الاثنين، 25 نوفمبر 2013

من ثورة عرابي إلى 25 يناير.. الجيش والانحياز لإرادة الشعب

من ثورة عرابي إلى 25 يناير.. الجيش والانحياز لإرادة الشعب
الثورة المصرية الاولى
تبدأ مصر غداً الاحتفالات بمرور الذكرى الأولى لاندلاع ثورة 25 يناير التي ما تزال أصداؤها تتردد بقوة داخل مصر وخارجها؛ فقد كانت هذه الثورة هي الخامسة في تاريخ مصر الحديث، التي يلتحم فيها الجيش مع الثوار، لتبدأ مصر عهداً جديداً من عملية التحول الديمقراطي، والتي ستتوج في نهاية يونيو القادم حينما ينهي المجلس الأعلى للقوات المسلحة استكمال نقل السلطة إلى المدنيين.
ومثل دور المؤسسة العسكرية المصرية خلال ثورة 25 يناير واختيارها الانحياز إلى الشعب، عاملاً جوهرياً في نجاح الثورة وسقوط النظام السابق.
وفيما يلي نستعرض دور هذه المؤسسة في تاريخ مصر الحديث وعلاقتها بالشعب المصري ودورها السياسي خلال خمس ثورات بدأت مع ثورة عرابي في عام 1881، وصولاً إلى تولي مقاليد السلطة في 11 فبراير الماضي.
يجمع المؤرخون على أن مصر الحديثة ولدت من رحم الثورة التي أنتجت محمد علي ومشروعه النهضوي في عام 1805، لتنشأ منذ ذلك التاريخ شراكة بين الجيش والشعب؛ حيث تأسس الجيش الوطني المصري على أسس عسكرية عصرية في عام 1820، وتنامت منذ ذلك التاريخ علاقة قوية بين وجود جيش قوي وبين مشروع النهضة الذي نقل مصر من عالم العصور الوسطى إلى العالم الجديد، ونظر المصريون إلى الجيش باعتباره يمثل إطارا جامعا لكل القوى والشرائح الاجتماعية، وباعتباره القوة الأكثر قدرة وتنظيماً وانضباطاً وحداثة بين سائر القوى التي انخرطت في إعادة تشكيل الدولة.
ولم يكن الجيش المصرى بعيدا عن الثورات الاربع الأربعة التي عرفها تاريخ مصر الحديث، وهي ثورة عرابي في عام 1881 وثورة 1919 وثورة 1952 وثورة يناير 2011.
ففي كل هذه الثورات باستثناء ثورة 1919 التي لم يتمكن الجيش من المشاركة فيها بقوة بسبب تواجد الأغلبية الكبرى منه في السودان -، كان ثمة ما يشبه الإجماع المصري، جيشاً وشعباً، على رفض النظام القائم والطموح لبناء نظام جديد وطني عادل ورشيد.
وترسخ الدور السياسي للجيش المصري منذ عام 1881، من خلال ثورة "عرابي"، التي شهدت وقوف الجيش المصري مع المطالب الشعبية الإصلاحية من الخديوي إسماعيل، والتي كانت تطالب بمنح مجلس النواب المصري ذات الحقوق التي تتمتع بها المجالس التمثيلية في أوروبا، وذلك في عام 1879، فضلاً عن مطالبة الجيش للخديوي إسماعيل بعدم الاستجابة للضغوط والوصاية الخارجية البريطانية والفرنسية، التي كانت تطالبه
بتقليص كبير في تعداد الجيش المصرى الذي كان يبلغ وقتذاك مائة ألف جندي.
ومع تصاعد الضغوط الخارجية وتمكن البريطانيين من تنصيب الخديوي توفيق تحت ذريعة ديون مصر الخارجية، وإلزامه بتقليص عدد الجيش المصري إلى حوالي 22 ألف جندي، وتراجعه عن وعود إسماعيل الإصلاحية، وإيقافه العمل بالدستور؛ اضطر الجيش المصري بقيادة الضابط أحمد عرابي إلى التدخل، فيما عرف باسم "حركة عرابي"، لكن الغزو البريطاني لمصر أفشل حركة عرابي ورفاقه الوطنية ومطالبهم الإصلاحية، لينتهي الأمر بالاحتلال البريطاني لمصر في عام 1882.
وبعد عقود من الاحتلال البريطاني لمصر، عاد دور الجيش مرة جديدة في عام 1952؛ حيث استطاعت حركة الضباط الأحرار القيام بفعل ثوري أطاح بحكم الملك فاروق، وأمسك العسكريون بزمام السلطة، وأضفى التأييد الشعبي الجارف لهذه الحركة عليها طابع الثورة المتكاملة، أي أن الجيش هو من قام فعلياً بالعمل الثوري لتلتف حوله جماهير الشعب المصري، وليسارع الرئيس عبد الناصر بتأسيس قواعد شعبية تناصر سياساته في الداخل.
منذ هذا الوقت مرت علاقة الجيش المصري بالسياسة بعدة مراحل، فقد حكم الجيش البلاد بشكل منفرد لقليل من الوقت حتى تم حل مجلس قيادة الثورة في عام 1954، ثم تكونت في المرحلة التالية شراكة بين الجيش والعسكريين الذين تحولوا إلى قادة سياسيين إثر انخراط أغلب أعضاء مجلس الثورة في الحياة المدنية؛ حيث تكونت في مجريات تطور الأحداث بعد الثورة نخبة حكم من العسكريين الطامحين تحالفوا مع الأيديولوجيين والبيروقراطية الصاعدة مع موجة التعليم والتصنيع الكبرى في هذا الوقت، لكن تحولت هذه الشراكة إلى صراع بين الرئيس عبد الناصر والمشير عبد الحكيم عامر؛ وهو ما كان أحد أسباب هزيمة 1967.
وأدت هزيمة يونيو 1967 إلى مراجعة القيادة السياسية، ممثلة بالرئيس جمال عبد الناصر، في أسس تداخل العلاقات المدنية ـ العسكرية في مصر، وتمكن عبدالناصر في الأعوام الثلاثة الأخيرة من حكمه أن يسحب الدور السياسي للجيش كي يتفرغ لأداء مهمة الدفاع عن الوطن، واستقرت بمرور الوقت صيغة جديدة قبل فيها الجيش الخضوع طوعاً للقيادة المدنية ذات الخلفية العسكرية أصلاً، وهو الأمر الذي سهل لكل من عبد الناصر والسادات ومبارك كثيراً من عملية الانتقال السلس والتدريجي إلى هذه الصيغة الجديدة.
ونجحت هذه الصيغة الجديدة في إبعاد الجيش عن التدخل المباشر في شئون الحكم، مع وجود دور بارز له في الحياة المدنية لأن التشابك بين ما هو مدني وعسكري كان أمراً إجبارياً خلال الفترة من 1967 وحتى نصر أكتوبر 1973، إذ كانت الدولة تعيش اقتصاد الحرب، ثم أصبح هذا التداخل إجبارياً أيضاً في مرحلة ما بعد الحرب وتوقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل، لأن الجيش بخبراته التنظيمية وانضباطه وقدراته كان لابد وأن يشارك في عملية إعادة البناء بعد ثلاثة عقود من الحرب مع إسرائيل.
ويلاحظ هنا أن الجيش لم يكن يتدخل في اختيار الرؤساء على سبيل المثال، إذ انتقلت السلطة بشكل سلس من الرئيس عبد الناصر إلى نائبه أنور السادات ومنه إلى نائبه حسني مبارك.
وأصبح الدور المنوط بالقوات المسلحة وفقاً لدستور 1971 هو الحفاظ على حدود الدولة وحماية البلاد وسلامة أراضيها وأمنها. وتدريجياً، تراجع الجيش إلى خلفية المشهد السياسي، متجنباً التدخل المباشر والصريح في السياسة، لكنه كمؤسسة وطنية كبرى استمر في متابعة وترقب ما قد يحدث من تهديدات للأمن الوطني في ساحة السياسة الداخلية، مقدماً الدعم للسلطات الشرعية حين تحتاجه، مثلما حدث في عامي 1977 و1986، عندما أنقذ الجيش البلاد من فتن هددت السلم الأهلي.
وخلال هذين الحدثين، وتحديداً انتفاضة 18 و19 يناير 1977، استمرت العلاقة المتأصلة بين الجيش والشعب، فلم يدخل الجيش المصري بقيادة وزير الدفاع حينذاك، المشير محمد عبد الغني الجمسي، قائد غرفة عمليات حرب اكتوبر، في صدام مع الشعب، ولم ينزل الجيش للشارع فعلياً إلا بعد بداية هدوء الأزمة بصدور قرار بإلغاء زيادات الأسعار وإلغاء الاتفاق الأول مع صندوق النقد الدولي، وحين نزل الجيش فإنه سيطر على الوضع الأمني دون أن يلحق الأذى بأي مواطن أو يستخدم العنف ضد المتظاهرين.
ويعتبر بعض المراقبين أن انتفاضة 1977 مثلت علامة فارقة في دور الجيش الداخلي، فهو يعد بمثابة الحكم الأخير بين القيادة السياسية والشعب، بحيث إنه لا ينفذ أوامر تلك القيادة إلا بالقدر الذي يحفظ علاقة الجيش بالشعب، ودون أي يطلق رصاصة على أي مواطن مصري.
وبعد حرب أكتوبر 1973 بقي الجيش يتمتع باستقلالية تامة ولم تتغير عقيدته القتالية أو مهنيته وانضباطه الصارم أو حتى إعادة تعريفه للعدو الرئيسي لمصر، على الرغم من انتقال تسليحه من الاتحاد السوفيتي إلى الولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث رفض كبار قادة الجيش المصري إجراء تغييرات على عقيدة الجيش القتالية أو إحداث تغييرات جذرية داخل الجيش، كما يشتكي الجيش المصري دائما من عدم تناسب الدعم الأمريكي لكل من مصر وإسرائيل.
إذن أصبحت القوات المسلحة المصرية تحمي السلام في المنطقة وتصون الأمن القومي المصري وتحفظ السيادة الوطنية من جانب، لكنها لا تتهاون في تطوير معداتها وتجهيزاتها العسكرية من جانب آخر. ويبلغ قوام الجيش حالياً حوالي مليون جندي (نصفهم في الخدمة والنصف الآخر احتياطي)، ليعد عاشر أقوى جيش في العالم ومن أكبر جيوش الشرق الشرق الأوسط.
وعلى المستوى الداخلي استمر الجيش بلا منازع هو المؤسسة الأكثر تنظيماً وانضباطاً في مصر؛ حيث أدت المزاوجة الصعبة بين استراتيجية الجيش التي تجمع بين الحصول على التسليح بأعلى درجاته التكنولوجيا الحديثة وبين تحقيق قدر ما من الاستقلالية المادية، إلى أن تشارك المؤسسة العسكرية في الحياة المدنية وتعمل على بناء المؤسسات الخاصة بها وتنمي قدراتها السياسية. وزادت بالتالي أهمية التصنيع الحربي الذي أصبح بالضرورة تصنيعا مدنيا في فترات عدم إنتاج المعدات العسكرية، وزاد أيضا تواجد عدد من الضباط السابقين في وظائف اقتصادية وسياسية عليا بالدولة، إذ تقلدت بعض القيادات العسكرية مناصب قيادية في الحياة المدنية سواء وزراء أو محافظين.
ويرى البعض أن نظام مبارك قد تعمد تقوية دور قوات الأمن الداخلي ليتجاوز عددها قوات الجيش، وتعمد في الوقت ذاته استمالة الجيش وإشراطه في قطاعات حيوية داخل الدولة، سواء في الوظائف العامة، المدنية والسياسية، أو في القطاع الخاص ذاته؛ وذلك في مسعى منه لضمان استمرارية العلاقات المدنية ـ العسكرية على نحو لا يغفل دور الجيش كليةً بقدر ما يبعده فقط على التدخل المباشر في شئون الحكم وانتقال السلطة ولا يخل في ذات الوقت بدور الجيش في حفظ الشرعية الدستورية القائمة.
لكن الجيش الذي أصبح قوياً بعد أن أمن لنفسه درجة عالية من الاستقلالية المادية كان يراقب الأوضاع السياسية في مصر في الآونة الأخيرة، ويترقب لحظة تغيير السلطة، متخيراً كعادته الوقوف إلى الشرعية التي يرتضيها الشعب لا القيادة السياسية. 
  
وظهر جلياً اختيار الجيش الوقوف إلى جوار الشرعية التي يختارها الشعب خلال أحداث ثورة 25 يناير؛ حيث برز دور المؤسسة العسكرية حينما أصدر الرئيس السابق مبارك قرارا يوم 28 يناير، بصفته الحاكم العسكري للبلاد، بنزول قوات الجيش في المدن والمحافظات، لمساعدة قوات الشرطة لاسترداد وحفظ الأمن، وذلك بعد انسحاب قوات الشرطة والأمن من الشارع بشكل مفاجئ عقب مصادمات عنيفة مع المتظاهرين الثائرين.
وكانت العلامة الفارقة هي أن الدبابات التي ملأت الشوارع تجنبت أي صدام مع الشعب الذي هتف للجيش منذ البداية، فكان تلاحماً أسهم بشكل فاعل في سقوط النظام فيما بعد، حتى وإن لم يخطط الجيش لذلك. وأثبت الجيش المصري انضباطاً لافتاً لم يعرفه كثير من جيوش المنطقة، فقد انحاز إلى ثورة الشعب كمؤسسة وليس كفريق ثورى واجه فريقاً آخراً مؤيداً لمبارك. واختار الجيش الوقوف إلى جانب مطالب الثوار كما برز في بيان أصدرته القوات المسلحة يوم 31 يناير أكدت فيها على أن "الجيش لم ولن يلجأ لاستخدام القوة ضد الشعب"، معلناً أن "القوات المسلحة على وعي ودراية بالمطالب المشروعة للمواطنين الشرفاء"؛ وهو ما وصفه الثوار والقوى السياسية بالموقف العظيم للجيش المصري الذي وقف مع شعبه باعتباره جزءا منه.
وكان واضحاً أن تولي الجيش لمسئوليات الحكم هو الملاذ الأخير أمام مطالبة الثوار بتنحي مبارك ونظامه، وعدم وجود قوى سياسية تملأ الفراغ السياسي والأمني في الدولة؛ فكان يوم 10 فبراير الماضي علامة فارقة في مجريات الثورة، حينما اجتمع المجلس الأعلى للقوات المسلحة من دون قائده الرئيس مبارك، معلناً أنه في حالة انعقاد دائم لبحث الموقف واتخاذ الإجراءات والتدابير للحفاظ على الوطن ومكتسبات وطموحات شعب مصر العظيم.
ولم يقدم الجيش نفسه في اليوم التالي، يوم تنحي الرئيس مبارك عن الحكم في 11 فبراير، باعتباره سلطة حاكمة، بل باعتباره ضامنا لعملية انتقال سلمي للسلطة، وذلك وفقاً لما جاء في بيانه الثاني، والذي صدر بعد أن فوض الرئيس مبارك صلاحياته إلى نائبه عمر سليمان.
ومع رفض الثوار نقل صلاحيات الرئيس إلى نائبه، أعلن عمر سليمان في بيان مقتضب أن "الرئيس حسني مبارك قرر التخلي عن منصب رئيس الجمهورية وكلف المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة شئون البلاد"؛ لتنتقل السلطة فعلياً منذ هذه اللحظة إلى المجلس الأعلى الذي أصدر في نفس الليلة بيانه الثالث، مؤكداً فيه على أن "المجلس ليس بديلا عن الشرعية التي يرتضيها الشعب". وتقدم فيه بكل التحية والتقدير للرئيس مبارك على ما قدمه في مسيرة العمل الوطني، حرباً وسلماً، وتوجه فيه بالتحية والإعزاز لأرواح الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم فداء لحرية وأمن بلدهم ولكل أفراد شعب مصر العظيم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق