الاثنين، 10 فبراير 2014

0

 أمريكا فكرة إسرائيلية
  

 

- قال الشيخ أمين الخولي ـ المجدد الإسلامي المصري ـ إن أول الجديد هو قتل القديم فهما، وإذا حاولنا أن ننقل هذا المصطلح من الحقل المعرفي الديني الي الحقل السياسي يمكننا أن نقول إن أولي خطوات التعامل مع أمريكا ـ سيدة العالم ومأساته ـ هو قتلها فهما. أمريكا أكبر دائنة ومدينة في العالم وهي قلعة الأصولية الدينية المتطرفة التي تضم أكثر من خمسين مليونا من الانجيليين المتشددين وهي أيضا رافعة لواء الحرب علي الإرهاب اشلأصولي تتطلب منا فهما دقيقاً حتي نستطيع أن نكون نداً لها في حوار حضاري مهم. وعندما نفتح هذا الملف عن "قتل أمريكا فهما" لابد من الإشارة الي أننا مدينون بذلك الملف للباحث العربي المقيم في الولايات المتحدة منير العكش فقد لفت نظرنا بعمق الي ضرورة فهم أمريكا فهما آخر يختلف عن منطق الإعجاب أو الإدانة، فهماً ينطلق من داخل أمريكا باعتبارها نصاً يتشكل منذ أكثر من قرنين ويرفض الحدود المغلقة والجغرافيا الثابتة.
ولعل أهم ما في مشروع العكش أنه يكشف عبر دراساته بعض القوانين الأساسية الحاكمة لنشأة أمريكا وصيرورتها.
ففي كتابه بالغ الأهمية "أمريكا وحرب الابادة" يكشف العكش القانون الأساسي الذي اعتمدته مجموعة الغزاة للأرض الجديدة ومارسوه بوحشية في أكبر مجزرة إبادة في التاريخ وهو حق "التضحية بالآخر". وفي كتابه الثاني "تلمود العم سام" يكشف القانون الثاني المؤسس للخطاب الأمريكي منذ النشأة وحتي الآن حيث يؤكد أن أمريكا فكرة إسرائيلية خرجت من نصوص التلمود وتم تطبيقها بقوة السلاح في مزج بين العنف والمقدس.
ولايتوقف مشروع العكش عند حدود ملامسة تلك القوانين الحاكمة لبنية العقل الأمريكي ولكنه يقوم بهذا الكشف في الوقت نفسه الذي يفتح مع هذا العقل حوارا خلاقا عبر مجلة "جسور" وهي سلسلة دراسات يصدرها لجسر الهوة بين الإبداع العربي والأمريكي.
وتمكن أهمية ما يطرحه العكش في "المسكوت عنه" حيث أن قارئ كتابيه لن يتوقف فقط عند حجم مذابح الإبادة التي قامت بها أمريكا ضد الهنود الحمر التي اغتالت حضارة وسطت علي مخزونها الثقافي والقانوني في الوقت نفسه الذي هدمت فيه المدن وقتلت الملايين، بل أن القارئ سيطالع سفر الإرهاب الأمريكي الملون بدم الضحايا من الهنود الحمر، في مرآته العربية فيعرف مصيره إذا سلم كل أدوات اللعبة الي العم سام ـ كما قال الرئيس المصري الراحل أنور السادات في يوم من الأيام.
وهذا نص الحوار مع الباحث العربي الكبير:
- كيف بدأت قصة كتابيك "أمريكا والإبادات الجماعية" و "تلمود العم سام"؟ وهل تري أنك كعربي كنت تقرأ سيرة الفلسطيني في المرآة عبر محاولة فهم سيرة الهنود الحمر؟
ـ منير العكش: فهم هذه "الأمريكا" التي تمسك اليوم بخناق حاضرنا ومستقبلنا كان ولايزال هما يسكنني ويوجعني. لا أعرف عربيا يعيش في الولايات المتحدة لا يسكنه شيء من هذا الهم. لكن الهم وحده لايكفي. فلا بد للهم من توظيف صحي في أعمال دراسية جادة أو أشكال مؤسساتية بحثية، من دون ذلك يتحول الهم الي إحباط وردود فعل حمقاء. 
قصة الكتابين إذا كان لابد من سردها هي فصل من فصول قصتي مع "الدراسات الأمريكية" وبحثي عن صيغة أكاديمية جماعية لفهم أمريكا من الداخل. وهي صيغة أطلقها أول من أطلقها الراحل الكبير "ادوارد سعيد" وبح صوته وهو ينادي بإنشائها. منذ أيامي الأولي في الولايات المتحدة حاولت كمعظم المهاجرين العرب أن أجد تفسيرا معقولا لسطوة اللوبي الصهيوني، أن أعرف شيئا عن حال سكان أمريكا الأصليين، ان ارسم صورة واقعية للمؤسسة الحاكمة، أن افهم كيف يصنع القرار السياسي.. في تلك الفترة أسست مجلة جسور وهي سلسلة مرجعية من الكتب تصدر اليوم بالإنجليزية بالتعاون مع منشورات جامعة سيراكوس في ولاية نيويورك وحاولت فيها ـ مع عدد من الأخصائيين العرب والأمريكيين والأوروبيين أن أرسم صورة واقعية تساعدنا علي فهم عمل المؤسسة الحاكمة في الولايات المتحدة، وتعين المخلصين من أولي أمرنا في العالم العربي علي بناء استراتيجية واقعية لا تصادرها التشنجات والمواقف المسبقة من جهة ولا تقوم علي الأوهام والتمنيات من جهة ثانية.
مع نصيحة عدد من الأصدقاء بأن لا اقتصر علي قراء العالم الإنجليزي، بدأت بنشر بعض دراساتي عن الولايات المتحدة في عدد من المجلات العربية الثقافية، ثم كتبت هذين الكتابين ولك أن تتصور أنه ليست هناك جماعة عرقية أو مذهبية في أمريكا لم تؤسس لنفسها وأمتها مركزا خاصا للدراسات الأمريكية، ولم يتخلف عن ذلك سوي جاليتنا العربية والمسلمة مثلما تخلفت جامعاتنا في أوطاننا الأم.
وللأمانة، هناك مبادرات فردية نبيلة لإنشاء مثل هذه المراكز في العالم العربي، لكنها للأسف، وبحكم "عقدة الخواجة" ، فقدت بوصلتها، وارتمت في أحضان الجامعات الأمريكية، وهي في اعتقادي ستضر أكثر مما تنفع، فهذه المراكز بحكم لغتها ستتوجه إلي العرب، وبحكم موقعها لن تكون أفضل تحليلا وأهدافا من نظيراتها الأمريكيات، وبالطبع فإن كل أدبياتها سترتكز إجمالا علي أغلوطتين ترتكز عليهما عادة معظم دراسات هذه المراكز الأمريكية، أولا، أننا نحن العرب مذنبون وعلينا التكفير عن سيئاتنا وتحسين صورتنا، وثانيا، أن ذنوبنا لا يقرها الإسلام الحنيف وبالتالي فلابد من إعادة صياغة هذا الإسلام ليتطابق تماما مع ما تريده الولايات المتحدة منا.
- وماذا عن الشق الثاني من السؤال ان كنت تقرأ سيرة الفلسطيني العربي في المرآة عبر محاولة فهم سيرة الهنود الحمر؟
أنا فلسطيني بالاختيار ولست فلسطينيا بالولادة، فأنا من مواليد حلب. وفي اعتقادي أننا نحن العرب إذا لم نصبح فلسطينيين بالاختيار فإننا، عاجلا أم آجلا، سنصبح فلسطينيين بالقوة!
ولكي أكون صادقا معك ، لم اقصد قط، ولا أحب أن يعتقد أحد بأنني كنت أقرأ سيرة الفلسطينيين في مرآة الهنود الحمر. أن حملة إبادة سكان العالم المستمرة حتي هذه اللحظة لا تقرأ بالمرايا ولا حتي بالكوبيس، لا لأنها الإبادة الأعظم في تاريخ البشرية المعروف حيث قضي فيها أكثر من 112مليون إنسان، منهم 18.5مليون إنسان في المنطقة التي تسمي بالولايات المتحدة، وإنما لأن الغازي هو الذي كان يري الفلسطيني في جسد ضحيته الهندية، أي أنه كان ولايزال حتي هذه اللحظة يقتل هذا الهندي نيابة عني وعنك وعن الفلسطيني.
كل اخلاق الابادة استمدها الغزاة من اعتقادهم بأنهم " اسرائيليون" وان ضحاياهم الهنود كنعانيون. ولهذا فقد اطلقوا علي العالم الجديد اسم " اسرائيل الله الجديدة" واسم صهيون" واسم" كنعان الانجليزية" ، واسم "مدينة علي جبل (القدس)" ، واستعاروا كل فكرة امريكا من فكرة"اسرائيل" التاريخية بعناصرها الثلاثة: احتلال ارض الغير بعهد مزور مع السماء، واستبدال الشعب اللمحتل بـ أهل البلاد المحتلة أو استبعادهم، واستبدال تاريخهم بثقافته وتاريخه.
أزمة هوية
- رفض الكاتب الراحل صمويل هنتنجتون في كتابه" من نحن"فكرة أن الولايات المتحدة مجتمع من المهاجرين متعدد الاعراق والاثنيات والثقافات، ويري أن الذين اعلنوا الاستقلال عن بريطانيا أواخر القرن الثامن العشر كانوا مجموعة متجانسة من المستوطنين البريطانيين البروتستانت، وان هؤلاء هم الذين وضعوا مبادئ الثقافة الانجلو بروتستانتية القائمة علي العرق الابيض، والاثنية الانجليزية والدين المسيحي في طبعته البروتستانتية والثقافة الانجليزية، هل توافق علي هذا الطرح أم ان تلك تعريف آخر لامريكا؟
فكرة النقاء العرقي أو التلوث العرقي في الولايات المتحدة، وهي بالطبع فكرة عنصرية مستمدة من فكرة"الاختيار" ليست من اختراع صمويل هنتنجتون، ولا يتفرد وحدة اليوم برفع رايتها أو الدعوة اليها . هذه الفكرة ابحرت إلي الولايات المتحدة في سفن الغزو الاولي ، ورافقت مسيرة الامبراطورية من جيمستاون إلي مانيلا، ومن مانيلا إلي فيتنام فإلي جيكور. هناك سجل لها في العهد الذي قطعه "الحجاج" من الله سنة 1620علي متن سفينة ماي فلور.
ولربما كانت هذه الفكرة محورا مركزيا في كتابات "البيوريتانس" مثلما هي الآن محور مركزي في ادبيات الميليشيات العرقية وابواق النزعة الامبراطورية. هناك الكثير ممن لا يزالون في امريكا وبريطانيا يعيشون في عصر الماموث والديناصورات ويعتقدون مثلا ان العرش الانجليزي هو عرش داود وان الانجليز هم شعب الله وان الله نفسه كما كان يري اوليفر كرومويل رجل الانجليز " هناك لدردفيلد كتاب بهذا العنوان وكتاب رجل الله الانجليزي لميكائيل سميث. اعجب من ذلك، هناك من يعتقد بأن الانجلوسكسون هم الذين يحددون مسيرة القدر ويتحكمون بإرادة الله. وفي كتاب جوسيا سترونج بلادنا our Country اعاجيب من هذا الجنون والآفات النرجسية وعبادة الذات، فهو يؤكد الاعتقادات الشعبية بأن تصميم الله لمستقبل الانسانية يعتمد كليا علي الانجلوسكسون، وان الله لكي يحقق ذلك أولي المهمة للفرع الامريكي من الانجلوسكسون، واعطي امريكا بذلك حق التصرف لمصير الانسانية. ما يهمني هنا كباحث ليس الاعتقاد نفسه بل ما ترتب علي هذا الاعتقاد اجتماعيا وسياسيا، وما جر علي الانسانية من ويلات. فهاجس التلوث العرقي الذي ملأ مخيلة هنتنجتون بالكوابيس وكان أيضا يملأ مخيلة الذين كانوا يتلذذون بحرق الهنود احياء ويصفون احراق القري واهلها بأنها حفلات شواء "باربكيو" ، وهو ايضا ما كان يعتقده المتأفرقون والبور البيض مستعمرو جنوب افريقيا، بل هو الذي جسم في الكونجرس مسألة عدم ضم الفلبين بعد احتلالها إلي الولايات المتحدة خوفا من التلوث العرقي، بالنسبة لكتاب هنتنجتون "من نحن" ، أعتقد إن الكتاب من حيث لا يدري صاحبه يعكس صورة عنصرية بشعة عن المجتمع الامريكي يرفضها معظم الامريكيين، لكن لابد من فهم الكتاب في سياق تطور كتابات الرجل نفسه، فهو منذ كتابه "جندي الدولة" في الخمسينيات يكشف عن مشاربه الفاشستية حيث يزعم أن الحرب علي الألمان واليابان أخلت بالتوازن المطلوب لمحاربة الشيوعية. في كتابه الآخر " أزمة الديمقراطية" الذي مولته اللجنة الثلاثية الطيبة الذكر نادي بالتخلي عن الدستورية الجمهورية واعتماد قسوة هتلر ـ شاخت. ومعروف أن هنتنجتون من معتنقي الأخلاق "الهوبسية"نسبة إلي توماس هوبس" التي تري أن البشر وحوش لا بد لها من حكومة عالمية مستبدة تمنعها من أكل بعضها.
- لماذا قوبل الكتاب بحفاوة نقدية في امريكا عند صدوره؟
أهمية كتابه " من نحن" أنه فتح للمؤسسة الحاكمة جبهة خوف جديد هي في حاجة اليها في حربها الثقافية والنفسية من أجل الإمبراطورية الكونية، فبعد ان أدي "الشيطان المسلم" قسطه في كتابه " صدام الحضارات" ها هو يعود ليثير الهلع والكراهية ضد الشيطان الجديد الذي لا تعيش نزعة العنف الأمريكية من دونه، وهو في هذا الكتاب شيطان الكثلكة والرعاع الأسبان الذين يدنسون النقاء العرقي الأمريكي المتجسد في نظره بالزنابير WASPS"البيض انجلو ـ سكسون البروتستانت". وليس غريبا أن مؤسسة سميث ريتشاردسون المرتبطة بتشيني ورمسفيلد وغيرهما من مافيا العنف الرأسمالي المتوحش هي التي مولت هذا الكتاب.
وكعادته في كل كتبه، اعتمد هنتنجتون علي القص واللصق والتلفيق. انه برغم حظوته الكبيرة لدي المؤسسة الحاكمة واصحاب الاحلام الامبراطورية يعتبر كاتبا هامشيا تافها في امريكا . وعلينا أن نتذكر أن كل طلبات انتمائه إلي الاكاديمية الوطنية للعلوم في الثمانينيات رفضت لهذه الاسباب، وكان الرفض دائما يقترن بوصفه Pseudoscientist كاتبا مشعوذا. وفعلا فهناك الكثير من الشعوذة والكذب والتزوير التاريخي في هذا الكتاب. منها مثلا روايته لمسيرة الدموع Trail of Tears الهندية، ومنها ربطه البهلواني بين الثورة الامريكية وحركة اليقظة الكبري Great Awakning، ومنها مقارنته المهينة للتاريخ الامريكي بين الآباء المؤسسين" واشنطن، جفرسون..الخ" وبين حركة الصهيونية المسيحية اليوم، ومنها تجاهلة العنصري للدور المحوري الذي لعبه الجنرال الفرنسي لا فاييت في حرب الاستقلال، والهزيمة الحاسمة التي الحقها بالبريطانيين في يوركتاون.
يبقي أخيرا أن مقولته الاساسية حول النقاء العرقي الانجلوسكسوني وهي المقولة التي ينسج حولها كل دعاواه مقولة فاسدة علميا. فالانجلوسكسونية كذبة بيولوجية ذات دم ازرق فاسد طبعا لا أساس لها في الدراسات العرقية الجادة ، وكل الذين حاولوا الترويج لها كانوا يشيرون إلي ذلك الخليط المهجن من السلت والفايكنجز والجرمان الذين كانوا يسكنون الجزيرة البريطانية، ثم عمموه في امريكا علي القوقاز البيض من الناطقين بالانجليزية، وبعدها ضموا اليه بعض: "المتأبيضين" اخلاقيا ورأسماليا. ومثال جون ابو زيد وكوندوليزا رايس وكولن باول ليس ببعيد.
الهنود الحمر
- ترفض مصطلح "الهنود الحمر" في احد هوامش كتاب "الابادات الجماعية" ولكنك تستخدمه في متن الكتاب، كما أن الحركة الهندية لا تتورع عن استخدام المصطلح . كيف نشأ هذا المصطلح المرفوض، وهل هناك امكانية لتغييره؟
العكش: هذه معضلة نعيشها نحن العرب كما يعيشها سكان امريكا الاصليون، وربما ستزداد تفاقما اذا استمر هذا الانحدار وهذا الانهيار. قبل حوالي مائه سنة تقريبا لم يكن يقال هذا سوري وهذا سعودي وهذا اردني وهذا كويتي... الخ... ويمكنك ان تضع جائزة لأي شخص يستطيع ان يجد في كتب الاعلام أو الطبقات أو معاجم المؤلفين العربية أو انساب الصحابة انسانا واحدا كان يقال له سعودي أو سوري أو قطري أو اردني. ويمكنك أن تزيد هذه الجائزة إلي مليارات لمن يستطيع أن يجد اصطلاح "الشرق الاوسط"في معاجم البلدان أو نسبة "شرق اوسطي" لأي انسان سكان امريكا الاصليون قبلنا فرضت عليهم وعلي بلادهم اسماء لم يكونوا يعرفونها من قبل . فمنذ وصول كولومبس بالغلط إلي العالم الجديد اطلق علي بلادهم اسم "الهند" وسماهم بالهنود. بذلك صهر كولومبس اسماء وهويات وثقافات مئات الشعوب والقبائل في هذه المحرقة الهندية. هناك تفسير جميل لهذه التشويهات الثقافية عبر تاريخ العلم والمكتشفات في كتاب طريف لآرثر كوستلر بعنوان "الماشي نائما The sleep walkev في مقدمتي لكتاب "عشيات الكوخ" عرضت بعض الصور المؤلمة لهذا التشويه الثقافي والروحي لا بأس من استعراض واحدة منها هنا باختصار، لعل فيها عبرة لمعتبر. في بداية القرن الثامن عشر اطلق الغزاة البيض علي مجموعة كبيرة من القبائل الشعوب الناطقة بلغة "اوجيبوا" في سهول الشمال الامريكي .. اطلقوا عليها اسم "الافاعي المخاتلة" واستعاروا الكلمة من لغة اوجيبوا ثم اختصروها إلي كلمة "سو Sioux" ليستطيعوا لفظها بسهولة. ثلاثة قرون و " سادية" الغزاة تفرض علي أبناء هؤلاء الضحايا ان يسموا انفسهم ابناء " الأفاعي المخاتلة" إلي أن صار الاسم السائد الذي يتداولونه ويلقنونه لابنائهم جيلا بعد جيل.
علي المستوي الفردي كانت حرب التعرية الثقافية أكثر شراسة . فما بين 1869 و 1991، وهي السنة التي أغلقت فيها آخر مدرسة داخلية هندية، كان أطفال الهنود يخطفون من احضان امهاتهم وهم في الرابعة من عمرهم، مع استخدام القوة اذا لزم الأمر، وكانوا ينقلون إلي هذه المدارس الداخلية البعيدة، ويحرمون فيها نهائيا من استخدام لغاتهم أو ممارسة شعائرهم أو الاتصال بأهلهم. ولحظة وصولهم إلي هذه المدرسة تحرق ثيابهم الهندية أمام اعينهم، ووسط مشاعر القرف والاشمئزاز تقص شعورهم الطويلة التي يفتخر بها الهنود، ثم تستبدل اسماؤهم بأسماء انجليزية يحرم عليهم استخدام غيرها إلي أن صار معظم الهنود اليوم بمن فيهم اعلام الحركة الهندية يحملون اسماء انجليزية طنانة. يبقي أنني لا استخدام اسم "الهنود الحمر" في كتاباتي إلا لأنه هو الاسم الشائع عندنا في العالم العربي عن سكان امريكا الاصليين . لكن اسم "الهنود الحمر Red indians" غير شائع حتي في الولايات المتحدة، والاسماء العامة الاكثر تداولا هي إماNative AmericansأوIndian AmericansأوFirst Nations. أما بالنسبة للهنود انفسهم فإنهم علي الغالب يستعملون أسماء قبائلهم أو شعوبهم الأصلية ما استطاعوا إلي ذلك سبيلا. وحين يتحدثون علي مستوي القارة فإنهم يستخدمون اصطلاح "الأمم أو الشعوب الهندية Indian Nations"، ولا يستخدمون تلك الأسماء العامة إلا للحديث عن وحدة مصير هذه الأمم والقبائل.
- قلت في مقدمة الكتاب انك كنت معرضا للمصير نفسه الذي تعرض له توماس مورتون عندما اتصلت بمكتب الشئون الهندية... هل لك أن تحكي قصة هذا المكتب ودوره في تزييف تاريخ الهنود الحمر، وقصة الحركة الهندية الأمريكية وأهم رموزها ودورها في الحفاظ علي الإرث الهندي الأحمر؟عقدت حكومة الولايات المتحدة مع القبائل والشعوب الهندية 371 معاهدة لم تحترم واحدة منها. ثلث هذه المعاهدات كانت معاهدات "سلام" وقعها الهنود بروح طيبة ونوايا حسنة بينما وقعها المستوطنون أو وقعتها الحكومة الامريكية من بعدهم باعتبارها هدنة مؤقتة يتوثبون فيها لعدوان جديد. أما الثلثان الآخران من هذه المعاهدات فهما سجل احتيالي لنهب اراضي الهنود واقتلاعهم منها . في هذين الثلثين من المعاهدات تنازلت الشعوب الهندية عن حوالي مليار هكتار من الاراضي، ورضيت في النهاية بالعيش في منعزلات "أومحميات" قاحلة كان من المفترض زنبوريا أن يموتوا فيها ببطء، أول معاهدة عقدتها حكومة الثورة كانت مع هنود الدولاوير" في حدود عام 1778". وفي هذه المعاهدة اعترفت حكومة الثورة بسيادة هنود الدولاوير علي بلادهم التي هي اليوم ما بين بنسلفانيا ونيوجيرسي لقاء دعمهم للثوار في حربهم ضد الانجليز. ولمزيد من الاغراء ، وربما لمزيد من السادية ، دعتهم إلي إنشاء دولة باسمهم، وبالطبع لن تكون الدولة الفلسطينية التي تتحدث عنها الإدارة الامريكية اليوم بأفضل منها.
أما المعاهدة الأولي التي عقدتها حكومة الولايات المتحدة مع الهنود فكانت مع الشيروكي. في هذه المعاهدة ايضا، اعترف هنود الشيروكي بسيادة الولايات المتحدة علي الاراضي التي استولي عليها المستوطنون بينما اعترفت الولايات المتحدة بحدود بلاد الشيروكي " هي اليوم معظم ولاية جورجيا" وبسيادتهم عليها. لكن لم تمض 50 سنة حتي طرد الشيروكي من بلادهم وسيقوا كالقطعان إلي ما وراء المسيسبي" أكثر من الف ميل "في تلك المسيرة التراجيدية التي مات معظمهم فيها والمعروفة باسم مسيرة الدموع Trail of Tears 
ظنت الحكومة الامريكية أن الأراضي الجراداء التي بقيت في حوزة الهنود لن تكون افضل من المقابر ، لكنها مع تقدم وسائل البحث اكتشفت ان في هذه الاراضي التي تبلغ مساحتها نحو 3 في المائة من مساحة الولايات المتحدة.. فيها ثروات هائلة من المواد الاولية بدءا من الذهب وانتهاء بالنفط والغاز واليورانيوم. ولنهب هذه الثروات واستكمال حرب الابادة الجسدية والثقافية اخترعت الولايات المتحدة ادهي حكم استعماري عرفته البشرية واطلقت عليه اسم " مكتب الشئون الهندية". وهو عبارة عن " سلطة محلية هندية" وظيفتها الاساسية هي التدمير المنظم لحياة الهنود اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا وروحيا، وتمكين الحكومة الامريكية من نهب ثرواتهم وتجويعهم وتفريق كلمتهم بحيث يواجهون مصائرهم فردا فردا.
- كيف ؟
مكتب الشئون الهندية مثلا هو الذي تولي عملية خطف الأطفال التي تحدثنا عنها قبل قليل، وهو الذي تولي اسميا إدارة هذه المدارس الداخلية التي مات فيها أكثر من نصف من سيق اليها من الأطفال. ماتوا بالتعذيب والسخرة والتجويع والاغتصاب. والمكتب هو الذي تولي بيع اراضي الهنود وتأجيرها والتوقيع علي عقود استثمارها من غير أن يعرف الهنود أين تذهب أثمانها أو عائداتها. والمكتب هو الذي تولي المهمة التي كان يتولاها الجيش والميليشيات والمستوطنون البيض. ومكتب الشئون الهندية هو النظام الديمقراطي الذي تسعي الولايات المتحدة اليوم لتصديره من بغداد إلي العواصم العربية واحدة بعد الأخري.
أما " الحركة الهندية" فشئ آخر. إنها استمرار لحركة مقاومة عمرها بعمر الغزو الأبيض . وقد ظهرت رسميا في أواخر الستينيات لإصلاح ما أفسده مكتب الشئون الهندية. هدف الحركة الأول هو " الحفاظ علي البقاء" ومقاومة كل أشكال الابادة تحت شعار "من يحمينا إذا لم نحم أنفسنا". في عام 1972شكلت الحركة وفدا ضم ممثلين عن كل الشعوب والقبائل الهندية توجهوا جميعا إلي واشنطن حيث قدموا للرئيس نيكسون مطالبهم العشرين المعروفة بالمانيفستو .
ومعظم هذه المطالب تتركز حول ضرورة احترام المعاهدات وعدم التلاعب بتفسيرها وتطبيقها، واحترام السيادة الهندية بكل ما تعنيه السيادة حقوقيا وثقافيا ودينيا واقتصاديا ولغويا.. الخ، وإعادة الأراضي المنهوبة وهي تزيد علي 110ملايين هكتار، وإلغاء "مكتب الشئون الهندية" . أما بالنسبة لي، فالعلم بطبيعة كل من " مكتب الشئون الهندية " و "الحركة الهندية" يغنيك عن معرفة ماذا يعني الاتصال بهذا أو ذاك.
هولوكوست
- تقول في كتابيك" الابادات الجماعية "و" تلمود العم سام"ان عدد الهنود الحمر الذين تعرضوا للابادة الجماعية علي أيدي الغزاة الأمريكيين وصل إلي 112مليونا و 400ثقافة . كيف يمكن توثيق هذا الرقم الضخم. وكيف يمكن الوثوق في عدد الحضارات في الوقت الذي تشير فيه بوضوح إلي عدد لا يتجاوز العشرات . اهمها اتحاد الأمم الست؟.
ـ حجم هذه الإبادة، وهي الأعظم والأقسي والأطول زمنا في تاريخ البشرية المعروف هو الذي جعل أرقامها لا تصدق . هناك شهادة حية كتبها برتولومي دو لا سكازاس الذي رافق موجات الغزو الأولي يتحدث فيها عن أرقام تفوق الخيال من ذلك مثلا أن الغزاة كانوا يشحنون الهنود في سفنهم لبيعهم لمستوطني الجزر البعيدة، وكانوا بالطبع لا يطعمونهم ولا يسقونهم، فيرمون الموتي منهم في البحر إلي أن بلغ الأمر أن ربابنة السفن لم يعودوا بحاجة لاستخدام البوصلة للانتقال من جزيرة إلي جزيرة بل كانوا يتبعون خط الجثث الطافية علي وجه الماء. وبالطبع لم أعتمد الأرقام الفلكية التي ذكرها دو لاسكازاس، لكنني اعتمدت علي مصادر بحث عملية حديثة وموثوقة. وقد ذكرت في أكثر من مكان من الكتابين أن مؤسسة سميثونيان اختزلت عدد سكان القارة، هكذا جزافا من دون توثيق، إلي مليون شخص ثم تكرمت فرفعته جزافا أيضا إلي مليونين بعد الاحتجاجات الكثيرة التي تلقتها من السكان الأصليين والباحثين المختصين وأرقام سميثونيان ـ كما يري كثير من الباحثين ، ومن بينهم فرانسيس جننجز الرئيس الأسبق للجمعية الامريكية للدراسات العرقية ـ ذات طابع عنصري.
ما اعتمدت عليه هو عدد من المصادر العلمية الحديثة التي أجمعت علي أن عدد سكان القارتين عند وصول كولومبس إلي العالم الجديد كان في حدود 112مليون نسمة، وأن عدد سكان المنطقة المعروفة الان بالولايات المتحدة كان في حدود 18.5 مليون نسمة لم يبق منهم في أوائل القرن الماضي سوي ربع مليون. أهم هذه الدراسات التي اعتمدت عليها قام بها فريق من علماء البيئة والآثار والنبات من جامعة بيركلي في منتصف خمسينيات القرن الماضي، فهم الذين أرسوا الأساس العلمي والموثوق لهذه الارقام التي يعتمها اليوم كثير من المؤرخين والأنثروبولوجيين وعلماء الحضارات المنصفين، أما بالنسبة لرقم الربع مليون فهو مستقي من إحصاء رسمي قامت به حكومة الولايات المتحدة.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق