاقة حميمة بفتاة أفريقية من كوناكري في غينيا . . فانجرف معها إلى محيطات المتعة يجدف بلا كلل. كان اسمها "جونايدا روتي" .. خيزرانية القوام أبنوسية اللون رائعة الخلقة .. تعمل مراسلة صحفية لعدة صحف أفريقية وعالمية.

استطاعت جونايدا أن تمتلك عقله وتنسيه أية امرأة سواها. . فأغدق عليها بالهدايا حتى تعثرت أحواله المالية .. فوجد الحل لديها لإنقاذه من تعثره عندما عرضت عليه أن يطلب إجازة من عمله بالمنظمة .. والانضمام إلى إحدى وكالات الأنباء العالمية كمراسل مقابل راتب كبير مغر..

وكانت أولى المهام التي أوكلت إليه السفر إلى منطقة الصحراء المغربية "ريودي أورو" ومن "فيلاشيز نيروس" و "العيون" يستطيع أن ينقل أخبار الصراع السري الدائر بين المملكة المغربية وموريتانيا . . صراع النفوذ على المنطقة المحصورة بينهما.

كانت سعادته بالمهمة الجديدة عظيمة .. حيث ستتاح له فرصة اللحاق بالساحرة الأفريقية – جونايدا – التي سبقته إلى كوناكري. . وطار النحاس إلى الدار البيضاء تحفه أحلام المغامرة والثقة في الغد

الطريق المختصر

هناك – في الدار البيضاء – كانت بانتظاره مفاجأة بدلت مجرى حياته كلها .. إذ تعرف إليه في بهو الفندق رجل مغربي .. يهودي .. عرف منه وجهته .. فعرض عليه مساعدته لدخول ريودي أورو عن طريق أعوان له في "سيدي أفني" أقصى جنوب المغرب .. وكيفية اجتياز "وادي درعة" للوصول إلى الحدود.

سر نبيل النحاس للصدفة الجميلة التي ما توقعها.. واحتفاء بالمراسل الصحفي الوسيم .. أعد له المضيف وليمة غداء بمنزله في "أزمور" الساحرة. . التي تقع على نهر "أم الربيع" وتشرف على ساحل المحيط الأطلنطي.

وفي منزل تحيطه الحدائق والزهور في بانوراما طبيعية رائعة .. كانت تنتظره المفاجأة .. إنها "مليكة" اليهودية المغربية التي تستحوذ على جمال فتان لم تره عين من قبل . .كانت في الواحدة والعشرين من عمرها .. إذا خطت . . تحركت الفتنة وترجرجت تحت ثيابها . .

وإذا تأودت . . أغرقت الدنيا بهاء وحسناً. . وإذا تحدثت .. تموجت الأنغام سكرى على شفتيها. .

وأربكت حدود العقل وأركانه.

أذهل جمالها المراسل الصحفي الجديد فنسي مهمته في الجنوب .. وذابت جونايدا إلى القاع أمام سحر مليكة .. فقد أفقدته "حسناء أزمور" الوعي والرشاد .. وطيرت عقله إلى سفوح المتعة. .

فأقبل يلعق عناقيد الفتنة بين يديها . . ويتعبد منتشياً في محرابها مسلوب القرار .. فعندما يخوص الجسد بحار النشوة .. يغوس متلذذاً بالغرق لا يرجو خلاصاً من الموت الجميل.

الأيام تمر وفتانا نسي مهمته.. وقبع كطفل غرير بين أحضان مليكة التي أحكمت شباكها حوله وسيطرت على مجامع حواسه .. وحولته إلى خادم يلبي طائعاً رغباتها.. وينقاد لرأيها ..دون أن يشك ولو للحظة في كونها يهودية تسعى لاصطياده في خطة محبوكة ماهرة أعدتها جونايدا سلفاً في القاهرة.

وبعدما فرغت جيوبه . . أفاق على موقفه السيء بلا نقود في بلاد الغربة .. وتمنى لو انه كان يملك الملايين ليظل إلى جانب مليكة لا يفارقها أبداً. .

ولما قرأت فتاته أفكاره .. طمأنته . . وعرضت عليه السفر معها إلى باريس حيث الحرية والعمل والثراء .. وبلا وعي وافقها .. ورافقها إلى عاصمة النور والجمال ومأوى الجواسيس .. وهناك لم يفق أو ينتبه إلى حقيقة وجوده بين فكي كماشة ستؤلمه عضاتها حتماً ذات يوم. . ولما أيقنت أنه سقط في براثنها بلا قوة تؤازره وتدفعه لمقاومتها. . نبهته – بالتلميح – إلى ضرورة إدراك حقيقة لا بد أن يعيها .. وهي أنها يهودية تدين بالولاء لإسرائيل حتى وإن كانت مغربية المولد .. ولغتها عربية فرنسية. .

وعندما استقرأ المراسل الصحفي مستقبله معها . . كانت الصورة أمامه مهتزة .. إذ خلقت منه أصابع مليكة الناعمة طفلاً لا يعي .. وأبلهاً لا يقرر .. وأعمى لا يرى تحت قدميه.

 

 

أقام معها في شقة رائعة .. وكانت تنفق عليه بتوفير فرصة عمل له من خلال أصدقائها في باريس. . واستدعت من أعماقه كل جوانب ضعفه وجنونه . . واستدرجته للحديث في السياسة فأفاض بغزارة ..

وأسر إليها بما لديه من معلومات عن المنظمة الأفرو آسيوية . . وعن أشخاص بعينهم يمثلون رموزاً هامة في المجتمع الدولي .. وحدثها عن علاقاته بكبار المسؤولين في مصر .. وكانت كل تلك الأحاديث مسجلة بالصوت والصورة .. إلى جانب تسجيلات أخرى أثناء استعراضه لفحولته عارياً بين أحضان عميلة الموساد.

كان "باسكينر" ضابط الموساد يراقب كل شيء . . ويدرس شخصية نبيل النحاس باستفاضة . .

ولما حانت الفرصة المناسبة .. عرفته مليكة بفتاها .. وقدمته اليه على أنه رجل أعمال إسرائيلي يدير شركة كبرى للشحن الجوي تمتد فروعها في كل القارات .. وكان رد الفعل عند المراسل الصحفي يكاد يكون طبيعياً. . فهو يسعى إلى المال أينما وجد .. وسواء تحصل عليه من يهودي أو هندوسي فلا فرق .. المهم هو الكم.

استخلص الضابط المحنك حقيقة مؤداها أن الشاب المصري يريد المال ومليكا معاً. . فتولى أمره . . وتعهده ليصنع منه جاسوساً ملماً بفنون الجاسوسية.. وكانت المناقشات بينهما تبدو طبيعية لا غبار عليها .. ثم تطرق باسكينر شيئاً فشيئاً إلى هويته. . وموقف العرب من إسرائيل. . واتجاهات الدبلوماسية العربية إزاء الوجود الإسرائيلي في المنطقة. .

في أحاديثه أيضاً تطرق إلى عمليات الموساد الخارقة في البلاد العربية .. وكيف أنها تدفع بسخاء إلى عملائها . . وتحرص على حمايتهم إذا انكشف أحدهم .. ونوّه – من بعيد – عن التسجيلات الصوتية والأفلام التي بحوزتهم . . والأسرار التي تحويها هذه الشرائط، وأنها قد تهلك أصحابها إذا ما وقعت في أيدي المخابرات العربية.

لم يكن نبيل النحاس غبياً بالدرجة التي تجعله يجهل ما يرمي إليه باسكينر . . أو يتجاهله .. إذ استوعب نواياه ومقصده . . وكان تعليقه الوحيد أنه شخصياً يتعاطف مع إسرائيل .. وأن تعاطفه هذا عن قناعة تبلورت من خلال قراءاته في تاريخ اليهود.

بذلك . . اختصر نبيل النحاس الطريق الطويل أمام باسكينر .. وخطا أولى خطواته الفعلية على درب الخيانة .. والخسة. .

أبقى باسكينر مليكا إلى جوار الجاسوس الجديد. . فوجودها مهم للغاية في تلك المرحلة الأولى من الإعداد والتدريب .. ذلك لأن خضوعه كان مرهوناً بوجودها .. إلى جانب آلاف الدولارات التي ملأت جيوبه فأسكرته . . وأنسته عروبته. . فقد كانت تمنحه النعيم ليلاً بينما يدربه باسكينر وزملاؤه نهاراً. .

كانت أولى دروس الخيانة هي كيفية استدراج ذوي المراكز الحساسة للحديث في أمور يصعب تناولها . . وتتعلق بأسرار الدولة .. واستغلال حفلات الخمر والجنس في الوصول إلى أسرار غاية في الأهمية .. إلى جانب ضرورة تزويد الموساد بنسخة طبق الأصل من محاضر مؤتمرات المنظمة الأفرو آسيوية التي سيعود لعلمه بها من جديد.

علموه أيضاً كيفية قراءة التقارير والأوراق بالمقلوب على مكاتب المسؤولين الكبار عند زياراته لهم . . واختزان الصور والرسوم والمعلومات التي يطلع عليها بذاكرته .. ثم يقوم بتسجيلها كتابة بعد ذلك . . وكيفية مراقبة المواقع العسكرية على الطريق ما بين القاهرة والسويس وكتابة تقارير وافية عن مشاهداته وإن كانت تافهة .. ويقوم بإرسالها – بواسطة الحبر السري – إلى أحد العناوين في باريس – مقر الموساد المختص بجواسيس الشرق الأوسط – الذي يقوم بتجميع الأخبار والتقارير التي تفد إليه من قبرص وأثينا وبروكسل وروما فيرسلها بدوره إلى تل أبيب.

أهلاً بك في وطنك

ابتدأ النشاط التجسسي الفعلي لنبيل النحاس في منتصف عام 1960 .. فقد عاد إلى عمله بالمنظمة .. وكانت وظيفته ساتر طبيعي يختفي خلفه .. ولا يثير أية شبهات من حوله..

واستطاع من خلال علاقاته الهامة استخلاص معلومات لا يتوقف سيلها. . كانت تصل إلى المخابرات الاسرائيلية أولاً بأول .. وبالتالي .. يتحصل على مقابل مادي ضخم يتسلمه في القاهرة بطرق ملتوية عديدة..

وبعد عامين تقريباً. . استدعى إلى باريس في مهمة عاجلة .. حيث كان بانتظاره باسكينر .. الذي عهد به إلى ضابط إسرائيلي آخر استطاع تدريبه على كيفية ترويج الإشاعات .. والتأثير سلبياً على الرأي العام من خلال تجمعات الأوساط المختلفة في مصر، ولقنع الكثير من أساليب الحرب النفسية والتأثير السيكولوجي، اعتماداً على لياقته ومقدرته الفذة على الإقناع، إلى جانب ترسيخ فكرة الخوف من الإسرائيليين لدى المحيطين به، واستبيان آرائهم تجاه العدو وقدرات الجيوش العربية على مواجهته.

 

وبعد مرور عدة سنوات – كان نبيل النحاس من أنشط جواسيس إسرائيل في مصر. لقد نسي مليكا، ولم يعد يعرف لها وجهاً بعدما أدت مهمتها خير قيام. بينما انشغل هو بجمع أموال الموساد التي هيأت له فرص التعرف بالكثيرات غيرها، فالأموال طائلة والوثائق الهامة تقيم، والنساء على كل الألوان.

وفي مرحلة أخرى من مراحل صناعة الجواسيس المحترفين – أعد له برنامج تدريبي أكثر خطورة في بيروت، إذ تم إخضاعه لدورة تدريبية بواسطة خبير متفجرات عميل للموساد، فتعلم كيفية صنع المتفجرات، وتفخيخ الرسائل والطرود والتخفي والتمويه والهرب والتنكر.

لقد أرادوا أن يخلقوا منه جاسوساً فاعلاً وخبيراً في الأعمال الإرهابية والتدمير في مصر. وكان الخائن أشد قابلية للتشكل والتمحور وتنفيذ مخططات العدو ولو بقتل الأبرياء، وبعدما فرت من أعماقه دلائل العروبة، وسرت بشرايينه دماء تحوي كرات الخيانة بكل الصور.

لذلك .. تعاون بإخلاص مع الموساد في تهديد الخبراء الألمان، الذين يعملون في المصانع الحربية المصرية لإنتاج الصواريخ والأسلحة المتطورة .. بتوجيه الرسائل المتفجرة إلى بعضهم، بالاشتراك ضمناً مع "يوهان وولفجانج لوتز" عميل الموساد الشهير في القاهرة الذي ألقى القبض عليه في فبراير 1965 ولم يجر إعدامه.

وبرغم عدم اكتشاف أمره – إلا أن نبيل النحاس لم يتوقف بعد سقوط لوتز، واحتل مرتبة الصدارة لدى المخابرات الإسرائيلية في المنطقة. وقام بدور حيوي في نقل أسرار عسكرية وحيوية إلى إسرائيل قبل نكسة يونيو 1967 . . ساعدت العدو على اجتياح الأراضي المصرية واحتلال سيناء. واعتبر نبيل النحاس نجاح إسرائيل في هزيمة العرب نتاج تعاونه معهم وإمدادهم بوثائق خطيرة وتقارير تشكل الصورة الواقعية للعسكرية المصرية .

وفي عام 1968 أفرجت مصر عن "لوتز" في صفقة مع إسرائيل للإفراج عن عدد كبير من أسرى الحرب لديها. وأحس نبيل بالزهو، فالصفقة منحته قدراً هائلاً من الثقة في مخابرات إسرائيل التي لا تترك جواسيسها وعملاءها نهباً للقلق، إذ تسعى لمبادلتهم وبأي ثمن حماية للجواسيس الآخرين الذين يعملون في الخفاء، ويتملكهم الرعب عند سقوط أحدهم في قبضة المخابرات العربية.

 

لقد اطمأن أخيراً على مستقبله في حالة سقوطه، فسوف تتم مبادلته هو الآخر ليعيش بقية حياته في إحدى الفيلات الرائعة بإسرائيل، ينعم بالأمن وبالأموال الكثيرة.

هذا الهاجس الذي عاشه، جعل منه خائناً خطيراً لا يتورع عن بيع أي شيء ذي أهمية لإسرائيل. . وكانت زيارته إلى تل أبيب حلماً يراوده، وأملاً ينشده. لقد أراد أن يرى إسرائيل من الداخل ويتجول بين مدنها ويتخير لنفسه بيتاً نماسباً قد يسكنه ذات يوم. وأعدوا له برنامجاً مشحوناً ينتظره قبل زيارته لإسرائيل بعدة أسابيع، وأثناء تواجده في أثينا. . كانت خطة سفره قد اكتملت.

ففي غفلة عن الأنظار اختفى نبيل فجأة من فندق "بوزايدون". . وفي المطار كان ثمة رجل أشقر تغطي وجهه نظارة سوداء، ويرتدي معطفاً ترتفع ياقته لتخفي بقية وجهه، يحمل جواز سفر إسرائيلياً باسم "شاؤول ياريف" ولا يتحدث مع أحد. خطواته الواثقة قادته إلى السيارة التي أقلته حتى طائرة العال الإسرائيلية الرابضة على الممر، وعن قرب كان يتبعه رجل آخر لا يبدو أنه يعرفه.. إنه باسكينر ضابط الموساد الذي خلق منه جاسوساً محترفاً، وفي مطار بن جوريون كانت تنتظره سيارة ليموزين سوداء ذات ستائر، سرعان ما دلف اليها .. فأقلته إلى مكان لا يعرفه سوى قلة من ضباط الموساد الذين استقبلوه بحفاوة بالغة.

وفي مكتب "زيفي زامير" رئيس الموساد الجديد كان اللقاء أكثر حرارة، إذ ترك زامير مكتبه وجلس قبالته يتأمل وجهه العربي الصديق، وعرض عليه خدمات المواد فاختار الخائن أولاً أن يلتقي بالسيدة جولدا مائير، فصحبه إلى هناك حيث اصطف أكثر من خمسة وعشرين جنرالاً إسرائيلياً لتحيته، واحتضنه أحدهم قائلاً له "أهلاً بك في وطنك إسرائيل" وصافحته جلدا مائير بحرارة، وأمرت بتلبية كل مطالبه ولو كانت مستحيلة. وقالت لزامير: "شكراً على هديتك الرائعة التي جلبتها لإسرائيل" وعلق الخائن قائلاً:

&Oslash; لم أكن أحلم قبل اليوم بأكثر مما أنا فيه الآن. أشعر أنني بين أهلي، ويكفيني هذا الشعور سيدتي.

وأمرت له رئيسة الوزراء بمكافأة خاصة وقدرها خمسة وعشرين ألف دولار من مكتبها، بخلاف ما سيحصل عليه من أموال المواد. .

وفي الفيلا التي نزل بها كانت مفاجأة مدهشة .. إنها مليكة .. أجمل النساء اللاتي أسكرنه ، والعميلة المحترفة التي أوقعت به صيداً سهلاً في شرك الجاسوسية لصالح الموساد. فجددت معه ذكرى الأيام الخوالي .. وأغدقت عليه من نبع أنوثتها شلالات من المتعة تمنحها له هذه المرة ليس بقصد تجنيده كما حدث في المغرب، بل لتكافئه على إخلاصه لإسرائيل.

لم تكن هناك فروق بين إحساس المتعة في الحالتين. فمليكا أنثى مدربة تعرف كيف تغرقه في بحورها. . وكلما أرادت إنتشاله جذبها مرات ومرات. فما أحلى الغرق في بحور فاتنة مثيرة، وما ألذه من موت جميل !!

ستة عشرة يوماً بين ربوع إسرائيل زائراً عزيزاً، عاد بعدها نبيل النحاس إلى أثينا بآلاف الدولارات التي كوفئ بها من إسرائيل.. والتي زادته شراهة في الخيانة، وعبقرية في جلب المعلومات. .

فالمنطقة العربية تغلي كبركان على وشك الفوران والثورة .. والشعب العربي هديره مطالباً بالثأر يصم الأذان، وحالة ترقب في إسرائيل وانتظار لصحوة المارد العربي . . الذي سقط يتلوى يبغي الوقوف والصمود.

بكاء الذليل

كانت المهمة بالنسبة لنبيل أشد صعوبة برغم سنوات الخيانة والخبرة، وبرغم احتضان مصر له لم يحفظ لها الجميل بعدما تعهدته طفلاً، ونشأته صبياً، وعلمته شاباً، ونخرت الخيانة عظامه كالسوس يسعى لا علاج له سوى الهلاك والفناء. فبارد على الفور في استكشاف النوايا تجاه إسرائيل، ونشط في جمع أدق المعلومات عن تسليح الجيش، والمعدات الحديثة التي تصل سراً من الاتحاد السوفياتي ودول الكتلة الشرقية، وانغمس في ملذاته بصحبة فتيات الليل، يجلب لهن بعض المناصب والعارفين بالأمور العسكرية.

ومن خلال حفلات المجون كانت المعلومات تتناثر هنا وهناك، فيلتقطها بعقل واع يقظ ويدونها، ويبعث بها في الحال إلى مكتب المواد في جنيف.

وعندما تلقى رسالة مشفرة من رؤسائه تطلب منه معلومات مركزة عن حركة ميناء الإسكندرية، لم يتأخر في تنفيذ الأمر، وأسرع إلى الإسكندرية للقاء صديق له يعمل في شركة تمارس نشاطات بحرية، وأغدق عليه بالهدايا الثمينة . . فانتبه صديقه لذلك وتساءل مع نفسه "لماذا"؟ وادعى جهله بأمور تجري بالميناء الحيوي .. فوجد إلحاحاً من الخائن يطلب منه تزويده بما يخفى عنه .. بحجة عمله كمراسل لوكالة أنباء دولية.

لم يكن نبيل يدرك مطلقاً أن صديقه قد انتابته الشكوك .. فبادر على الفور بإبلاغ المخابرات المصرية ووضع العميل تحت المراقبة الشديدة.

 

وبعد نصر أكتوبر 1973 صدم الخائن لهزيمة إسرائيل. وفي روما عنفه ضابط المواد واتهمه بالإهمال الجسيم الذي أدى لهزيمتهم الساحقة أمام العرب. وأقسم له الخائن أنه لن يقصر، ولكن الضابط كان ثائراً ولم يستطع أن يخفي انفعاله وغضبه.

تخوف نبيل من فكرة الاستغناء عن خدماته للموساد.. لذلك عاد إلى مصر في الرابع عشر من نوفمبر 1973 حانقاً، وبداخله تصميم قوي على "تعويض" هزيمة إسرائيل، وتملكه بالفعل اعتقاد بأنه أهمل في عمله ولم يكن دقيقاً في نقل نوايا المصريين.. وبنشاط مجنون أخذ يبحث عن مصادر لمعلومات وإجابات يحمل أسئلتها. وفي غمرة جنون البحث .. كانت المخابرات المصرية تلاصقه كظله وتريد ضبطه متلبساً بالتجسس.

وفي 24 نوفمبر 1973 – بعد عشرة أيام من عودته من روما – اقتحمت المخابرات المصرية شقته في القاهرة، وضبطت أدوات التجسس كاملة، فلم يستطع الإنكار وإنهار باكياً أمام المحققين. . وأدلى باعترافات تفصيلية ملأت مئات الصفحات، وهو لا يصدق أنه سقط بعد 13 عاماً كاملة في مهنة التجسس التي أجادها واحترفها. وقدم إلى المحكمة العسكرية وظل لآخر لحظة ينتظر المفاجأة .. مفاجأة مبادلته والعودة إلى "وطنه إسرائيل".

لكن خاب ظنه وقتل أمله . . فالجيش المصري كان هو الغالب المنتصر في أكتوبر 1973 .. والأسرى كانوا هذه المرة جنوداً إسرائيليين، وليس هناك أمل لمبادلته على الإطلاق.

لقد كانت إسرائيل في محنة ما بعدها محنة. ولا وقت هناك للتفكير في إنقاذ خائن باع وطنه رخيصاً، بحفنة من الدولارات، وبآهات غانية تتلوى بين أحضانه. .

وكمثل جواسيس خونة آخرين اكتشف أمرهم. . أنكرت إسرائيل معرفتها به، وتجاهلته ليموت ذليلاً لا ينفعه بكاء الندم .. أو تقيه أموال الموساد من حبل المشنقة.. !!.

عمار الحرازي07-22-2010, 05:55 AM

شاكر فاخوري ... الجاسوس الذي قتلته نزوة ... !!

 

 

 

 

قليلون جداً .. أولئك الخونة الذين أسلموا قيادهم .. برغبتهم .. إلى مخابرات دولية معادية من أجل شهوة المال... والتاريخ الطويل الحافل بالصراع بين المخابرات العربية والمخابرات الإسرائيلية، يحفظ لنا تفاصيل هذه القصص القليلة جداً، التي يطرق أبطالها أبواب السفارات الإسرائيلية في الخارج، ويعرضون "خدماتهم" ويكتبون بأيديهم وثيقة خيانتهم للوطن دون رغبة في الانتقام من نظام، أو تعويض خسائر معنوية، اللهم فقط – الحصول على المال الحرام بأسلوب سهل، دون أن يحسبوا حساباً لعيون المخابرات العربية التي ترصد ولا تنام.

وكان شاكر فاخوري، أحد هؤلاء الخونة الشواذ الذين قتلتهم النزوة .. !!!

أساطير الوهم

... في أعقاب نكسة يونيو 1967... اشتد نزف الجرح العربي ... وخيمت قتامة قاسية وعم إحساس مرير بالمهانة. ولم تستطع وسائل الدعاية والإعلام العربية التغلب على سطوة هذا الشعور لفترة وطويلة.

فإسرائيل لم تكف عن اختراق حاجز الصوت بقاذفاتها كل يوم في السماء العربية، دون رادع يوقفها... وكأنما هي في رحلة ترفيهية آمنة، فتسخر بذلك من أجهزة الدفاع، ومن قوات العرب الت ياندحرت لاهثة أمام ضربات اليهود الفجائية. وتؤكد للعالم أن ادعاءات القوة العربية ضرب من الوهم والخيال.

وفي سكرة الصدمة القاتلة... أصيبت الأمة العربية بصدمة أخرى يومي 9 و 10 يونيو 1967 وصفها في مذكراته الفريق أول محمد فوزي قائلاً:

(الإحساس بالضياع النفسي يملأني طوال إقامتي بمقر القيادة العامة للقوات المسلحة بمدينة مصر. طوال هذين اليومين كانت مصر بلا قيادة فالقيادة السياسية غير قائمة بإعلان جمال عبد الناصر عن قرار التنحي، والقيادة العسكرية العليا أيضاً غير موجودة باعتزال المشير عبد الحكيم عامر وشمس بدران في منزليهما، بالإضافة إلى قادة أفرع القوات المسلحة الرئيسية الذين قدموا استقالاتهم).

هذا هو الجو النفسي المحزن الذي خلفته الهزيمة .. التي أجبرت العرب على تنكيس أعلامهم حداداً على قتل الكرامة والعزة والكبرياء. وفي خضم هذه المأساة.. كانت إسرائيل على جانب آخر تراقب مراحل سقوط العرب ... وتعن بغطرسة استحالة قيامهم ثانية ... ولو حدث .. وقاموا ... فقيام مريض أشل يجر أعضاءه زاحفاً.

ومن هنا .. نشطت المخابرات الاسرائيلية وأعدت العدة جيداً لمراقبة الجسد العربي الصريع ومحاولات النهوض من جديد.

لذا ... فقد بثت العيون والجواسيس والأجهزة .. ترصد وتحلل وتحسب ... وتتوقع ما ستنبئ عنه الخطوة القادمة... وكان رأي خبراء المخابرات الإسرائيلية الذي لم يحيدوا عنه ... أن هذه الضربة التي أفقدت العرب قوتهم وتوازنهم .. بل وصوابهم .. لا بد لها من رد فعل حتمي سيتأكد حدوثه في لحظة ما.

وهكذا لم يجلس رجال الموساد في انتظار الضربة المفاجئة.. بل عملوا على كشف تحركات واستعدادات العرب العسكرية والدبلوماسية للتكهن بنواياهم التي يضمرونها ... وكان لا بد من تلافي الضربة القادمة... بالعمل على عدة محاور استراتيجية ... أهمها الإسراع بالبرنامج النووي الإسرائيلي لإرهاب العرب .. وإخضاعهم بالتخويف ... وإحباط عزيمتهم بالدعاية التي تصورهم كأنهم الأساطير . وكذلك بالعمل على تزويد الجيش اليهودي بأحدث مبتكرات تكنولوجيا السلاح العالمية .. لإظهار التفوق الكبير على جيوش عربية لا تستوعب السلاح الحديث. وأيضاً .. تنشيط الأقسام المختلفة في جهاز الاستخبارات الاسرائيلي بما يضمن الحصول على أدق الأسرار – العسكرية والاقتصادية والصناعية – من خلال شبكات متعددة من العملاء والجواسيس المهرة ... الذين زرعوا في غالبية المدن العربية، ينقلون لتل أبيب كل مشاهداتهم وتقاريرهم.

لذا ... فلا عجب إن لاحظنا كثرة أعداد الخونة الذين سقطوا في مصيدة الجاسوسية الإسرائيلية بعد نكسة يونيو 1967 .. في ذات الوقت الذي نشطت فيه المخابرات العربية للكشف عن هؤلاء الخونة الذين توإلى سقوطهم وشنقهم. وكان من أبرزهم – شاكر فاخوري – الذي سعى بنفسه للدخول إلى وكر الجواسيس طمعاً في المال .. !

كلهم جون .. وروبرت

نشأ شاكر فاخوري نشأة أولاد الأثرياء. فهو لم يعرف يوماً طعم الفقر .. ولم يذق مرارته.. وبرغم ذلك ظهرت بوادر الفشل في حياته أثناء دراسته الابتدائية فكان تعثره الدراسي يرهق بال أهله ويحيرهم.

وفي المرحلة الإعدادية وصم في محيطه بالفاشل ... وأحاطته حكايات تداولتها الألسنة عن سرقاته المتعددة لأموال والده.. وتخوف الأقارب من يده الطويلة حين زيارته لهم.

وبعدما ضج أهله وصرخوا من تصرفاته الطائشة الغبية .. الحقوه بمعهد مهني في روض الفرج .. فخرج منه كأنه لم يدخله... واستدعى لتأدية الخدمة العسكرية فتهللت أسارير أسرته التي نكبت به .. ولحق بها الأذى من سلوكه المعوج.

وما إن أمضى مدة تجنيده في الدفاع الجوي.. حتى وجد نفسه بلا عمل.. ونظرات الحيرة والقلق تنهش جلده ممن يحيطون به. فحمل حقيبته المليئة بالفشل وسافر إلى الكويت.. وعمل بإحدى الشركات الأجنبية في جزيرة فيلكه الواقعة بمدخل خليج الكويت.

كانت إقامته في كرافان معدني صغير مع فني أمريكية فرصة له ... ليتقرب من خلاله إلى إدارة الشركة الأجنبية... التي رأت عدة مرات الاستغناء عنه لافتقاره إلى الخبرة الفنية.. وكان رفيق مسكنه – جون باليدر – مكلفاً بتدريبه على أعمال اللحام (ضغط عالي) لذلك .. كاد شاكر أن يقبل قدمي جون ... عندما أخطأ خطأً فنياً من شأنه إحداث أضرار جسيمة بأحد الأجهزة الدقيقة. لكن جون تدارك الخطأ سريعاً ثم صفعه على وجهه وبصق عليه.. فانفجر الرعب في وجه شاكر خوفاً من تقرير جون .. الذي بسببه سيطرد فوراً من الشركة ويعود إلى مصر بفشله.

وحاول جاهداً استمالة جون والاعتذار له. لكن جون ظل لأكثر من ساعتين يكتب تقريره المفصل.. وبعدما فشلت محاولات شاكر .. بكى في ضعف فقام جون إليه وقال له:

&Oslash; أستطيع أن أمزق تقريري عنك ولكن في حالة واحدة فقط.

&Oslash; في ضراعة نظر شاكر إليه قائلاً:

&Oslash; لن أنس لك ذلك أبداً مستر جون .. ماذا تريد مني؟

اتجه جون إلى مفتاح الإضاءة وأطفأ أنوار الكرافان .. وسمع شاكر حفيف ثياب تخلع وأنفاس تتلاحق ... فارتعش وانكمش في مكانه وقد ولت جرأته.

التصق به جون وقال له في صراحة:

&Oslash; لكي تستمر في العمل لا بد وأن تستجيب لي. لقد ألحقت تحت إمرتي بعد فشلك في عدة أقسام أخرى. وعدم رضائي عنك معناه الطرد. هيا .. هيا قرر الآن فوراً... !!!

وعندما لم يلق جون رداً .. امتدت يده تتحسس شاكر الذي تفصد منه العرق... وارتعدت "مفاصله" والجمه الخجل والخوف.

لم يطل الموقف المخزي كثيراً... إذ قام شاكر "بالمطلوب" واستراح اليه جون .. وكتب فيه التقارير الكاذبة التي حسنت من وضعه أمام إدارة الشركة .. وجعلته يشعر بالأمن في جزيرة فيلكة إلى حين.

لقد اشترى برجولته سكوت جون عن أخطائه في العمل ولم يكن ليتخيل أن يقوده الخوف من الطرد إلى هذا الفعل الشائن... وحاول أن ينسى ما حدث معتقداً أن جون سيتركه لحاله... ولكن خاب اعتقاده وتكرر الأمر في اليوم التالي أيضاً ... وازدادت مطالب الشاذ الأمريكي يوماً بعد يوم .. بل وحدثت كارثة جديدة وضعت شاكر في مفترق طرق وخيار صعب يكاد يقضي عليه.

جاءه جون بمهندس قبرصي يدعى "روبرت هوب" يشغل وظيفة كبيرة في الشركة .. وطلب منه أن "يتعامل" معه بحرية... ووجد شاكر نفسه مطالب بتلبية شذوذهما دون اعتراض.. بل أسفرت علاقته بالمهندس روبرت عن إحساسه بمهانة ما بعدها مهانة. إذ فوجئ به يريد "مبادلة المواقع" فتأفف شاكر ثائراً ورفض أن يقوم بدور الأنثى حتى ولو خسر عمره. فزجره روبرت وتهدده بالرفد من الشركة التي رفعت من راتبه كثيراً بتوصيات دائمة منه ومن جون. ولم تمر عدة أيام حتى استدعاه مدير شؤون العاملين وأخبره بنبأ الاستغناء عنه، وواجه شاكر المفاجأة بخوار واهن وحاول أن يشرح للمسؤولين بالشركة حقيقة الأمر .. لكن صمتهم أخافه .. وكانت اللامبالاة إجابة للتساؤلات التي بعقله...فكل الأمريكان بالشركة كانوا جون ... وروبرت. وبعد خمسة أشهر من العمل في الجزيرة حمل حقائبه ولكن إلى بيروت لا إلى القاهرة.

بنات لبنان

كانت بيروت في تلك الفترة تموج بالفن وبالانفتاح وبالحياة. إنها تختلف كلية عن سائر العواصم العربية بما فيها عواصم دول المغرب العربي المتحررة . فهي أكثر تحرراً وتحضراً. وصفعه إعلان غريب جداً في إحدى المجلات البيروتية لكازينو مشهور ... يعلن عن وجود "كبائن" خاصة للزبائن .. لقضاء أوقات "الراحة" بعيداً عن عيون المتطفلين. فترك حقائبه بحجرته ببنسيون "دعلون" بشارع بعلبك ... واستقل أول سيارة صادفته إلى الكازينو.

هناك وجد ضالته. فتيات شبه عاريات يتبخترن في دلال، قدودهن ممشوقة وضحكاتهن كأنها أغنيات تصدح في ليل لبنان.

اقتربت منه إحداهن فأغرقته بعطرها وجمالها في بحور من الأحلام والسحر ... وأغدقت عليه بدلالها فيضاً من الرغبات تفاعلت بأعماقه... وقد تشوقت رجولته لطعم أنثى ... وجسد أنثى... وصت أنثى ناعم كالنسيم... بعدما مقت رائحة البترول وجسدي جون وروبرت... وكره تأوهات الذكر ... وبعد تعارف سريع سحبته إلى إحدى الكبائن التي تعمل بنظام "التايمر".

غرق شاكر بين أحضان الحسان في بيروت مستهلكاً مدخراته التي وفرها في الكويت.. فالضياع الذي توج حياته كان مدعاة لأن يحس بالخواء وينزلق إلى حالك في اندفاع غير محسوب ... وثمالة تغشاه بلا روية .. وتصادف أن تعرف على فتاة اسمها "أوفيليا" قالت له أنها يوغسلافية وإن كانت أمها في حلب.

كانت أوفيليا ذات جمال يسبي العقول .. وأنوثة طاغية تربك عمليات الفكر .. وتسري بجسدها البض دماء حارة تزيد من لسعات الرغبة. صادقته الفتاة ودارت به نهاراً بين جبال لبنان .. وليلاً بمواخيرها حتى نفذت نقوده. فتركته إلى قبرص حيث تعمل في "لارنكا" بإحدى شركات التجارة الدولية. ومن هناك اتصلت تليفونياً به ... وأطلعته على صعوبة عثوره على عمل في قبرص وهو لازال ببيروت. فسافر إليها وأخذت تطوف معه أنحاء المدينة بحثاً عن عمل له وباءت محاولاتهما بالفشل. فقال له مازحة: "ليس لك إلا اللجوء لسفارة إسرائيل في نيقوسيا".

اندهش شاكر لعبارتها وفوجئ بها تخبره بأن سفارة إسرائيل بالفعل ستحل مشكلته... كما حدث مع آخرين أغلقت في وجوههم أبواب الرزق في قبرص. فرتبت لهم أعمالاً مختلفة تتفق وميولهم، تأكيداً لنوايا إسرائيل الحسنة تجاه العرب. وعندما قال لها في استغراب: - هل يعد هذا السلوك خيانة لمصر؟

ضحكت عميلة الموساد وقالت في دلال:

&Oslash; أيها المغفل .. أنت خدمت في القوات الجوية في مصر. ولو أنك ذكرت ذلك للعاملين في سفارة إسرائيل فسيحملونك على أعناقهم... لأنهم يريدون أصدقاء لهم في مصر على دراية بأوضاع الجيش . ولكنك لا تصلح لأن تكون جاسوساً أيها "الأبله".

وضحك شاكر وقال لها:

&Oslash; ولماذا لا أكون جاسوساً؟ إنني فشلت في كل حياتي ولم أفلح في أي عمل قط...

وفي بنسيون "جونايكا" تمدد شاكر على ظهره... وسلط عينيه إلى نقطة وهمية بسقف الغرقة وقال لنفسه:

&Oslash; نعم .. أنا إنسان فاشل .. منذ صغري وتطاردني الخيبة تلو الخيبة... حظي العاثر أوقعني في شرك الشواذ الأمريكيين في الكويت .. وطردت من العمل لأنني رفضت أن أمثل دور المرأة مع روبرت القذر. كنت أرحب بكوني "الرجل" والآن ... الآن ياليتني وافقت على ألعب "الدورين" معاً طالما وافقت على الاشتراك في تلك المهزلة ... وها أنا أعيش على "إعانة" من أوفيليا بعدما أبيعها رجولتي كل ليلة.. إعانة؟ ياليتها تكفي مصروفي هنا .. إنها تمنحني بمقدار ما أنفقه لأعيش بالكاد. حتى رجولتي شح نبعها وجف معينها أمام هذا النزف المستمر.

وقفز شاكر من فراشه يضمر أمراً .. وسحب حقيبته من الدولاب وأفرغ بها ملابسه وغادر لارنكا إلى الشمال حتى نيقوسيا العاصمة.

من فوره قصد مبنى السفارة الإسرائيلية... وعلى الباب الرئيسي تقدم إلى موظف الاستعلامات وسأله عن ضابط المخابرات في السفارة.. دهش الموظف وطلب منه إبراز جواز سفره ليتأكد من جنسيته.. ورفع سماعة التليفون ولم تمض عدة دقائق إلا وكان بمكتب الضابط المسؤول الذي سأله عما يريد بالضبط. فقال له شاكر أنه مر في حياته بظروف صعبة ... وعانى كثيراً من جراء حظه السيء الذي صادفه في مصر والكويت... وأنه الآن لا يملك ثمن تذكرة العودة إلى مصر ويريد أن "يبيع" لإسرائيل معلومات عسكرية هامة قد تحتاجها وفي ذات الوقت إنه على استعداد للعمل معهم في المستقبل لإمدادهم بما يحتاجونه من معلومات عن مصر ... بالمقابل، بل وحدد شاكر نوعية المعلومات التي يستطيع إمدادهم بها بالتفصيل ... وهي معلومات تتعلق بالقوات الجوية التي خدم بين صفوفها لمدة طويلة.

أصيب الضابط بالدهشة وتركه يكتب بخط يده كل ما عنده من بيانات ومعلومات واستغرق شاكر في الكتابة ستة ساعات استطاع أن يكتب خلالها اثنتي عشرة صفحة فولسكاب تضمنت كل ما لديه. فطلب منه الضابط أن ينتظر بفندق واطسون حتى يستدعيه.

احتضان خائن

لازم شاكر حجرته بالفندق لمدة خمسة أيام ... اشتعلت بداخله أثناءها كل أنواع الظنون. وكان لبقائه بمفرده طوال هذه الأيام الخمسة سبب لا يعلمه بالطبع .. فالمخابرات الإسرائيلية لكي تدعم مدى صدق العميل الجديد .. تبحث في حياة العميل وشخصيته وتاريخ حياته.. ويترك العميل لفترة ما يقطع فيها الاتصال به... وتتم في هذه الفترة أعمال التحريات والمراقبة والتحليل للتأكد من صدق النوايا... وعندما استدعوه غمرته سعادة كبيرة .. وأسرع إلى السفارة الاسرائيلية فاستقبله ضابط آخر اسمه "هيدار" وهو الضابط المسؤول عن التجسس في "الجمهورية العربية المتحدة".

استعرض معه هيدار تفاصيل ما جاء بتقريره. ولعدة ساعات أخرى خضع شاكر لامتحان صعب من الضابط الإسرائيلي الذي تعامل معه بلطف شديد وقال له "مرحباً بك في سفارة بلد صديق" وعليك أن تعلم جيداً أن الفن العسكري والسياسي .. يستقي قوته من المعلومات التي يوفرها جهاز المخابرات الفعال في شتى الميادين في زمن الحرب أو السلم.

فالمعلومات المستقاة من قبل دوائر المخابرات هي أهم ما يعتمد عليه واضعو السياسة .. والقادة العسكريون في كل دولة. تلك الخطط التي تكفل وتؤمن المفاجأة وإرباك العدو في المجالين العسكري والسياسي .

ومن أهم نجاحات رجال المخابرات ... ورود المعلومات في الوقت المناسب .. وبالقدر الكافي قبل بداية الالتحام. وقياساً عليه ... فإسرائيل لا يمكن لها أن تخطط لأي عملية دفاعية مع العرب .. إلا إذا تجمعت لديها كل المعلومات المطلوبة عن الدول العربية عامة .. والدول المجاورة لها خاصة.

واضاف "هيدار" بأن القسم الخاص بالدول العربية في المخابرات الإسرائيلية... قد انتهج مناهج عديدة .. وطبق وسائل مختلفة لتحقيق انتصار دائم على العرب. وما حدث في يونيو 1967 هو نتاج المعلومات الغزيرة ... التي تجمعت وتسربت من البلاد العربية عن طريق عملاء إسرائيل المخلصين.

وأشد هيدار بدور هؤلاء العملاء موضحاً لشاكر صراحة أن إسرائيل دولة مزروعة في قلب الوطن العربي ... نتيجة لإرث قديم في أراضي فلسطين... وأن المخابرات الإسرائيلية لا تترك عملاءها نهباً للمخاوف وللمخاطر .. بل تضحي بالكثير من أجلهم وتعمل جاهدة على استردادهم بتشى السبل .. ولا تبخل عليهم بشيء طالما هم مخلصون لإسرائيل محبون لها.

وأكد ضابط المخابرات المحنك ... أن الكثيرون يعتقدون بطريق الخطأ أن إسرائيل إنما تهدف فقط إلى الحصول على معلومات عسكرية لها اتصال مباشر بالعمليات القتالية. ولكن المعركة العسكرية تعتمد على نواح كثيرة جداً لا تقل أهمية عن القوات. بل لها الأثر الفعال على كفاءتها مثل قدرة الدولة على الصناعة... وتوافر الطاقة الانتاجية، والحالة الاقتصادية العامة للدولة، والحالة التموينية والاحتياطي العام والمخزون السلعي.. ومدى تماسك الجبهة الداخلية وصمودها .. وقدرة الدولة ومدى استعدادها لظروف الحرب.

كانت الظروف النفسية السيئة مضافاً إليها الحاجة الماسة إلى المال سبباً مهماً في جلوس شاكر فاخوري أمام ضابط الاستخبارات الإسرائيلي .. فقد جلس أمامه لأوقات طويلة وعلى مدار أيام عدة كتلميذ ينتبه لإرشادت أستاذه ... وبرأسه تدور عشرات الأسئلة حول معاناته... والمشكلات التي يمر بها ...

ووسوس له الشيطان أن إسرائيل تعرف كل شيء عن مصر .. وأن المعلومات التي قدمها لن تقدم أو تؤخر ... إنها مجرد معلومات عامة هامشية لا تحمل ضرراً ما لأمن وطنه.. أو تدينه أمام الجهات الأمنية إذا ما انكشف أمره.

وظلت تلك الأوهام تسيطر عليه حتى استحالت إلى حقيقة... يؤكدها ما كان يلقيه عليه هيدار بثقة ... واطمئنان.

لقد كانت جل أمانيه أن يخرج من بوتقة الفقر .. ويعيش بمصر آمناً معيشياً لا يسأل أحد أو يمر بضائقة مالية ترهق باله.

وأمام رغبته الملحة في الإثراء السريع المريح ... ونقص الدافع الوطني .. إضافة إلى الإغراءات الخيالية التي صبت في أذنية صباً... وتملكت منه ... وافق على أن يكون صديقاً للعدو .. أميناً في إمداده بكل ما يطلب منه من معلومات أو مهام. هكذا دخل شاكر برجليه وكر الجاسوسية راضياٌ قانعاً... غير عابئ بالعواقب أو نهاية الطريق المظلم الحالك .. ووجدها رجال الموساد فرصة لا تعوض جاءتهم بلا تعب... فاستغلوها وأجادوا تلقينه فنون اللعبة الخطرة ... وكانوا قانعين بأن من رضي باللعب مع الثعابين فحتماً – سيلدغ شر لدغة.

استوعب العميل الجديد مهامه التجسسية جيداً.. وامتلأت جيوبه الحاوية بأموال الموساد القذرة. وحمل حقائبه إلى القاهرة لمدة شهر .. وعاد ثانية إلى قبرص وأبلغ الضابط المسؤول بالسفارة الاسرائيلية بنتائج رحلته السريعة.

إخلاص جاسوس

كتب شاكر في تقريره أنه لم يضيع وقتاً في القاهرة. بل شرع في الحال في ممارسة عمله بصدق ... وكون صداقات عديدة مع رجال ونساء من فئات مختلفة من رواد الملاهي والبارات. وأهم صداقاته كانت مع ضابط مصري يدعى (م. ش. أ) تعرف عليه بأحد الفنادق. وأغدق عليه بكثير من الهدايا دون سؤاله عن أي شيء حتى لا يثير مخاوفه.

وكان التقرير الذي سلمه شاكر لضابط الموساد متخماً بالمعلومات التي أذهلت الضابط ... فأرسله بدوره إلى تل أبيب ... وجاءت الأوامر العاجلة بضرورة سفر شاكر لإسرائيل.

وتأكيداً لإخلاصه للموساد وافق شاكر بدون مناقشة، وتسلم جواز سفر إسرائيلي باسم (موشي إبراهام) ... وطار بطائرة العال الإسرائيلية إلى مطار (اللد)... ليجد الضابط هيدار بانتظاره... وكانت إقامته بتل أبيب في إحدى الشقق المعدة لأمثاله من الخونة .. وهي في العادة مجهزة بأحدث ميكروفونات التنصت والكاميرات الدقيقة.

وكعادة المخابرات الإسرائيلية لكي يضمنوا السيطرة على الجواسيس ... صوروه عارياً مع مديرة المنزل .. وهي فتاة في الثانية والعشرين خمرية اللون قالت له إن جذورها عربية. وأقامت معه الفتاة إقامة كاملة لخدمته ولراحته.

وفي مبنى المخابرات الإسرائيلية، اجتمع به عدة ضباط وخبراء ناقشوا معه التقرير المفصل الذي سلمه في قبرص، وكان بينهم الضابط هيدار ... وضابط آخر اسمه أبو يوسف ... وآخر مسؤول عن التجسس في لبنان، وبعد مناقشات طويلة، قال له كبير الخبراء:

&Oslash; لقد سعيت إلينا بنفسك في قبرص، والآن .. نريد أن نتأكد من إخلاصك للموساد .. وأنك لست ضابط مخابرات مصري مدسوس علينا ... وهذا ليس ببعيد على المخابرات المصرية التي زرعت خبراء لها في جهازنا مرات عديدة.

صراخ شاكر محتجاً، وأكد لهم أنه لا يعرف أين يقع مبنى المخابرات المصرية، وأنه بالفعل ذهب بنفسه إلى سفارتهم في قبرص... رغبة منه في إثبات أهميته ووجوده بعدما أحاطه الفشل من كل جانب... وأيضاً ليحصل على أموال كثيرة تعينه على مجابهة أهله ومعارفه في مصر.

قال هيدار:

&Oslash; أنت هنا في تل أبيب لتثبت لنا ذلك، ولكي نعمل معاً بأمان، فسنفحصك بواسطة "جهاز كشف الكذب".

ولم يحتج شاكر هذه المرة... بل أبدى رغبة جادة في تأكيد "إخلاصه" لهم بكل الطرق التي يرونها.

وأخضع بالفعل للفحص بواسطة الجهاز الأمريكي.. الذي أكد صدق خيانته لوطنه وانتمائه للموساد قلباً وعقلاً.

عند ذلك... ابتدأ تدريبه على أيدي أمهر ضباط المخابرات... الذين صنعوا منه جاسوساً خبيراً بفنون التصوير، وتشفير الرسائل، والكتابة بالحبر السري، ومسح الأراضي "الطوبوغرافيا" وكيفية التعرف على الأسلحة الحربية برية وبحرية وجوية، وتحديد قدرة تسلحها وطاقتها ومداها المجدي، وأعطى عنواناً في روما ليبعث برسائله المشفرة.

ومن المعروف أن المخابرات الإسرائيلية تخصص لكل جاسوس يعمل لحسابها شفرة خاصة به .. باستخدام "رواية" عربية معروفة أو أجنبية متداولة... تكون أساساً للإشارات الرمزية المتبادلة بينه وبين المخابرات الإسرائيلية .. ويجري تبديل هذه الرموز بين آن وآخر.

أيضاً تحدد المخابرات الإسرائيلية نوعية الحبر السري لكل جاسوس، فلكل حبر سري ميزات خاصة تؤكد أن مسكر الرسالة هو العميل نفسه المسلم إليه الحبر.

خريج الموساد في القاهرة

بعدما حصل شاكر فاخوري على دورات في التجسس، عاد ثانية إلى نيقوسيا ثم إلى القاهرة. وبدأ في الحال جمع معلومات وافية عن الجيش المصري والقوات الجوية بالذات .. وكذلك عن النشاط السوفييتي في مصر والخبراء العسكريين السوفييت، والأحوال عامة بعد غارات إسرائيل المستمرة على ضواحي القاهرة، وكان يستقي معلوماته من أفواه العامة من الناس ... على المقاهي وفي المواصلات العامة والنوادي الليلية في شارع الهرم .. حيث ترتادها كافة المستويات.

أما المعلومات العسكرية وأخبار الاستعدادات الحربية، ونشاط الخبراء السوفييت فكان يحصل عليها من العسكريين الذين يمتون إليه بصفة القرابة أو الجيرة. وأيضاً من خلال الضابط (م. ش. أ) الذي حمل إليه بعض الهدايا من قبرص على سبيل الذكرى.

لقد ركز شاكر كثيراً على هذا الضابط الذي استجاب له بسرعة .. وتبسط معه في الحديث وسرد الأخبار مما استتبع ملازمته لفترة طويلة طوال وجوده بالقاهرة، وعمل على منحه الدعوات المجانية للحفلات.. وبعض الهدايا الذهبية الثمينة في المناسبات المختلفة، والتي لا تتناسب وحجم علاقتهما.

كل ذلك أدى إلى تخوف الضابط المصري من سلوك الشاب، فبادر على الفور بإبلاغ جهاز المخابرات بشكوكه... ونقل إلى المسؤولين بالجهاز كل ما دار بينه وبين الشاب من أحاديث وما تسلمه منه من هدايا مختلفة.

تم عمل الترتيبات الأمنية اللازمة .. وكان هناك حرص زائد على ضبطه ومعه أدلة إدانته .. وطلبوا من الضابط أن يتظاهر بصداقته، وألا يجعله يشك في نواياه.. وأن يطلعهم أولاً بأول على مجريات الأمور.

وبعدما اعتقد شاكر أنه اشترى الضابط المصري بهداياه .. انتهز فرصة مروره بضائقة مالية "مفتعلة"، وعرض عليه إمداده ببعض المال.

وحسب الخطة وافق على طلب شاكر بجلب بعض الوثائق العسكرية... بحجة الاطلاع على استعدادات الجيش للحرب، ولبس الخائن ثياب الوطني المخلص الذي يحلم بيوم الثأر من إسرائيل، وبأن رؤية هذه الوثائق وشروحه عليها تسعده كثيراً... وتشعره بمدى قوة الجيش المصري، خاصة والطيران الاسرائيلي، قد بدأ يتساقط كالعصافير بعد اكتمال حائط الصواريخ، ولم تعد لديه الشجاعة على اختراق المجال الجوي المصري. وأمده الضابط بمعرفة جهاز المخابرات ببعض الوثائق، ولما تضخمت لدى شاكر الوثائق المعدة سلفاً حملها سريعاً إلى نيقوسيا، وامتلأت جيوبه عن آخرها بأموال الموساد، فعاد بها إلى القاهرة يحمل رغبة الموساد في تجنيد الضابط المصري، وكل مهمته منحصرة في إقناعه بالسفر إلى قبرص لعلاج ابنته، وهناك... سيتولى رجال الموساد اصطياده بالسيطرة عليه بتصويره عارياً مع عميلة إسرائيلية، وبمنحه آلاف الجنيهات.

عندما عرض شاكر على الضابط فكرة السفر إلى قبرص... تظاهر بالموافقة، وأخذ يماطله وفقاً لطلب المخابرات متحججاً بدراسة الطلب في قيادة الجيش، حيث كانت طلبات السفر خارج مصر تخضع لظروف عدة بالنسبة للضباط.

ولما طالت مدة الانتظار، أراد شاكر أن يذهب بالضابط إلى قبرص مجنداً... وترتفع بذلك مكانته في جهاز الموساد... وبالتالي يتعاظم رصيده المالي... فمنح الضابط مبلغاً كبيراً لقاء بعض الخرائط العسكرية، موضحاً عليها مواقع صواريخ "سام 6"، وكذلك المواقع التبادلية، وخرائط أخرى تبين محطات الرادار الهيكلية والصواريخ، وأيضاً خطط السوفييت لحماية المواقع الحيوية، وخطط اصطياد الطيران الاسرائيلي المتسلل إلى العمق المصري.

بل إن الخائن الذي اعتقد بالفعل أنه اشترى الضابط... طلب منه تصوير مواقع عسكرية، وإمداده بوثائق عن الخطط الدفاعية والهجومية العسكرية والأسلحة الحديثة، واستأجر الجاسوس الخائن شقة جديدة من أموال الموساد، خصصها للقاءاته مع الضابط و "تخزين" المستندات والخرائط بها.

وبعد عدة سفرات إلى قبرص بالمعلومات التي سربتها المخابرات المصرية إليه لينقلها إلى الموساد .. يعود شاكر بالأموال الطائلة، ينفق منها على ملذاته، ويشتري الهدايا للضابط ولأسرته.

وذات مساء عاد مخموراً من سهرة فسق، وعندما امتدت يده بالمفتاح إلى كالون الشقة، فوجئ بالباب ينفتح فجأة .. ويقف بالداخل عدة أشخاص كانوا بانتظاره ويترقبون مجيئه...

جذبه أحدهم إلى الداخل، وعلى المكتب رأى الأوراق التي جمعها.. خرائط .. ووثائق... وتقارير كتبها بخط يده، وصور لبعض المواقع العسكرية، وعدة أفلام خام لم يجر تحميضها..

وبينما كانت الأيدي تمسك به، ويتجه الركب إلى حيث ينتظره مصيره الذي خطه بنفسه .. أحس باندفاع بوله الدافئ بين ساقيه... وقال لمرافقيه:

&Oslash; إلى أين ستأخذونني؟

فقال أحدهم:

&Oslash; لتدفع ثمن خيانتك .. هذه الأرض التي تبولت عليها الآن رعباً .. منحتك الأمن والأمان فبعتها... بعتها لأقذر كلاب الأرض نجاسة وخسة .. فتعال إلى مصيرك المحتوم حيث لن ينقذك أحد من حبل المشنقة... !!

عمار الحرازي07-22-2010, 07:30 AM

يعقوب جاسم ... ـ عاشق فروندزة

كان يصطاف على شواطئ بحر قزوين في إيران، فاصطادته الموساد وأغرقته عاهراتها في بحور الجنس والمتعة، ورجع الى العراق جاسوساً خائناً، برفقته زوجة إيرانية مدربة، اتبعت حيلاً عجيبة للإيقاع بالضباط العراقيين، لكشف أسرار المخزن رقم (3) في بغداد، وأسرار الغواصات السوفييتية في منطقة أم قصر.

إنها أجرأ عميلة استخدمت سم السيانيد لقتل ضحاياها... !!

حصر كل شخص اسمه يعقوب

في يناير 1966 وفي إحدى نقاط العبور على الحدود العراقية الإيرانية، لاحظ ضابط عراقي بعيني خبير مدقق، أن حالة من الارتباك تعتري أحد العابرين، فتقدم منه وسأله عن وثيقة سفره، فازداد ارتباكه، مما شجع الضابط على ضرورة تفتيشه مرة ثانية بدقة. وكانت المفاجأة التي لم تخطر بباله أبداً، إذ اكتشف جيوباً سحرية في قاع حقيبته، مليئة بخرائط لمواقع عسكرية عراقية، وتقارير سرية هامة تمس الجيش والاقتصاد.

انهار الجاسوس في الحال، وأخذ يصيح بالفارسية بما معناه أنه مجرد "ناقل" للحقيبة ولا يدري بما بها.

وفي مكتب المخابرات العراقية في بغداد، أنكر معرفته بالشخص الذي سلمه الحقيبة، وقال إنه اعتاد مقابلته بمقهى بشارع هارون الرشيد فيتسلم الحقيبة منه وينصرف كل الى حاله، دون أن يعرف من هو، أو ماذا بالحقيبة؟!

لم يصدقه ضباط المخابرات بالطبع في بادئ الأمر، وأمام إصراره وتأكيده على أقواله، أدخلوه غرفة خاصة في بدروم المبنى، حيث جرى تعذيبه بقسوة ليعترف فأقر بأنه يعمل لصالح المخابرات الإسرائيلية، وتنحصر وظيفته في الذهاب لمقابلة جواسيسها في العراق لاستلام الوثائق والعبور بها الى إيران. وتكرر هذا الأمر في بغداد تسع مرات الى أن قبض عليه.

وفي محاولة أخرى لانتزاع أية معلومات "من فجر عبد الله"، حبس في زنزانة انفرادية لعدة أيام بلا طعام أو شراب، وأوهموه بأن حكماً قضائياً سيصدر ضده خلال أيام، وسيعدم لا محالة عملاً بقانون العقوبات العراقي، الذي يعامله معاملة الجاسوس، فاعترف فجر بأنه لا يعرف سوى الاسم الأول فقط للعميل الذي سلمه الحقيبة وهو "يعقوب"، وتذكر اسمه لأنه بينما كانا معاً ذات مرة في مقهى بشارع هارون الرشيد، أقبل أحد الأشخاص وصافحه منادياً عليه باسمه "يعقوب".

أخرج فجر من زنزانته الضيقة الى أخرى انفرادية أكثر اتساعاً، وعرضوا عليه أن يساعدهم في التعرف على "يعقوب" هذا مقابل أن يصنفوه كشاهد فقط، فوافق فجر على هذا العرض السخي.

ومنذ أن أدلى باسم يعقوب، وكان هناك سباق محموم للتوصل الى جاسوس إسرائيل عن طريق السجلات المدنية، التي تم مسحها بالكامل في كل العراق لحصر الاسم، والحصول على صور لكل "يعقوب" عراقي لعرضها على العميل الإسرائيلي.

آلاف الصور عرضت عليه مرة واثنين، على مدار عدة أيام، عومل خلالها معاملة حسنة، فأطعم أطايب الأطعمة وألذها، ونام نوماً مريحاً على فراش وثير.

وفي اليوم السابع للبحث في الصور، تعرف فجر على صورة يعقوب يوسف جاسم – 34 عاماً – الموظف بإحدى محطات الكهرباء ببغداد، فعرضوا عليه الصورة مرة أخرى بعد خلطها بصور قريبة الشبه، لكنه تعرف على الصورة نفسها، وفي الحال قامت قوة من رجال المخابرات بمهاجمة منزله وتفتيشه، فعثروا على وثيقة سفره التي تبين أنه سافر الى إيران عشرات المرات.

وعندما أخبرهم بأنه متزوج من إيرانية، لم يلتفتوا اليه، بل استمروا في التفتيش الى أن ضبطوا عدة وثائق عسكرية سرية محشورة في "رجل" السرير النحاس، مربوطة بخيط رفيع يتدلى من أعلى "الرجل" الأسطوانية، التي نسي أن يضع عليها غطاءها كالأرجل الثلاثة الأخرى، فألقوا القبض عليه وعلى زوجته الإيرانية "فروزندة وثوقي".

واستمرت عملية التفتيش بدقة متناهية، بمعرفة خبراء المخابرات الفنيين، الذين اكتشفوا مخبأً سرياً في غلاف مجلد كبير عن الشاعر "معروف الرصافي" يحوي رسائل باللغة الفارسية، عبارة عن أوامر من ضابط الارتباط الإسرائيلي في ميناء عبادن الإيراني، يطلب منه موافاته بتقارير وأخبار عن الأسلحة السوفييتية الجديدة التي تصل الى العراق، وكذلك عن الغواصات السوفييتية الكامنة في قاع منطقة "أم قصر" المتاخمة لحدود الكويت، وحظائر طائرات توبولوف – 22 الحربية المهاجمة، وعددها، والمطارات الحربية المتواجدة بها، ومعلومات تفصيلية عن الطائرة ميج 21 ومطاراتها وعدد طياريها، والخبراء السوفييت في العراق.

صراع السيطرة

وفي مبنى المكتب الثاني – المخابرات- أخضع يعقوب لاستجواب مطول، فأنكر في البداية اشتراك زوجته معه في أعماله التجسسية التي اعترف بها وبعمالته للموساد، إلا أن استجواب فروزندة على انفراد أسفر عن اعتراف صريح بدورها في شبكة زوجها، بل وأدلت بأسماء بعض أعضاء الشبكة من العراقيين قبلما يعترف بهم يعقوب.

وكان لسقوط شبكة يعقوب أثر بالغ على المخابرات الإسرائيلية، إذ خسرت بسقوطها العديد من أمهر جواسيسها في العراق.

كانت لطمة عنيفة للموساد التي لم تتصور أن بالعراق رجال مخابرات أكفاء، لديهم المقدرة على مطاردة الخونة بمثل هذه البراعة، وفضح ممارسات إسرائيل والتواطؤ الإيراني معها من أجل زعزعة الأمن في العراق، بما لا يدع مجالاً للشك أن هذا التواطؤ توجهه الولايات المتحدة الأمريكية وتباركه، للحفاظ على مصالحها في الخليج، للحد من التغلغل السوفييتي في المنطقة، خاصة بعد زيارة شاه إيران موسكو في يوليو 1965، التي أزعجت الإدارة الأمريكية وأربكتها.

لقد كان التوسع في المؤسسة العسكرية في المنطقة سبباً آخر، يضاف الى الخوف الأمريكي والإسرائيلي معاً، فالتوسع في المؤسسة العسكرية يعني تحديث الجيوش، إدارة، وتسليحاً، وتدريباً، يترتب عليه توسع في الطبقة العسكرية، نظراً لغياب المؤسسات السياسية المدنية، فحتماً ستتحول الطبقة العسكرية الى فئة ضاغطة سياسياً، وذات ثقل في اتخاذ القرارات.

هكذا كانت النوايا الأمريكية تتجه بزاوية حادة لإجهاض النمو العسكري في المنطقة لعدم التداخل مع مصالحها، والعمل على تأسيس مؤسسات نيابية، وحكم مدني نزيه، يفتح الباب على مصراعيه كي تجد الكفايات المدنية مكانها في السلطة، وفي جهاز القرارات العليا، وإلا فستلقى المنطقة – مع هذا النمو العسكري الحديث – سلسلة من المغامرات والاختبارات المرة، خاصة إذا لم تكن هناك وقاية من عمليات التلقيح السياسي، وزرع روح الاحتراف العسكري وشرفية المهمة العسكرية.

ومنذ الانقلاب العسكري الذي أطاح بالملكية في العراق في 14 يوليو 1958، والعسكريون يعتلون مقاعد الرئاسة، حيث توالت الانقلابات العسكرية، وظهرت على الساحة وجوه عسكرية لم تلتزم بخط سياسي عام، أو إستراتيجية مفهومة، مما أقلق الولايات المتحدة الأمريكية التي تحتفظ بوجود عسكري في الخليج العربي منذ عام 1949، حماية لمصالحها في البحرين والكويت والسعودية، واعتبار الخليج العربي قاعدة شمالية لأسطولها في المحيط الهندي.

وواكب تضاؤل حجم الوجود العسكري البريطاني في المنطقة، تزايد عسكري بحري سوفييتي في المحيط الهندي، مما يستلزم على الولايات المتحدة أن تحافظ على الوجود العسكري الغربي في المنطقة، ذلك أن نصف النفط المستهلك في غرب أوروبا مصدره الخليج العربي. وتعتمد القوات الأمريكية في جنوب شرق آسيا، وقوات حلف الأطلسي على بترول الخليج.

من هنا، فالسيطرة الأمريكية على الخليج العربي أمر حتمي لتنامي مصالحها به، خوفاً من وقوعه تحت سيطرة قوى أخرى مناوئة للغرب، قد تهز ميزان المدفوعات الأوروبي الغربي هزة كبيرة.

ومن جهة أخرى، يسعى الاتحاد السوفييتي الى السيطرة على منابع الطاقة، ومنتجاتها الرئيسية بالنسبة لأوروبا الشرقية خشية استقلالها اقتصادياً عن الكرملين، وكانت الإمدادات البترولية هي البعد الرئيسي من أبعاد الهيمنة السوفييتية على دول "الكوميكون" أي السوق الاقتصادية لأوروبا الشيوعية .. فحصول السوفييت إذن على دور مؤثر في منطقة الخليج العربي، يعني سيطرتهم على أسواق البترول في أوروبا الشرقية، وبالتالي ضمان ولاء هذه الدول لها.

أدى الصراع بين الدولتين العملاقتين في المنطقة، الى التنافس الشديد في التواجد الفعلي على أرض الواقع، عسكرياً أو سياسياً، فأغرق السوفييت العراق بالسلاح المتقدم، وملأ الخبراء الروس مدن العراق وشوارعها في تظاهرة شبه استعراضية، بل وتواجدت الغواصات السوفييتية بشكل دائم في المنطقة، وأصبحت إحدى معالم ميناء أم قصر العراقي الملاصق للكويت، حيث نالت البحرية السوفييتية حقوق استخدام التسهيلات المتوافرة هناك.

هذا الصراع المحموم على المصالح، تسبب في جعل منطقة الخليج كقنبلة موقوتة، تهدد بالانفجار، نظراً لوجود نزاع بين إيران والعراق على ترسيم الحدود بينهما في شط العرب، مما دفع إيران الى تأليب الأكراد على بغداد، فلجأ حكام العراق الى التقارب مع الأحزاب المعارضة في إيران، ومع الدول العربية المطلة على الخليج، وتشكيل لوبي عربي ضد إيران.

هناك أيضاً نزاع حول تسمية الخليج، فإيران تسميه "الخليج الفارسي" والعرب تطلق عليه "الخليج العربي".

لذلك ... نجد أن إسرائيل منذ زرعت في المنطقة العربية، سعت لمراقبة النمو المضطرد للجيش العراقي، الذي يسلحه السوفييت بأحدث ما في ترساناتهم العسكرية، وفتحت إيران أبوابها على مصراعيها لضباط الموساد، بل وسمحت لهم بالعمل بحرية ضد العراق انطلاقاً من أراضيها.

لقد كانت أيضاً، كإسرائيل، تخشى من التسليح العراقي، وحكم بغداد العسكري الذي قد يتعملق ويفرد ذراعيه باتجاه البلدين "إيران وإسرائيل". لذلك فقد كانت العمليات الجاسوسية الإسرائيلية في العراق، خير دليل على مدى الخوف من تنامي القوة، ويقظة روح الجهاد لدى جيش العراق وحكامه.

 

رحلة إلى كوكب آخر

 

فمنذ ترعرع يعقوب يوسف جاسم، تراوده أحلام العظمة، وهو يعد أقرانه دائماً بأنه سيصبح ذا شأن عظيم في يوم من الأيام.

لكنه تعثر في الدراسة وحصل على الشهادة الإعدادية بشق الأنفس، وبرغم ذلك لم تفارقه أحلامه وهواجسه التي سيطرت على حيز كبير من عقله ومسامراته.

وبعد ما استقر به المقام في عمله بمحطة كهرباء بغداد، استشعر تفاهته، وغامت حوله الرؤى، فالواقع الذي يعيشه لا ينبئ أبداً بضربة حظ قد تقتلع عذاباته، أو تصعد به إلى سفوح الوجاهة والعظمة.

لذلك استكان يائساً مستسلماً، نافراً من واقعه ومن أحلامه، مودعاً وإلى الأبد مجداً بناه في الخيال.

وذات يوم من أيام سبتمبر 1963، حزم حقيبته وعبر الحدود إلى إيران لقضاء أسبوعين على شاطئ بحر قزوين، فهي منطقة تتميز بمناظرها الطبيعية الخلابة، التي تمتد من جبال "البورز" إلى البحر، وتسقط أمطارها صيفاً لتجعل الطقس ندياً رائعاً، حيث شواطئ "أستارا" و "رامر" وموانئ "بندر بهلوي" و "بابلر" و "نوشهر"، فتبدو الأجازة بهذه المنطقة كأنها رحلة إلى كوكب آخر، يتسق فيه لون الماء وخضرةالزروع على درجاتها، فتشكل قطعة فسيفساء جمعت أبهى مظاهر الجمال والرونق.

وحينما وصل يعقوب إلى شاطئ رامر، أذهله جمال الفاتنات يرتدين البكيني، ويمرحن على الشاطئ في دلال... فقبع صامتاً يتأمل ويغرز سهام رغباته في أجسادهن، فتعتريه نوبات من أحلامه السابقة، لكنه سرعان ما يطردها شر طردة.

تحت إحدى المظلات استغرقه تفكير عميق، نأى به عن بانوراما الحسن التي أمامه، حتى أفاق على من يقول له:

&Oslash; "درود برشما، آيا شما إيراني هستيد" – (السلام عليكم، هل أنت إيراني؟)

ارتبك يعقوب أكثر عندما بادره الرجل ثانية:

&Oslash; "أياشما زبان فارسي ميدانيد؟" – (هل تعرف اللغة الفارسية؟)

أجاب يعقوب مرتبكاً:

&Oslash; نه ... . من عراقي هستم – (لا ... أنا عراقي . أجهل الفارسية)

انفرجت أسارير الرجل في دهشة وأردف:

&Oslash; هلا بك في إيران.

كانت لهجته الشامية بشوشة مرحة، وعرفه بنفسه قائلاً إنه لبناني واسمه "مازن" يقيم في طهران ويعمل بالاستيراد والتصدير، وبعد برهة أقبلت سكرتيرته الإيرانية "زالة" ترتدي المايوه الأورانج، فغاص يعقوب في ارتباكه وهي تصافحه مرحبة، ودعاه مازن إلى العشاء معه بفيلته المطلة على الشاطئ من عل، تحاصرها لوحة فنية من الزهور والأشجار، وتنم رقيقة في حضن الجبل، الذي يبدو في الليل كشلال متدفق من الأضواء الملونة.

كانت الأمور تسير في يسر حيث استقبله مازن بشوش الوجه ومعه آخر يدعى "رماء"، وأقبلت زالة كعروس من السماء، بصحبتها إيرانية أخرى تدعى "كوكوش" والاثنتان تتحدثان العربية بطلاقة.

وبعد العشاء دارت الكؤوس وثقلت الرؤوس، وألمح إليه مازن أن كوكوش وقعت في هواه، وبدا هذا واضحاً من نظراتها واهتمامها الزائد به، وحينما هم يعقوب بالانصراف إلى الفندق، أصر مازن على أن يبيت معه، وكانت نظرات كوكوش المثيرة ترجوه أن يبقى، وجلست إلى جواره تلاطفه فأذهبت بقية ما لديه من وعي، ثم صحبته إلى حجرة علوية، وأغلقت بابها من الداخل، وشرعت في خلع ملابسها قطعة قطعة.

أسقط في يد الأعزب الحالم الثمل، وبينما كان ينزف رجولته، كانت هناك كاميرات تصور وأجهزة تسجل الأحاديث السياسية، وتنقل كل شيء إلى حجرة مازن ورماء ضابطي الموساد.

تكررت السهرات وحفلات الجنس فأيقظت هواجس يعقوب من جديد، عندما عرضت عليه عميلة الموساد الانضمام إلى أسرة العاملين بشركة مازن، سألها كيف؟ أجابته بأن الشركة تبحث إقامة فرع آخر ببغداد، ولكي يتحقق ذلك، لا بد من معلومات وافية عن الاقتصاد العراقي وحركة التجارة. وبيده كتب عدة صفحات تتضمن معلومات كثيرة تشمل نواحي اقتصادية تافهة من خلال قراءاته في الصحف، وفوجئ بقبوله للعمل كمدير لفرع بغداد.

لم يصدق يعقوب نفسه، فها هي أحلامه تتحقق أخيراً، وتضحك له الدنيا من جديد، وبدلاً من الجلوس على الشاطئ للاستجمام، جلس كتلميذ مؤدب أمام معلم مازن يشرب فنون الجاسوسية ودروسها الأولى. واستفسر يعقوب باندهاش عن علاقة الجيش والعسكرية، بشركة تعمل في مجال الاستيراد والتصدير، فأجابه مازن بأن الأسرار العسكرية في العراق مهمة جداً له. فهو لن يجازف بإقامة فرع بغداد طالما كانت هناك "نوايا" معينة لدى حكام العراق.

لم يقتنع يعقوب بالطبع، لكنه اضطر إلى الإذعان أملاً في رفع شأنه كما كان يحلم منذ صغره.

المخزن رقم (3)

 

انتهت مهمة كوكوش عند هذا الحد، ورحلت إلى طهران بعد انقضاء المرحلة الأساسية، أما يعقوب، فقد عاد إلى بغداد كشخص جديد، متقمصاً دوره كرجل أعمال مهم، بجيبه 1200 دينار عراقي مرتب ثلاثة أشهر مقدماً، وكان وفياً جداً لأستاذه ورئيسه مازن. إذ لم يفصح لمخلوق عن مهمته، أو عما حدث له على شواطئ بحر قزوين، وانخرط في جمع المعلومات عن أحوال السوق العراقية، واتجاهات النمو الاقتصادي في شتى المجالات.

وبعد خمسة أشهر سافر ثانية إلى طهران، يحمل هذه المرة تقارير اقتصادية متنوعة، ويحدوه الأمل في أن يصبح ذات يوم من أشهر رجال التجارة ببغداد حتى إذا ما قابله مازن، عرفه بإيراني اسمه "عبد نابلون"، اصطحبه إلى فندق كبير بشارع "ورزش" شمالي "بارك شهر" في طهران، وشرع في استجلاء ما لديه من أخبار وتقارير.

كان يعقوب يفيض حماساً وهو يشرح لنابلون تفصيلياً عن العراق وانفتاحاته التجارية، مستمداً معظم تقاريره من أبحاث هامة نشرتها الصحف لكبار العقول الاقتصادية وخبراء التجارة.

لكن عندما عرج نابلون إلى الحديث في السياسة والشؤون العسكرية والتسليح، أظهر يعقوب جهله وعدم اهتمامه، حتى إذا ما أحس نابلون بأن الوقت مناسباً تماماً لمهمته، فاجأ يعقوب بالحقيقة. حقيقة أنه يعمل لصالح الموساد، ولا بد له من استثمار كل معلومة ولو كانت تافهة، ما دام سيحصل على ثمنها.

صعق يعقوب وتلجم لسانه... بل إنه عجز عن السيطرة على نفسه وقد اندفع بوله ساخناً بين ساقيه. إذ استغل نابلون أتسرع طرق السيطرة بواسطة الصدمة الفجائية، الصدمة التي تذهب بالعقل وبالشعور، ويصبح الإنسان لحظتئذ عاجزاً تماماً عن التفكير .. أو النهوض ... أو المقاومة...

هكذا سقط يعقوب في براثن الموساد لا حول له ولا قوة... حاول أن يفك قيود العنكبوت التي كبلته، لكن نابلون كان واثقاً من نفسه... ومن قدراته... ومن مواهبه في الإخضاع لدرجة الطاعة. فالصور العارية والتقارير التي كتبها بخط يده، كفيلة بأن تسكت صدى الرفض عنده لأن الإعدام في بغداد ينتظره إذا لم يذعن، ولم يكن أمام يعقوب إلا الإذعان، ضعفاً... وخضوعاً .. وخوفاً. فلم يعد هناك أي مهرب ... أو سبيل للفكاك.. هكذا تصور.

وجاءت "فروزندة وثوقي" عاملة الفندق – لتقف في طريق العراقي التائه ... المضلل. جمالها الرائع شغل عقله، والتصاقها به أيام محنته قربها إليه. فقد كانت هي الملاذ الحنون الذي يحوي انفعالاته... وشجوته، ويمتص غضبة الخوف الجاثم فوق حياته.

لذلك... تحدث معها طويلاً، وصارحها برغبته الملحة في الزواج منها، وساعدته أموال الموساد على الارتباط بالفتاة التي دُست عليه، والعودة بها إلى العراق.

وبهذا الزواج فُتحت أمامه أبواب الدخول إلى إيران في أي وقت، وضمن الموساد بزواجهما تدفقاً كبيراً في حجم المعلومات التي سيحصل عليها، فالعميلة الزوجة... مدربة تدريباً عالياً على القيام بمهام تجسسية معقدة تعود بالنفع في النهاية على إسرائيل.

وفي بغداد، بدأ يعقوب يمارس مهمته في استكشاف أسرار الأسلحة التي تزود بها العراق الأردن، أنواعها وأعدادها ووسيلة نقلها إلى عمان، وعجز الجاسوس في بداية الأمر عن التوصل إلى أية معلومات، حتى تقابل مع العريف "نوري سوار" المجند بإحدى القواعد العسكرية، فأغراه بالمال، وبطرق مختلفة حصل منه على قوائم كاملة بالمعدات التي زودت بها الأردن.

وحينما لاحظت فروزندة أن زوجها دأب على اصطحاب نوري معه إلى المنزل، بغية استثمار جمالها في تليينه، تعجبت من غبائه، فهو لم يشك للحظة أنها عميلة للموساد، وجاهزة للسيطرة على أي عقل يريد وتركته يلجأ إليها شيئاً فشيئاً لتعاونه في مهمته، حينئذ وجدها يعقوب الزوجة المطيعة... التي توافقه رأيه وتشاركه عمله السري.

بدأ الاثنان معاً في البحث عمن يجيء بأسرار المخزن رقم في بغداد، فأمر هذا المخزن حير الموساد كثيراً، وفشل جواسيس كثيرون من قبل في استجلاء سره، وكان تخطة فروزندة تتلخص في التعرف على أحد الضباط العسكريين بطريق الصدفة في شوارع بغداد، عندها... تسأله عن مكان ما بلغة عربية ركيكة، فيضطر الضابط إلى إرشادها، ويحدث بينهما تعارف أثناء السير.

وخرجت فروزندة لتتصيد ضحيتها الأولى. وكان ضابطاً برتبة نقيب اسمه أحمد رافع، ما إن استوقفته لتسأله عن أحد الشوارع، حتى سارع بمرافقتها بأدب. وخلال الطريق حدث تعارف بينهما، وعندما أوصلها إلى المكان المطلوب، كان زوجها ينتظرها كما خططا لذلك، فشكر الضابط الشاب لشهامته وأصر على أن يقبل دعوته للزيارة.

وبعد أيام طرق رافع الباب ليجد فروزندة وحدها، و "ادعت" أن زوجها سافر إلى الموصل لعدة أيام. ولما هم بالانصراف ألحت عليه أن تقدم له واجب الضيافة. وبالفعل ... قدمت له جسدها، فتذوق أشهى وجبة من النشوة، غيبت عقله، وكان سرعان ما يحن لوجبة ثانية ثم ثالثة، هكذا أوقعت به في شباكها، فسلمها ملفاً كبيراً يحوي كل أسرار المخزن رقم 3.

كانت مكافأة يعقوب ألفين وخمسمائة دينار، ومثلها لفروزندة، أما أحمد رافع ... فقد أصيب بحالة اكتئاب شديد بعدما أفاق إلى نفسه، وأحس بالجرم الذي اقترفه ضد بلده، وامتنع عن زيارة فروزندة، فاستشعرت عميلة الموساد الخطر إذا ما تطورت حالته النفسية سوءاً، وأقدم على الانتحار في لحظة ضعف، تاركاً رسالة تقودها حبل المشنقة.

لذلك .. أرسل لها عبد نابلون بسم السيانيد الفتاك، حيث أخذه يعقوب وذهب لزيارته رافع الذي قابله بغضب، فغافله الخائن ووضع له السيانيد في العصير، ولما ظهرت أعراض التسمم غادر يعقوب المنزل، وفي اليوم التالي مشى في جنازة ضحيته.

هكذا تفعل الموساد مع ضحاياها الذين يتراجعون في التعامل معها، في لحظة صدق يشعرون فيها بوخز الضمير والندم، ففي عالم الجاسوسية لا مشاعر أو عواطف، فالجاسوسية لا تقوم على ضمير أو شرف، ولا تملك قلباً يعرف نبضة رحمة تحكمه خفقات الهوى. لكن ... في تاريخ الجاسوسية العالمية، هناك حالات نادرة جداً ثاب فيها الجاسوس إلى رشده، وأصغى لنداء الحب فلبى النداء، فالجاسوسية والحب .. موضوع شيق للبحث والكتابة ... !!

عمار الحرازي07-22-2010, 07:31 AM

أحمد ضاهر ... ـ جاسوس الصدمة

سقطت مغشياً عليها... وسقط الجنين ... وتكر السنون تطرحها تأكل فؤادها... وعقلها... وتلتهم جذور صبرها بلا هوادة...

استغل هو معاناتها... وضغط بقوة على براكين آلامها ... ففجرها... وأشعل بداخلها ثورة من جنون غاضب .. متمرد، وصرخت: سأحرق قلوبهم وأنسف أفراحهم ... إنني أتشوق للعمل معكم بشرط ألا أتعرى ... أو أضاجع حيواناً منهم مهما كان مركزه.

هكذا بدأت "نورما عساف" في لبنان ...

رحلة الانتقام ... والثأر ... والكراهية .. !!

شبكات التعقب

عندما تتجسس المخابرات الإسرائيلية على الدول العربية، فهي إنما تسعى لمعرفة أدق الأسرار الحربية والسياسية والاقتصادية لتبني استراتيجيتها المختلفة. أما في لبنان، وفي حالة الجنوب اللبناني بالذات، فالوضع يختلف كل الاختلاف، إذ أنها تتعامل مع منظمات ثورية وجماعات فدائية دائمة التنقل والحركة، تخطط لعمليات هجومية وانتحارية فجائية يصعب رصد مقدماتها أو توقيتها، مما يشكل عبئاً ثقيلاً على القوات الإسرائيلية، التي تظل في حالة طوارئ مستمرة توقعاً لكل شيء.

لهذا سعت الموساد لتجنيد أكبر عدد من سكان القرى الحدودية لإمدادها بأخبار فورية عن الفدائيين، معتمدة في ذلك على أسلوبين من العمل التجسسي:

I. جاسوس يعمل منفرداً، موثوق في إخلاصه وصدق معلوماته وأخباره، غير مطالب بالبحث عن خونة آخرين لتكوين شبكة جاسوسية "وهو يختلف عن جاسوس المهمة الواحدة".

II. شبكة جاسوسية تضم أكثر من عميل في عدة مواقع.

والشبكة عادة ما تتكون إما عن طريق جاسوس ماهرة أعطى أمراً بتجنيد آخرين لمعاونته، وإما بإلحاقه تحت إشراف جاسوس آخر، أو شبكة مؤلفة سلفاً.

لقد انفردت لبنان – عن بقية الأقطار العربية بكثافة عدد الجواسيس داخل الشبكة الواحدة. فعندما ضبطت السلطات الأردنية إحدى شبكات الموساد، وتبين أن أعضاءها وصل عددهم لـ "37" جاسوساً، تملكنا العجب. لكن ... أن تسقط في لبنان أوائل العام 1999 شبكة واحدة مؤلفة من "200" عميل للموساد، فذلك هو الأعجب حقاً... والدليل الذي لا يحمل تأويلاً على ازدهار النشاط التجسسي الإسرائيلي في لبنان ... مما يعطينا مؤشراً لدى الرعب الإسرائيلي والهلع من عمليات الفدائيين الفجائية، برغم وجود ثلاثة آلاف عميل يتألف منهم جيش لبنان الجنوبي.

لكل ذلك نخلص إلى حقيقة جلية، أن الجاسوسية الإسرائيلية في لبنان هي عماد الأمن الذي تنشده، ومن هنا تتعامل الموساد مع ما بثته اللاسلكيات في لبنان بشكل مغاير تماماً لمثيلاتها في الأقطار العربية الأخرى. إذ تتخذ الاستعدادات الأمنية الضرورية بمنتهى السرعة في سباق مع الزمن. فالتحركات الفدائية تتسم دائماً بسرعة الحركة والفعل... ولا وقت للتريث ريثما يتأكد صحة البلاغ أو الخبر.

تماماً، عكس الشبكات في الدول العربية الأخرى التي لا تأخذ الموساد أخبارهم بمحمل الجد، إلا إذا جاء ما يؤكدها من خلال شبكة أخرى داخل القطر نفسه. لكن هناك حالات استثنائية جداً كانت فيها الموساد تثق في صدق المعلومة المبثوثة إليها دون أدنى مراجعة، للثقة العالية في مصدرها .

وفي القصص السابقة تعرفنا على العديد من حالات التجسس المنفرد... ونتعرف من خلال هذه القصة على نموذج آخر لأساليب التجسس الإسرائيلي، وهو نظام شبكة الجاسوسية المكلفة بتتبع الفدائيين والتغلغل في مهارة داخل نسيجهم للحد من عملياتهم وتسللهم عبر الحدود، فتلك هي وظيفتها الأساسية، بعيداً عن القيام بأعمال تخريبية في لبنان، أو ترويج الإشاعات، أو المساعدة في تسهيل مهام الاغتيالات لزعماء الثورة الفلسطينية.

راقصة المونتريكال

بداية ... أشير إلى أن المقاومة الفلسطينية في الجنوب اللبناني بالذات لم تتوقف أو تكف عن إنهاك إسرائيل منذ قيامها، وكان ذلك من خلال عمليات محدودة وغير منظمة. استمر هذا الوضع حتى أعلنت منظمة التحرير عن نفسها عام 1965، فأشتعلت المقاومة، وتضاعفت حدتها ضراوة بعد نكسة يونيو 1967، ثم ازدادت اشتعالاً بعد أحداث أيلول الأسود 1970، وطرد المقاومة من الأردن إلى لبنان... فقد تصاعدت العمليات الفدائية بشكل انتقامي متصل ومنظم، لا يهدأ سواء عبر الحدود، أو بدفع لنشات الفدائيين عبر البحر المتوسط للمدن الساحلية والمستعمرات الإسرائيلية، والقيام بعمليات غاية في الجرأة والجسارة داخل الأرض المحتلة.

كان الأمر بحق مرعباً في إسرائيل، ولهذا لجأت الموساد لأسلحتها الفتاكة المعتادة – الجنس والمال – للحد من هجمات الفدائيين، وبرعت في تصيد عدد كبير من الخونة لإمدادها بتحركاتهم وخططهم ونواياهم. وكان من بين هؤلاء الخونة "أحمد ضاهر" 37 عاماً من بلدة "عيترون" الواقعة على بعد خمسة كيلو مترات من الحدود الإسرائيلية جنوبي لبنان.

فمن هو أحمد ضاهر؟ وما الظروف التي دفعت به إلى السقوط في مصيدة الخيانة؟ وكيف استطاع تأليف شبكته الجاسوسية؟

إنها قصة طويلة مثيرة بدأت أحداثها في بيروت عام 1969.. عندما قرر أحمد ضاهر فجأة أن يغلق دكان بقالته في "عيترون" ويهجر حياة البساطة إلى أضواء بيروت، يراوده حلم الشهرة في عالم الغناء والطرب.

وما أن احتوته المدينة الجميلة الساهرة، حتى اجتاحه إحساس جميل بمستقبل مشرق ينتظره... وشعور بالأمان طالما افتقده منذ أنهى الخدمة في الجيش اللبناني – كرقيب متطوع – إثر حادث سيارة ترك بصماته بعظام ساعده الأيمن. واستطاع وقتها، بالمكافأة المادية التي حصل عليها، أن يفتتح محلاً بسيطاً للبقالة في قريته.

إلا أن مطالب أمه العجوز وزوجته رباب وأولاده الأربعة كانت أكبر من دخل دكانه، مضافاً إليها مجموع ما ينفقه على شراء اسطوانات الأغاني والمجلات الفنية، التي تقربه دائماً من عالمه الذي يسبح فيه خلال إرهاصاته ليل نهار.

وجمعته هواية الفن بشاعر حالم اسمه "كمال المحمودي"، دأبت على السهر معه، وانتقاء ما يصبح من أشعاره للغناء. فامتزجا معاً يحلمان بالشهرة وبالمجد، ويبعثران أحلامهما عند انقضاض الواقع، ولما سافر كمال المحمودي إلى بيروت يبحث عن فرصة تحقق لهما الأمل، كتب إلى صاحبه ليلحق به. وأقاما معاً بشقة صغيرة تتألف من حجرة واحدة في حي بئر العبد، الواقع ما بين المطار الدولي جنوباً والمرفأ من الشمال، يفصلهما عن حي الحمراء الشهير المدينة الرياضية، وصبرا، والمزرعة، وتل الخياط.

مسافة كبيرة يقطعانها سيراً على الأقدام في أحيان كثيرة، يحملان معاناة المجد والحياة والأضواء التي أثقلتهما وأنهكتهما. فرحل الشاعر يائساً إلى باريس، وبقي أحمد ضاهر وحده ببيروت يصارع اليأس والجوع والتعب.

أربعة أشهر وهو ينقب عن فرصة للغناء في كباريهات المدينة، تعرف خلالها بفتاة ترقص الدبكة في ملهى "مونتريكال" في "جونية" وقدمته لإدارة الملهى كمطرب من الجنوب، لكنهم عرضوا عليه أن يعمل كبودي جارد، وأمام حاجته إلى المال، وافق على العرق، وظل يعاني صراعاً داخلياً مريراً أوصله إلى درجة السآمة.

فوار أنطلياس

في إحدى الليالي بينما يجتر حاله، خرجت إحدى الزبونات تترنح لا تدري أين أوقفت سيارتها. فساعدها في البحث عنها لكنها لم تكن بحالة تسمح لها بالقيادة ليلاً، وأجابها بنعم عندما سألته عما إذا كان بمقدوره القيادة وتوصيلها لمنزلها.

وفي السيارة تأمل لأول مرة السيدة الحسناء التي عن يمينه، وقد انحسر ثوبها الناعم القصير عن ثلثي ساقيها، وارتعش ثدياها النافران في تمرد سافر لاهتزازات الطريق، فأربكته لفتتها وقد قرأت في عينيه أفكاره، وسألته بصوت خفيض عذب مثير:

&Oslash; بيظهر نظرك ممتاز.

أجابها وقد تمكن منه الإعجاب:

&Oslash; يا لطيف بحالي، صوتك مثل اللوز الفرك، بيقرش قرش.

ضحكت في تأوه لذيذ وهي تقول:

&Oslash; شو؟ تغنيلي قصيدة؟

تذكر في الحال حلمه الضائع، فنسى جسدها المرمري المثير وانطلق يحدثها عن أمانيه، وحلم الهجرة إلى الشمال أملاً في الغناء. وانتبهت إلى حديثه كأنما أفاقت من سكرها قليلاً وقد أخذ يشدو بصوت رخيم:

&Oslash; وكم أهوى سواد الليل في العينين

&Oslash; حورية

&Oslash; وكم أهوى ... جنون الوهم ... أحياه

&Oslash; بأشواقي البدائية ...

&Oslash; عن الدنيا حكايات ...

&Oslash; عن الأنثى ...

&Oslash; عشيقاتي

&Oslash; الأساطير الخرافية

صاحت في دهشة:

&Oslash; صوتك شو حلو... إنشالله بتغني في "الكوت دو روا" ، ما تحير بالك.

وبدلاً من أن يواصل إلى بيروت – حيث تسكن في حي الأوزاعي – أمرته أن ينحرف بالسيارة حتى وصل إلى مفرق ضيق دخل فيه بين غابة من الصنوبر ثم استقر أمام مقهى كبير تظلله الأشجار فقال:

&Oslash; أين نحن الآن؟

قالت وهي تهم بمغادرة السيارة:

&Oslash; فوار أنطلياس.

تقدمته إلى ركن قصي، وجلسا متقابلان على طاولة يجري بموازاتها جدول صغير تترقرق موجاته مع حركة النسيم الرقيق.

مالت إلى الطاولة فظهر خليج صدرها الناصع يغور إلى الظلام، وسألته عن اسمه وموطنه وظروفه فأجاب. فطلبت كأسين آخرين من "الجين"، وبنظرة منها آمرة رفع كأسه وشربه، ومتردداً سألها عن اسمها فأجابته:

"كارلا"

حاول أن يعرف المزيد عن شخصها فشردت ببصرها ورجته أن يؤجل ذلك لمرة قادمة.

كانت برغم جمالها الأخاذ وأنوثتها الفتاكة في الأربعين من عمرها أو يزيد بقليل. يهودية لبنانية الأصل اسمها الحقيقي "نورما عساف" هاجرت مع أبيها وأختها "ليز" إلى أمريكا عام 1957 وهي في الثلاثين. فقد أعرضت عن الزواج بعد مقتل زوجها عام 1951 على يد الفلسطينيين، عندما ضبطوه يتجسس على مواقعهم بالقرب من "قلعة شقيف" كانت قد اقترنت به وعمرها تسع عشرة سنة عام 1947 بعد قصة حب مجنونة اشتهرت في "أهدن" ولما جاءها نبأ مقتله كانت حاملاً في شهرها الثاني، فسقطت مغشياً عليها، وسقط الجنين، وضاعت فرحتها منذ تلك اللحظة.

ولمدة طويلة انغلقت على نفسها وتعثرت دراسياً بالجامعة الأمريكية ببيروت، إلى أن تماسكت شيئاً فشيئاً، فامتثلت للحقيقة وأكملت دراستها في الفلسفة وعلم الاجتماع، لكنها كانت في كل لحظة تضعف فيها عند هجوم الذكريات، تزداد يقيناً بأنها لم تنس الحبيب والزوج القتيل.

تكر السنوات وتطرحها موجات الحياة على الشواطئ فلا تنسى، وتظل حبيسة الماضي الذي يأبى أن يغادرها. واعتقد أبواها بأن الهجرة قد تنسيها معاناتها، وتمزجها بالمجتمع الجديد بعيداً عن لبنان، لكنهما كانا واهمان. فانتهما كانت مكبلة بماضيها بحبال من فولاذ وصورة زوجها ما تزال تتدلى على صدرها، أما خطاباته الغرامية فقد أودعتها علبة مزركشة برسوماته لا تغلق حتى تفتح. كانت هداياه أيضاً منثورة بكل أركان حجرتها، وملابسه تحتل مكان الصدارة في دولابها، حتى أحذيته... فكثيراً ما كانت تتلمسها برفق وحنان وشوق مسعور. وضحكت ذات يوم وقد حدثتها أمها مترددة في أن تصحبها إلى الطبيب النفساني، فقالت لها:

&Oslash; أتحسبينني جننت؟ كنت أحب زوجي ولا زلت، ولن أسمح لرجل قط أن يلمس جسدي من بعده.

كارلا استيفانو

في شارع MULTRIE عاشت نورما بمدينة "شارلستون" ، وافتتح أبوها مطعماً بالقرب من الميناء يقدم الأطعمة الشرقية للبحارة العابرين. وفي منتصف 1958 وفد إلى المدينة زائر تبدلت مع مقدمه حياة نورما تماماً، إنه "روبي" ابن عم زوجها، الذي أنبأها بأنه هاجر إلى إسرائيل، وقد جاء إلى أمريكا ليتدرب في أحد المصانع، واندهش الشاب أمام تعلق نورما بحياتها في الماضي وعدم رغبتها في الخروج منها، وحاول معها كثيراً لكنه فشل.

وفي زيارته التالية لم يجيء وحده، بل كان بصحبته مراسل صحفي إسرائيلي، عرض عليها للخروج من أزمتها أن تسعى للانتقام من قتلة زوجها، وأن تطاردهم أينما كانوا.

جذبها حديثه وحرك فيها كوامن الثأر التي كم راودتها لكنها عجزت عن إيجاد الوسيلة لذلك. ولما سألته كيف تنتقم وتثأر (؟‍!!) أجابها بأن هناك وسائل شتى للانتقام وإراحة أعصابها، ووعدها بأن يجيئها بالشخص الذي يعاونها.

وبعد أيام قلائل، كانت تنصت باهتمام شديد لرجل لبق أنيق، استغل معاناتها جيداً وضغط بقوة على براكين آلامها ففجرها، إنه "أبرا هام مردوخ" ضابط المخابرات الإسرائيلي..

لقاء واحد بينهما أشعل أبرا هام بداخلها ثورة من جنون الغضب، والحقد الأسود والكراهية للفلسطينيين، ولم تنتظره ليعرض عليها العمل مع الموساد... بل هي التي ضغطت فكيها توعداً وصرخت فيه:

&Oslash; سأحرق قلوبهم كما فعلوا بي، سأنسف أفراحهم وأحلامهم... إنني أتشوق للانتقام والثأر، فألف كلب منهم لن برويني دماؤهم.

أجابها في هدوء:

&Oslash; سيدتي ... الغضب في عملنا قد يكلفنا حياتنا. نحن نعمل بلا أدنى اندفاع، فالحرص والذكاء هما مفتاح مهامنا وقوتنا، وأساس عملنا في جهاز المخابرات.

قالت:

&Oslash; إنني على استعداد تام للعمل معكم، لكن بشرط، ألا أتعرى لرجل، أو تضغطوا علي لأضاجع حيواناً عربياً، مهما كان مركزه، لأجلب منه أسراراً تريدونها.

ابتسم مردوخ ابتسامة باهتة لا تحمل معنى وعقب قائلاً:

&Oslash; ليكن في معلومك سيدتي أن الجنس أمر غير وارد في عملنا ... (!!) ... لكننا نلجأ إليه مع بعض العرب الذين يعيشون حالة شرسة من الجوع الجنسي، والبعض الآخر يكتفون بالمال فقط للتعاون معنا. وعلى كل، أعدك بألا نُعرضك لأولئك الجوعى، فعندنا فتيات مدربات جيداً للتعامل معهم.

انتهى اللقاء بينهما ... وكان عليها أن تنتظر بضعة أيام ليجيئها الأمر بالسفر إلى تل أبيب. وقد حدث، وطارت تسعمائة كيلو متراً إلى نيويورك حيث التقت بمردوخ، الذي شرح لها خطواتها القادمة، وأطلعها على ما يجب أن تفعله في روما.

في روما كان ينتظرها شخص ما تسلم منها وثيقتها اللبنانية وسلمها وثيقة أخرى باسم "كارلا ستيفانو"، وظل يتابعها من بعيد حتى وهي تصعد سلم الطائرة الإسرائيلية المتجهة إلى مطار اللد.

كانت تشعر بسعادة غامرة وقد أدركت أن هناك تغيرات جديدة اقتحمت حياتها. بحفها إحساس بالنشوة وهي مقبلة على الانتقام لزوجها، وثمة تبدلات لذيذة اجتاحت مشاعرها عندما حلقت الطائرة إلى دائرة كاملة فوق تل أبيب، قبل أن تهبط باللد على بعد سبعة عشر كيلو متراً، وهتفت:

&Oslash; ها هي إسرائيل أخيراً... الوطن الجديد والحلم والمعاناة ... الوطن الذي قتل من أجله الحبيب ...

ومن أجله أيضاً تسعى للثأر بقدميها..

حية بين الأفاعي

&Oslash; أهلاً بك في إسرائيل مسز نورما.

صافحت اليد الممدودة في سعادة، وتأملت وجه الرجل البشوش اللطيف القسمات وهو يقول:

&Oslash; نأمل أن تكون الرحلة طيبة .. من فضلك دعيني أحمل حقيبتك ...السيارة قريبة من هنا.

كان الاستقبال حافلاً وحاراً كطقس سبتمبر 1958، وأخبرها موافقها أنها ستقيم بفيلا رائعة على شاطئ البحر في "نتانيا" وأنها بعد الغد ستكون ضيفة شرف على مائدة أيسير هاربل الرئيس الأعلى للمخابرات الإسرائيلية، في احتفال يقام بمناسبة مرور ستة أعوام على رئاسته للمخابرات.

انبهرت نورما بهاريل عندما قام لاستقبالها، منحنياً أمامها في احترام وهو يقبل يدها ويدعوها إلى مائدته... وسرت ببدنها رجفة زهو سيطرت عليها بصعوبة.

التفت بوجهه الوديع ناحيتها وقال لها:

&Oslash; لتغفري لي سيدتي أنني لم أكن في شرف استقبالك بالمطار. إنني لفخور جداً أن تنضم سيدة رائعة مثلك إلى أسرتنا في الموساد.

ازدادت ارتباكاً لرقة حديثه وذوقه في انتقاء كلمات الإطراء، وتمتمت ببضع كلمات خجلى بدت غير واضحة، فأخرجها من خلجها عندما وقف قائلاً:

&Oslash; اسمحي لي مسز نورما أن أقدمك إلى كبار رجال الدولة في إسرائيل. مشت إلى جواره ثم تأخر عنها خطوة وهو يقدمها لأكبر ضيوفه: بن جوريون رئيس الوزراء الذي قبل يدها وهنأها على سلامة الوصول. ثم قدمها لغولدا مائير وزيرة الخارجية، ولبن زبون بنكوس وزير المواصلات، وشمعون بيريز وموشي ديان، ولشخصيات هامة أخرى منهم إسحاق يزير نيتسكي ، ويهو شافاط هاركابي ، ومائير ياري زعيم المابام، والجنرال آموز مانور ، والجنرال مائير ياميت ، وليلى كاستيل ، والياهو ساسون، وبنيامين بلومبيرج، وغيرهم من مؤسسي إسرائيل وكبار رجالاتها.

أحست نورما عساف بأهميتها رغم ضآلتها، وأسلمت قيادها لفريق من أكفأ رجال الموساد قاموا على تدريبها وتلقينها فنون التجسس، وطرق اصطياد الخونة وأساليب السيطرة عليهم.

أربعة اشهر كاملة في نتانيا أخضعت أثناءها لدورات مكثفة في التمويه والتخفي، واستعمال المسدس، واستخدام جهاز اللاسلكي في البث بشفرة معقدة، تستند إلى حروف من كلمات رواية "الأرض" للأديبة العالمية "بيرل بكْ" وأطلعوها أيضاً على ملف كبير يحوي أعمال زوجها القتيل في خدمة إسرائيل.

هكذا شحذوا همتها وأشعورها بأهمية دورها في لبنان، وذلك للحد من العمليات الفدائية المتكررة التي تجيء عبر الحدود مع إسرائيل.

وفي 23 يناير 1959 غادرت نورما تل أبيب إلى روما، وكان في استقبالها الشخص نفسه الذي قابلها عند مجيئها من نيويورك، فتسلمت منه وثيقة سفرها اللبنانية وطارت إلى بيروت. عشر سنوات في لبنان تطارد الفلسطينيين وتنقب عن ضعاف النفوس بين سكان الجنوب، تساعدها في مهامها فتيات ذوات حسن وجمال أخاذ، ينتشرن في كل أرجاء لبنان، منتدياتها، وكباريهاتها، وشواطئها، وفنادقها. البعض منهن يهوديات يعرفن حقيقة نورما عساف، والأخريات إما مارونيات أو أرمينيات يجهلن شخصيتها، ينقدن لرغباتها أمام سطوة المال وسحره، ويجتهدن في اصطياد الجنوبيين في بيروت، والفلسطينيين البائسين أيضاً.

عشر سنوات وشبكة نورما تبحث عن الخونة الذين يسهل إخضاعهم بالجنس والمال، فتطويهم طياً، وتزرعهم في جُبْ الخيانة لخدمة إسرائيل، وكان "أحمد ضاهر" أحد هؤلاء الذين تصيدتهم بمهارة، فماذا حدث بعد لقاء فوار أنطلياس؟ .

 

 

في ذكرى بيار ... ! !

بعد جلسة فوار أنطلياس انطلق أحمد ضاهر بنورما إلى شقتها، ماراً بطريق المرفأ مخترقاً حي المزرعة حتى الأوزاعي على الكورنيش، وأمرته بالتوقف أمام إحدى البنايات العالية، وطلبت منه أن يزورها بشقتها في اليوم التالي، حيث تكون قد أجرت عدة اتصالات بشأنه مع بعض الملحنين.

هكذا أمضى ابن الجنوب ليلته يحلم بالمجد، وينتظر موعد اللقاء على أحر من الجمر، في ذات الوقت الذي كانت فيه نورما تضع خططها وتنصب شباكها لاصطياده... إذ أدركت أنها أمام جنوبي قانط يبحث عن أمل.

وما أن حان موعد زيارته إلا وكانت في أبهى زينتها، ووقارها.

فتحت له الباب خادمة تضج بالأنوثة وقادته إلى الصالون فانبهر بروعة الأثاث وفخامة الديكور، وتوقف عند لوحة كبيرة ذات إطار محاط بشريط أسود. كانت اللوحة لشاب يبدو في عنفوانه علقت حول رقبته عناقيد من الورد، وأبانت ابتسامته الواسعة المتألقة أثار جرح قديم ممتد لأسفل ذقنه.

&Oslash; بيار ، زوجي.

انتفض أحمد ضاهر واقفاً وهو يقول:

&Oslash; الله يقدس روحه.

كانت ترتدي فستاناً طويلاً من الدانتيل الأسود، وثمة حزن بالغ يجسم على ملامحها برغم ابتسامتها، جلست قبالته في وقار أجبره على طرد ما فكر فيه بالأمس، لما غزته الرغبة أمام مفاتنها، واندهش وقد لاحظ أنه يجليس على حافة الكرسي في أدب جم.

أخبرته بأنها اتصلت بشأنه بالملحن المعروف "طنوس خوري"، ووعدها بأنه سيستمع إلى صوته بعد عودته من أثينا بعد أسبوعين، وقالت أيضاً أنها اتصلت بالفنان "وديع الصافي" فوجدته يحيي حفلاته بأمريكا. وعندما دخلت الخادمة الفاتنة تدفع أمامها عربة الشاي، تعمد ألا ينظر اليها، واتجه ببصره إلى الأرض، فقد كان ثوبها القصير ذي الحمالات مقور الصدر، يفضح نهدين متوثبين في انحناءتها الطويلة.

نفرت أعصابه فتصبب منه العرق، وأخذ يفرك أصابعه كطفل أغر، ولم يدر لماذا خطرت بباله زوجته رباب في تلك اللحظة بالذات، وأجرى مقارنة سريعة وسخر في نفسه لمجرد أن قارنها بالخادمة.

"رباب... ؟ ... لا وجه للمقارنة ايها الأبله... بقرة ضامرة الضرع والجسد وغزال بديع المحيا يتراقص رقصاً في مشيه ... " ... وأخذ يشدو:

&Oslash; إن أعصابي انتهت ...

&Oslash; لا شيء باق.

&Oslash; فاعشقيني أبد الساعات رقصاً.

&Oslash; واغمسي أظفارك البيضاء في عمري.

&Oslash; ففيه تقرع الأجراس.

&Oslash; تحتد الطبول.

&Oslash; آه كم أصبحت مجنوناً،

&Oslash; وكم أحتاج أن أبكي على صدر دفئ؟

&Oslash; يأويني ... أنا الطفل الخجول.

&Oslash; فصحرائي انشقت.

&Oslash; وماضي احتضار موحش.

&Oslash; فقر بخيل.

هتفت نورما في إعجاب:

&Oslash; صوتك شو كتير حلو .. ليش بدك تبكي على صدر دافئ؟ افتكرت رباب ها الغبية؟

&Oslash; هون ما في فرح "مشيراً إلى صدره".

&Oslash; إنشا الله حياتك جميلة.

&Oslash; عيونك بتنطق مرار.

امتقع لونها وارتعشت خلجاتها، وتنهدت في أسى:

&Oslash; اليوم مات بيار من تمنتاش سنة ... هالذكرى ما بتموت، كان بحب لبنان وترابه، وبحب كل العرب، اتعصر حالو كتير واتبدل ... وصار يكره اليهود ويشرد وانا وياه. كنا عم نتمشى بالكورنيش طلت دموعه ... سألته شو صار .. ؟ حرقتني زفراته وبحرقة لكز الأرض وقال: هناك بفلسطين المدابح ... هناك فيه تقتيل ومعتقلات ومشردين، وكل العالم طق حنك ما في .. وهون، فيه رقص وطرب وسكرانين يدوروا عالبارات. الله يبيد اللي ما يدافع عالعروبة.

"أجهشت بالبكاء"... : مرت ليام وما عاد إلو أثر، فارقنا بيار عالجنوب واندار يضرب مع الفلسطينيين في اليهود، ولما صار يمرق عالحدود، فجّره لغم مزروع، وما عثر حدا على رجوله "رجليه"، ومات منزوف.

كان جسدها يهتز في انفعال وتأثر وهي تصف مشهد قتل زوجها، وكيف حملوه اليها بدون أطرافه السفلية.

لقد أجادت دورها ببراعة لا تملكها إلا ممثلة محترفة، واستطاعت أن تستحوذ على تعاطف ضاهر وإشفاقه، وبلهجة وطنية طلبت منه أن يساعدها لتنتقم من الإسرائيليين ولما أبدى عدم فهمه لطلبها قالت إنها تجد لذة كبرى وتشعر بسعادة غامرة كلما قرأت أو سمعت عن عمليات الفدائيين عبر الحدود، ولكن تتشوق لمساندتهم والوقوف إلى جوارهم رغبة في الانتقام، وتعاطفاً مع قضيتهم، وأبدت استعدادها لإمدادهم بالمال ليتواصل جهادهم، ثم أظهرت إعجابها الشديد ببطولاتهم وسالت ضاهر فيما يشبه الانبهار:

&Oslash; كيف يعيش هؤلاء الأبطال؟

&Oslash; كيف يتحركون؟

&Oslash; كيف يتدربون؟

&Oslash; كيف يتجمعون؟

&Oslash; ما الطرق التي يسلكونها لعبور الحدود؟

&Oslash; ما الأسلحة التي تنقصهم؟

&Oslash; و ... ...... . الخ.

 

الصدمة

ألهبت حماستها مشاعره فكلمها عما يعرفه، وفشل في الإجابة عن بقية تساؤلاتها لأنه – كما قال – عاش منكمشاً في بقالته، لا يحفل بما حوله من تطورات تتصل بالفلسطينيين منذ ترك الجيش اللبناني.

عند ذلك أنهت الحديث عن الجنوب، وطافت به في رحلة رائعة حول عالم الفن وأحلام الشهرة، ثم نقدته مائتي ليرة ليقتني ملابس جديدة تليق بمقابلة الفنانين الكبار.

وفي زيارته الثالثة لشقتها، استقبلته خادمتها جورجيت بملابس تظهر أكثر مما تخفي. فمشى وراءها إلى الصالون مشدوهاً بترجرج مفاتنها، وثار بداخله وحش الرغبة يعوي عطشاً. وأنبأته بأن سيدتها في زيارة لمخيات اللاجئين في "صور" وهي على وشك العودة. فلما جاءتهه بكأس من العصير البارد اعتقد أنه سيخفف لسع النار بداخله، لكن هيهات أن تخمد رعشة الوطر بكأس بارد.

دق جرس التليفون فنادته، كان صوتها من بعيد يأتي آمراً:

&Oslash; أنا هون بصورْ .. بتنتظرني.

أحس بلذة تسري بأوصاله، فما بين صور وبيروت يربو على الثمانين كيلو متراً، مسافة تقطعها السيارة في ساعة ونصف الساعة على الأقل. إنه بلا شك وقت ضئيل سيمر سريعاً على ملهوف مثله، يجمعه مكان مغلق بأنثى بركانية المفاتن تتبختر جيئة وذهاباً فيلعق الشفاه الظمأى، وتتصاعد من رأسه أبخرة الجحيم المتلظي.

حاول كثيراً أن يتماسك أمامها، أو يتظاهر بالثبات والهدوء، لكن شيطان الرغبة كان يعض في أعصابه وينهش مقاومته بلا رحمة، فيستسلم ابن الجنوب لابنة الموساد المدربة الماهرة، وقد تحول بين أحضانها اللافحة إلى طفل مشاغب أغر، استلذ طعم النشوة ببحرها لا يريد شطاً ولا نجاة.

لم يجل بناظريه بعيداً عنها، أو يلحظ الكاميرات الدقيقة وأجهزة تلقط الأصوات المبثوثة بالحجرة، تسجل قمة لحظات ضعفه، وشذوذه. فظمآن مثله لا يستطيع عقله المغيب ترجمة المعالم حوله، ذلك أن إعصار الرغبة أعماه، وأغرقه في جاهلية المدارك وأغوار اللاشعور.

كانت نورما قد تغلغلت داخل البيئات الاجتماعية الفلسطينية في لبنان، بادعائها التعاطف مع قضيتهم، ودأبت منذ سنوات عملها لصالح الموساد، على زيارة مخيمات اللاجئين الفلسطينية للوقوف على مشاكل سكانها، والإنفاق بسخاء على المرضى والأطفال الأيتام، فحظيت بذلك على حب سكان مخيمات الجنوب لما لمسوه منها من ود وتعاطف.

هكذا كان الأمر في الظاهر. وما لم يعلمه أحد أنها كانت تعد تقارير وافية، تبعث بها إلى الموساد أولاً بأول، عن أحوالهم وتوجهاتهم ومعنوياتهم، مستعينة بشبكة هائلة من العلاقات مع رموز الفلسطينيين واللبنانيين، تمكنت من خلالهم من الحصول على أسرار دقيقة أفادت مخابرات إسرائيل كثيراً.

هذا ما حدث أيضاً بعد ذلك في السبعينيات، عندما أرسلت الموساد الجاسوسة الأردنية "أمينة داود المفتي" لجلب معلومات عن القادة الفلسطينيين، واستطاعت بسهولة أن تخترق أسرارهم لثقتهم بها كطبيبة عربية. كانت أمينة مدفوعة أيضاً بحب الانتقام من العرب، الذين أسقطوا طائرة زوجها الحربية فوق الجولان واختفت أخباره. واستغلت الموساد محنتها بمهارة إلى أن تم كشفها، وتركت لسنوات تواجه السجن والتعذيب المعنوي في أحد الكهوف بجنوب لبنان.

وهناك أخريات كثيرات بعثن إلى لبنان للامتزاج بالنسيج الاجتماعي الفلسطيني، بعضهن سقطن وبعضهن هربن. إلا أن نورما عساف كانت هي الأولى – حسب المعلومات المتوفرة – التي سبقت في هذا المجال، فنجحت في مهمتها خير نجاح بفضل ذكائها ومواهبها ودافعها للثأر.

ولما عادت إلى بيروت بعد رحلة صور، ابتسمت مرحبة بأحمد ضاهر، وسألته هل قامت جورجيت بالواجب تجاهه.. ؟ فكانت نظرة الرضا على وجهه تفضح جرعة "الواجب" التي حظي بها.

كانت ترتدي ملابس أنيقة محتشمة انتقتها بعناية، وغلفت رنة حزن صوتها وهي تقول له: "إن أعصابها لم تعد تحتمل ما تراه في الجنوب". وانتبه لحديثها وهي تفيض في وصف المخيمات، وحالة البؤس التي عليها سكانها، ولما تطرقت في الحديث عن الأطفال اليتامى، سرحت ببصرها إلى ما وراء الجدران... وترقرقت دموعها... ثم طفرت بلا وعي منها . فاختنق صوتها المتهدج وانتابتها نوبة من نحيب مرير. فقد هجمت غصباً عنها ذكرى موت طفلها الجنين .. وتذكرت أمومتها المحرومة ولوعتها شوقاً لطفل تلده، تذكرت أيضاً عمرها الزاحف للخريف وقد تساقطت منه السنون، وينهش جمالها الزمان لولا المساحيق التي تلطخ بشرة هاجمتها تجاعيد الحزن والغضب.

أذكى شجنها لهيب الحسرة داخلها. فاستسلمت لقبضة الضعف تطبق على ثباتها فتسحقها سحقاً، لكن ، أي صنف من النساء تلك المرأة؟ ... لقد توقفت فجأة عن النحيب، وتبدلت نظراتها الرقيقة الحانية إلى أخرى عنيدة... شرسة، ماكرة، فجففت دموعها ونطقت بقرارها:

&Oslash; لحين برتب تذكرتين لأتينا، بدي أملص من هالكرب يومين باليونان، صار لازم ترافقني.

بدون إرادة، وجد نفسها إلى جوارها بالطائرة ظهر اليوم التالي ... وكانت خطة تجنيده في اليونان قد تم وضع آخر فصولها... مثل عشرات من اللبنانيين قبله رافقوها طواعية إلى "مصيدة العسل" طوال رحلتها المثيرة في عالم الجاسوسية.

كانت خطة السيطرة والتجنيد تعتمد على أسلوب "الصدمة" الصدمة القوية الفجائية STROKE OF LIGHTNING التي تشل وعي الضحية، وتفقده السيطرة على توازنه العقلي فيستسلم.

هذا الأسلوب ناجح جداً، وقد أجادته المخابرات السوفييتية بمهارة عندما كانت قوية، وترفضه – أحياناً – أجهزة المخابرات الأخرى معتمدة على نظريات خاصة بها... إلا أن الموساد خاضت كل الأساليب والنظريات المختلفة، وطورتها. وكانت نورما قد برعت إلى حد الاحتراف في أسلوب التجنيد بالصدمة، وهو أعلى درجات التمكن المهني التي تتطلب ذكاء خارقاً يفوق الوصف.

مصيدة أوسيانوس

حلقت الطائرة فوق الأكروبول ACROPOLIS في دائرة كاملة، ليتمكن المسافرون من تصوير القلعة من كل الزوايا، وفي ساحة المطار الخارجية كانت تنتظر سيارة ليموزين فخمة بداخلها جلست "أرليت" ... ملكة الإذابة .. رفيقة نورما ومحطة الخداع الأخيرة، التي ليس لها حل في جمالها.

صافحت أرليت ضيفها ونظراتها تخترقه، فألهبته، وأذابت عقله في لحظات معدودة، وفي بهو فندق "سالونيكا" ظهر "غسان" مهندس الإعداد والتنسيق... فتعارفوا جميعاً على أنهم أصدقاء نورما.

وفي أثينا القديمة – البلاكا – تناولوا العشاء في أحد المطاعم، حيث تتصاعد الأنغام الصاخبة، ويتألق الرقص الفولكلوري مجتذباً السياح الذين انسجموا مع هذا الجو المرح، فشاركوا في الرقص الشعبي على أنغام "البوزوكيا".

وبينما تصدح الموسيقى وتتعإلى الضحكات، أومأت أرليت إلى ضاهر فقاما إلى الرقص، قاذفاً بشرقيته وبخجله وطفق يرقص في نهم بلا كلل. ويمضي الوقت بهما سريعاً فيطل الفجر ... ويترنح ضاهر حتى يصل إلى سريره، لينام بعد ذلك نوماً ثقيلاً، استعداداً لرحلة "أوسيانوس".

كانت أوسيانوس باخرة ركاب عملاقة، تحتوي على 235 حجرة مكيفة، وحمام سباحة، وساحة للاسترخاء، وصالونات فخمة وبارات ومطعمين.

اجتمع الأصدقاء الأربعة على ظهر الباخرة، كانت نورما لا تفارق مجلس غسان، بينما انفرد ضاهر بأرليت كما تمنى. وبعد العشاء على أنغام الموسيقى الحالمة.. اختفيا عن الأنظار فوق السطح حيث أضواء النجوم وآهات العشاق وطرقعات القبل. حثدها كثيراً عن نفسه فأفردت له مساحة كبيرة من الألفة قربتهما، ونام يحلم حتى الصباح الباكر بأفروديت التي أيقظته بنقرات رقيقة من أصابعها على بابه:

&Oslash; هادي رحلة يا كسلان، نحنا عالسطح منشان بنشوف "الميكونوس" الجميلة...

فرت من أمامه تجري ضاحكة، وعلى عجل ارتدى ملابسه وأدركها... بعد قليل أطلت جزيرة ميكونوس MYKONOS بشوارعها الضيقة البراقة، وبيوتها الكلسية البيضاء، مساحة هذه الجزيرة تبلغ حوالي 40 كيلو متراً مربعاً. جمالها الأخاذ حمل عدداً من الأدباء والفنانين على اقتناء بيوت لهم فيها .

وعند انتصاف النهار، ارتدت أرليت البكيني، وحملق ضاهر يتحسس بعينيه جسدها لا يصدق بأن أفروديت بعثت من جديد. فانبجس منه العرق وقد ثارت رغبته، وقذف بنفسه خلفها "في البيسين" لعله يطفئ لهيب جسده لكن الماء أزاده ناراً ولفحاً.

وفي اليوم التالي وصلت الباخرة إلى كريت، فزاروا قصر "كنوسوس" الذي كان مؤلفاً من 1200 غرفة، ثم متحف هيراكليون، وبعد الظهر أبحرت الباخرة عائدة إلى أثينا.

صعدت أرليت بالبكيني إلى السطح، وبينما بركان رغباته يصطخب، كانت الباخرة تمر بالقرب من جزيرة "سانتورين" المشهورة بالبركان الذي يحمل اسمها. إنها مصادفة عجيبة أن يتقابل بركانان.. أحدهما خامد والآخر يفور وينشط..

كانت أرليت طوال الرحلة تذيب الجمود بينهما تمهيداً للمعركة القادمة ... لذلك ... لم تتركه يلمس جسدها أو يحاول، فقط أشعلته وجعلته يرغب ويتمنى، وينتظر ويتحرق.. فانكبت تقرأ ما بأعماقه في نظراته الجائعة، وكان هذا الجوع الذي وصل مداه إلى قمم الخور فألاً حسناً لما قبل "الصدمة" ... !!

بالقرب من شارع بيلوبونيزوس PELOPONNESUS في أثينا، يوجد سوق تجاري قديم يموج بالحركة والحياة. بإحدى بناياته المرتفعة نزل ضاهر بالطابق التاسع، كانت الشقة مؤلفة من حجرة نوم واحدة وصالون، شقة صغيرة تكفي لشخص واحد أو لشخصين، تركت معه نورما بضع دراخمات وسافرت إلى "كاستوريا" في أقصى الشمال "لزيارة خالتها"، ووجد اللبناني نفسه وحيداً لعدة أيام دون اتصال منها أو من أرليت... إلى أن نفدت دراخماته وسيطر عليه الخوف والقلق. فهو غريب في بلد غريب لا يعرف لغتها، ولا يملك مالاً يتعيش منه، أو تذكرة سفر تعيده إلى وطنه.

وبينما هو في سجن مخاوفه وتوتره وجوعه، كان غسان في الشقة المجاورة ومعه اثنان آخران، من خلال شاشة صغيرة أمامهم كانوا يلاحظون كل شيء في شقته.

وفي التوقيت المختار والمحدد بدقة، اتصلت به أرليت، وذهبت إليه تحمل أكياس الطعام والعصائر، فملأ معدته الخاوية وخرج معها إلى شوارع أثينا وحدائقها البديعة، يملؤه الزهو وعيون المارة تحسده على فتاته الحسناء الفاتنة ... وتمنى وقتها لو أنه بقي إلى جوارها لا يفارقها أبداً... ولأنه يعرف قدر نفسه، ويخاف أن تصدمه، سألها عن فرصة عمل فوعدته أن تتكم مع والدها حيث يمتلك شركة خدمات بحرية كبرى بأثينا.

وبعد سهرة رائعة بأحد البارات صحبته إلى "مصيدة العسل" حيث بدت ثملة عن أخرها ازدادت التصاقاً به خشية السقوط وهو يقودها إلى غرفة النوم، تفوح من جسدها البض رائحة أريجية، ترسل دفقاً متواصلاً من الرغبة إلى عقله، ولما تحررت من بعض ملابسها ثار بركانه ... وانجرف إلى فوهة عميقة يطير تلذذاً ... واندهاشاً...

و .. بينما هما عاريان في الفراش ... تتصاعد نشوته شيئاً فشيئاً، فوجئ بنورما فوق رأسه، ومعها غسان ورفاقه.

انهمدت نشوته على حين فجأة، وارتجت فيه الأرض، فقد كانت نظراتها شعاعات من التوحش، وبصوتها حشرجة الهلاك.

قالت له في الحال مشيرة إلى أرليت التي انسحبت عارية من الحجرة:

&Oslash; هايدي إسرائيلية ... من الموساد، كليتنا من الموساد، وبنريدك تعمل ويانا...

&Oslash; ... مو .. موساد؟

&Oslash; شو صار رأيك؟

"قذفت إليه بصوره العارية مع جورجيت ولوحت له بعدة شرائط مسجلة".

&Oslash; موساد .. ؟

&Oslash; وقعْ عالوثيقة نحنا ما بنمزح. "أخرجت من جيبها ورقة مطوية وقلماً".

&Oslash; وثيقة؟ (كان كلما جذب الملاءة ليستر نفسه بها شدها أحدهم فبقى عرياناً).

صارخة في شراسة:

&Oslash; ما بدنا تعطيل شوها لفرك؟ وقع .

إن الشخصية الخائرة ASTHENIC في نظريات علم المخابرات . تطلق على الشخص الذي أفقدته الصدمة قدرة التفكير .. ففي ظل الكارثة التي حلت به يصاب العقل بالذهول وتغيم في الشعور STUPOR مع غياب الحس وبلادة الإدراك SLUGGISH والانتقال من أحد جوانب الموقف إلى جانب آخر... وهو ما يطلق عليه في علم النفس مصطلح "الاتجاه المجرد"ABSTRACT ATTITUDE

 

ومن خلال بطء العملية العقلية.. وعدم القدرة على التصرف، مع ظهور أمارات اضطرابات آلية، يسهل السيطرة على الشخص الخائر، والتحكم في إرادته المشلولة بنسبة فائقة النجاح. وقد كان هذا بالضبط هو حال ضاهر الذي فاجأته "الصدمة" فعجز عن مجابهتها. واستسلم لمصيره خائراً .. منهاراً.

ودون أن يدري ماذا حدث ... كأنه الحلم، وقّع أوراقاً لا يدري بالضبط ماذا كتب بها، وخرجت نورما تعلو وجهها ابتسامة الظفر، وعادت أرليت اليه من جديد، ولم تكن ثملة كما كانت تدعي، بل كانت تحمل كوباً من العرق اللبناني وطبقاً من "المازاوات".

كان على أرليت أن تبقى في جواره، خلال تلك اللحظات بالذات، حتى يفيق من ارتجاجة الصدمة. مستغلة هذه المرة أقصى ما عندها من نعومة وحنان ورقة، ولأنها مارست مهاماً عديدة سابقة كتلك، فالأمر بالنسبة لها أصبح مألوفاً... وطبيعياً. فقد كانت تمتلك خبرات عالية اكتسبتها في فن معاملة "المصدومين" لتليينهم ... وتمهيد الطريق للخطوات اللاحقة. إنها بحق خطوات شيطانية بدأت في فوار انطلياس، ثم بشقة نورما مع جورجيت، وأخيراً مع أرليت ذات المهمتين، التسخين ... والتليين.

ذلك إنه عالم المخابرات والجاسوسية الذي وصفه الكاتب المعروف "هانسون بولدوين" قائلاً:

"إن نظام المخابرات الصحيح عبارة عن منشأة ذات إمكانات هائلة لكل من الخير والشر، ويجب أن تستخدم الرجال والنساء كل الوسائل... فهي رقيقة، وشرسة، تتعامل مع الأبطال، والخونة ... وهي ترشي، وتفسد، وتختطف، وأحياناً... تقتل ... إنها تقبض على قوة الحياة والموت .. وتستغل أسمى وأدنى العواطف، وتستخدم في الوقت نفسه الوطنية حتى أعظم معانيها... والنزوات في أحط مداركها... !!".

بهذا وقع أحمد ضاهر في الشرك دون أدنى مقاومة .. فقد مورست معه نظريات علم النفس والسيطرة حتى أذعن للأمر... واستسلم لفريق التدريب صاغراً ليتمكن من تعليمه.. وتخريجه جاسوساً للموساد .. كيف بدأت رحلته في عالم التجسس على الفلسطينيين؟ وكيف جند خونة آخرين لصالح الموساد؟

العائد الجديد

تعهد به على الفور رجال الموساد في أثينا... وأخضعوه لدورات تدريبية في فنون التجسس وكيفية الامتزاج بالفلسطينيين، ولأنه – كطبيعة البشر – ربما قد يتمرد على واقعه بعدما يفيق من أثر الصدمة، أفهموه باستحالة الإفلات منهم .. وهددوه بأنه عملاءهم في لبنان لا حصر لهم .. ولديهم القدرة على إلحاق الأذى بمن يتمرد أو يرفض الاستمرار معهم .. وقد يصل الأمر إلى حد قتله أو قتل أولاده...

هكذا ألقوا الرعب بقلبه، ووعدوه بالثراء الفاحش إذا ما أخلص لهم... وأكدوا له مقدرتهم الكاملة على حمايته وعدم التخلي عنه في أية حال، وصيّروه "كالعجينة" في أيديهم يشكلونها كيفما شاؤوا، فتجمد الدم بأوردته وتوحش بداخله الخوف ينهش أعصابه... وكان كلما هدأ قليلاً ارتعشت أطرافه وخلجاته وغرق في محيط من هموم.

ولما أطلقوا عليه أرليت لتهدئته كانت رغبته قد تكسرت، وانعقدت إحساساته كرجل أمام أنوثتها المتوقدة، فلم يعد يثيره ذلك الجسد الأفروديتي الذي حلم باحتوائه، ودفئه ... ومذاقاته.

بعد ثلاثة أسابيع في أثينا حمل معاناته الثقيلة عائداً إلى بيروت، وأسرع إلى منزله في "عيترون" الحدودية يحفه الشوق لأسرته والخوف أيضاً، وكم كانت دهشته عندما اكتشف أن زوجته رباب لها مذاق جميل مسكر، مذاق بطعم آخر يحن إليه ويختلف كثيراً عن مذاق جورجيت وأرليت. قرأت رباب في عينيه تبدله ... وأحست بأن العائد ليس هو الزوج القديم، إنما شخص آخر يفيض حباً، وحناناً، وحزناً، وحاول بدوره أن يبدو طبيعياً لكن الحمل الثقيل الذي ينوء به يفصح عن أرقه وكوابيس خوفه ويفضح أسايره، وفشلت رباب في أن تجعله يبوح بما يؤرقه، بحنانها، عند هدأة نفسه بين أحضانها، وانهارت محاولات انتشاله من رعب الرؤى التي تؤرق مضجعه.

تزامن وصوله من أثينا بالأموال والهدايا مع وصول صديقه الشاعر كمال المحمودي من باريس مفلساً، محطماً، فجمعهما لقاء حار خيمت عليه ذكريات الشباب وأحلام الشهرة، وقص عليه المحمودي حكاياته في باريس وصدمته المرة هناك في العمل والنجاح، فاللبنانيون الذين قابلهم في باريس لكل منهم حكاية، فمنهم الفيلسوف الذي لا يسكت، والثرثار الذي يجب أن تضربه، والبورجوازي الحديث الذي يفرض عليك سماع قصص مغامراته، والمسكين الحزين الذي يلوي القلب، أيضاً الرومانسي الحامل في محفظته صورة جارته المتزوجة، والوطني المحاضر في مطعم "رشيد"، والنازل في أتويل "جورج سانك"، ناهيك بالوافد الذي يزور "راوول وكورلي" ويتفرج على فرساي، ويمارس الجنس بخمس فرنكات في "بيكال".

لقد صدم المحمودي في باريس وذاق الجوع والتشرد، وفشل في العثور على عمل يعينه على الاستمرار والعيش . برغم وجود شارعين باريسيين صغيرين متلاحقين في الدائرة العشرين، اسم الأول شارع لبنان، واسم الثاني شارع الموارنة، حفلا بالمئات من اللبنانيين الذين جاهلوه، وعاملوه بقسوة أدمت مشاعره وشاعريته ورقة إحساساته، فهرب إلى البيت الفرنسي اللبناني المعروف بـ "الفواييه فرانكو – ليبانيه" في 15 شارع دولم في باريس الخامسة، وهو مبنى جديد يتصل بكنيسة "نوتردام دي ليبان" على مدخله ناقوس فينيقي كبير من الفخار، وفي الصالون الكبير صورة ملونة للشاعر جبران خليل جبران يرتدي الأحمر، تذكره بقصيدة للشاعر "مورس عواد" عنوانها "يسوع كلساتو حمر"، حاول أن يقيم بالدار ولكنهم بأدب أشاروا إلى إطار ذهبي، بداخله صورة البطريرك "مار بطرس بولس المعشوق"، ففهم على الفور أنه كمسلم لا مكان له بالبيت المخصص للموارنة فقط، أخيراً عثر على عمل بمطعم LAURORE DE LAVIE بشارع لامارتين، كخادم وماسح للبلاط الذي يفترشه آخر الليل... مما أصابه بداء الروماتيزم... فقعد عن العمل وطرد من باريس كلها إلى بيروت.

أما أحمد ضاهر ... فقد اختلق قصة طويلة من الكفاح والمثابرة، زاعماً لصديقه أنه برغم نجاحه في الحصول على المال، فقد فشل في حلم حياته أن يصير مطرباً، ولما شجعه كمال على أن يحاول مرة أخرى بعدما امتلك المال... ضحك ضاهر في سخرية وقال له بأن في ذلك مغامرة خاسرة، ذلك لأن ضاهر الفنان قد مات واجتثت جذور أحلامه إلى الأبد.

يئس صديقه عن فهم ألغازه، واعتقد في نفسه بأن صراعه من أجل البقاء أنهكه كمثله تماماً، ولا بد أنه سيعود ذات يوم إلى حلمه.

نموت ... ولكن

شهر ونصف وضاهر في حالة انعدام وزن لا يدري كيف سيصير به الحال أو إلى أين يقوده مصيره ... فثمة موعد مع نورما بإحدى مقاهي القاسمية شمال صور، على أثره ستتحدد أشياء كثيرة. وفي الطريق إلى صور من عيترون، شاهد سيارات عديدة تقل أفواج الفدائيين الفلسطينيين بزيهم العسكري تتحرك شمالاً وجنوباً، تعلو وجوههم نظرات التحدي والإرادة ... والصمود.

عبرت به السيارة جسر القاسمية – أكبر الجسور وآخرها على نهر الليطاني – وغادرها ضاهر إلى جانب الجسر ... حيث خط حديد الحجاز الذي أقيم عام 1908، ليصل استانبول بالمدينة المنورة. ولماوصل إلى ما قرب المصب، حيث يقع المقهى المطل على بساتين الموالح من جهة، ومصب النهر من جهة أخرى، لم تكن نورما بانتظاره فجلس يطوف بأفكاره غارقاً في قلقه، متجاهلاً روعة منظر الماء والأشجار والطيور من حوله، وانتفض فجأة عندما أخبره الجرسون بأن سيدة تركت له رسالة.. فتناول منه المظروف المغلق ومشى باتجاه الجسر، وفضه في الطريق وبدنه يرتجف وقرأ جملة واحدة كتبت بالحبر الأحمر: "أرليت تطلب خطاباتها، فعجل بإرسالها... ".

كان الخطاب يحمل أمراً صريحاً بجمع أكبر قدر من المعلومات عن حركة المقاومة... واللقاء في اليوم التاسع والعشرين من الشهر "عدد حروف الجملة" الساعة الواحدة ظهراً "الرقم 29 مقسوماً على 3"، والحبر الأحمر يرشد عن مكان اللقاء في فوار انطلياس ، ذات المقهى الذي جمع بينهما في أول لقاء تحت الأضواء الخافتة.

بقيت أربعة أيام على الموعد المقرر، وكان عليه أثناءها أن يعد تقاريره ويسجل مشاهداته، واستلزم منه ذلك أن يقوم بعدة تحركات لأصدقائه بالقرى الحدودية، يستجلب الأخبار ويسمع بنفسه ما يردده الناس عن أبطال المقاومة، وقام برحلته الأولى للبحث عن صديقه "نايف البدوي" من بلدة "بارين" التي تبعد عن قريته، عيترون، سبعة كيلو مترات، وكيلو مترين ونصف فقط عن الحدود الإسرائيلية.

كان نايف البدوي زميل دراسته الابتدائية ورفيق صباه ... عمل بالتجارة وتزوج من امرأتين أنجبتا له ثمانية أولاد أحدهم معاق وأنفق على علاجه أموالاً طائلة بلا فائدة. ومن ناحية أخرى كان نايف "محبّاً" للنساء مباهياً بمغامراته معهن ومطارداته للحسناوات أينما كن... فتدهورت لذلك تجارته وانكمش رأسماله شيئاً فشيئاً إلى أن أفلس وباع متجره، أما وحاله تبدل هكذا، فقد هده العوز والدين... ولما زاره ضاهر كانت أحواله السيئة مرسومة على وجهه، وظاهرة جلية في كل أركان بيته... فأشفق عليه صديقه ونقده مائة ليرة طالعها نايف ببشاشة وفرح، ورجاه أن يبحث له عن عمل ينفق منه على الجيش الذي ببيته.

عاد ضاهر إلى منزله منكباً على تسجيل ما اطلع عليه خلال تحركاته في أقصى الجنوب، بينما تنطلق به السيارة إلى بيروت لمقابلة نورما عساف، كان صوت المذياع ينطلق مجلجلاً بالنشيد:

&Oslash; فلتسمع كل الدنيا ... فلتسمع

&Oslash; سنجوع ونعرى ... قطعاً نتقطع

&Oslash; ونسف ترابك يا أرضاً ... تتوجع

&Oslash; ونموت ... نموت ولكن ... لن نركع

&Oslash; لن يخضع منا حتى طفل يرضع... !!

بدت نورما في مقهى فوار انطلياس ناعمة رقيقة حالمة ... إلا أن منظرها البشع ذا الفحيح المرعب بشقة أثينا لم يكن ليغيب للحظة عن مخيلة ضاهر.. فما أن رآها حتى سرت ببدنه رعشة خائفة وهو بمجلسه قبالتها، ومشى خلفها إلى سيارتها مضطرباً، فدارت بها دورتين كاملتين حول المكان، ثم انطلقت مسرعة إلى الشمال... فعبرت نهر الكلب بطريق طرابلس – بيروت، وانحرفت يميناً باتجاه البساتين الكثيفة والأحراش ... وأمام منزل خشبي ريفي قديم توقفت، ودفعت اليه بالمفتاح فعالج الباب وسبقها إلى الداخل بيده عود ثقاب مشتعل، فبدا المكان الموحش المجهول مع وجود نورما كبيت الرعب.

 

أضاءت مصباحها اليدوي وعلى مقعد متهالك جلست لتقرأ ما جاءها به من تقارير ملأت تسع صفحات... وما ان انتهت حتى قذفت بها إلى وجهه غاضبة، فانكمش مذعوراً متوقعاً لكل شيء، غذ تحول جمالها إلى توحش مخيف، وانطلقت نظراتها كالسهام الحارقة مع سيل من السباب لجهله بأمور التجسس التي تدرب عليها، وافتقاده للحس الأمني في الرصد والتحركات وإدارة الحوار.

رغم ذلك أعطته خمسمائة ليرة، وأخضعته لدورة تدريبية أخرى أكثر تكثيفاً وحرفية ... وحددت له مهاماً بعينها عليه القيام بها دون غيرها، وطلبت منه أن يزور صديقه نايف البدوي ويوطد علاقته به نظراً لموقع قريته الحدودية الهام.

استقر كمال المحمودي ببيروت بعدما عمل بإحدى الصحف، كانت أشعاره الوطنية تجد مساحة كبيرة على صفحاتها... وبدأ النحس الذي لازمه لحقبة طويلة من حياته ينحسر، ويموت يأساً... لقد كان شديد الحساسية عندما يتكلم أو يكتب عن القضية الفلسطينية واللاجئين والمقاومة .. فقربته كتاباته من رموز الثورة وكبار رجالها... وغدت زياراته لمعسكرات التدريب ومشاهداته عن قرب للشباب الفدائي ... بمثابة طلقات رصاص يطلقها قلمه. ز فانكب يحارب بالكلمة لا يستقر له بال أو يهنأ بالقرار.

زاره أحمد ضاهر بمسكنه ففرح به، وسهرا طويلاً يستعرضان معاً حياتيهما في الماضي، وأحلامهما التي وندت قهراً لحين، ولم تكن الزيارة بريئة هذه المرة، فالغرض منها معروف... والمكاسب المادية الثمينة التي سينالها من جراء معلومات المحمودي عن المقاومة أغلى عنده من الصداقة.

كان قد تعلم جيداً كيف يستخرج الأسرار من عقل محدثه عندما يستثيره ويجادله... أو يجله ويقدره... لكن الحال هنا مختلف، فصديقه ورفيق أحلامه لم يكن ليبخل عليه بأدق المعلومات التي يعرفها عن الثوار والقيادات الفلسطينية... بما فيها تلك الأسرار المتداولة في دهاليز مراكز القيادة الحيوية...

تلك المعلومات كانت سبباً رئيسياً في حصوله على آلاف الليرات من خزينة الموساد، فأغرق صديقه بالهدايا دون أن يدري بأن حديثه العادي مع رفيق عمره... ينقل أولاً بأول إلى إسرائيل، ويخضع لتحليلات خبراء الموساد واهتمامهم البالغ.

ولنرجع إلى قرية يارين في الجنوب، حيث يعيش نايف البدوي أسوأ ظروف مادية تعصف به، استغلها ضاهر جيداً في التأثير عليه، وتطمينه بإمكان حصوله على فرصة عمل ممتازة بإحدى الوكالات العالمية دون أن يبرح قريته.

تملكت نايف الدهشة من العرض المغري وتساءل عن ظروف العمل، فأخبره بأن وكالة أنباء عالمية في نيقوسيا، تدفع بسخاء لمن يوافونها بأخبار صحيحة ووافية عن حركة المقاومة الفلسطينية في الجنوب...

سر نايف المتعسر بهذا الأمر وأبدى بحماس شديد رغبته في العمل ... فوعده صديقه بأن يسعى لدى مقرهم في بيروت لقبوله.

مرت بنايف الأيام الطويلة المضنية، وكلما عصرته الحاجة ونهشه العوز، أسرع لصاحبه يرجوه بألا يهمل أمره... فيجيبه ضاهر بأنه تقدم بالفعل بطلب في شأنه ولم يقرروا بعد. وكان يقصد من التأخير والمماطلة حرق أعصابه... وإشعاره بأهمية التعاون مع الوكالة للخروج من أزمته...

إنه أسلوب آخر في عالم المخابرات الجاسوسية، يعرف باسم "الاختناق CHOKED "ويعتمد على محاصرة من يراد الإيقاع بهم في شرك الخيانة بعد دراسة شتى ظروفهم الحياتية، ومدى معاناتهم النفسية، وتضييق الخناق عليهم مع إعطائهم ثمة أمل في مخرج ما لمشاكلهم... دون وعد قاطع..

هكذا يظل هؤلاء يحلمون بانفراجة قريبة تبدل حياتهم... إلى أن يقعوا يأساً أو يتغابوا مع علمهم بالجرم.

كان ضاهر قد تسمم دمه بالخيانة ... فلم يعد هو ذلك الإنسان البسيط الحالم العاشق للطرب... إذ أجاد مهمته بالتدريج في عالم التجسس... ومضى بخطى ثابتة في بيع عروبته بثمن بخس.

إن ظروف الخائن النفسية وصراعاته الداخلية المعقدة... تدفعن دائماً لأن يمقت الأسوياء من حوله... ويحتقر ذاته كلما جلس اليهم أو جالوا بباله... ولذلك يسعى في الغالب للانتقام منهم في دخيلته، وقد يتحول هذا المقت إلى محاولة جرهم معه لمستنقع الخيانة.

ويسجل لنا تاريخ الجاسوسية الإسرائيلية في الوطن العربي، نماذج متباينة من هؤلاء المرضى بالخيانة، إنها حالات قليلة جداً وشاذة (1)، تلك التي أظهر فيها الخائن بغضه لأقرب الأقربين إليه فلطخهم بعار الخيانة مثله.

ولو عدنا لأحمد ضاهر ... لتبين لنا مدى كراهيته لكمال المحمودي ونايف البدوي – أقرب أصدقائه – وحرصه في قرارة نفسه، وبأي ثمن، على دمجما في شبكته ... فتتساوى بذلك الخيانة.

فالأول يمثل لديه رمز الوطنية الصادقة، والثاني يمثل الصبر وتحدي الظروف والقوة. ولأنه إنسان ضعيف ... مريض... محتقر من ذاته، كبر لديه الاعتقاد بأن مسألة إغواء أي مخلوق عملية سهلة إذا ما درس ظروفه النفسية بعناية. من هنا، نسج خيوط شبكته حول صديقيه، مبتدئاً بأضعفهما مقاومة – نايف البدوي – مستخدماً معه أسلوب الاختناق تمهيداً لشل تفكيره وهرس مقاومته.

التسليم والتسلم

عام 1969 وفي النصف الثاني منه بالأخص، اشتدت ضربات المقاومة الفلسطينية ضد إسرائيل... ووجد المستوطنون اليهود في المستعمرات الشمالية ... أنهم هدفاً لضربات ناجحة بدلت أمنهم إلى رعب دائم... وحدث أن تسلل أربعة شباب من الفدائيين بأسلحتهم وذخيرتهم... وتمكنوا من الوصول لمستعمرة "زرعيت" في الجليل الفلسطيني المحتل... على بعد عشرين كيلو متراً من الشاطئ... وقاموا بعملية فدائية خارقة للغاية قتل فيها أحد عشر صهيونياً، وأصيب العشرات منهم، واختفى الأبطال بعيداً عن المنطقة التي حوصرت... مجتازين جميع نقاط التفتيش الصارمة في كل مكان.

هذا الحادث هلل له الفلسطينيين واحتفلوا بأبطاله... بينما كان العكس في إسرائيل، إذ أقيل عدد من الضباط وأخضع آخرون للتحقيق والمجازاة... واستدعى الأمر حدوث تغييرات فورية في الخطط الأمنية حول المستعمرات ... والنظر في تنشيط وفاعلية شبكات الموساد في لبنان.

من أجل ذلك أوصى تقرير خطير لخبرات الموساد... بضرورة العمل على تجنيد أكبر عدد ممكن من سكان الجنوب اللبناني ... ليكونوا عيوناً لإسرائيل ترصد تحركات المقاومة في مهدها أولاً بأول ... وتخصيص ميزانية خاصة للنشاط الاستخباري في لبنان ودعمه بأكفأ الرجال والتقنيات الحديثة.

أحد الذين طالتهم يد التغيير نورما عساف، حيث جرى سحبها إلى إسرائيل واستبدلت بضابط ماكر خبير بشؤون لبنان وبشبكاتهم بها... فكان عليها أن تجري مقابلات سريعة بعملائها فيما يعرف باسم "التسليم والتسلم" في عالم المخابرات، وفي المقهى المطل على مصب نهر الليطاني بالقرب من جسر القاسمية التقت بأحمد ضاهر الذي تملكته فرحة عارمة عندما أنبأته بانتهار مهمتها معه... وأن زميلها "أنطوان شهدا" سيتولى أمره.

تعهد به انطوان منذ تلك اللحظة ... وبعد مقابلات مطولة بينهما في المنزل الخشبي ببساتين نهر الكلب، أصدر له أوامر صريحة بتجنيد نايف البدوي ... بعدما استعرضا معاً كافة جوانب حياته وظروفه... أما كمال المحمودي فقد رأى أنطوان أن ينتظر عليه قليلاً حتى يدرساه بشكل أفضل... وتحين الفرصة الملائمة لضمه.

تقارير ضاهر السابقة أكدت بأن المعلومات التي يحصل عليها منهما لا تقدر بثمن... وكانت رؤية انطوان خبير الموساد المحنك بالتعجيل في تجنيد نايف ... وتأجيل امر كمال... تنم عن فهم وإدراك لحساسية الأمر وخطورته... وبعد نظره الناشئ عن خبرة طويلة في العمل المخابراتي، لكن دائماً تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن.

كالحية الرقطاء مبتسماً تقابل ضاهر ونايف في يارين... مهنئاً بموافقة وكالة الأنباء على العمل معها، واختصه وحده بموافاتها بأخبار المقاومة وأسرار تحركاتها... وبأن الوكالة قررت راتباً شهرياً له مقداره ثمانمائة ليرة "كان الرقم مغرياً جداً وقتذاك" وشرع في تلقينه مهام عمله الذي يجب أن يكون سرياً للغاية.. فالوكالة كماأخبره تسعى دائماً إلى الانفراد بالأخبار... وتدفع مكافآت تشجيعية كبيرة لمن يوافيها بتحركات رجال المقاومة قبل قيامهم بالعمليات.

دهش نايف لما يقوله صاحبه.. وعلق على ذلك بقوله أنه سيقوم بعمل الجواسيس إذن... فما كان من صديقه إلا وأن راوغه، متعللاً بأن المال يصنع كل شيء... وأنه بالعمل مع الوكالة سيخرج من أزمته المالية بسرعة الصاروخ.. فلكل خبر مهم ثمن ... ولكل تكاسل عقاب بالحرمان من المكافآت التي ستنهال عليه..

قال ذلك بينما كان يناوله ألف ليرة كمقدم "أتعاب"... فحملق المحروم في الليرات فرحاً وقال: "نعم ... إن المال يصنع كل شيء، وأنا بحاجة إلى المال ولو بعت نفسي إلى الشيطان".


هكذا سقط نايف البدوي ... وتفرغ لعمله السري في البحث عن خبايا المقاومة والمنظمات الفدائية... التي يجوب أفرادها القرية الحدودية ليل نهار... وانكب يكتب تقارير يومية تفصيلية عن مشاهداته ومسامراته ويسلمها أولاً بأول لصديقه... ولما كانت معلوماته تمثل لدى أنطوان درجة عالية من الخطورة ... بادر بضرورة تدريب أحمد ضاهر على استعمال اللاسلكي في الإرسال والاستقبال، ذلك لأن المعلومات الخطيرة عن الفدائيين، يجب بثها إلى الموساد قبل اجتيازهم للحدود للقيام بعمليات انتقامية في الداخل...وكان "البيت الآمن" على نهر الكلب أصلح مكان سري للتدريب.

هناك 3 تعليقات: