الأحد، 24 نوفمبر 2013

رقم 2

الداعية الحاج عباس السيسي

المولد والنشاة

  الحاج عباس السيسي

       ولد الشيخ عباس بن حسن السيسي يوم 28-11-1918م في مدينة رشيد بالبحيرة.

       حصل على دبلوم المدارس الثانوية الصناعية، وتطوَّع بمدرسة الصناعات الحربية، بتوجيه من فضيلة المرشد العام الإمام حسن البنا، والتحق بورش سلاح الصيانة بعد التخرج.

       تعرَّف على دعوة الإخوان المسلمين سنة 1936م، وبايع الإمام البنا على الالتزام بمنهج الدعوة والجهاد في سبيل الله.

نشاطه الدعوي

اعتقل سنة 1948م مدة ستة أشهر، ثم في سنة 1954م مدة عامين، وفُصل من الخدمة سنة 1956م، ثم اعتقل مجدداً سنة 1965م، وخرج بعد تسع سنوات عام1974م.

كان الأستاذ السيسي من دعاة الإخوان الأفذاذ، فقد كان يصل إلى قلوب الناس بحسن خلقه، وبشاشة وجهه، وجمال أسلوبه الدعوي، بالترفق بالناس، وإدخال السرور إلى قلوبهم، ومشاركتهم في مشكلاتهم، وتعميق العلاقة بهم، وإقامة أواصر الحب معهم، والتلطف بالصغير، والصبر على الجاهل، وتمتين الصلات الاجتماعية معهم، عن طريق التزاور، ومشاركة الناس في أفراحهم وأتراحهم.

وهو بسيط في مظهره، باسم الثغر، واسع الصدر، حليم على من يسيء إليه، ودود لإخوانه، رفيق بجيرانه وزملائه، وكان خفيف الظل، لا يُرى إلا مبتسماً، كثير الدعاية لإدخال السرور على من حوله، ولكن بأدب الإسلام، يروي القصص بأسلوب مشوق جميل، ويهدف من كل ذلك إلى استمالة قلوب المدعوين إلى دعوة الحق، ومنهج الحق، ودين الحق، صبَرَ في كل المحن التي تعرض لها.

له إسهام كبير في نشر الدعوة داخل مصر وخارجها، وله محبون وتلامذة في أكثر أنحاء العالم العربي، وفي الغرب.والأستاذ السيسي من الرعيل الأول لجماعةالإخوان المسلمين الذين حملوا رسالة الدعوة، وثبتوا على حملها، والتصدي لكل قوى الظلم والجور التي سعت لتعطيل المسيرة، أو إيقاف القافلة.

كان يستوعب الشباب وحماسهم، ويوجه هذا الحماس لخير الأمة والدعوة، وكان يعالج تطرف أفكارهم بالحب واللين، ويقول: سنقاتل أعداءنا بالحب.

ومن طرائفه : أنه كان يركب "الترام" مرة، فداس على قدم رجل من الركاب، فقال له الرجل: أنت حمار؟ فكان جواب الحاج عباس بمنتهى اللطف: لا أنا سيسي، فضحك الرجل، وكانت أحاديث دعوية بينهما.

ويُجمع الذين زاملوه في السجن، أو شاهدوه في حال المرض، أنه كان دائم الابتسام مع القريب والبعيد، والعدو والصديق، حتى مع السجانين الذين كانوا يعذبّونه وإخوانه في السجون، وكانوا يطلقون عليه: معلم الحب والذوق، ويعتبرون مدرسته الدعوية، مدرسة الحب في الله، لأنه صاحب البسمة والقلب الكبير، ولأنه لا يؤمن بالعنف.

وكان له دور كبير في سبعينيات القرن الماضي، في التأثير على شباب الجامعات، في الابتعاد عن العنف ونبذه منهجاً وطريقاً في الدعوة إلى الله.

وكان له أكبر الأثر في اعتدال المزاج والسلوك والإسلامي، خاصة في مدينة الإسكندرية، حيث كان يحرص على التواصل مع الشباب، ويكثر من اللقاءات بهم، من خلال الندوات والمحاضرات، فكانت جهوده هذه فتحاً كبيراً للدعوة الإسلامية في أوساط الشباب وغيرهم.

ولقد أكرم الله الكثير من شباب الجامعات المصرية في الإسكندرية والقاهرة وغيرها، بالالتزام بهذا المنهج الوسط، والبعد عن التشدد والتزمت، والانخراط في صفوفالإخوان المسلمين، باعتبارهم الجماعة التي تلتزم بمنهج الكتاب والسنة، وما أجمع عليه سلف الأمة، بعيداً عن التزمت أو التفلت، ومن غير إفراط ولا تفريط، ولا جمود ولا تطرف: وكذلك جعلناكم أمة وسطا (البقرة:143).

من أقواله

       "الدعوة إلى الله فن، والصبر عليها جهاد".

       "الدعوة إلى الله حب، والحياة في سبيل الله أشق من الموت في سبيل الله ألف مرة".

       إن الجهاد بالحب في الله، هو الفرصة المتاحة، والسياسة المباحة، التي لا تعوقها حدود ولا يصادرها قانون، لأنها نبض وهواتف ومشاعر وأحاسيس.. والحب في الله هو السبيل الذي ليس له نظير ولا مثيل.

       الإسلام ذوق، والإسلام لطائف، والإسلام أحاسيس ومشاعر، هذا الدين يتعامل مع النفس البشرية، يتعامل مع القلوب والأرواح.

       هذا الدين لم يبدأ باستعمال العضلات، ولا خشونة الكلمات، ولا بالتصدي والتحدي، ولكن بالكلمة الطيبة، والنظرة الحانية، قال تعالى: "وقولوا للناس حسنا"(البقرة:83).

       لما كانت رسالة الإسلام موجهة إلى عامة الناس على الأرض، كان من الضروري أن يتصدر لهذا المجتمع الواسع دعاة على مستوى من العلم والقدرة والقدوة، والدراية بأسرار النفس البشرية، يتحلون بالصبر، وانشراح الصدر، والفراسة، والبصيرة: " قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن تبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين" (108 يوسف)، ولا بد من استنهاض إمكانات الحواس الربانية في جذب القلوب، وتآلف الأرواح والمعايشة في رحاب حركة الدعوة ومجالاتها الواسعة، وهذا يكون بالكلمة الطيبة، والدعوة بالحسنى، والجدل إن اقتضى الأمر بالتي هي أحسن، والقدوة الصالحة، ذلك أن طهارة الهدف تستلزم في عرفنا طهارة الأسلوب في تحقيقها، ونبل الغاية يقتضي نبل الوسيلة حتماً، فالدعوة تقتضي فهماً دقيقاً لكل مراحلها، وأهدافها، وما تريد في المستقبل، وما طريقها في تحقيق أهدافها.

       لقد ظلت العبادات عند كثير من المسلمين محصورة في شكل بدون روح، فالمسلم يؤدي عبادته، ويتقوقع في ذاته وخصوصيته، دون الاهتمام بأن الإسلام رسالة ودعوة، وبهذا انكمش دور المسلم الاجتماعي والحركي، فلم يمتد إلى جميع قطاعات المجتمع، لينقله ويصبغه بصبغة الإسلام حقيقة وعملاً، مشاعر وشعائر، لبناء الأمة الإسلامية، وتحقيق الآمال".

       وقد وفقه الله إلى إصدار العديد من الكتب والرسائل التي تؤرخ للدعوة، وتتحدث عن أحداثها وشخصية قائدها الإمام الشهيد حسن البنا، ووسائل التربية والدعوة إلى الله، وكيفية مخاطبة القلوب، ودعوة الناس إلى الخير، وقد أسس "دار القبس" للنشر بمدينة الإسكندرية.

من أهم مؤلفاته

       من المذبحة إلى ساحة الدعوة

       الدعوة إلى الله حب

       حسن البنا مواقف في الدعوة والتربية

       جمال عبد الناصر وحادثة المنشية بالأسكندرية

       الطريق إلى القلوب

       حكايات الإخوان

       الذوق سلوك الروح

       الحب في الله

       في قافلة الإخوان المسلمين

       رشيد المدينة الباسلة

       دعوة الإخوان حب

       وبالإضافة إلى هذه المؤلفات، كانت له اهتمامات بتسجيل تاريخ الجماعة عن طريق إجراء الحوارات والمقابلات مع الإخوان القدامى، بالصوت والصورة في دار القبس بالإسكندرية، ونرجو إخواننا في الإسكندرية وأبناء الفقيد أن يحرصوا على أن تخرج هذه المقابلات المسجلة، ليستفيد منها جمهور الإخوان الدعاة في كل مكان، فهي علم ينتفع به.

قالوا عنه

يقول فضيلة المرشد العام للإخوان المسلمين الأستاذ محمد مهدي عاكف:

"إن الجماعة فقدت برحيل الأستاذ عباس السيسي واحداً من القلوب التي كانت تنبض بحب الدعوة، وتحيا لها، مسخرة كل طاقاتها لله عز وجل.

"عزاؤنا أن الله اختاره إلى جواره في أيام الشهر الكريم شهر رمضان المبارك، واختصَّه بيوم عيد للمسلمين هو يوم الجمعة، ولئن كان قد رحل عن دنيانا، فإن سيرته تحيا ما بقيت دعوة الله، وتنبض حياته في قلب كل قارئ لكتبه التي أثرت مكتبة الدعوة، فاللهم تقبّله في الصالحين، وأنزله منازل الشهداء والصديقين، وأكرم ضيافته يا أكرم الأكرمين".

ويقول د. محمد حبيب النائب الأول للمرشد العام:

"لقد غاب عنا الحاج عباس السيسي بجسده، ولكنه لم يغب عنا بروحه وخفة ظله، فقد ألف الكثير من الكتابات، ومنها: "الذوق سلوك الروح" فكان رحمه الله روحاً متألقة.

طلبتُ منه مرة أن يصف لنا الأستاذ الإمام حسن البنا بكلمة واحدة، فقال: أقول كلمة قالها الكاتب الصحفي أحمد بهجت، واصفاً الإمام الشهيد: "إنه الرجل المتوهج".

ومن وهج الإمام البنا، استمد الحاج عباس السيسي تألقه وتوهجه، وما أحوجنا إلى هذا الصنف الفذ من الرجال الذي لم تفارقه البسمة أبداً حتى في أوقات الشدة، فكان رحمه الله يحن علينا، ويضعنا تحت جناحيه، ويملأنا بعطفه، رغم ما عاناه في السجون والمحن التي لم تزده إلا صلابة وقوة وعمقاً ورسوخاً، ثم جاءه المرض في هذا السن، فصبر صبراً جميلاً، ما وهن وما فتر، وكان حزنه الشديد وألمه أنه لا يستطيع الحركة حتى يطل بنظراته على الإخوان المسلمين.

لقد كان نقطة مضيئة في دعوة الإخوان المسلمين، وهب حياته للإخوان ولدعوة الإخوان، وكان كريماً معها".

ويقول المهندس خيرت الشاطر النائب الثاني للمرشد العام:

"ودعنا رجلاً من رجالات دعوة الإخوان المسلمين البارزين، الذي كان وسيظل معلماً بارزاً في مسيرة دعوتنا، حيث كان له دور متميز في داخل هذه الدعوةالمباركة، سواء في مرحلة التأسيس، وحتى مطلع الخمسينيات، أو في مرحلة المحن والسجون من الخمسينيات وحتى مطلع السبعينيات، ثم في مرحلة استئناف وإعادة التأسيس منذ السبعينيات وحتى مرضه في السنوات الأخيرة، وليس فقط على مستوى الإسكندرية، ولا على مستوى مصر بأسرها، بل مستوى العالم العربي والعالم كله، ولقد ترك آثاراً واضحة وبصمات في كل مكان ذهب إليه وارتبط اسمه بالحب والبشر".

ويقول الأستاذ جمعة أمين عبدالعزيز:

"ننعى اليوم رجلاً من رجالات الدعوة، ربى رجالاً عدة، ولو أردنا أن نكتب تاريخه، ما وسعنا سفر من الأسفار، عشنا معه عمراً، فلم نر فيه حقيقة إلا قول الله عز وجل:

"من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى" نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا" (23 الأحزاب). فكان نعم الرجل، ونعم المربي، ونعم المجاهد، تعرفه مجالس الإخوان في مصر، ويعرفه من عاش معه في أوروبا وأمريكا، ويشهد له رجال وشباب قابلهم من كل بقاع الدنيا، وله بصمة في نفوسهم.

لقد رحل عنَّا أخ حبيب، ومعلم وأستاذ، عشت معه، وكنا معاً كما قال ربنا: "أشدد به أزري 31 وأشركه في أمري" 32 (طه)، فكان نعم الرجل والأستاذ والمربي، إنه رجل لا يموت، لأن تاريخه باق فينا وأثره. لقد صُبَّ عليه البلاء صباً، وأصابه المرض فترة طويلة، ولكنه كان نعم الرجل الصابر المحتسب، كنا نزوره في مرضه، فنجد لسانه قد أثقل عليه في الكلام،

ولكنه بمجرد لقاء إخوانه وجلوسهم معه فترة، نجد لسانه وقد انطلق لمجرد رؤيته لإخوانه، كان يفيض حباً، وكان بمثابة الماء الذي يروي نبت الدعوة وزرعها، لقد كان كتاباً صفحاته مضيئة.. علمنا فيها أن الدعوة حب، وعلمنا أنه لا عنف في دعوتنا، كتبها في كتبه، وبثَّها إلينا، وربَّانا عليها، وعلقها في بيته ليراها كل زائر، سلوانا أنه ترك لبنات ولبنات يشتد بها البناء ويعلو بإذن الله.

لا نملك إلا أن نرفع أكف الضراعة إلى الله في هذه المصيبة، كما وصفها الله تعالى، مصيبة الموت، مؤكدين "إنا لله وإنا إليه راجعون" وإن كان غاب عنَّا الأستاذ عباس السيسي، فقد ترك خلفه تلاميذ ملء السمع والبصر، نسأل الله أن يتقبله في الصالحين، وأن يثبتنا على الحق ويلحقنا به على خير".

ويقول عنه الشيخ سعيد حوى:

"الأخ عباس السيسي ممن عايش الأستاذ البنا، ونهل من معينه العذب، فتجسدت فيه معاني هذه الدعوة في صفاء ورواء، ومن أعلى ما تجسد فيه:

خُلق الإخاء، فهو صافي المودة، كثير العطاء، حيثما توجه نشر من عبير روحه الحب، فلا يكاد يجتمع مع أخ حتى يشعل في قلبه نور الإخاء في الله حاراً متوقداً منيراً، لأنه هو كذلك، فتراه يغرف منه الصغير،

ويرتشف منه الكبير، وهو بطبيعته شفاف النفس، حسّاس الوجدان، مع تأمل عميق، وفراسة صادقة، وفطرة صافية، وقدرة كبيرة على أن يحيط الكبار والصغار بعطفه، وأن يتجاوز عن الأخطاء، ويغضّ الطرف عن الزلات، ويتحمّل في الله المصيبات،

مما جعل الكثيرين من شبابنا يتعلقون به بمجرد أن يعرفوه، لأنهم يجدون عنده حباً بلا مصلحة، وأبوّة بلا مطالب شخصية، وأخوة تتقارب في أجوائها فوارق السن والقدر، بسبب من تواضع لا يعرف إلا الحدود الشرعية".

وفاته

توفي يوم الثامن من شهر رمضان سنة 1425ه الموافق 22-10-2004م، بعد مرض طويل، ولكنه كان الصابر المحتسب حتى لقي ربه وقد صُلِّي عليه في "مسجد الحق" بمدينة رشيد عقب صلاة العصر، وحضر تشييع الجنازة أكثر من خمسة وعشرين ألفاً، في مقدمتهم المرشد العام محمد مهدي عاكف الذي أمّ المصلين في صلاة الجنازة، ودُفن في مقابر مدينة رشيد.

رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.

السيدة دولت مكاوي ... تحدي الأزمات

بقلم: مريم السيد هنداوي

محتويات

١ مقدمة

٢ من هي؟

٣ زواج مبارك

٤ فراق وألم

٥ نموذج حي من الصبر

٦ جهاد على طول الطريق

٧ فراق

٨ المراجع

٩ للمزيد عن قسم الأخوات المسلمات

مقدمة

لم يقتصر الوضع على النماذج الطيبة لأخوات القاهرة فحسب، بل ظهرت نماذج رائعة لأخوات الأقاليم, وخارج مصر, فكما كان الإسلام مصنع الرجال، كان أيضًا مصنعًا للنساء المؤمنات في مصر وغيرها.

إن التضحية نبات صغير يرويه الإنسان بالعطاء والبذل وقهر هوى النفس.. من أجل الآخرين.

من هي؟

المهندس عبدالمنعم مكاوي شقيق السيدة دولت مكاوي

هي دولت أحمد مختار مكاوي, ولدت في 1 نوفمبر 1930م، في قرية بشبيش التابعة لمركز المحلة الكبرى بمحافظة الغربية, نشأت في بيئة غنية بالمعاني التربوية، فقد كان والدها رجلاً ثريًّا، وبالرغم من ذلك كان يعمل على تربية أولاده تربية إسلامية.

فنشأت محافظة على صلواتها والتزامها بطاعة ربها، لم تكن وحيدة أبويها، بل كان لها خمس شقيقات وشقيق واحد أصبح لهم فيما بعد الحصن الحصين من نوازل الحياة، توفي والدها وهي ما زالت في سن صغيرة، فكانت أول صدمة تتعرض لها، لكنها واجهتها بقلب مفعم بالإيمان.

تلقت تعليمها في مدارس القرية حتى حصلت على الابتدائية آنذاك -وحفظت بعض السور من القرآن الكريم.

دولت مكاوي هي أخت وزوجة وأم لبعض الإخوان الذين تركوا أثرًا عظيمًا في دعوة الإخوان؛ فهي أخت للمهندس عبدالمنعم مكاوي وهو أخوها الوحيد حيث تخرج في كلية الزراعة بالإسكندرية، وتعرف على دعوةالإخوان في وقت مبكر، واعتقل عام 1948، ثم اعتقل عام 1954 وحكم عليه بخمس عشرة سنة, ولم يخرج إلا بعد موت جمال عبد الناصر, ثم اعتقل مرة أخرى عام 1981, اختير عضوًا بمكتب الإرشاد لجماعة الإخوان المسلمين، ومشرفًا على قطاع وسط الدلتا, توفي عام 1998م.

كما كانت زوجة المهندس علي أبوشعيشع، والذي ولد في 26/12/1918 بكفر الشيخ، والذي عمل مهندس مساحة بدمنهور، وقد تعرف على دعوة الإخوان المسلمين عام 1937م, وأصبح من رجالها المخلصين, اعتقل عام 1948م, وكان صديقًا للمهندس عبد المنعم مكاوي، واعتقل عام 1965 وعذب في السجن الحربي, ثم اعتقل مرة أخرى عام 1981, وتوفي في 17/11/ 1992م.

وابنها هو الدكتور حسن أبوشعيشع أحد قادة الإخوان في كفر الشيخ، والذي ولد عام 1958، وتخرج في كلية الطب, وقد انضم إلى الإخوان امتدادًا لرافد الوالد والخال, تم اعتقاله في أحداث 1981, وكان مرشح الإخوان في انتخابات 2005م، وهي من الدوائر التي أوقفت الحكومة الانتخابات فيها.

تعرفت الحاجة دولت على دعوة الإخوان من خلال أخيها، والذي تعرف على دعوة الإخوان أثناء فترة دراسته بكلية الزراعة بدمنهور.

بعد وفاة والدها تولى رعايتها أخوها الوحيد، ومن ثم كانت شديدة التعلق به، حيث اعتبرته الأب والأخ والصديق, لكنها استيقظت على كابوس مرعب حيث اعتقل أخوها عام 1948، وأودع سجن الطور, فكانت صدمة لها بسبب ذلك، وبالرغم من ذلك كانت تحث أمها على الصبر والاحتساب لله، بالرغم من أن قلبها كان يتفطر حزنًا لفراق أخيها, لكنها كانت تعلم أن الطريق ليست سهلة.

زواج مبارك

تعرف علي أبو شعيشع على دعوة الإخوان عام 1937, وأثناء دراسة الأستاذ عبد المنعم بكلية الزراعة بدمنهور توثقت الروابط بينهما, وسارا على الدرب معًا كما اعتقلا معًا في محنة 1948م, أراد المهندس علي أن يتزوج فبحث عن زوجة فلم يجد، وفي هذا الصدد يقول:

"بلغت سن الثانية والثلاثين، وأحسست بحاجة ملحة إلى الزواج، وأحس إخوان دمنهور بذلك فنشطوا، وكان على رأسهم الأخ (أحمد نجيب الفوال)، لكن لم يتيسر الحصول على الزوجة المطلوبة, ولما كان الأخ عبدالمنعم مكاوي على صلة وطيدة بأسر الإخوان فقد رأيت أن أفاتحه, وفي لقاء بمنزله في سخا فاتحته برغبتي، وأخذ يستعرض شقيقات الإخوان فوجدني على علم بظروف بعضهن، وعدم ارتياحي لهن, وإذا به يفاجئني في أسلوب مرح: "خلاص يا سيدي عندي أختي.. تعال أجوزها لك، ومتهمناش الفلوس..

أدي طقم الصالون، ونجهز لك حجرة نوم"، وكانت مفاجأة, فأجبته بالموافقة, فاشترط أن أراها وتم ذلك، وأردت أن استوثق بمعرفة شيء عن حياتها، فاتصلت بالأخ جلال عبدالعزيز لأنه على معرفة بهم فأجابني على أسئلتي.

وأخيرًا قررت الزواج بها لثقتي وحبي للأخ عبد المنعم، وصارحت والدتي فوافقت, واتفقت مع أهل العروس على أن يكون البناء في يناير 1954م غير أنه لم يتم بسبب اعتقال أخيها في يناير 1954، ولم يخرج إلا في مارس، ثم انتقلت العروس للحياة معي إلى أبي المطامير بحيرة بعد أن تم الزفاف في 1/6/1954م.

فراق وألم

ما كاد العروسان يهنآن بالزواج حتى حدثت حادثة المنشية في 26/10/1954م، وتم اعتقال أخيها للمرة الثالثة، وحكم عليه بخمسة عشر عامًا, فأخفى الزوج عنها الخبر، لكنها علمت مصادفة, ولقد اعتقل أخوها من منزله بكفر الشيخ، وترك أمه وحيدة، والتي فقدت بصرها.

فعادت الابنة ورافقتها في هذه المعاناة، وبدأت سلسة الأحزان من أجل شقيقها، وسلسة الخوف من أجل زوجها، فصبرت واحتسبت, وتأقلمت على الحياة الجديدة، حتى كانت أول زيارة لأخيها في الواحات, ثم كانت الزيارة الثانية التي ذهبت إليها وهي حامل في ولدها حسن, وكان يرافقها في كل زيارة زوجها وأمها، ومما خفف عنها أن الله رزقها في عام 1956 بابنتها الأولى نجوى، والتي انشغلت في تربيتها، وما كاد عام 1958م يهل حتى رزقها الله بمولودها الثاني حسن، وقد أصرت على تسميته حسن لرؤيا رأتها أن أخاها أتاها في المنام وقال لها: إن الله سيرزقك بحسن فتمسكت بالاسم الذي سماه أخوها لها في المنام.

نموذج حي من الصبر

كانت السيدة دولت تعيش في بيت أبيها حياة مترفة، لكنها عرفت المحن مبكرًا؛ فقد توفي أبوها، ثم اعتقل أخوها، وبعد زواجها كان الزوج موظفًا بدمنهور ولم يكن له سوى مرتبه فصبرت على شظف العيش, يقول ابنها الدكتور حسن: "تزوج أبي بأمي قبل محنة 1954 في أبي المطامير بالبحيرة, وكانت حياتها خشنة بعد الترف الذي كانت تعيش فيه, ومعاناة مادية بسبب التزامات زوجها ناحية أسرته، وحرمانه من الترقي الوظيفي, فكان من أبرز سماتها أنها كانت مدبرة مقتصدة في معيشتها، ولم تشكُ لأحد حالها، بل كانت تظهر السعادة لأقربائها, وكانت تشعرهم أنها تحيا حياة مترفة رغدة لا ينقصها شيء، كما أنها لم تتخل عن أهل زوجها يومًا ما, بل كانت تطالب زوجها بحسن رعايتهم".

وأثناء حملها الثالث توفي الجنين، وحاول الأطباء إجراء جراحة لها لإنزال الجنين لكنه لم يحدث حيث نزل وحده بفضل الله.

ولقد اجتمعت عليها المصائب؛ فبعد اعتقال أخيها اعتقل زوجها, وتعرض للاضطهاد, والمراقبة الشديدة من قبل المباحث والتفتيش المستمر, بل النقل من العمل بأبي المطامير إلى كوم حمادة, كما تعرض لأزمة مالية حتى تعذر عليه توفير الخبز للأولاد, حتى إن أحد القياسين [والقيّاس: هو من يقوم بقياسة الأرض الزراعية كان يشتري لهم الخبز بالأجل؛ وهذا على حد قول المهندس علي في مذكراته، فلم تتبرم ولم تقنط، بل كانت نعم الزوجة الصابرة المعاونة لزوجها المواسية له في همومه.

وفي 8 سبتمبر 1965 داهمت المباحث شقتها في كوم حمادة، واعتقلت زوجها، وتعرض البيت للتخريب وبعثرة الأشياء, فتصرفت بشكل مناسب رغم ما في قلبها من ضعف نسائي لتجديد الأحزان عليها؛ فقد اعتقل أخوها منذ عشرة سنوات، وها هو زوجها يختطف من وسط أبنائه.

وجاء والد الزوج وصحبها معه لكفر الشيخ حتى أفرج عن زوجها بعد شهور، إلا أنه كان تحت المراقبة الشديدة, وحددت إقامته, ولم يستطع السفر لرؤية أبيه وأمه إلا بإذن من الأمن، وأحيانًا كان أمن كفر الشيخ يلغي الزيارة فيعود دون إتمامها, وابتعد الناس عنهم لخوفهم من الاعتقال، فاجتمع عليها همّ الخوف من الزيارات المتكررة من قبل الأمن, وهمّ من العزلة حيث لم يكن يزورها أحد.

انتقلت مع زوجها إلى كفر الشيخ عام 1969 حيث الأهل، فخفت المعاناة بعض الشيء، ووصلت السعادة إليها بعد الإفراج عن أخيها أواخر عام 1970م؛ حيث كان أول بيت يزوره بعد خروجه كان بيت أخته،فلما رأته سقطت مغشية عليها، وما كادت تهنأ بخروج أخيها حتى توفيت أمها, فعز في نفسها فراق مصدر الحنان، فتترست بالإيمان الصادق وطاعة ربها.

جهاد على طول الطريق

لم ينته دورها بخروج أخيها وزوجها من محن عبدالناصر, فقد عمدت إلى تربية أبنائها, فعندما التحق ابنها حسن بكلية الطب وأصبح أحد شباب الحركة الإسلامية لم تقف في طريقه رغم ضعفها كأم، وما زالت محنة أخيها وزوجها راسخة في ذهنها، لكنها كانت سعيدة بأن أبناءها ساروا على نهج الرسول ، لقد كان بيتها في فترة السبعينيات ملتقى الشباب بفعل أخيها وزوجها وابنها.

فكانت محل اعتزاز الإخوان والأخوات، حيث رأوا فيها مثالاً حيًّا يجب أن يحتذى به, فقد كانت من الطراز الاجتماعي النادر؛ حيث كانت تقوم بحل مشاكل الأسر, وتعين المحتاج, وتحكم بين المتخاصمين, وكان لسانها لا يعرف إلا الحق، فكانت تواجه المخطئ بخطئه، فنالت حب الجميع حتى الجيران من النصارى ما زالوا يذكرونها بخير واعتزاز شديد لعلاقتها الطيبة معهم.

ومرت الأيام وما كاد يوم 9/10/1981 يشرق حتى وجدت ضابط المباحث عبد الرحيم سعدة يدق على الباب؛ حيث أتى لاعتقال نجلها حسن، ولم يعرف مكانه أحد, وما كادت تفيق من هذه الصدمة حتى تم اعتقال زوجها يوم 22/10/1981, وفي نفس الليلة اعتقل أخوها من سخا، وتم ترحيلهم لسجن بورسعيد، أما ابنها فلم تعرف أين ذهب، فتراكمت الهموم على قلبها، لكن الهموم لم تجد مكانًا، بل وجدت قلبًا مفعمًا بالإيمان, صابرًا, محتسبًا.

ظل زوجها وأخوها وابنها -الذي رحل لسجن المنصورة- معتقلين لمدة عشرة أشهر حتى أفرج عنهم، وكانت في هذه الفترة ملتزمة بالرضا, وكانت حواراتها مع الجيران والأرقاب دفاعًا عن موقف الإخوان.

ولقد تكالبت عليها الأمراض؛ فقد أصيبت بالسكر، وخشونة المفاصل مع اعتقال زوجها وابنها وأخيها عام 1981م, ومع ذلك كانت تحافظ على زيارتهم, واتصفت في هذه المرحلة بالصلابة، ولم تقبل ضعف بعض الأمهات اللاتي اعتقل أبناؤهن وأزواجهن، فكانت تحثهن على الصبر، وكانت دائمة الزيارة لأسر الإخوان المعتقلين.

وكانت توزع الحلوى على الزوار، وبعد خروج زوجها وابنها عانت من الوحدة والغربة بسبب انشغال زوجها وأخيها بإعادة البناء التنظيمي في كفر الشيخ، فكان أكثر وقته بالخارج حيث يدور على الشُّعب والقرى ليرسخ دعوة الإخوان، فكان كثيرًا ما يتركها وحدها ولا يلتقيان في آخر يومهما إلا على الطعام والنوم, فعانت قسوة الوحدة الشديدة بالرغم من زيارة الأخوات لها، لكن تسبب غياب زوجها عنها في تولد هذا الشعور، فكانت تجلس في الشرفة تنتظر عودة زوجها.

ومن المواقف المشهودة لها أنها عندما أراد ابنها الزواج لم تتدخل بفرض اختيار معين، وعندما عرض عليها الفتاة التي اختارها ذهبت إليها لرؤيتها وعقبت له بقولها: "إن هذه تصلح أن تحمل كراتين وتلف وراءك في المعتقلات".

فراق

تكالبت عليها الأمراض واشتدت بها الأوجاع حتى توفيت بارتفاع مفاجئ في ضغط الدم يوم 30/7/1990م, واجتمع خلق كثير لتشييع جنازتها، وكان زوجها يجلس بعد ذلك يتذكر لها مواقفها ومحنها ووحدتها, وحالها وهدوءها وقت خروجه وعودته، ووجهها البشوش الذي كانت تقابله به, وظل حزينًا عليها حتى توفاه الله في 17/11/1992.

 

الشيخ عبدالستار فتح الله سعيد .. عالم أدبه القرآن المجيد

إعداد: موقع إخوان ويكي

محتويات

١ مقدمة

٢ المولد والنشأة

٣ السيرة العلمية لفضيلته و مؤلفاته

٤ جهده و جهاده مع إخوانه

٥ قصة رسالة الدكتوراه

٦ تأييد و مناصرة للقضايا الإسلامية المعاصرة

٦.١ موقفه من العدوان الصهيوني على غزة

٦.٢ الحصار المفروض على غزة و غلق معبر رفح

٦.٣ موقفه الشرعي من ولاية المرأة

٦.٤ الرد على تأييد شيخ الأزهر طنطاوي لكتاب " الهيروغليفية تفسير للقرآن"

٦.٥ موقفه من بناء الجدار الفولاذي

٦.٦ مواقفه من المحاكم العسكرية

٦.٧ الهمة العالية في مواصلة المهمة الغالية

٧ المراجع

٨ ألبوم صور

٩ لتتعرف على المزيد

مقدمة

 

شيخ جليل ، من أبناء الرعيل الأول لجماعة الإخوان المسلمين ومن كبار علماء هذه الجماعة الطيبة..

العالم الرباني الذي ما كان يخاف في الله لومة لائم.. جاهد ليُحَكم شرع الله في الأرض .. ويكون القرآن الكريم هو الدستور..فكان الجزاء أن تخطفته يد الظلم السوداء ليغيب مع إخوانه عشر سنوات في سجون الطواغيت في قضية تنظيم 65 .

إنه أستاذ التفسير وعلوم القرآن الكريم .. فضيلة الشيخ الدكتور عبد الستار فتح الله سعيد ..

المولد والنشأة

الشيخ عبدالستار فتح الله

ولد فضيلته في كفر مساعدة التابع لمركز إيتاي البارود بمحافظة البحيرة في نوفمبر عام 1931 م الموافق لرجب من عام 1350 هجريا ..

نشأ وتربى في بيت أصيل يحرص فيه الوالدان على تحفيظ أبنائهما كتاب الله عزوجل ..من أجل هذا أُلحق الشيخ بكتاب القرية.. وفي كتاب القرية ومع الشيخ محجوب الشايب بدأ عالمنا الجليل رحلة حفظه لكتاب الله تبارك وتعالى .. وبعد ذلك انتقل من الكتاب ليلتحق بجمعية تحفيظ القرآن الكريم .. ثم كُتاب المنزل .. وتلك كانت مراحل ثلاث يمر بها الأطفال في هذه القرية لإتمام حفظ القرآن .. وقد كان والداه وإخوته التسعة الكبار يحرصون على متابعة حفظه للقرآن ويشجعونه..

وبعدما أتم حفظ كتاب الله ولم يتم الحادية عشرة من عمره، التحق بمعهد الإسكندرية الأزهري الديني ( لم تكن المعاهد الأزهرية في ذلك الوقت متوفرة كما هو الحال الآن) وكان ذلك في عام 1945م الموافق 1364 هجري..

يقول الشيخ حفظه الله تعالى:

" وبعدما التحقت بالمعهد وبدأت الدراسة ولأن المواد كانت كثيرة ومتعددة ، بدأ الانشغال عن مراجعة القرآن ،وبدأ معه النسيان .. وذات يوم مررت على رجل فلاح بسيط من أبناء القرية كان قد تعلم القراءة و الكتابة وهو صغير ثم لما كبر سنه نسي الكتابة فكان يقرأ فقط؛

فسألني : يا شيخ ( وبالمناسبة كان الناس بمجرد أن يلتحق الشخص بالأزهر ينادونه بالشيخ ) الآية ... في أي سورة ؟ فلم أستطع تذكرها و ترددت ، و أجبته : لا أذكر .

فنظر إلي نظرة اندهاش شديدة وقال لي : يا شيخ القرآن بالنسبة لك هو زراعتك و عملك . فاستحضر ذهني مباشرة منظر الفلاح النشيط المجتهد وكيف يكون حال حقله و بستانه ، و الفلاح الكسول كيف يكون معرة عند أهل قريته بمنظر حقله المهمل ... فما وعظني أحد بمثل هذه الموعظة .. ومن حينها عدت بقوة هائلة إلى مراجعة القرآن الكريم و خاصة في فترة الإجازة الصيفية.

كذلك مما أثر في كثيرا بعد هذه الموعظة ما قرأته للجنيد حيث يقول :

أخذت عبرة من هرة،وقفت تنتظر فأرا فجرى منها ودخل في جحر،فوقفت تنتظره وقد جمعت كل حواسها متأهبة،فقلت في سري : يا ضعيف الهمة هل عندك قوة هرة " يعني في العبادة " ، ولو كان عندك قوة هرة هل يكون مطلوبك كمطلوبها ؟!!"

السيرة العلمية لفضيلته و مؤلفاته

التحق عالمنا الجليل بعد تخرجه من الثانوية الأزهرية في عام 1950م بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر بالقاهرة ، واختار فضيلته قسم التفسير و الحديث ليتخرج منها في عام 1958م ( 1377 هجري) . ويعمل مدرسًا للمواد الشرعية بمحافظة سوهاج ...بعد ذلك حصل على تخصص التدريس من كلية اللغة العربية في عام 1959م (1378 هـ) .

ثم التحق بالدراسات العليا في كلية أصول الدين وقد كان الأزهر قد أغلقها ثم أعاد فتحها ثانية بعد عشر سنوات تقريبا وسجل في (قسم التفسير و الحديث ) إلى أن من الله عليه وحصل على العالمية من درجة أستاذ،وهي المعادلة لدرجة الدكتوراه الآن و كان ذلك في عام 1975م ( 1395هجري ) ، وكانت رسالته بعنوان " المنهاج القرآني في التشريع " ولهذه الرسالة قصة سنعرفها لاحقا.

عمل مدرسًا بالمعاهد الدينية الأزهرية، ثم أستاذًا بجامعة الإمام الإسلامية بالرياض، و بعد ذلك أستاذا في كلية أصول الدين بالأزهر بالقاهرة ، و أخيرا أستاذا بجامعة أم القرى بمكة المكرمة ، ليعود بعد ذلك إلى القاهرة في عام 1998م.

كما أشرف الشيخ حفظه الله و ناقش العشرات من رسائل (الماجستير والدكتوراه) وله نشاط دعوي كبير في مصر و غيرها من البلاد الإسلامية،يشمل الخطابة، والدروس الدينية، و المحاضرات، والندوات ،والأحاديث في المساجد، والجامعات ، والتلفاز ، والإذاعات.

كما شارك أيضا في العديد من المؤتمرات الإسلامية في داخل البلاد الإسلامية، وفي خارجها كمؤتمرات المراكز الإسلامية، والمؤسسات الطلابية في أمريكا، و انجلترا،وألمانيا.وهو الآن عضو في المجمع الفقهي بمكة المكرمة، المنبثق من الهيئة الإسلامية العالمية (رابطة العالم الإسلامي)

ولفضيلته العديد من المؤلفات القيمة جدا مثل :

المنهاج القرآني في التشريع

معركة الوجود بين القرآن والتلمود

المدخل إلى التفسير الموضوعي

الغزو الفكري

العلم والعلماء في ظل الإسلام

جهده و جهاده مع إخوانه

الشيخ عبد المعز عبد الستار والدكتور عبد الستار فتح الله والأستاذ التلمساني

لقد من الله تبارك و تعالى على شيخنا الفاضل فوفقه للالتحاق بركب جماعة الإخوان المسلمين ، ومنذ ذلك الوقت و الشيخ يعمل مع إخوانه في منظومة رائعة من أجل خدمة الإسلام و المسلمين ، في وقت هجر الناس فيه كتاب ربهم ، وغابوا عن سنة نبيهم ، واستشرت مذاهب الإلحاد و الفساد ، فكانت الجماعة شمس حق أنارت دجى الكون و لله الحمد والمنة .

غير أن خفافيش الظلام تكره النور و الضياء ، لذا أصدر الطاغية الحقود أوامره لجنود البغي و الفساد بسَحِق طلائع الحركة الإسلامية المباركة من أبناء هذه الجماعة الطيبة سَحقًا دنيئًا غادرًا، لم يرع خلاله خُلُقًا ولا دينًا، ولم يرقُب معه في مؤمنٍ إلاًّ ولا ذمَّةً!!

وتسلسل مرور المحن على أبناء الجماعة حتى كان أشدها بلاءا محنة تنظيم 65م ، والتي فيها تم القبض على شيخنا الفاضل مع من تم القبض عليهم من الإخوان المسلمين . و أدخل هذا العالم الجليل السجن الحربي وساموه أشد العذاب و أقساه حتى كاد أن يفقد السمع في إحدى أذنيه .لكن الله تعالى ربط على قلبه وثبته

يقول فضيلة الشيخ عبد الستار:

"رأيت رؤيا في السجن الحربي أنهم كانوا يصلون صلاة الجماعة وإمامهم كان يفعل أشياء عجيبة في صلاته كأنه يلهو ويعبث بيديه ويصفق ونحو ذلك فتركته وأخذت نعلي وهَمّمت بالخروج فقال الشيخ هاتوه فهربت منهم وخرجت من هذه الجدران فأولتها بأمر مريب يحدث في البلد وخروجي من بين الجدران هو الإفراج عنا وكان ماكان هزيمة الطغيان والإفراج عن الإخوان."

يروي لنا المهندس محمد الصروي قصة القبض على الشيخ عبد الستار فيقول:

" كان مع فاروق المنشاوى حوالي 400 جنية مصري من أموال التنظيم .. فتوجهنا فورا إلى طنطا لمقابلة فضيلة الشيخ عبد الستار فتح الله سعيد في مسكنه بطنطا وبذلنا جهدا ضخما في الوصول إلى مسكنه .. وصلنا عنده مساء السبت وظللنا عنده حتى بعد العاشرة مساء ..

وكان من المستحيل أن نبيت عنده لاحتمال القبض عليه .. فواعدناه على اللقاء غدا الأحد .. وأنه أي الشيخ عبد الستار سوف يتصل بالمنصورة ليعرف أخبار الأخ شعبان الشناوي , وفى الغد قابلناه واخبرنا بالقبض على شعبان الشناوي في المنصورة وانه سوف يترك فوطة حمراء في البلكونه فإذا رأيناها علمنا انه مقبوض عليه وان الوضع خطير ..

وبالفعل فعل ذلك وقبض عليه في نفس الليلة .. وسافرنا إلى الإسكندرية .. ومكثنا حتى يوم الاثنين في شقة مفروشة كمصطافين لمدة ليلتين حتى انتهت المواعيد المبرمة مع جميع الناس وانهم قد تم القبض عليهم جميعا وهم جميع أفراد الصف الثاني في التنظيم في القاهرة والوجه البحري والمكون من:

فاروق المنشاوى (القاهرة)

الشيخ عبد الستار فتح الله سعيد(2) (طنطا)

شعبان الشناوى (المنصورة)

عبد المجيد الشاذلى (الإسكندرية)

ولما تيقنا من ذلك قال فاروق المنشاوى : انتهى كل شيء تم القبض على جميع الناس ولم يبق في مصر كلها لم يقبض عليه سوى ثلاثتنا...

وكان فضيلة الشيخ عبد الستار سعيد قد قبض عليه فور خروجنا من عنده يوم السبت وعذبوه في السجن الحربي عذابا شديدا وكاد يفقد السمع في إحدى أذنيه .. وكانت اعترافات على عشماوى عليه كثيرة ولما سألوه عن فاروق وفايز اخبرهم انهما كانا عنده وكان معهما شخص ثالث اسمر لا يعرف اسمه فتيقنت المباحث الجنائية العسكرية أنني الذي معهما .. وبذلك صار الخيط إلى القبض على فاروق وفايز في أيديهم .. كما عرفوا أيضا أننا متجهون إلى ليبيا فتم زيادة أعداد المباحث في السلوم ومرسى مطروح ."

ثم حوكم ظلما و بهتانا بالمؤبد وهو حينئذ مدرسا بمعهد طنطا الديني وله من العمر 34 عاما .غير أن هذه الفئة المؤمنة أيدها الله تبارك و تعالى بالثبات و العيش الهنيئ في ظل أخوة الإسلام و المحبة في الله تعالى ، فأحالوا ما وراء الأسوار و الجدران مدارس لحفظ القرآن الكريم و تعلم العلوم الدينية الشرعية ، وكذلك العلوم الدنيوية ابتداءا بالنجارة وانتهاءا بعلوم الطب و الهندسة.

وأحالوا صحاري النفي البعيد و التعذيب في الواحات و غيرها روضات وبساتين .. فما كسرت لهم شوكة وما لانت لهم عزيمة ،ليخرجوا بعد ذلك أقوى من ذي قبل وتفشل كل مخططات قوى البغي و الظلم و العدوان فشلا ذريعا و الحمد لله رب العالمين .

يحدثنا المهندس محمد الصروي كيف استفاد الإخوان من فقرة الطوابير التي كان الجلادون يسومونهم سوء العذاب فيها فيقول:" مدرسة الطوابير:

استطاع الإخوان أن يحولوا الطوابير من وسيلة تعذيب إلى عدة مدارس:

وكلام عن الفقه وعلوم الدين كان يتكلم فيه مجموعة من أفاضل علماء الإخوان المسلمين أمثال المرحوم محمود أبو عبية.. والمرحوم محمد المطراوي (إمام مسجد السيدة زينب وعضو مجلس الشعب (84-87)، والشيخ د. عبد الستار فتح الله سعيد، وعبدالستار محمد نوير (تتلمذت على يديه فترة طويلة)، والشيخ عبدالوهاب الشاعر رحمه الله."

ويخبرنا المهندس محمد الصروي كذلك كيف تواصى الإخوان بتفويت الفرصة على قوى الشر و البغي و الفساد التي نظمت ما أسمته بمحاضرات التوعية وغسيل المخ ،فحدث مالم يكن على هوى الحكومة..

فيقول :

" ... ويأبى الله إلا أن يقوم بعض الإخوة بإقامة الحجة على هؤلاء المشايخ المحاضرين منهم: د. عبد الستار فتح الله سعيد، سأل د. محمد فتح الله بدران سؤالاً مباشراً عن حكم الإسلام في الحاكم الذي يحكم ويشرع من دون الله مخالفاً بذلك أمر الله بأن يحل الحرام ويحرم الحلال!!

فلما انتهت المحاضرة بدأ التعذيب بعد عودتنا إلى الزنزانة بخمس دقائق، فنزلنا إلى فناء السجن الحربي وبدأ التعذيب بالجري السريع داخل حوش السجن ساعات طويلة تعذيباً للشيوخ والشباب..

والغريب أن صاحب السؤال وهو الشيخ عبد الستار سعيد أخذته سنة من النوم فنام في دقائق معدودة سكينة من الله داخل الزنزانة ولم يمسسه سوء التعذيب حفظاً من الله وآية لنا أن صاحب كلمة الحق محفوظ مصون بمشيئة الله في أحلك الظروف بمشيئة الله عز وجل."

وبرغم كل ما مر بالإخوان في المعتقلات و في السجون ، وبرغم ما قيل لهم من أنهم لن يروا نور الدنيا ثانية إلا أنهم واصلوا حياتهم بكل أمل و إصرار على النجاح وتحد

يقول المهندس محمد الصروي :

" تقدم أهالي الأخوين الكريمين علي محمد جريشة، وعبد الستار فتح الله سعيد، بطلب استكمال دراسة الدكتوراة في الشريعة الإسلامية، ووافقت الحكومة لهما على إحضار الكتب الدينية اللازمة، وكان هذا فتحاً علينا..

فلقد أحضروا عشرات المراجع، وكان لا يبخلان على أحد بأي كتاب.. الأول درس الدكتوراة في الشريعة وموضوعها (المشروعية العليا).. والثاني في (تفسير القرآن الكريم) وكلاهما حصل على الدكتوراة مع مرتبة الشرف، وعلا شأنهما علواً كبيراً في مجال الدعوة الإسلامية."

لله در هذه الجماعة الطيبة المباركة فلقد ضرب أبناؤها أمام التاريخ أروع الأمثال في التضحية والإخلاص والثبات على الحق ، والتمسك بالدعوة ورسالة النبي صلى الله عليه وسلم ، مهما كلفهم ذلك من ثمن غال من أن يعذَّبوا وينفوا من الأرض أو يقضوا نحبهم شهداء على أعواد المشانق.

قصة رسالة الدكتوراه

الشيخ عبدالستار فتح الله

رسالة الدكتوراه للشيخ عبد الستار و التي كانت بعنوان "المنهاج القرآني في التشريع" لها قصة فيها من الفوائد و العبر الشيئ الكثير ، ولا أفضل من أن نسمعها من صاحبها؛

يقول فضيلته:

" إنَّ لهذه الرسالة قصَّةً طويلةً، حيث تبدأ هذه القصة حين فرغت من الدراسات العليا بجامعة الأزهر، وشرَعْتُ في تحضير موضوعٍ لرسالتي العلمية، في وقتٍ عصيبٍ رهيب:(1384هـ، 1964م)، وكان الطغيان الحقود قد بلغ فيه غاية الصلف والغرور، والاستكبار والاستهتار، وأخذ يستجلب لأمتنا أنكد مذاهب الإلحاد والإفساد، ويقودها إلى ُكلِّ دروب الكفر والفسوق والعصيان، خاصةًً بعد أن سَحِق طلائع الحركة الإسلامية العالمية سَحقًا دنيئًا غادرًا، لم يرع خلاله خُلُقًا ولا دينًا، ولم يرقُب معه في مؤمنٍ إلاًّ ولا ذمَّةً!!

في هذه الظروف سجلتُ رسالتي في كلية (أصول الدين) بالقاهرة ولم يكن في الدولةِ آنئذٍ غيرها، وكانت موضوعًا دينيًّا هادئًا في ظاهره، ولكني كنتُ قد عزمت العزم على هدفٍ أوضح من الشمس في نفسي، هو أن أجعلَ من هذه الرسالة منازلةً علميةً لكل ما جلبه الطغيان من مناهج، ومذاهب، وأفكارٍ موغلةٍ في الضلال والبُطلان، يراد بها صرفُ المسلمين عن منهاج ربهم، بعدما تبين من عظمته وشموله، وتفرده بغاية الكمال والتمام في كل شئون الحياة، أقبلت أجمع مراجع الرسالة، وأستخرج منها مادتَها العلمية؛

وأرتبها في مواضعها، نحو سنةٍ أو أكثر، حتى قطعت شوطًا طويلاً في ذلك، قبل أن تهب على الإخوان المسلمين رياح التنكيل؛ حيث شنت أجهزة الرئيس عبد الناصر حربًا ضاريةً على دعاة الإسلام ورجاله جميعًا، (سنة 1385هـ، 1965م) بعدما تأكد له أنَّ جرائمه الفاحشة طوال عشر سنوات سابقة، لم تُفْلح في خلع جذور الإسلام من القلوب والعقول، بل لم تزده المحن الهائلة إلا رسوخًا وامتدادًا بفضل الله وعنايته.

ولقد بلغت الحرب على الإسلام غايتها، حيث اختار الرئيس عبدالناصر عاصمة الإلحاد الشيوعي (موسكو) ليعلن منها هذه الحرب، وليقدم المؤمنين والمؤمنات قربانًا يترضى به أئمة الكفر في الشرق والغرب على سواء، مجددًا جرائمه في تلفيق الاتهامات، ثم سوق آلاف الرجال والنساء والولدان بها إلى أعماق السجون والمنافي، وقتل العديد من أنبل دعاة الإسلام ورجاله، على أعواد المشانق، بعد محاكمات عسكرية هزلية، أو تحت سياط التعذيب الرهيب!!

وامتدت العاصفة المجنونة تأكل الرجال والنساء، والبيوت والأسر، والقيم والأخلاق، والمال والمتاع، والكتب والرسائل، والمطبوع والمخطوط، والمستور والمنشور!!!

وسارع الناس تحت وطأة الرعب الهائل إلى التخلص من كل كتاب أو مجلة ذات صلة بالدعوة الإسلامية المعاصرة، كما استباح رجال شمس بدران مصادرة كل شيء، خاصة الكتب والرسائل الإسلامية، حيث جمعوا منها تلالاً بالغةً، ثم أحرقوها، أو أغرقوها بعد ذلك في مياه المجاري النجسة حول القاهرة ، على أسوأ مما فعل التتار قديمًا في بغداد!!!

نتيجةً لهذه الحرب ضاعت كتبي والأصول الأولى لهذه الرسالة، ثم كان نصيب صاحبها وإخوانه أدهى وأمر، سواءٌ أكان في السجون الحربية، أم المحاكم العسكرية الهمجية التي صارت مضرب الأمثال في امتهان الحق والعدل، حيث كان التدين عند قضاتها جنايةً، والدعوة إلى الإسلام خيانةً، وصلاة الجماعة مؤامرةً، وتحريم الحرام تخلفًا وجهالةً، ومواجهة الإلحاد الزاحف على أمتنا ثورةً مضادةً تستحق في إفكهم الإبادة الشاملة، والحكم بالإعدام، أو السجن المؤبد، ونحو ذلك من المظالم الصارخة!!!

وقد ظنَّ هؤلاء أنهم قالوا الكلمة الأخيرة في ملحمة الصراع بين الحق والباطل، حين ألقوا بنا وراء الأسوار، وأسدلوا علينا الستار حتى نهاية الأعمار، كما كانوا يزعمون!!!

وأراد الله تعالى غيرَ ما أرادوا، فسلك بنا بفضله طريقَ أصحابِ الدعوات، واتخذ منا الشهداء، ووضع الأحياء على مدارج التربية والتكوين، التي وضع عليها المؤمنين والمؤمنات عْبرَ التاريخ، وكفى مثلاً بيوسف السجين، وهو الكريم ابن الكرام عليهم السلام، وتلك سنَّة الله عز وجل في أهل الإيمان، أن يُجَرِّبوا حياة الخوف والمحنة، والأذى والفتنة، والانتظار والترقب، والصبر والمطاولة، حتى يأتي اللهُ بالفتحِ أو أمْرٍ من عنده.

وحين َمنَّ الله تعالى بكتابةِ هذه الرسالة مرةً أخرى بعد سنوات، فإنها اكتسبت بفضل الله عز وجل روحًا وأبعادًا جديدةً، ما كانت لتصل إليها إلا عَبْرَ هذه التجارب الهائلة، فلم تعد مجرد رسالة علمية تخصصية، وإنما صارت مع ذلك صيحةَ عملٍ وجهادٍ من قلب العاصفة ذاتها، ورسالةَ دعوة وبلاغٍ بحالها ومقالها؛

وبما تجلى لنا من حقائق واقعية، شاهدة ومؤكدة أن هذا (المنهاج الإلهي) الذي آمنا به هو الحق المتفرد من عند الله، وأنه الطريق الفذ لخيريَ الدنيا والآخرة جميعًا، وما عداه زَبدٌ باطلٌ يذهب جفاءً مهما حشد الناس له من بريق السلطان، وزخرف المنافع، وألسنة النفاق، وطنين الأسماء والألفاظ، كالقانون، والدستور، والميثاق، وأمثالها من دعاوى الزيف التي أضلت البشرَ طوال التاريخ، والتي ما بُعِث الرسلُ عليهم السلام إلا لمقارعتها، وإنقاذ الناس من شرورها، وإعادتهم إلى صراط الله العزيز الحميد.

ولم تمض إلا سنوات معدودة حتى رأينا سنن الله الصارمة في الذين اتخذوا دين الله هُزُوًا ولعبًا، فكانت نكسة 67، وبما جرَّهُ على أمتنا من المظالم والهزائم، خاصةً أمام القردة والخنازير من بني الكيان الصهيوني، وما تبع ذلك من تمزيق الجيوش، وضياع البلاد والعباد، وإسقاط المسجد الأقصى في قبضة المغضوب عليهم؛

وقد رأى الزبانية بعدما رأوا الآيات والنذر أن ُيبْقُونا في السجن بضع سنين، وشاء الله (عز وجل) أن أستأنف في هذه الفترة كتابة َهذه الرسالة من جديد، وقد أمد الله تعالى عبده بفضله، فتمَّ إنجازها خلال عام 1394هـ، 1973م، رغم صعوبة الواقع، وقلة المراجع، وترقّب المجهول!!

ثم عكفتُ على تبييضها بعد اختصارها، عملاً بنصيحة أستاذنا المشرف الدكتور أحمد الكومي يرحمه الله، وكان من أفذاذ العلماء، علمًا وتواضعًا وخلقًا، وآيةً في الذكاء والفهم، وقد تخرج عليه أجيال من العلماء، ومما يشهد له في جرأته للحق أنه كان يزورني بنفسه رغم ذهاب بصره أثناء وجودي بمستشفى قصر العيني غير آبهٍ بما يمكن أن يحدث له؛

وقد توفي عن عمر يناهز الثمانين عامًا، وكان رحمه الله يرى في الاختصار كسبًا للوقت، وتحسبًا للأحداث المجهولة، وكنا جميعًا نقدر أنها ستكون أول رسالة (دكتوراه) تقدم للمناقشة من داخل السجون، ولكن إرادة الله تعالى سبقت كل تقدير، فقد أذن بخروجنا من السجن في 12 من ربيع الأول 1395هـ، 1975م، فأتممت تبييض الرسالة ونسخها، ثم جرت مناقشتها في قاعة الشيخ محمد عبده بجامعة الأزهر في 10 من رمضان المبارك 1395هـ، 15 من (سبتمبر) 1975م."

تأييد و مناصرة للقضايا الإسلامية المعاصرة

الشيخ عبد الستار فتح الله فى تأبين الشيخ أحمد ياسين

هذا الشيخ الجليل ... أسد هصور يقول الحق في كل خطب وكل عصر ولا يخاف في الله لومة لائم.. وقد زاده السجن قوة إلى قوته وكان نقطة تحول هامة جدا في حياته.

يقول الشيخ حفظه الله تعالى:

"علمت بوجود لجنة تعاقد من ليبيا للإعارة ، فعزمت على الذهاب ولكن الوالدة قالت : أنت ستقضي رمضان والعيد بعيد عنا ؟! فبرا بها قلت لها : لن أذهب الآن ، وبعد العيد ذهبت للتعاقد فقالوا إن الوقت قد انتهى ، بعدها كانت الأحداث و تم القبض علي فأبدلني الله خيرا من هذه الإعارة ، فقد قضيت عشر سنين ما بين السجن الحربي و غيره من السجون و المعتقلات لأخرج من كل ذلك بفضل الله وحده تبارك وتعالى وقد ازددت علما وإيمانا و يقينا و ثباتا "

نعم لقد خرج الشيخ عالما عاملا مجاهدا ناطقا بالحق لا يخاف في الله لومة، فما نزلت بالأمة نازلة ،و لا ألم بها خطب ، ولا برزت قضية من قضايا العصر إلا وتجد للشيخ فيها تأييد ومناصرة ، أو تحذير ومناصحة وفيما يلي بعض من هذا :

موقفه من العدوان الصهيوني على غزة

أهاب الدكتور عبد الستار فتح الله سعيد أستاذ التفسير بجامعة الأزهر بالأمة العربية والإسلامية إلى سرعة تكاتف الجهود ضد العدوان الغاصب، وأكد أن دور الشعوب في رفع الأذى عن الأمة يكون أولا بإيمانها وتمسكها بمبادئها و ثانيا باحتضان المقاومة الإسلامية والدفاع عنها بكل غالٍ ونفيس.

ووصف د. فتح الله المباحثات التي تُجريها الحكومة المصرية والأنظمة العربية مع الصهاينة وما ينتج منها من اتفاقيات بالأضحوكة والاستخفاف بالعقول ، واعتبرها السبب الرئيسي للعدوان الصهيوني على غزة، كما طالب بطرد السفير الصهيوني من مصر وبالمقاطعة الإستراتيجة.

وقال إن دمويةهؤلاء اليهود معروفة عبر التاريخ يقول تعالى :" لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا" (المائدة: من الآية 82)، و أضاف فضيلته قائلاً: "الصهيوني لا يستطيع أن يحيا دون مجازر دموية وإلا يموت".

الحصار المفروض على غزة و غلق معبر رفح

رفض الحصار و غلق المعابر، وشارك بتوقيعه على الحملة التي أطلقها موقع إخوان أون لاين لفك الحصار المفروض على قطاع غزة ، وفتح معبر رفح الذي يمثل شريان الحياة لشعب غزة .موقفه الشرعي من ولاية المرأة

الشيخ عبدالستار فتح الله والحاج فتحي الخولي

وعن هذا الموقف الصحيح يقول الأستاذ عبد المنعم أبو الفتوح :

"كنّا قد حسمنا أمرنا بالدخول في تحالف مع حزبي العمل والأحرار عرف بـ "التحالف الإسلامي" في الانتخابات البرلمانية عام 1987 ، وقد رشح حزب العمل على قائمته بإحدى دوائر محافظة الجيزة امرأة هي السيدة عزيزة سند، وكان الموقف المبدئي للإخوان هو الترحيب بهذا الترشيح؛

وعلى أن يضم الإخوان امرأة في قوائمهم لما يعنيه ذلك من مواجهة الاتهامات التي تطلقها التيارات العلمانية وتشيع فيها أن الإخوان أعداء للمرأة وسيقفون ضد مكاسبها، لكن الشيخ عبد الستار فتح الله سعيد وهو أستاذ للتفسير في جامعة الأزهر من قدامى الإخوان وكان عضوا بـ مكتب الإرشاد وقتها رفض الأمر تماما وبقوة، وساق جميع الآراء الشرعية التي تعارض مشاركة المرأة بالبرلمان.....

..فعرض عليه الإخوان في مكتب الإرشاد تكوين لجنة من علماء الشريعة تدرس القضية ثم تخرج بعدة آراء يختار منها مكتب الإرشاد ما يراه مناسبًا للجماعة ، إلا أن فضيلته رفض الاقتراح وقال إن الرأي الراجح الذي ستراه اللجنة هو الذي يجب أن يلتزم به مكتب الإرشاد وأنه سيكون ملزما للجماعة... ولكن الشيخ عبد الستار فتح الله رفض رأينا وأصر على موقفه بل وتطور الأمر إلى أن قدم استقالته من مكتب الإرشاد !.

وقد ظل حفظه الله متمسكا برأيه مخلصا له، وتجددت معارضته حين رشح الإخوان الأخت جيهان الحلفاوي (زوجة الأخ إبراهيم الزعفراني) في الانتخابات البرلمانية عن دائرة الرمل بمحافظة الإسكندرية عام 2000؛

ثم عاد مجددا لينتقد هذا الموقف حين رشح الإخوان الأخت مكارم الديري (زوجة المرحوم الأخ إبراهيم شرف الذي عمل سكرتيرا للمرشد) في الانتخابات الأخيرة 2005 عن دائرة مدينة نصر بالقاهرة، وانتقد بحدة هذا العمل حتى في خطبة الجمعة بالمسجد الذي يؤم الناس فيه، على الرغم من أنه مازال واحدا من جماعة الإخوان وأن استقالته كانت من مكتب الإرشاد فقط وليس من عضوية الجماعة)

ليُظهر هذا الموقف متانة الشيخ العلمية وصلابته في قول الحق وأن الجماعة تحترم علماءها الذين لهم رأي ضمن قولين داخل الجماعة في هذه الفترة .. ثم انتهى هذا الأمر مؤخرا في مسألة رفض الولاية العامة للمرأة كما صدر في برنامج الإخوان على وفق رأي الشيخ حفظه الله تعالى.

الرد على تأييد شيخ الأزهر طنطاوي لكتاب " الهيروغليفية تفسير للقرآن"

عن دور جبهة علماء الأزهر إزاء هذا الموقف قال د. يحيى إسماعيل:

"لقد أحسنت رابطة العالم الإسلامي صنعًا حين أسندت إلى فضيلة الأستاذ الدكتور عبد الستار فتح الله سعيد أمر تقويم الاتهام والثناء والكاتب فجاء قوله فصلاً في ذلك حيث قال: لقد بدا لي أن هذا الكتاب الهيروغليفية تفسير للقرآن حلقة من حلقات الإفك الاستشراقي المرتبط عضويًّا وتاريخيًّا بالكنائس الغربية وبدوائر التجسس العالمي، الأوروبي عامة، والأمريكي خاصة، والصهيوني بصفة أخص؛

وأن موقف شيخ الأزهر منه هو لغز محير يثير كثيرًا من الأسئلة التي تحتاج إلى إجابات، فالكتاب فيه خطايا دينية وعلمية لا تخفى على طالب علم أزهري، فكيف تسلمه شيخ الأزهر بالشكر والتقدير؟؟!!، وكيف وصفه بأن فيه جهدًا يحمد فيشكر؟!، وكيف يدعو الله تعالى أن يجعل كل هذه الأباطيل في ميزان حسنات المؤلف؟!، وأن ينفع الله به؟".

موقفه من بناء الجدار الفولاذي

وقع على بيان جبهة علماء الأزهر الذي أدان بناء الجدار ووصف هذا العمل بأنه حرام شرعا .

مواقفه من المحاكم العسكرية

شارك في رفض مهزلة المحاكمة العسكرية التي تعرض لها المهندس خيرت الشاطر و إخوانه وقال إنه ضد محاكمة المدنيين أمام المحكمة العسكرية، ولابد من تضافر كل الجهود والإمكانيات من أجل الحفاظ على الحقوق المشروعة للمواطن

الهمة العالية في مواصلة المهمة الغالية

ولايزال فضيلة الشيخ عبد الستار فتح الله يواصل مسيرته الدعوية بكل همة وعزيمة وثبات برغم بلوغه 76 عاما ، فقد مضى الجلادون برغم كل ما كان لهم من قوة وذهبوا أدراج الرياح عليهم من الله ما يستحقون ، وفي المقابل بقيت الأسود برغم ما كان يبدوا عليهم من ضعف ووهن ،إلا أن قلوبهم كانت قلوب ربانية لم تزدها المحن إلا قوة و رسوخا .

الدكتور زغلول النجار

محتويات

١ زغلول النجار ... الدعوة بالإعجاز العلمي النبتة الطيبة

٢ "موقف لا يُنسى في رحلته"

٣ أبحاثه العلمية

٤ الدكتور زغلول عالمًا داعيًا

٥ إقرأ أيضا

زغلول النجار ... الدعوة بالإعجاز العلمي النبتة الطيبة

الدكتور زغلول النجار

ولد الدكتور زغلول راغب محمد النجار في قرية مشاري، مركز بسيون بمحافظة الغربية في 17 نوفمبر عام 1933م. حفظ القرآن الكريم منذ الصغر على يد والده الذي كان يعمل مدرسًا بإحدى مدارس المركز.

وقد حرص الوالد دائمًا على غرس القيم الدينية والأخلاقية في حياة أبنائه.. حتى إنه كان يعطي للأسرة درسًا في السيرة أو الفقه أو الحديث على كل وجبة طعام.. يذكر الدكتور عن والده عادة غريبة أثناء تسميعه القرآن لأبنائه؛ حيث كان يرد الخطأ حتى ولو كان في نعاس تام..

فلم يكن غريبًا إذًا أن ينشأ الدكتور زغلول النجار بقلب متعلق بالإيمان بالله والدعوة في سبيله. تدرج الفتى زغلول في مراحل التعليم حتى التحق بكليته، كلية العلوم بجامعة القاهرة في عام 1951م، ثم تخرج في قسم الجيولوجيا بالكلية في عام 1955م حاصلاً على درجة بكالوريوس العلوم بمرتبة الشرف وكان أول دفعته.

في شبابه.. تأثر الشاب زغلول النجار بالفكرة الإسلامية التي تواجدت بقوة على الساحة في ذلك الوقت.. وهي الفكرة التي قامت على يد "الشيخ حسن البنا" الذي أسس "جماعة الإخوان المسلمون" في عام 1928م.. إلا أن انتمائه لهذه الفكرة أثَّر على مسيرة حياته؛ فلم يُعَيَّن الدكتور زغلول الحاصل على مرتبة الشرف وأول دفعته معيدًا بجامعة القاهرة، ومن ثَمَّ التحق بعدة وظائف في الفترة ما بين 1955م إلى 1963م؛

حيث التحق بشركة صحارى للبترول لمدة 5 أشهر، ثم بالمركز القومي للبحوث 5 أشهر أخرى.. حتى انضم إلى مناجم الفوسفات في وادي النيل (من إسنا إلى إدفو) لمدة 5 أعوام؛ حيث أثبت الدكتور تفوقًا ملحوظًا، وتمَّ إنتاج الفوسفات في مناجم "أبو طرطور" في خلال 6 أشهر فقط، وخرجت شحنات تجارية تقدر بمليارات الجنيهات.. ولم تنتج هذه المناجم مثل هذه الكمية بعد ذلك حتى هذا الوقت.

وفي احتفالية فريق العمل بمناجم الفوسفات بهذا الإنجاز، كانت الإشادة بتفوق الشاب زغلول النجار ودوره في هذا النجاح، وعرفه رئيس اتحاد العمال في كلمته قائلاً "عندنا شخصية جيدة تجمع العمال على قلب رجل واحد…"، ولكنه بدلاً من أن يلقى التكريم اللائق كشاب وطني نابغ في مهنته، "فصل" من وظيفته.. لنفس الأسباب السياسية الفكرية.. وهكذا..

لم يثبت الدكتور زغلول في وظيفة من أي من هذه الوظائف فترات طويلة.. وإنما الثبات كله كان في قلبه المتعلق بالإيمان المضحي في سبيل فكرته.. والتحق الدكتور زغلول بمناجم الذهب بالبرامية.. حتى لاحت له الفرصة للالتحاق بجامعة عين شمس معيدًا بقسم الجيولوجيا بشرط عدم تلاحمه مع الطلاب أو التقصير في أي من محاضراته.. وبالفعل التزم الدكتور زغلول بهذه الشروط..

حتى كان يوم زيارة رئيس الحكومة في ذلك الوقت للجامعة.. وحيث إن الدكتور زغلول لم يُبَلَّغ ولم يعلم من قبل بهذه الزيارة.. حافظ على محاضرته والتزم بتدريسها.. ففصل بعد سنة واحدة من تعيينه في الجامعة، فانتقل للعمل بمشروع للفحم بشبه جزيرة سيناء.

وفي عام 1959م لاحت أول انطلاقة حقيقية للدكتور زغلول النجار في إثبات ذاته، حيث دعي من جامعة آل سعود بالرياض إلى المشاركة في تأسيس قسم الجيولوجيا هناك.

ومن المملكة السعودية استطاع السفر إلى إنجلترا.. وحصل هناك على درجة "الدكتوراه في الفلسفة" في الجيولوجيا من جامعة ويلز ببريطانيا عام 1963م، ثم رشحته الجامعة..

لاستكمال أبحاث ما بعد الدكتوراه من خلال منحة علمية من جامعته ..Robertson, Post-Doctoral Research fellows. ويذكر الدكتور زغلول أنه حينما حاولت إدارة البعثات المصرية الرفض، بعث أستاذه الإنجليزي الذي كان نسيبًا لملكة بريطانيا بخطاب شديد اللهجة إلى البعثات قال فيه: إنه لا يوجد من يختلف على أن الدكتور زغلول هو أحق الدارسين بهذه المنحة التي تمنح لفرد واحد فقط، وهدَّد أن بريطانيا لن تقبل أي طالب مصري بعد ذلك إذا لم يقبل الدكتور زغلول في هذه المنحة.. فبالطبع كانت الموافقة.

"موقف لا يُنسى في رحلته"

في أكتوبر من عام 1961م، كانت الباخرة التي ستقل الدكتور زغلول إلى إنجلترا راسية على ميناء بور سعيد.. وفي أثناء إنهاء إجراءات السفر فوجئ الدكتور بأنه ممنوع من السفر، وأن الشخص الوحيد الذي يستطيع إلغاء هذا القرار هو مدير جوازات بور سعيد..

والذي لم يكن موجودًا في ذلك الوقت.. فكان الدكتور زغلول النجار وأخوه محمد النجار في سباق مع الزمن الذي لم يبق منه إلا القليل.. ذهبا إلى البيت فلم يجداه..

ثم توجها إلى مستشفى الولادة ببور سعيد حين علما بأنه هناك مع زوجته وهي في حالة وضع.. "كان ضابطًا شهمًا" كما يصفه الدكتور زغلول وقال لهما: "إن زوجتي اليوم كتبت لها حياة جديدة؛ ولذلك ستسافر، وليكن ما يكون"..

أصدر الضابط أوامره إلى السفينة التي كانت تحركت بالفعل للوقوف في عرض البحر.. واستقل الثلاثة قاربًا صغيرًا في جنح الظلام.. وأنزلت السلالم من السفينة في مشهد من جميع ركابها.. يقول د. زغلول "لم أتخيل ارتفاعًا أكبر من ذلك في حياتي"، وهكذا كتب للدكتور زغلول السفر إلى إنجلترا.

أبحاثه العلمية

الدكتور زغلول النار

في إنجلترا قدم الدكتور زغلول في فترة تواجده بإنجلترا أربعة عشر بحثًا في مجال تخصصه الجيولوجي، ثم منحته الجامعة درجة الزمالة لأبحاث ما بعد الدكتوراة (1963م - 1967م).. حيث أوصت لجنة الممتحنين بنشر أبحاثه كاملة.. وهناك عدد تذكاري مكون من 600 صفحة يجمع أبحاث الدكتور النجار بالمتحف البريطاني الملكي.. طبع حتى الآن سبع عشرة مرة..

عودة إلى البلاد العربية انتقل الدكتور زغلول بعد ذلك إلى "الكويت"؛ حيث شارك في تأسيس قسم الجيولوجيا هناك عام 1967م، وتدرج في وظائف سلك التدريس حتى حصل على الأستاذية عام 1972م، وعُيِّن رئيسًا لقسم الجيولوجيا هناك في نفس العام..

ثم توجه إلى قطر عام 1978م إلى عام 1979م، وشغل فيها نفس المنصب السابق. وقد عمل قبلها أستاذًا زائرًا بجامعة كاليفورنيا لمدة عام واحد في سنة 1977م.

نشر للدكتور زغلول ما يقرب من خمسة وثمانين بحثًا علميًّا في مجال الجيولوجيا، يدور الكثير منها حول جيولوجية الأراضي العربية كمصر والكويت والسعودية.. من هذه البحوث: تحليل طبقات الأرض المختلفة في مصر – فوسفات أبو طرطور بمصر - البترول في الطبيعة – احتياطي البترول – المياه الجوفية في السعودية – فوسفات شمال غرب السعودية – الطاقة المخزونة في الأراضي السعودية – الكويت منذ 600 مليون عام مضت.

ومنها أيضًا: مجهودات البشر في تقدير عمر الأرض، الإنسان والكون – علم التنجيم أسطورة الكون الممتد – منذ متى كانت الأرض؟ – زيادة على أبحاثه العديدة في أحقاب ما قبل التاريخ (العصور الأولى) كما نشر للدكتور زغلول ما يقرب من أربعين بحثًا علميًّا إسلاميًّا، منها:

التطور من منظور إسلامي – ضرورة كتابة العلوم من منظور إسلامي – العلوم والتكنولوجيا في المجتمع الإسلامي – مفهوم علم الجيولوجيا في القرآن – قصة الحجر الأسود في الكعبة – حل الإسلام لكارثة التعليم – تدريس الجيولوجيا بالمستوى الجامعي اللائق..

وله عشرة كتب: منها الجبال في القرآن، إسهام المسلمين الأوائل في علوم الأرض، أزمة التعليم المعاصر، قضية التخلف العلمي في العالم الإسلامي المعاصر، صور من حياة ما قبل التاريخ.. وغيرها.

كما كان له بحثان عن النشاط الإسلامي في أمريكا والمسلمون في جنوب إفريقيا.. هذا بالطبع بجانب أبحاثه المتميزة في الإعجاز العلمي في القرآن، والذي يميز حياة د. زغلول النجار. بلغت تقاريره الاستشارية والأبحاث غير المنشورة ما يقرب من أربعين بحثًا.

وأشرف حتى الآن على أكثر من ثلاثين رسالة ماجستير ودكتوراة في جيولوجية كل من مصر والجزيرة العربية والخليج العربي.

رسم د. النجار أول خريطة جيولوجية لقاع بحر الشمال.. وحصل على عدة جوائز منها "جائزة أحسن بحوث مقدمة لمؤتمر البترول العربي عام 1975م، وجائزة مصطفى بركة للجيولوجيا".

تزوج الدكتور زغلول في عام 1968م ورُزِقَ منها بولدين توفاهما الله سبحانه وتعالى. * الآن، يشرف الدكتور زغلول على معهد للدراسات العليا بإنجلترا تحت اسم: Markfield Institute of Higher Education وهو معهد تحت التأسيس يمنح درجة الماجستير أو الدكتوراة في مجالات إسلامية كثيرة مثل الاقتصاد، والمال والبنوك، والتاريخ الإسلامي، والفكر الإسلامي المعاصر، والحركات المعاصرة، والمرأة وحركات تحررها.. إلخ.

د. زغلول عضو في العديد من الجمعيات العلمية المحلية والعالمية منها: لجنة تحكيم جائزة اليابان الدولية للعلوم، وهي تفوق في قدرها جائزة نوبل للعلوم.. واختير عضوًا في تحرير بعض المجلات في نيويورك وباريس..

ومستشارًا علميًّا لمجلة العلوم الإسلامية Islamic science التي تصدر بالهند.. وغيرها.. وقد عُيِّن مستشارًا علميًّا لعدة مؤسسات وشركات مثل مؤسسة روبرستون للأبحاث البريطانية، شركة ندا الدولية بسويسرا وبنك دبي الإسلامي بالإمارات.. وقد شارك في تأسيس كل من بنك دبي وبنك فيصل المصري وبنك التقوى وهو عضو مؤسس بالهيئة الخيرية الإسلامية بالكويت..

الدكتور زغلول عالمًا داعيًا

 

للدكتور زغلول النجار اهتمامات واسعة متميزة ومعروفة في مجال "الإعجاز العلمي في القرآن الكريم"، حيث يرى أنه وسيلة هامة وفعالة في الدعوة إلى الله عز وجل، ويقول عن تقصير علماء المسلمين تجاه هذه الرسالة: "لو اهتم علماء المسلمين بقضية الإعجاز العلمي وعرضوها بالأدلة العلمية الواضحة لأصبحت من أهم وسائل الدعوة إلى الله عز وجل"، ويرى أنهم هم القادرون وحدهم بما لهم من دراسة علمية ودينية على الدمج بين هاتين الرسالتين وتوضيحهما إلى العالم أجمع..

لذلك اهتم الدكتور زغلول بهذه الرسالة النابعة من مرجعيته العلمية والدينية في فكره، منذ شبابه. جاب د. زغلول البلاد طولاً وعرضًا داعيًا إلى الله عز وجل.. ولا يذكر أن هناك بلدًا لم يتحدث فيه عن الإسلام من خلال الندوات والمؤتمرات أو عبر شاشات التلفزة، أو حتى من خلال المناظرات التي اشتهرت عنه في مجال مقارنة الأديان.

يوجه د. زغلول حديثه إلى كل شاب وفتاة بأن عليهم فَهْم هذا الدين، وحمل تعاليمه إلى الناس جميعًا؛ فيقول في إحدى محاضراته:

"نحن المسلمون بأيدينا الوحي السماوي الوحيد المحفوظ بحفظ الله كلمة كلمة وحرفًا حرفًا قبل أربعة عشر قرنًا من الزمان، وأنا أؤكد على هذا المعنى؛ لأني أريد لكل شاب وكل شابة مسلمة أن يخرج به مسجلاً في قلبه وفي عقله؛ ليشعر بمدى الأمانة التي يحملها على كتفيه".

كما يؤمن د. زغلول بأن علينا تسخير العلم النافع بجميع إمكاناته، وأن أحق من يقوم بهذا هو العالم المسلم: "فنحن نحيا في عصر العلم، عصر وصل الإنسان فيه إلى قدر من المعرفة بالكون ومكوناته لم تتوفر في زمن من الأزمنة السابقة؛ لأن العلم له طبيعة تراكمية، وربنا سبحانه وتعالى أعطى الإنسان من وسائل الحس والعقل ما يعينه على النظر في الكون واستنتاج سنن الله"، ويقول في موضع آخر:

(ولما كانت المعارف الكونية في تطور مستمر، وجب على أمة الإسلام أن ينفر في كل جيل نفر من علماء المسلمين الذين يتزودون بالأدوات اللازمة للتعرض لتفسير كتاب الله).

إلا أن د. زغلول وبرغم اهتمامه الشديد بما في القرآن من إعجاز علمي، يؤكد أنه كتاب هداية للبشر وليس كتابًا للعلم والمعرفة موضحًا ذلك في قوله: (أشار القرآن في محكم آياته إلى هذا الكون ومكوناته التي تحصى بما يقارب ألف آية صريحة، بالإضافة إلى آيات تقترب دلالتها من الصراحة..

وردت هذه الآيات من قبيل الاستشهاد على بديع صنع الله سبحانه وتعالى، ولم ترد بمعنى أنها معلومة علمية مباشرة تعطى للإنسان لتثقيفه علميًّا)، ويدعو د. زغلول دائمًا إلى أن يهتم كل متخصص بجزئيته في الإعجاز العلمي ولا يخوض فيما لا يعلم (أما الإعجاز العلمي للآيات الكونية فلا يجوز أن يوظف فيه إلا القطعي من الثوابت العلمية، ولا بد للتعرض لقضايا الإعجاز من قبل المتخصصين كلٌّ في حقل تخصصه).

تحية من الجيل.. تحية من كل شاب مسلم وفتاة مسلمة.. عمَّا قدمه عالمنا للعلم والحياة والإنسان.. ويقف إعجازه العلمي إعجازًا لا يُنْكَر من أي عالم يقدر العلم والعلماء.. ندعو جيل علمائنا إلى أن يقتدي به.. وهذا أفضل طريقة لتقديم الشكر للدكتور زغلول على ما قدمه.. وهو أن يكون منا زغلول.. آخر..

سماحة الشيخ العلاَّمة أمجد الزهاوي (1300 ـ 1387هـ 1883 ـ 1967م)

بقلم: المستشار عبدالله العقيل

محتويات

١ البطاقة الشخصية

٢ لقائي به في البصرة

٣ جمعية إنقاذ فلسطين

٤ أعوام مشحونة بالغضب

٥ ميلاده ونشأته

٦ الإنقلاب العسكري

٧ آخر أعماله

٨ قالوا عنه

٩ موقفه من فلسطين

١٠ احتفال النصف مليون

١١ من أقواله

١٢ المراجع

١٣ وصلات خارجية

١٤ ألبوم الصور

١٥ للمزيد عن الإخوان في العراق

البطاقة الشخصية

الشيخ أمجد الزهاوي

أمجد الزهاوي رئيس رابطة علماء العراق وهو أبو سعيد أمجد بن الإمام محمد سعيد مفتي بغداد بن الإمام محمد فيضي الزهاوي ابن الملا أحمد بن حسن بك بن رستم بن خسرو بن الأمير سليمان باشا رئيس سلالة بابان الأسرة البابانية الذي أنشأ مدينة السليمانية والتي سميت بأسمه.

تاريخ الولادة: 1883م

مكان الولادة: بغداد

تاريخ الوفاة: 17 نوفمبر 1967م

مكان الوفاة: بغداد

الجنسية: عراقي

لقائي به في البصرة

كان أول لقاء لي مع سماحة الشيخ أمجد الزهاوي عام 1947م بمدينة البصرة، حيث قدم إليها زائرًا، وبصحبته الشيخ محمد محمود الصواف، والأستاذ المحامي عبد الرحمن خضر، وكنت مع مجموعة من زملائي الطلبة بمتوسطة البصرة، أذكر منهم عبد الواحد أمان، وعمر الدايل، وخليل العقرب، وعبد القادر الأبرشي، وعبد الرزاق المال الله.. وغيرهم، فكان نشاطنا الإسلامي من خلال جمعية الآداب الإسلامية (فرع البصرة) التي اتخذت لها من جامع الخضيري مقرًا.

فخرجنا إلى محطة القطار القادم من بغداد، وفي مقدمتنا الحاج حمد الذكير، والقاضي عبد الله الصوفي، والشيخ عبد المحسن البابطين، والشيخ عبد الله الرابح، والحاج عبد القادر العبايجي، وتوفيق الصانع، وجاسم محمد صالح، وعبد الهادي الباحسين، ويعقوب عبد الوهاب، وعبد العزيز الربيعة، وعبد الرحمن الخزيم، وعبد العزيز الوتار، وطه البصري، وعبد المجيد الرحماني، ويعقوب الباحسين وآخرون.

وكان البرنامج حافلاً بالخطب والمحاضرات والدروس والندوات والزيارات، فضلاً عن الجلسات الخاصة المخصصة للأسئلة والاستفسارات عن كل ما يهم المسلم معرفته عن دينه والواجب الملقى عليه لتبليغ رسالة الإسلام وحمل الدعوة إلى عموم الناس، والدور الذي يجب أن يضطلع به لتعبئة الأمة المسلمة لحرب اليهود الذين اعتدوا على إخواننا الفلسطينيين بمساعدة الإنجليز؛

واحتلوا الديار المقدسة، بمباركة من دول الكفر مجتمعة، التي أصدرت قرار تقسيم فلسطين المسلمة بين العرب واليهود سنة 1947م، وكانت الدول الكبرى، وعلى رأسها أمريكا وروسيا وبريطانيا وفرنسا، أُولى الدول التي وقَّعت على قرار التقسيم الجائر، ولقد أحدث هذا القرار الظالم ردة فعل كبيرة في العالم الإسلامي، فقامت المظاهرات في مصر وبلاد الشام والعراق والسودان وبلدان المغرب العربي والعالم الإسلامي كله.

جمعية إنقاذ فلسطين

وبادر علماء العراق، وعلى رأسهم سماحة الشيخ أمجد الزهاوي، بتأسيس (جمعية إنقاذ فلسطين) وتحركوا في طول البلاد وعرضها، وفي مقدمتهم الشيخ محمد محمود الصواف، مستنهضين همم المسلمين لنجدة إخوانهم المجاهدين في فلسطين، وكان لشباب الإخوان المسلمين في العراق دورهم الرائد وجهودهم الخيّرة، حيث انتشروا في المدن والقرى والأرياف والبادية، يذكِّرون الناس بواجبهم الإسلامي في الجهاد، ودعم المجاهدين والوقوف إلى جانب المضطهدين من المسلمين بفلسطين.

ولقد تكررت لقاءاتي بالشيخ الزهاوي بعد ذلك في بغداد، حيث ذهبتُ للدراسة في الثانوية الشرعية، ثم بعد التخرج في الأزهر بمصر عام 1954م، فازددت منه قربًا، وبه معرفة، وله إكبارًا وحبًا، حيث كان (رحمه الله) شجاعًا في كلمة الحق، راجح العقل، سديد الرأي، عميق الفقه، بسيط المظهر،جم التواضع مع الصغير والكبير والغني والفقير، كما وجدت فيه الصفاء في الذهن، والنور في الوجه، والعلم الغزير المتدفق في الأصول والفروع على حد سواء.

وما زلت أذكر حين صلينا معه لأول مرة كبَّر تكبيرة الإحرام بصوت عال، اهتزت له مشاعرنا، وارتجفت أجسادنا، فكأنه قد خرج من الدنيا إلى لقاء الله (سبحانه وتعالى) بهذه التكبيرة الخاشعة، وكنا أثناء السير معه نلاحظ أنه كلما رأى ورقة أو جريدة «صحيفة» ملقاة على الأرض التقطها ووضعها في جيبه خشية أن يكون فيها اسم الله (سبحانه وتعالى) وتتعرض للإهانة.

كما لاحظنا أنه يكرر السؤال عن أسمائنا، رغم أننا عرّفناه بها، حيث كان ينسى الأسماء، في الوقت الذي يستحضر فيه دقائق المسائل العلميّة الفرعية في الأصول والفروع، ببديهة حاضرة، وذاكرة عجيبة تُذهل السامع والسائل، وتبهره لهذا العلم الغزير والفيض المتدفق.

كان الشيخ الزهاوي يكثر من الثناء والإشادة بالشيخ الصواف، على حماسته وغيرته على الإسلام والمسلمين، ويوصينا بالعمل معه في طريق الدعوة إلى الله، والالتزام بمنهج الحركة الإسلامية، الذي حمله الأستاذ الصواف بعد عودته من مصر، حيث التقى الإمام الشهيد حسن البنا المرشد العام للإخوان المسلمين وإخوانه وتلامذته، وتأثر بهم خلال دراسته بالأزهر غاية التأثر.

ولقد أكبرنا في الشيخ الزهاوي هذه الهمّة والحيوية والنشاط والعمل الدءوب رغم كبر السن دونما كلل أو ملل، فلا يسأل عن الطعام أو الشراب، ولا ينشد الراحة أو المنام، مما جعلنا نحقِّر أنفسنا أمام هذه النفس الكبيرة، التي تُجهد جسمها في سبيل الله تعالى في حمل كثير من الأعباء التي ينوء بها كاهل الشباب، ونعجز أن نجاريه في بعض ما يقوم به، وصدق القائل:

وإذا كانت النفوس كبارًا

تعبت في مرادها الأجسامُ

لقد كان الإمام أمجد الزهاوي علاّمة العراق وفقيه الحنفية في عصره، وإليه يرجع العلماء من أنحاء العالم الإسلامي للاستنارة برأيه، والتفقه من علمه، والاستزادة من فتاويه، كما كان يرجع إليه ذوو الحاجات وأصحاب الظلامات والمستضعفون من الناس، ليقضي حاجاتهم، ويشفع لهم في معضلاتهم، وفك أسراهم، ورفع الظلم عنهم لدى المسؤولين وأصحاب النفوذ والقرار، الذين كانوا يستجيبون لشفاعته لما له من مهابة في نفوسهم ولعظيم احترامهم له وتقديرهم إياه.

أعوام مشحونة بالغضب

وفي فترة الدراسة الثانوية ببغداد، كانت لنا برامج تربوية، ومناهج ثقافية، ونشاط دعوي ولقاءات أُسرية، وكتائب روحية، ومعسكرات رياضية، يتولى التوجيه فيها ثلة من العلماء والأساتذة والمربين، وفي مقدمتهم الشيخ الزهاوي والأستاذ الصواف؛

ولقد كان عاما 1947م و 1948م من الأعوام المشحونة بالغضب والثورة على الإنجليز واليهود، حيث كان في هذين العامين قرار بتقسيم فلسطين وعقد معاهدة (بورت سموث) الاستعمارية المسماة «جبر ـ بيفن»

فعمّت المظاهرات الطلابية والشعبية أنحاء العراق، وبخاصة العاصمة بغداد، حيث مقر الحكومة الموالية للإنجليز، والتي أقرّت التقسيم، وعقدت المعاهدة مع الإنجليز، وهي حكومة "صالح جبر"، وتصدّر هذه المظاهرات وقادها طلاب الثانوية الشرعية والكلية الشرعية بالأعظمية؛

وفي مقدمتهم: إبراهيم منير المدرس، ونعمان السامرائي، ويوسف العظم وغيرهم، حيث ألهبوا حماسة الجماهير واصطدموا بأزلام السلطة، وأعوان الطواغيت وخدم الاستعمار، فاعْتُقل من اعتقل، واسْتُشهد من استشهد، وجُرح من جرح، وفُصل من الدراسة أو العمل من فصل، ولم يفت ذلك في عضدهم، ولم يوهن عزيمتهم، بل انتشر السخط في جميع البلاد، وخرجت الأمة عن بكرة أبيها تطالب بإسقاط الحكومة العميلة، وتم ذلك حيث استقالت الحكومة، وبطلت المعاهدة وأُلغيت بإرادة شعبية.

ولقد برز الأستاذ الصواف، كقائد للجماهير الشعبية الساخطة على الاستعمار والصهيونية، وارتفع صوت الشباب المسلم، يردد هتافات الإسلام، وكانت قصائد الشاعر الكبير وليد الأعظمي الحماسية على كل لسان؛

فقد كان شاعر الملحمة الكبرى، في التصدي للطغاة وخدم الاستعمار وأذناب الغرب والشرق، واحتل التيار الإسلامي موقعه، كقوة سياسية فاعلة، لها القيادة والريادة، اكتسحت كل ما عداها من القوى القومية واليسارية والعلمانية؛

وأقبل الناس وبخاصة الشباب، على الانخراط في سلك الحركة الإسلامية المعاصرة، التي تربي الشباب على منهج الإسلام الصحيح، الذي يصوغ الرجال، ويصنع الأبطال؛ لأنها دعوة الحق والقوة والحرية المستقاة من الكتاب والسُّنَّة وما أجمع عليه سلف الأمة.

وكان لعلماء العراق وشبـاب الحركة الإسلامـية وفي مقدمتهم أمجد الزهاوي، ومحمد الصواف الدور الريادي والقيادي في توجيه الشباب نحو نصرة الإسلام والالتفاف حول رايته، والتمسك بعقيدتـه، والالتزام بمنهجه.

ميلاده ونشأته

 

وُلد الشيخ أمجد الزهاوي عام (1300هـ 1883م) بمدينة بغداد، ونشأ في أُسرة علمية ثرية، ذات مكانة اجتماعية مرموقة، وهو ابن محمد بن سعيد الزهاوي، درس على والده وبعض المشايخ، والتحق بالمدارس الرشدية والابتدائية والإعدادية في بغداد؛

ثم سافر إلى استانبول حيث درس ست سنوات في «كلية القضاء»، وتخرج فيها، فكان ترتيبه الأول على الطلاب، وقد منحه السلطان عبد الحميد الثاني وسام الشرف تقديرًا لنبوغه وتفوقه، ثم عاد إلى بغداد، حيث تقلد مناصب القضاء، إلى أن انتهى إلى رئاسة مجلس التمييز الشرعي؛

وبعدها تقاعد عن العمل واشتغل في المحاماة فترة من الزمن، ثم تفرغ للعمل الدعوي عام 1946م، وكان من مؤسسي أهم الجمعيات الإسلامية في العراق، وهي: «الآداب الإسلامية، وإنقاذ فلسطين، والتربية الإسلامية، والأخوة الإسلامية، ورابطة العلماء، واللجنة العليا لنصرة الجزائر» وكان رئيسًا لهذه الجمعيات جميعها في آن واحد.

الإنقلاب العسكري

 

وحين وقع الانقلاب العسكري في العراق، بقيادة عبد الكريم قاسم، يوم 14/7/1958م، وناصره الشيوعيون والملاحدة والعلمانيون.. عمّت الفوضى البلاد، وانتشر السلب والنهب والقتل والسحل، وعاش الناس في القطر العراقي كله عيشة الرعب والخوف، ولم تبق كرامة لعزيز، ولا قيمة لرجل الدين، وهان العلماء والقضاة؛

وحرّضت السلطة الأوباش على كرام الناس، وتعرَّض كثير من العلماء إلى الإهانة والاعتقال، ومُلئت السجون بدعاة الحق والخير، أمثال الشيخ محمد الصواف، والشيخ عبد العزيز البدري، والشيخ محمد الخالصي، وغيرهم كثيرون من الشباب والشيوخ والنساء والرجال، وانتشرت كتب الكفر والإلحاد والدعوة إلى الفجور.

وحاول الشيخ أمجد الزهاوي نُصح عبد الكريم قاسم طاغية العراق، وأسمعه كلامًا قويًا في مقابلتين معه بديوان الرئاسة، ولكنه كان يراوغ، وأصمّ أذنيه عن الحق، وظـل سـادرًا في غيِّه.

عندها قرر الشيخ أمجد الزهاوي الارتحال إلى المدينة المنورة، وسافر معه ابنه الشيخ محمد سعيد وزوجته وابنته نهال، وبقي في المدينة المنورة نحو سنة ونصف السنة، وقد لحق به الشيخ محمد الصواف بعد أن خرج من العراق عن طريق سوريا، حيث استقر بالمملكة العربية السعودية إلى وفاته، بينما عاد الشيخ أمجد الزهاوي إلى العراق.

ولقد أكرمني الله (سبحانه وتعالى) برؤية الشيخ أمجد الزهاوي قُبيل وفاته في الكويت مع إخواني عبد الله المطوع وعبد الواحد أمـان وعـمر الدايل وغيرهم، ثم غادرنا إلى العراق، ولم ألتق به بعدها لوفاته ببغداد عام 1387هـ 1967م.

آخر أعماله

 

وكان آخر أعماله رحمه الله أنه تلقى دعوة لحضور المؤتمر الثالث لوزراء التربية العرب، وكان المرض قد اشتدت وطأته عليه، فلم يستطع الحضور، واكتفى بإرسال مذكرة أملاها على ابنته نهال، يوضح فيها وجهة نظره في إصلاح وزارات التربية، وقُدّمت الورقة للمؤتمر، وقد قامت «جمعية الإصلاح الاجتماعي في الكويت» مشكورة، بطباعة هذه المذكرة ضمن المذكرات الأخرى، ووزعتها على نطاق واسع.

وبعد المؤتمر ببضعة أيام غادر الدنيا الفانية إلى الدار الباقية، يوم الجمعة 14 شعبان 1387هـ، تاركًا وراءه أعظم الأثر، وأطيب الذكر، وأعطر السير، لرجال الدعوة وعلماء الأمة الذين يؤثرون ما عند الله على ما عند الناس، فكان الزهاوي بحق، كما وصفه الإمام الشهيد حسن البنا حيث قال: «يـا بني إذا أردت أن تنـظر إلى وجه رجل من صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فانظـر إلى وجـه الشيخ أمجد الزهاوي».

قالوا عنه

 

قال عنه الشيخ محمد محمود الصواف:

«كان الزهاوي أزهد الناس في الثناء، وأبعدهم عن الرياء، فهو لله وحده، لذا ما كان يرجو سواه، ولا يبغي إلا رضاه سبحانه وتعالى، ويبتعد عن السعي من أجل السمعة، ويكره الشهرة».

وقال عنه الشيخ علي الطنطاوي:

«إذا وقف الشيخ أمجد للصلاة نقّى قلبه ثم صرخ: الله أكبر، فتحس وكأن قنبلة قُذفت في وجه الشيطان».

وقال عنه الشيخ عبد العزيز البدري:

«إن الشيخ أمجد إسلام يمشي على الأرض، فكل من يراه يذكر الله تعالى، لما منّ عليه الله من فضل وجلال وهيبة ووقار».

ويروي الأستاذ سليمان القابلي:

أن طلاب الشيخ لاحظوا أن شيخهم كلما رأى علبة سجائر تركي يلتقطها من الأرض، فسأله أحدهم فأجاب الشيخ: ألم تروا ما كُتب على العلبة؟ أليس هذا لفظ الجلالة؟ وأشار إلى اسم صاحب الشركة (عبدالله لطفي) المدون على كل علبة سجائر، فلما علم صاحب الشركة بذلك بدل اسمه من «عبدالله» إلى «عبود».

ويقول د. نعمان عبد الرزاق السامرائي:

«لقد كان الشيخ أمجد الزهاوي من ذلك النفر الرباني الذي عرف الله، وحاول أن يرضيه بصدق ويلتزم طريقه، سواء رضي من حوله أم غضبوا».

وقد عاش في القرن الرابع عشر للهجرة، ومن عرفه عن قرب كان يشعر كأنه هبط من القرن الثاني للهجرة، ويروي د. أبو اليقظان الجبوري عن شدة حياء الشيخ أمجد:، فيقول بأن رجلاً شكا من ألم في ركبته، ولما كشف عنها أمام الشيخ، أدار الشيخ وجهه عن حياء.

ويروي د. طه جابر العلواني:

أنه حضر مجلسًا ضم الشيخين أمجد الزهاوي وقاسم القيسي وكان مفتي العراق في حينه فدار حوار بينهما حول مسألة لغوية.

يقـول الشيخ القيسي للشيخ الزهاوي:

«يـا شيخ أمـجد، كـنت تركـت لك الفقـه والأصـول، وسلمت إليك القيادة والريـادة فيهمـا، ولم أكن أظن أنه يمكنك أن تناقشني في عـلوم العربية والبلاغـة، ولكنني الآن مضطر لأن أسلم لك بهذه أيضًا، فأنت يا أمجـد أفندي شيخي وشيخ العراقيين جميعـًا في المنقول والمعقول وفي سائر العلوم، ولن أجادلك بعد اليوم ولكن أستفتيك».

كما روى عنه أحد القريبين منه:

أنه عندما كان يشيّد داره في الأعظمية سمع أحد العمال يقول كلمة كفر فناداه وأعطاه أجره كاملاً وصرفه، ثم أمر بهدم ما بناه هذا العامل وجاء بغيره.

ويروي الأستاذ كاظم أحمد المشايخي في كتابه القيم (الإمام أمجد بن محمد سعيد الزهاوي فقيه العراقين والعالم الإسلامي) والذي أخذنا عنه كثيرًا من النقول السابقة يقول المشايخي:

«كانت ليهودي قطعة أرض مجاورة لأرض الوصي على عرش العراق الأمير عبد الإله، فاغتصبها الوصي منه، فاشتكى اليهودي على الوصي وصدر الحكم في مصلحة الوصي، فميّز اليهودي الدعوى وعرضت على الشيخ أمجد الزهاوي باعتباره رئيس مجلس التمييز يوم ذاك، وتوسط بعض معارف الشيخ لجعله يصادق على قرار الحكم إرضاء للوصي فردَّهم قائلاً: لا يهمني رضاء الوصي، ولكن يهمني رضاء رب الوصي، ودرس القضية جيدًا ووجد الحق في جانب اليهودي، فنقض قرار الحكم وأعاد الأرض لليهودي» انتهى.

ويقول الأستاذ الشيخ إبراهيم منير المدرس: إن الشيخ أمجد الزهاوي وجهت إليه أسئلة، فكان جوابه عنها بتوقيعه:

س1: ما رأي سماحتكم في جماعة الإخوان المسلمين؟

ج1: هم جماعة من خيرة خلق الله، يعلمون الناس الخير، ويدافعون عن الشريعة الغراء، ويسعون في تكثير أمثالهم.

س2: ما رأي سماحتكم فيمن يعمل مع جماعة الإخوان؟

ج2: إن العامل مع جماعة الإخوان المسلمين مأجور، ومن يدخل معهم، ويسعى في تكثيرهم له عند الله منزلة عظيمة.

س3: ما الحكم الشرعي فيمن يحارب دعوة الإخوان المسلمين؟

ج3: هو آثم وصاد عن سبيل الله.

موقفه من فلسطين

ذلك هو الشيخ الزهاوي وتلك نبذة عن سيرته وهذه بعض أقوال من عايشوه عن قرب وقالوا عنه بصدق، أما موقفه من القضية الفلسطينية، فقد كانت همّه الأول والأخير، وشغله الشاغل طيلة حياته؛ لأنها في نظره قضية الإسلام الكبرى في هذا العصر؛

وقد حضر جميع المؤتمرات التي عقدت من أجلها في القاهرة ودمشق والقدس، وسافر من أجلها إلى معظم البلاد العربية والإسلامية، ولازم أول فوج من مجاهدي العراق إلى فلسطين، وزار الخطوط الأمامية بنفسه، وعاش المأساة على أرض الواقع، وكان رئيس المؤتمر الإسلامي لنصرة فلسطين.

احتفال النصف مليون

وكانت معرفته للأستاذ الإمام حسن البنا، قد توثقت بزيارته لمصر عام 1948م، وحضوره الاحتفال الكبير بالمركز العام للإخوان المسلمين بالقاهرة بمناسبة مرور عشرين عامًا على تأسيس الجماعة؛

حضره ما لا يقل عن نصف مليون شخص، وكان يرافقه في رحلته الشيخ فؤاد الآلوسي والشيخ إسماعيل الأيوبي، كما زار الأستاذ البنا في بيته المتواضع، ودام اللقاء أكثر من ساعتين ونصف الساعة، وخرج معجبًا بحركة الإخوان المسلمين وتنظيماتها وبرامجها ومناهجها وإخلاص رجالها وصدقهم ونشاطهم وتعاهد مع الإمام البنا على أن يعملا معًا لإعادة بناء الدولة الإسلامية؛

وفي زيارته هذه لمصر تعرّف على الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، ودعاه لزيارة العراق وساعده في حملة التبرعات للجزائر وطاف معه البلاد العربية لنصرة الجزائر، وحين زار الزعيم المغربي علال الفاسي بغداد سنة 1953م التقى الشيخ الزهاوي والشيخ محمد محمودالصواف، كما أن الشيخ الزهاوي زار المجاهد الكبير عبد الكريم الخطابي بطل الريف المغربي بمصر، أما صلته بالحاج محمد أمين الحسيني مفتي فلسطين فهي وثيقة متينة لاهتمامهما معًا بقضية الإسلام الكبرى في هذا العصر: قضية فلسطين.

يقول تلميذه د. عبد الكريم زيدان:

«فإن شأني مع شيخ الإسلام الزهاوي (رحمه الله) شيء آخر لا يخضع لما تعودت عليه في حياتي من زهد في الرثاء واكتفاء بالعبرة والدعاء لأني ما تأثرت بشخص رأيته بعيني بمثل ما تأثرت بأستاذي الزهاوي (رحمه الله تعالى)، وما رأت عيني مثله على كثرة من رأيت وعرفت وخالطت.. لقد رأيت فيه ما كنت أفتش عنه من زمن بعيد وأريد الوصول إليه لمسًا باليد ورؤية بالعين وسلوكًا في الخارج.. حتى عرفت الشيخ فرأيت فيه ما أريد: إخلاصًا نقيًا ومخافة من الله واهتمامًا بأمر المسلمين..

أما إخلاصه، فكان صافيًا خالصًا لا تشوبه أكدار التلفت إلى الحياة والسلطان والمنصب والثناء والسمعة والظهور.. استوى عنده عمل السر والعلن؛ لأنه لم يعد عنده ما يخفيه في العلن ويبديه في السر.. يعمل الخير ولا يتحدث فيه، فحسبه أن يعرفه الله فمعرفة الله تغني عن معرفة الناس، فقد بلغ به الإخلاص إلى حد نسيان ما يعمله من صالح الأعمال نسيانًا لا بسبب ضعف الذاكرة، ولكن بسبب فعل الإخلاص..

لقد كان (رحمه الله) أمة في الإخلاص لا يعرف بسببه تكلفًا ولا تصنعًا ولا رياءً حتى ظهر الإخلاص في كلامه وحركاته وسكناته، وطفح على قسمات وجهه المشرق النّير المهيب الذي يبعث في الناظر إليه انشراحًا واطمئنانًا وهدوءًا.. ولا أكتم القارئ الكريم أني كنت إذا ما ألم بي ضيق في الصدر وانقباض في النفس؛ أسرعت إليه (رحمه الله) لأجلس بجانبه وأنظر إليه وأستمع منه فتهدأ نفسي ويزول عني الضيق والانقباض، وهكذا تفعل مجالسة الصالحين المخلصين.

أما مخافته لله فأمر محسوس ظهر في وقوفه عند حدود الله، وهو الفقيه بهذه الحدود وفي تعظيمه شعائر الله، وفي مبادرته إلى أداء حقوق الله وفي جهره بالحق عند السؤال والاستفتاء، وهكذا يكون شأن الخائف من الله، فمن خاف هرب، ولكن هرب الخائفين من الله يكون إلى الله...

وأما اهتمامه بأمور المسلمين، فقد كان منطلقه فيه الحديث الشريف:

«من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم» (رواه الطبراني) وقد كان (رحمه الله) يريد أن يكون من المسلمين لا من غيرهم ولهذا فقد أهمه أمر المسلمين وأرّق جفنه فما كان يسمع باجتماع إسلامي إلاّ وسارع إليه معللاً نفسه بحصول شيء يخدم الإسلام وينفع المسلمين؛

ومن أجل ذلك شدّ الرحال إلى أقطار الإسلام: إلى إندونيسيا وباكستان ومكة المكرمة وتركيا وغيرها من بلاد الإسلام، على الرغم من شيخوخته وجسمه النحيل ولكن هي الهمة، همة المسلم الصادق المخلص تحرك البدن الضعيف على الرغم من تجاوز صاحبه سن الثمانين ..

لقد كان من فرط اهتمامه بأمور المسلمين وحزنه على ما آل إليه أمرهم يبكي إذا ما تحدث عن عزهم السابق وقرنه بهوانهم الحاضر، نعم يبكي وتسيل دموعه على وجهه المشرق المنير حتى تبل لحيته الكريمة البيضاء.

لقد صحبتُ الشيخ (رحمه الله) في إقامته وفي سفره وفي صحته وفي سقمه وحضرت مجلسه العام والخاص فما رأيت منه ضعفًا أو فتورًا فيما تحدثت عنه من إخلاص وخوف من الله واهتمام بأمر المسلمين، رحم الله أستاذي الكريم الذي قلّ نظيره وعزّ مثيله، لقد أحببته حب التلميذ لأستاذه وحب الابن لأبيه وحب الأخ لأخيه في الله ..

لقد عاش (رحمه الله) فقيهًا عزيزًا لا يمارى ولا يداهن، يصدع بالحق وإن سكت غيره ولا يبيع شيئًا من دينه بالدنيا كلها، فالدنيا أتفه من أن تكون ثمنًا لشيء من معاني الإسلام؛ فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء وجمعنا معه في جنات النعيم والسلام عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حيًا» انتهى.

يقول الأستاذ الكبير النائب الأردني يوسف العظم:

«.. كان الشيخ أمجد الزهاوي على علاقة طيبة بالمغفور له الملك الشاب فيصل الثاني ملك العراق، علاقة الأب المحب والعالم النقي بالملك الذي كان يتوق لنصح أمثال هذا الشيخ ورعايته، وكان الملك الشاب يعامله معاملة الحفيد للجد أو التلميذ المؤدب للعالم الجليل.

وكان الشيخ الزهاوي إذا أراد الحديث مع الملك فيصل الثاني (رحمه الله) رفع السماعة وطلب مأمور قسم الهاتف ورجاه أن يصله بـ (فيصل أفندي) وهو يعتقد أن هذا اللقب يليق بالعظماء؛ لأنه اللقب الذي كان ينادى به السلطان عبد الحميد خليفة المسلمين، وكان الملك الشاب يستجيب للطلب.

قامت مظاهرة ذات يوم في بغداد، وشارك فيها الشباب من سائر الانتماءات السياسية فزج بعدد منهم في التوقيف للتحقيق معهم فما كان من الشيخ الزهاوي إلاّ أن اتصل بـ(فيصل أفندي)، كما كان يناديه ببراءة ليفرج عن شاب لقيت أمه الشيخ بباب المسجد ترجوه في ولدها الموقوف.

فسأل الملك الشاب بتواضع جم وأدب: أي شاب يريد شيخنا أن نفرج عنه؟ فكان جواب العالم الجليل: كلهم يا ولدي أولادنا.. الله يرضى عليك!!.. ويتم الإفراج عن الشباب جميعًا إسلاميين وقوميين وماركسيين إكرامًا من الملك الأصيل للعالم الجليل...» انتهى.

من أقواله

 

ومن كلمات الشيخ الزهاوي المأثورة:

«إن العالم الإسلامي يحترق، وعلى كل منا أن يصب ولو قليلاً من الماء ليطفئ ما يستطيع أن يطفئه دون أن ينتظر غيره». وقد توّجت منظمة حماس الجهادية دستورها بهذه الكلمة الرائعة.

رحم الله أستاذنا العلاّمة، وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير ما يجزي عباده الصالحين، ونفعنا الله بما ترك لنا من السيرة الحسنة والقدوة الصالحة، وجمعنا وإياه في جنات النعيم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.

علي أحمد باكثير ... مراحل حياته وتطوره الفكري والفني

بقلم: د. محمد أبو بكر حميد

محتويات

١ تمهيد

٢ ترجمة موجزة عن الشاعر على أحمد باكثير (1)

٣ حياته قبل هجرته إلى مصر

٤ مرحلة الانتشار 1938-1947م

٥ مرحلة الازدهار 1948 -1958م

٦ مسمار جحا

٧ سر شهرزاد

٨ أبو دلامة مضحك الخليفة

٩ مرحلة الحصار (1958- 1969م)

١٠ هاجس الرحيل.. ومفاجأة الموت

١١ وفاته

١٢ المراجع

١٣ ألبوم صور

تمهيد

 

 

 

الأستاذ علي أحمد باكثير

تفتحت عينا ابن جزيرة العرب البار الأستاذ علي أحمد باكثير رحمه الله (1328-1389هـ 1910 - 1969) على واقع مرير تعيشه أمته العربية والإسلامية التي مزقها الاستعمار شرَّ ممزق بعدة مؤامرات متتالية، كان آخرها القضاء على الخلافة الإسلامية العثمانية في المخطط الاستعماري الذي سمي باتفاقية (سايكس-بيكو) سنة 1916 الذي قضى بتقسيم البلاد العربية بين بريطانيا وفرنسا.

ثم سار المخطط حسبما اتفق عليه، فتورطت دولة الخلافة العثمانية المتهالكة آنذاك في دخول الحرب العالمية الثانية إلى جانب ألمانيا، وتورط الشريف حسين حاكم الحجاز آنذاك في تصديق وعود الإنجليز بالاستقلال بحكم البلاد العربية وانفصالها عن دولة الخلافة.

كان الشريف آنذاك يطمع في الخلافة لنفسه، فأعلن ما سمي بالثورة العربية الكبرى، فتخلص العرب بذلك مما كان بعضهم يسميه الاستعمار التركي ليقعوا في استعمار الإنجليز والفرنسيين، ولم ينالوا الاستقلال الموعود فأصبحوا كالذي يستجير من الرمضاء بالنار.

وكان وعد بلفور" الشهير قد صدر سراً سنة 1917م ثم عرف أمره، وبدا الأمر جلياً، وهو الوعد بوطن قومي لليهود في فلسطين، وأن ذلك لن يتحقق إلا بتنفيذ اتفاقية (سايكس- بيكو) واحتلال البلاد العربية كلها، وهو الحلم الذي تحقق للاستعمار بنهاية الحرب العالمية الأولى، وأعقبه تحقيق الحلم الثاني للصهيونية، وهو قيام دولة إسرائيل في 15 مايو 1948 بنهاية الحرب العالمية الثانية.

ترجمة موجزة عن الشاعر على أحمد باكثير (1)

 

فتح علي أحمد باكثير عينيه على نور الحياة في بلد بعيد عن أرض العروبة، ولكنه قريب كل القرب من الإسلام، حيث ولد في إندونيسيا في سورابايا من أبوين عربيين سنة 1910 وأرسل إلى حضرموت وهو صغير لينشأ في وطن آبائه على عادة اليمنيين في المهاجر ليتلقى ثقافته العربية في مدينة (سيئون) بحضرموت والتي تعد الآن من أكبر محافظات الجمهورية اليمنية.. في بلد الآباء واِلأجداد حفظ الكثير من القرآن الكريم، وتلقى أصول العربية على بعض الشيوخ وقرأ الكثير من الشعر، وتأثر به.

خاض باكثير تجربة الزواج في (حضرموت) مرتين، وكان زواجه الأول مبكرا جدا وقصير الأجل، قليل الأثر، ولهذا لم يتحدث عنه باكثير على الإطلاق، أما زواجه الثاني فهو زواجه الحقيقي حيث عده زواجه الأول، وقد تم عن وعي وحب لفتاة اسمها (نور) لكن هذا النور انطفأ بالموت السريع لحياة زوجية قصيرة، وأسدل ستاره سنة 1932م.

وكانت ثمرة هذا الزواج طفلة تدعى (خديجة) ماتت أيضا غرقا في بركة ماء بعد وصول والدها إلى مصر بشهور سنة 1934م، وقد جاوزت الثالثة من عمرها.

غادر باكثير (حضرموت) بعد وفاة زوجه، وتوجه صوب (عدن) ليبعد عن نفسه الإحساس بالغربة، وليعالج جراحات قلبه إلا أنه لم يستطع أن يعالج ما هو فيه من وحشة وانكسار في القلب، وبعد أن طوف في الحبشة والصومال أحس (بأن أحزانه لن تهدأ وأن جروحه لن تشفى إلا حين يغرق نفسه إغراقا في هذا الجو الروحي الذي يزدحم في مكة، ويتآلف في المدينة، ويزدهر في الطائف، ويهوم في كل الجزيرة العربية.

وفي عام 1934م رحل باكثير إلى مصر والتحق بكلية الآداب قسم اللغة الإنكليزية في جامعة فؤاد سابقا ونال الليسانس فيها سنة 1939 ثم دخل معهد التربية للمعلمين وتخرج فيه سنة 1940م وفي السنة نفسها عين مدرسا في مدرسة الرشاد بالمنصورة، واستمر يشتغل بالتدريس حوالي أربعة عشر عاما قضى منها سبعة بالمنصورة وسبعة بالقاهرة ثم نقل إلى مصلحة الفنون قسم الرقابة على المصنفات الفنية في وزارة الثقافة، وكان عضوا في لجنة الشعر بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب في مصر.

وحينما صدر قانون التفرغ كان باكثير أول أديب نال منحة التفرغ لكتابة ملحمة مسرحية عن عمر بن الخطاب (رضى الله عنه)، وكان قبل ذلك قد تزوج من سيدة مصرية.

وفي سنة 1954 سافر إلى فرنسا في بعثة دراسية، وكان عضوا في الوفد المصري الذي زار رومانيا والاتحاد السوفيتي سنة 1956 بدعوة من اتحاد كتاب البلدين المذكورين، وفي سنة 1958 مثل مصر أيضا في مؤتمر كتاب آسيا وأفريقيا الأول المنعقد في طاشقند.

وبعد أن قضى باكثير ردحا من الزمن موظفا في وزارة الثقافة أصبح مدير المكتب الفني للرقابة على المصنفات الفنية، واستمر في عمله هذا حتى فقدته العروبة في العاشر من تشرين الثاني سنة 1969، بعد رحلة ثرية سار فيها على الشوك ليثمر لنا الورود التي لا تفنى مع الدهور.

رحم الله باكثير فقد أعطى ولم يأخذ وظلم ولم يظلم.. مع أنه عاش أعواما نحسات لم يجب فيها أحد دعاءه ولم يكشف إنسان السوء الواقع به.

حياته قبل هجرته إلى مصر

 

عاد علي أحمد باكثير إلى وطنه الأصلي صبياً صغيراً فعاش في غربة أخرى بعيداً عن أمه وأبيه، ثم تحولت هذه الغربة إلى اغتراب في الوطن حين شب عن الطوق وتفتح عقله على أفكار رياح الإصلاح التي هبت على العالم الإسلامي بقيادة المصلحين الإسلاميين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده من خلال قراءاته واتصاله بتلميذيهما محمد رشيد رضا ومحب الدين الخطيب، فلما حاول فتح نافذة لنسمات من هذه الرياح في وطنه، حاربه من أسماهم بالجامدين، ووضعوا في طريقه الأشواك.

وهكذا وجد أديبنا وشاعرنا نفسه منذ باكر صباه في حضرموت يطمح لخدمة أمته من خلال فكره وقلمه، ووجد أن حضرموت بل اليمن كلها لا تتسع لطموحاته، ولن تمكنه من إيصال صوته إلى كل مكان في العالم العربي والإسلامي.

وكأن القدر كان يهيئ له ظروف الرحيل، فنراه يفجع بموت زوجه التي كان يحبها حباً عظيماً فيكون ذلك سبباً في تعجيل هجرته من حضرموت، والضرب في أرض الله الواسعة، فحمل عصا التسيار وغادر حضرموت إلى عدن في 15/2/1351هـ (1932م) ولسان حاله يقول:

إذا نبا بكريم موطن، فله

وراءه في بسيط الأرض ميدان

فأقام في عدن عاماً، وزار الصومال والحبشة فأنشد وخطب وكتب والتقى بشخصيات إصلاحية عديدة، ثم شدته أشواقه الروحية إلى الحرمين الشريفين فسافر من عدن بحراً إلى جدة بادئاً رحلته للمملكة العربية السعودية التي استمرت عاماً، وقد نشرت جريدة "صوت الحجاز" خبر وصوله في عدد الاثنين 15/12/1351هـ / /1932م في الصفحة الأولى بعنوان:

"وصول شاعر حضرموت الأكبر" فحج بيت الله، ثم قصد عاهل الجزيرة الملك عبد العزيز الذي استبشر بملكه خيراً، ووجد في جمعه شتات جزيرة العرب تحقيقاً لوحدتها، وفي دعوته السلفية النقية تطهيراً لعقيدة التوحيد، وأقام صلات مع ولديه سعود وفيصل الملكين فيما بعد.

وغادر الحجاز إلى مصر بحراً عبر ميناء ينبع على الباخرة الطائف في 27/10/1352هـ (1934م) بعد عام حافل أمضاه بين أدباء المملكة العربية السعودية وترك في هذه المرحلة تراثاً أدبياً قيماً أهمه ديوان شعري بعنوان: "صبا نجد وأنفاس الحجاز" ومحاضرات ومذكرات ومراسلات مع الأدباء.

وقد أكرمت المملكة حكومةً وأدباء وفادته، وعرفت له قدره ومكانته، وهو ما شهدت به صحف ذلك العهد، وشهد به النتاج الغزير الذي أنتجه خلال الفترة التي أمضاها هناك.

واستقر باكثير في القاهرة محققاً حلمه الذي تمناه بعد أن ضاقت به الحال في حضرموت، وعبر عنه في إحدى قصائده قائلاً:

سـأرحـل مـن بـلاد ضقت فيها

فـاجـتـاز البحار لأرض (جاوا)

وأعبر (مصر) حيث العلم حيث الـ

وحـيـث الـشـعـر خـفاق لواه

تـلازمـنـي بـهـا أبـداً شعوب

إلـى حـيـث الـمـقام بها يطيب

ـحـضـارة حـيث يحترم الأديب

وحـيـث الـضاد مرعاها خصيب

ولم يستطع الذهاب إلى إندونيسيا (جاوا) "حيث المقام بها يطيب" لوجود والدته بها، ولم تقدر له العودة لرؤيتها فظل بعيداً عنها منذ فارقها صبياً صغيراً حتى وفاتها سنة 1953م.

وهكذا قدر لعلي أحمد باكثير الذي ولد في إندونيسيا وأرسل إلى وطنه حضرموت صغيراً أن يعيش حياته بين مراحل الانكسار في تاريخ الأمة العربية والإسلامية.. وهو رغم حداثة سنه، إذ كان في السادسة عشرة من العمر في حضرموت سنة 1926م إلا أنه أحس بمعنى الإلغاء للخلافة الإسلامية في تركيا في ذلك العام، حيث وجدت بين أوراق صباه ما يؤكد أن هذا الحدث قد سبب له جرحاً عميق الغور في نفسه.

ولا غرو أن يتأثر أديبنا وشاعرنا بهذا الحدث فقد تشكل وعيه الفكري ووجدانه الأدبي في سن مبكرة، وبدأ بنظم الشعر وهو في الثالثة عشرة من عمره.

وما بين تاريخ سقوط الخلافة في براثن الغرب سنة 1916 وسقوط فلسطين سنة 1948م في أيدي اليهود، كان معظم نتاجه الفكري والأدبي يصب في بحر الدعوة لاجتماع شمل الأمة من جديد، والتحذير من مكائد الدرب عليها، والتبشير بظهور قيادة ربانية تتجسد فيها طموحات العرب والمسلمين أجمعين، ثم كان الجرح الأخير قبيل وفاته متمثلاً في هزيمة 1967م المنكرة.

وصل علي أحمد باكثير إلى مقصده ومحطته النهائية مصر سنة 1934م ليبدأ من هناك في خدمة أمته على أوسع نطاق.. ولم يصل إلى مصر مغموراً، بل وصل إليها شاعراً معروفاً لدى أعلام الأدب والفكر فيها لما سبق أن نشر له من قصائد في أهم مجلات وصحف العصر، وما إن هبط القاهرة حتى تلقت تلك الصحف والمجلات قصائده بالترحاب، وأفردت لها الأماكن البارزة على صفحاتها الأولى، وقد بلغت أبيات أول قصيدة نشرت له بعد وصوله مصر أكثر من سبعين بيتاً، نشرت في عمود مستطيل بالصفحة الأولى من جريدة البلاغ (العدد (3457)، الأحد 15/1/1353هـ، الموافق 29/4/1934م).

وقال في مطلعها:

يـا مصر شاق البلبل التغريد

وافاك من أقصى الجزيرة شاعر

كـم صب أدمعه عليك iiصبابةً وشوامخ (الأحقاف) تدري ما iiبه

والأيك أنت وحوضك المورود

أضـنـاه دهر في هواك مديد

والـلـيـل يعلم والنجوم شهود

فـتـغـار مـنك وكلها تهديد

ثم يتحدث عن هيامه بمصر وعلماء مصر ومآثر مصر الإسلامية ويرد على دعاة الفرعونية:

وتبوأ الإسلام مصر فأصبحت

رغلاً به الغرب العداة أسود

فعلام يكفر بالعروبة معشرٌ

في مصر كل هرائهم مردود

ثم يدافع عن وجوده بمصر قائلاً :

إن تضح داري (حضرموت) فإنني

مَـنْ أصـلـهم أصلي ومَنْ دمهم

والـذائـدون عـن الرشاد ودينه

مـن كـل مـطـرد البيان بكفه

يـبـدو سـنا الإسلام من جنباته

فـي (مـصر) بين الأقربين سعيد

دمـي آبـاء بـيـنـنـا وجدود

قـبـس (لمكروب) الشكوك مبيد

إذ عـز مـن عـن حوزتيه يذود

ويـرن فـي جـنـبـاته التوحيد

وقد لفتت هذه القصيدة البديعة القوية بفكرها وفنها وجرأة صاحبها الأنظار إلى الشاب الحضرمي اليماني القادم إلى مصر.

وكان من المتوقع أن يتألق باكثير في ميدان الشعر، وينافس فيه عمالقة عصره، وهي الغاية التي كان يطمح إلى تحقيقها منذ خرج من حضرموت، غير أن التحاقه بالجامعة المصرية وانضمامه لقسم اللغة الإنجليزية، وما نتج عن ذلك من تأثره بشكسبير وإعجابه بفن المسرحية، قد جعله ينصرف عن الشعر، ويتجه للتركيز على الكتابة الدرامية التي بدأها بتأليف المسرحية الشعرية ثم تحول إلى المسرحية النثرية.

ولما كان علي أحمد باكثير منذ باكر صباه أديباً صاحب رسالة، كانت رسالته في الحياة دائماً وراء مراحل تطوره الفني. فقد وصل مصر وأعلام الشعر قد بدأت تطوى، وبخاصة بعد رحيل أحمد شوقي وحافظ إبراهيم،(توفي حافظ في يوليو سنة 1932م، ثم توفي شوقي في أكتوبر في السنة نفسها أثناء وجود باكثير في عدن، وصدم بموتهما صدمة كبيرة، فقد كان يعدهما قبل أن يتعرف على شكسبير مثله الأعلى في الشعر ورثاهما بقصيدتين طويلتين في ديوانه المخطوط أريج عدن).

فقد حول شكسبير مفاهيمه واكتشف أن الشعر لم يعد ذلك الفن الجماهيري الذي يتوقع أن يؤدي من خلاله رسالته، بل وجد فنوناً جديدة لم يكن يعرفها من قبل، ويأتي في مقدمتها فن المسرح الذي أصبح فن أغلب الجماهير وأكثر الفنون جميعاً تأثيراً في الناس، فاتجه للمسرح، وكتب معظم نتاجه فيه كما هو معروف.

مرحلة الانتشار 1938-1947م

علي أحمد باكثير شابا

كان من الممكن لباكثير أن يثير حول نفسه ضجة بإنتاجه الذي صحبه معه إلى مصر من حضرموت وعدن والحجاز، وكان من الممكن أن يتحدث عن نفسه لسنوات، فقد جاء مصر وحياته مليئة بالتجارب والأحداث على حداثة سنه فقد خاض معارك فكرية في حضرموت، وشهد خلافات قومه في إندونيسيا، واتصل في شرق أفريقيا وعدن والحجاز بشخصيات كان لها دورها في صنع التاريخ الأدبي والسياسي للمنطقة فيما بعد؛

بل كان من المتيسر له أن يقيم الدنيا ويقعدها بقصة حبه ومأساة زواجه بموت زوجه الحضرمية الشابة، فيكتب فيها الروايات والمسرحيات، ويقيم حول نفسه هالة. ولكنه لم يفعل شيئاً من هذا كله، فلم يكتب عن نفسه ولا عن مأساة زوجه إلا في مسرحيته الأولى "همام أو في بلاد الأحقاف"، التي كتبها في الطائف أثناء وجوده بالمملكة العربية السعودية.

كان بإمكان باكثير في مصر أن يقيم حول شخصه ضجةً كبيرة فهو الحضرمي اليماني الذي جاء من أقصى جزيرة العرب ليلتحق بقسم اللغة الإنجليزية، ويجد نفسه نتيجة لتحدٍ بينه وبين أستاذه الإنجليزي الذي حط من قدر اللغات الأخرى وبينها اللغة العربية

وقال:

إن الإنجليزية وحدها التي تتفرد بالشعر المرسل،. فغضب الطالب باكثير غضباً إيجابياً كان ثمرته ترجمة لمسرحية "روميو وجولييت" إلى الشعر المرسل لأول مرة في اللغة العربية. وكان ذلك سنة 1936م وهو بعد في السنة الثانية.

وتطورت هذه التجربة بتأليفه مسرحية "أخناتون ونفرتيتي" سنة 1938م قبل تخرجه بقليل والتي التزم فيها بحراً واحداً هو بحر المتدارك، وبهذا العمل كان باكثير أول من استخدم الشكل الشعري التفعيلي متقدماً بسنوات عن كل الذين ادعوا أنهم سبقوه في هذا المجال.

وكان بإمكان باكثير أن يثير ضجة كبرى بهذه المسرحية التي ضرب بها "نزيل القاهرة" وهو الاسم المستعار الذي كان يوقع به قصائده في ذلك الوقت عصفورين بحجر إذ حقق بهذا العمل ريادتين.. ريادة في الشعر، وريادة في المسرح الشعري. ولم يرحب بهذه التجربة في حينها إلا الأستاذ إبراهيم المازني الذي كتب مقدمة المسرحية مشيراً إلى أن باكثير حل مشكلة الشعر في المسرح.

ووضع باكثير تجربته على الناس ومضى يؤلف وينشر غيرها تاركاً القوم من بعده يختصمون ويتجادلون لعدة سنوات بحثاً عن رائد الشعر الحر الحقيقي.

لم يقل باكثير هأنذا، ولم يدخل في معمعة القيل والقال، فنسبتها نازك الملائكة لنفسها، ونسبها لويس عوض لنفسه، وأعطاها بعض النقاد بدر شاكر السياب رغم اعتراف السياب لباكثير بالريادة في مقال له في مجلة الآداب اللبنانية العدد السادس، يونيو 1954م ص69 وهو القول الفصل.

ومع ذلك فقد أنكروا عليه هذه الريادة في حياته فصمت وإن كان يطوي تحت صمته بركاناً يغلي كما يصفه الأستاذ كمال النجمي حين يكتب:

"كان باكثير رحمه الله يضحك بسماحة يظن من لا يعرفه أنه لم يكن يبالي ما ينكرونه عليه من حقه وما يكتبونه عنه من نقد يدرجه في جملة الجامدين أو السلفيين.. ولكن باكثير الحساس كان يختزن في صدره كمده وحزنه لما يجد من نكران وجحود حتى قتله الحزن والكمد رحمه الله".

ويقول النجمي إنه سأل مرة مداعباً باكثير:

"أنت تدعو إلى تبجيل السلف الصالح، وأراك تعقهم كما يفعل غرماؤك التفعيليون الجدد.. فماذا وراء ذلك؟فأجاب باكثير: أنا أحاول زيادة تراث الخليل بن أحمد، ولو سطراً واحداً وهم يحاولون هدم الخليل.. فهم أهل العقوق ولست منهم". (مجلة الحوادث اللبنانية، عدد 1164 في 23/2/1979م)

وهكذا لم يعترف لباكثير بهذه الريادة إلا بعد وفاته، حيث كتبت العديد من الدراسات والأبحاث التي أعادت الحق لصاحبه ولكن على طريقتنا دائماً في تقدير العظماء بعد وفاتهم وبعد أن يكون المظلوم قد انتظر حتى آخر رمق في حياته كي يعيد إليه حقه. (1)

وقد تصدر الناقد المعروف د.عز الدين إسماعيل قضية إنصاف باكثير بعد وفاته حين كتب دراسة طويلة جادة عن مسرح باكثير الشعري حيث قال:

".. إن هذه التجربة تجربة باكثير في أخناتون ونفرتيتي في مجال الشعر المسرحي قد تسربت فيما بعد إلى ميدان شعر القصيدة تسربت إليه بكل أبعادها الشكلية والمعنوية. فحركة الشعر الجديدة التي بدأت منذ أواخر الأربعينيات في العراق والتي امتدت فيما بعد إلى سائر الأقطار العربية وما زالت حتى اليوم تنمو وتتطور لم تحدث في شكل القصيدة في البداية إلا ما أحدثه باكثير"!. (مجلة المسرح المصرية، العددان 70- 71 في 1970م)

اقتحم علي أحمد باكثير ميدان الحياة الأدبية في مصر بجرأة وثقة وجسارة وأصبح كما يقول محمود تيمور:

"إنه ذلك الشاب المثقف الذي وفد من حضرموت إلى مصر ليغتصب جوائز المسابقات الأدبية اغتصاباً، لأنه لم يكن يترك مسابقة إلا ويدخلها فتفوز مسرحياته بالجائزة" (المرجع السابق ص22).

ويروي صاحب صحيفة الشورى المجاهد الفلسطيني الأستاذ محمد علي الطاهر في سياق حديثه عن ذكرياته مع باكثير هذه الواقعة فيقول:

"وقد بلغ من نبوغه المثالي أن وزارة الشؤون الاجتماعية طلبت سنة 1947م ست روايات في مواضيع معينة وأقامت مسابقة مصحوبة بمكافأة باهظة فتلقت الوزارة خمسمائة رواية. ولما فحصت اللجنة المختصة ذلك الجبل من الروايات اختارت ستاً، ولما ظهرت غلافات الأسماء ظهر أن الأستاذ علي أحمد باكثير قد فاز بروايتين من الروايات الست، وهو فوز باهر لا مثيل له، فداعبته إحدى الصحف طالبة من الحكومة منع الأستاذ باكثير من دخول المسابقات" (كتاب في ظلام السجن، مكتبة الخانجي القاهرة 1952م ص75).

وقد نالت أولى مسرحياته في مصر "أخناتون ونفرتيتي" 1940م جائزة المباراة الأدبية للفرقة القومية كما نالت روايته الأولى "سلامة القس" جائزة السيدة قوت القلوب الدمرداشية مناصفة مع نجيب محفوظ عن رواية "رادوبيس" فحصل كل منهما على أربعين جنيهاً.

ومضى باكثير بعدها يكتب بعزيمةٍ لا تعرف الكلل تاركاً أعماله تفرض نفسها على الجوائز الأدبية.. فينال سنة 1945 جائزة وزارة المعارف، عن روايته الشهيرة "وا إسلاماه" التي قررت على المدارس فيما بعد في عدد من البلاد العربية.

وتحصل أكثر مسرحياته حظاً في العروض المسرحية "سر الحاكم بأمر الله" قبل عرضها على جائزة وزارة الشؤون الاجتماعية سنة 1943، وينال الجائزة نفسها في السنة التالية 1944م عن مسرحية "السلسلة والغفران".

وعن مسرحية "أبو دلامة مضحك الخليفة" يحصل على جائزة وزارة الشؤون الاجتماعية أيضاً سنة 1950م حتى قيل وقتها غبطة أو حسداً: إن جائزة وزارة الشؤون الاجتماعية أنشئت خصيصاً لباكثير!!

ففي سنة 1960 ينال جائزة المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية عن مسرحية "دار ابن لقمان" التي صور فيها جهاد مدينة المنصورة ضد غزو لويس التاسع الذي أسره رجال المقاومة الشعبية هناك.

وفي سنة 1961 اختيرت قصته "وا إسلاماه" للإنتاج السينمائي باللغتين العربية والإنجليزية أخرجها الإيطالي ماريتون وأنتجها رمسيس نجيب.

وفي سنة 1962م منحه الرئيس جمال عبد الناصر وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى، كما حصل على وسام عيد العلم ووسام الشعر في السنة نفسها.

وفي سنة 1964م حصل على أول منحة تفرغ ينالها أديب مصري كتب فيها مطولته الدرامية الإسلامية "ملحمة عمر" من تسعة عشر جزءاً فكانت خير ما ختم به حياته الأديبة العريضة.

وبعد وفاته بقليل سنة 1970م أنتج عمله الشعري أوبريت "شادية الإسلام" أخت الرسول بالرضاعة إلى فلم سينمائي.

في الوقت الذي كان فيه باكثير مشغولاً فيه في الأربعينيات من القرن الماضي بمقارعة الاستعمار والصهيونية في مسرحياته الكبيرة مثل "شيلوك الجديد" وعشرات المسرحيات القصيرة مثل "دم الشهداء"، "في سبيل إسرائيل"، "أكبر من العرش"، "ذكرى من الشرق الأقصى"،"دولة تتسول"، "في جحيم القنال"، "ليلة 15 مايو"، "في بلاد العم سام"،"الجولة الثانية"، "الهلال الخصيب"، "معجزة إسرائيل"، "دم الشهداء"..

وغيرها من المسرحيات التي نشرت في فترة ما بين 1945- 1948م، وهي فترة مخاض وولادة دولة إسرائيل.. في هذه الفترة التي كان فيها باكثير يخوض قمة كفاحه بمراس لايلين، كان الكثير من أدباء جيل باكثير لم تتضح لهم الرؤية بعد، ولم تتحدد لهم أهداف.

وقد صرح بهذا نجيب محفوظ في حديث للناقد فؤاد دوارة في كتاب "عشرة أدباء يتحدثون" قال فيه:

"عندما أعود بذاكرتي إلى هذه السنوات (الأربعينيات) أجد أن علي أحمد باكثير، وعبد الحميد السحار لم يداخلهما شك في قيمة إنتاجهما، ووجوب الاستمرار فيه، فقد كانا ممتلئين بالتفاؤل، أما (الآخرون) وأنا فكنا نعاني من أزمة نفسية غريبة جداً، طابعها التشاؤم الشديد"!! (في سلسلة كتاب الهلال، القاهرة 1966م، ص38)

وكان وراء هذا التفاؤل الريادة والسبق الذي حققه باكثير في بداية حياته الأدبية في مصر كما يشهد به محمود تيمور:

"إن باكثير قد رسم لنفسه هدفه الأدبي قبل أن يرتفع صوت عن الأهداف، وهدفه الأكبر فيما يكتب الدفاع عن قضايا أمته" (كتاب طلائع المسرح العربي دار مصر للطباعة القاهرة ص35).

وتوالت أعمال باكثير بعد هذه المسرحية، حين استقرت به الحياة في مصر. فقد كتب قبل الثورة المصرية سنة 1952م ما يقرب من عشرين مسرحية تعاملت معظمها مع القضايا السياسية، إما بالمعالجة الرمزية أو الواقعية للتاريخ والأسطورة أو الحياة السياسية المعاصرة ولم يكتب إلا مسرحيتين اجتماعيتين، وهما "الدكتور حازم" 1954م "والدنيا فوضى" 1951م.

ويظل العامل السياسي عنصراً أساسياً في معظم أعمال باكثير، التي تكون نواتها الأساسية فكرة إسلامية وتتخذ أطرها الخارجية من الأساطير أو التاريخ. ففي أولى مسرحياته في مصر وهي "اخناتون ونفرتيتي" 1940م يصور باكثير كيف ينهار بناء المحبة والعدل والسلام عندما لا تحميه القوة. وفي "الفرعون الموعود" 1944م يرمز باكثير للأوضاع السياسية الفاسدة في مصر.

وقد شغلت فلسطين باكثير كما لم تشغله أي قضية مثلها. وأحس بالخطر القادم قبل أن يتفجر فكتب سنة 1945م مسرحيته الشهيرة "شايلوك الجديد" التي استعار شكلها الخارجي من مسرحية شكسبير "تاجر البندقية" وصب فيها مضموناً جديداً.

ففي هذه المسرحية استقرأ باكثير الواقع في فلسطين، وصور تعاون الصهيونية والاستعمار الإنجليزي معاً في التمهيد لقيام الكيان اليهودي، وتوقع باكثير قيام دولة إسرائيل قبل قيامها الفعلي بثلاث سنوات.

وفي سنة 1946م أصدر باكثير مسرحية "عودة الفردوس" ليصور فيها كفاح إندونيسيا المسلمة وطن مولده ضد الاستعمار الهولندي، وحتى أسطورة أوديب الإغريقية التي كان من المتوقع أن تكون صياغتها الجديدة، أبعد ما تكون عن القضايا السياسية فقد ربطتها صياغة باكثير بقضية فلسطين وصدرت سنة 1949م بعنوان:"مأساة أوديب".

مرحلة الازدهار 1948 -1958م

 

بدأت مرحلة الازدهار في حياة باكثير الفنية بمسرحية "سر الحاكم بأمر الله" مثلتها الفرقة المصرية للتمثيل والموسيقى في أول أكتوبر 1948م، أخرجها زكي طليمات ومثلها فريق من أساتذة التمثيل العربي حيث قام يوسف وهبي بدور الحاكم ومعه حسين رياض، وأمينة رزق وسراج منير وفاخر فاخر وفردوس حسن.وقد أعيد تمثيلها مرة ثانية حين افتتحت بها فرقة "المسرح المصري الحديث" موسمها المسرحي لسنة 53-1954م.

ثم مثلت مرة ثالثة حين قدمها "المسرح القومي" في موسم 45 -1955م ثم أعاد عرضها للمرة الرابعة في موسم 55- 1956م. وفي 18 مارس سنة 1971م بعد وفاة باكثير بسنتين وبعد مضي ثلاثة وعشرين عاماً على عرضها الأول أعاد "المسرح القومي" عرضها من جديد فأخرجها فتوح نشاطي وهو في السبعين وقام بدور الحاكم فيها يوسف وهبي وهو في الخامسة والسبعين. ولقيت المسرحية نجاحاً كبيراً أعادت للمسرح القومي فتوته وأصالته التي فقدها في الستينيات، فانتعشت ذكرى باكثير بين الناس.

ولكن لم تخل مرحلة الازدهار من تنغيص، فقد تعرض لأنانية نجوم عصره التي حاولت إبعاد نجمه عن التألق في سماء الفن ربما دون قصد فكما اصطدم في أول عمل له على الشاشة بنجم السيدة أم كلثوم التي أدت دور البطولة والغناء في فيلم روايته الشهيرة "سلامة القس" سنة 1944م في مرحلة الانتشار، اصطدم في أول عمل له على المسرح، في بداية مرحلة الازدهار، بنجم يوسف وهبي وغيره من النجوم الذين قاموا بدور البطولة في مسرحيته الشهيرة "سر الحاكم بأمر الله". ففي بداية الإعلانات عن المسرحية أهملوا ذكر اسم المؤلف وجعلوا الإعلان يلمع بأسماء الممثلين فقط،

يقول الأستاذ عباس خضر:

"عندما مثلت له مسرحية "سر الحاكم بأمر الله" (كان) يوسف وهبي كعادته يطغى على كل شيء فيما يقدم. فالإعلانات في الصحف وعلى الجدران يملأها اسمه بحروف كبيرة وهناك في زاوية أو ركن من بعض الإعلانات يكتب اسم المؤلف "علي أحمد باكثير" بحروف صغيرة وكأنه لص سرق مسرحية أجنبية وينبغي التستر عليه. غاظني ذلك فقلت: إن يوسف وهبي يأكل لحم باكثير ويرمي عظامه مثل الغول في حكايات الشاطر حسن وست الحسن والجمال".(مجلة الثقافة المصرية، عدد 52، 1978م).

وهناك من يقول:

إنه كان في نيتهم أساساً حذف اسم المؤلف من الإعلانات ولولا أن تحذيراً وصلهم من بعض أصدقاء باكثير لما ذكروا اسمه، ويروي كاتب مجهول ذيل مقاله بكلمة "متأسف" بعنوان:" يسرقون الأستاذ باكثير ويتمتعون بالثناء الموجه إليه".

استهله كاتبه بقوله:

" لا يزال الأستاذ علي أحمد باكثير الشاعر المشهور والروائي العصري الفذ يتحف المسرح بين حين وآخر بروايات عربية مصرية حديثة مبتكرة ستخلد مع الدهر جيلاً بعد جيل بعد أن ملأ الدنيا العربية بقصائده القومية الإنسانية الممتعة". (نشر في جريدة المقطم عدد 29 أكتوبر 1951م)

ثم أخذ الكاتب يروي كيف أن باكثير لم يحضر العرض الأول لمسرحية "سر الحاكم بأمر الله" لأن القوم الذين طغت عليهم نرجسيتهم، نسوا أن يبعثوا للكاتب الكبير دعوة لحضور مسرحيته فلم يأبه لذلك وأمضى ليلته كعادته يخط سطور مسرحية جديدة وهو جالس في قهوة متاتيا بجوار دار الأوبرا يسمع ضجيج الجماهير لروايته العظيمة.

ورغم كل ذلك يبقى العمل في النهاية لمؤلفه وعرف الناس باكثير وأحبه جمهور المسرح من خلال عشرات العروض المسرحية التي قدمتها له الفرق التمثيلية في مصر على مدى أكثر من عشرين عاماً من حياته الأدبية.

مسمار جحا

وفي سنة 1951م، أثناء الغليان ضد الاستعمار والحكم الفاسد فجر باكثير على المسرح قنبلة جديدة متمثلة في مسرحيته الشهيرة "مسمار جحا" وقد جعل باكثير من قصة المسمار المعروفة رمزاً لأساليب الاستعمار في البقاء في البلاد العربية المستعمرة، الأمر الذي جعل جريدة المقطم تكتب قائلة:".. فباسم هذا المسمار بقي هذا الاحتلال البريطاني في مصر إلى اليوم وصار البريطانيون يدعون من الحقوق ما لا يملكون ويصرون على التمتع بامتيازات ليست متاحة حتى للمصريين أنفسهم" (عدد 5/11/ 1951م).

وعندما تقدم باكثير بهذه المسرحية للعرض أشفق عليه القائمون على المسرح وقتها، وكتب المخرج المسرحي الكبير زكي طليمات مقدمة لطبعتها الأولى يقول:

إنه طلب من باكثير تخفيف لغتها التي لن يرتاح لها الإنجليز وإنه اقترح عليه تسميتها "جحا وابنه" إبعاداً لشبهة الرمز ولكن باكثير أصر أن يتحمل تبعات عمله. وتبنى زكي طليمات موقف باكثير وأخرج المسرحية، وعرضت على مسرح الأوبرا الملكية في نوفمبر 1951م في حفل كبير كتبت خبره كل الصحف.

وقام بدور جحا فيها الممثل القدير سعيد أبو بكر، ومعه نعيمة وصفي وسميحة أيوب وعبد الرحيم الزرقاني وعدلي كاسب والممثل الناشئ عبد المنعم إبراهيم، الذي بدأ نجمه في البروز منذ ذلك العرض.

وأحدثت المسرحية صدى كبيراً في الأوساط الثقافية والسياسية وتناولتها كل الصحف وقرظها النقاد، وأقيمت حولها الندوات، واعتبرت حفلاتها تظاهرة وطنية ضد الاستعمار، في قلب وطن يحتله الاستعمار الأمر الذي جعل إحدى جرائد ذلك العهد تكتب في عرضها للمسرحية تقول:

"استطاع مؤلف مسرحية "مسمار جحا" وهو الأستاذ علي أحمد باكثير، أن ينهج نهجاً جديداً في التأليف المسرحي المصري.. استطاع أن يحقق المذهب الرمزي بأجمل وأكمل معانيه في هذه المسرحية.. التي افتتحت بها فرقة المسرح المصري الحديث موسمها وكانت ضربة معلم في حينها وفي وقتها" (جريدة الأساس، عدد 22/10/1951م).

ثم أخرج الأستاذ زكي طليمات هذه المسرحية مرة ثانية فعرضها المسرح القومي في موسم 55/1956م كما عرضها مرة ثالثة في موسم 56/1957م.

وقاد النجاح الجماهيري لهذه المسرحية إلى التفكير في تحويلها إلى فيلم سينمائي تم إخراجه وتمثيله وأعلنت عنه الصحف والمجلات مثل:

مجلة الكواكب في عدد 27 فبراير 1952م صفحة كاملة وتم تصويره باستديوهات مصر، وهو من إنتاج شركة الأفلام المتحدة، ووضع السناريو الخاص به أنور وجدي والإخراج إبراهيم عمارة.

وقد قام بتمثيل الأدوار الأولى في الفيلم: عباس فارس في دور (جحا)، وزكي رستم في دور (الحاكم)، وكمال الشناوي في دور (حماد) وإسماعيل يس في دور (ابن جحا) والسيدة ماري منيب في دور (زوجة جحا)، أما دور (بنت جحا) فقد أسند إلى المطربة شهرزاد.

سر شهرزاد

وبعد ثورة 23 يوليو 1952 استمر نجم باكثير في الصعود وبدا وكأنه سيصبح أكثر تألقاً في عصر بشر به، وكرس الكثير من أعماله في سبيله. ولكن هذا التألق كان إلى حين. كانت مسرحية "سر شهرزاد" أول مسرحية تعرض لباكثير بعد الثورة. وكان نجاحها يؤكد ثبات قدم الرجل في فنه.

ففي 15 نوفمبر 1953 افتتحت الفرقة المسرحية موسمها المسرحي لسنة 53/1954م على مسرح الأوبرا بمسرحية باكثير "سر شهرزاد"، وقد تأجل عرض هذه المسرحية التي كتبها باكثير في أواخر سنة 1951م ما بعد قيام الثورة المصرية لكن المسرحية نشرت في كتاب قبل الثورة بشهور، واستقبلت استقبالاً حسناً من النقاد خاصة وأنها عبرت عن تفاقم حالة الفساد في حكم شهريار وأظهرت الحاجة الملحة إلى الثورة والتغيير.

وقد أخرج المسرحية الأستاذ فتوح نشاطي وقام بدور شهريار الممثل القدير أحمد علام ومثلت أمينة رزق دور شهرزاد وقام ببقية الأدوار كل من:

فردوس حسن، نجمة إبراهيم، وفؤاد شفيق وبرلنتي عبد الحميد ومحمد الطوخي وسامية رشدي وغيرهم، ولقيت المسرحية نجاحاً جماهيرياً كبيراً إذ عرضت في ثماني عشرة حفلة. لقد برأ باكثير الزوجة من الخيانة في مسرحية "سر شهرزاد" فعدتها تقارير بعض النقاد إنصافاً للمرأة العربية المسلمة مما لصق بها من خرافات عبر العصور،

وكتبت مجلة الصباح تقول ضمن تقرير طويل:

"وتعد المسرحية في نفس الوقت إنصافاً للمرأة وانتصاراً عادلاً لها، إذ نقلت هذه الأسطورة الخالدة من إطارها القاتم الذي يفيض تشاؤماً بالمرأة واتهاماً لها بالخيانة والانسياق مع الشهوة، إلى إطار مشرق جميل، تتبوأ فيه المكانة الرفيعة التي تليق بها باعتبارها المصلح الأول للمجتمع الذي تعيش فيه. وهكذا تجمع المسرحية بين الواقعية في علاجها الفني وبين المثالية في هدفها النبيل" (عدد رقم 1407 في 17/11/1953م).

أبو دلامة مضحك الخليفة

وبعد ذلك عرضت لباكثير مسرحية فكاهية أخرى، لم تخل من الرموز، وهي "أبو دلامة مضحك الخليفة"، وهي أيضاً من المسرحيات التي كتبها قبل الثورة، فقد نشرت سنة 1951م وتم عرضها بعد الثورة على مسرح الأوبرا سنة 1954م، واستمر عرضها متتابعاً من 3 إلى 15 نوفمبر، وقد أخرجها فتوح نشاطي، وقام بدور أبي دلامة الممثل القدير حسين رياض، فلما مرض قام بالدور في بقية العروض الممثل فاخر فاخر الذي لا يقل جدارة عن السابق وقد شارك في تمثيلها غيرهما من ممثلي فرقة المسرح القومي عهد فرقة المسرح القومي بروائع باكثير وكانت هذه المسرحية آخر. وقد عرضت هذه المسرحية في الكويت في سنة 1963م وقام بإخراجها زكي طليمات.

وفي المواسم التالية أعيد عرض اثنتين من مسرحياته التي لقيت نجاحاً جماهيرياً كبيراً قبل الثورة. فقد أعيد عرض مسرحية "سر الحاكم بأمر الله" التي ظلت على ثلاث سنوات متتالية تفتتح بها المواسم المسرحية (53- 1954)، (54- 1955) (55- 1956م)، على خشبة المسرح القومي. كما أعيد عرض المسرحية "مسمار جحا" على المسرح القومي على مدى عامين متتاليين في الموسم المسرحي (55/1956م)، (56/1957م).

وكان عرض "مسمار جحا" في موسم 56/1957 آخر مسرحية تعرض لباكثير على المسرح القومي، الذي بدأ منذ ذلك العام يدير لباكثير وغيره من الرواد ظهره منذ تعيين الشيوعي المعروف الأستاذ أحمد حمروش مديراً عاماً للمسرح القومي في أكتوبر 1956م، وآخرين ممن ليس لهم تاريخ باكثير الفني والفكري وليس لهم رصيده من الكفاح قبل الثورة.

ومع ذلك فلم يكن ذلك آخر عهد باكثير بخشبة المسرح على كل حال. فقد أتيح لمسرحيته السياسية "شعب الله المختار" الظهور في يناير سنة 1958م ولكن على مسرح آخر.. على مسرح حديقة الأزبكية مثلتها فرقة المسرح الشعبي المصري من إخراج الأستاذ كرم مطاوع.

وبعرض هذه المسرحية يسدل الستار على مسرحيات باكثير الكبرى ذات القضايا السياسية وتنتهي مرحلة الازدهار الحقيقي لمسرح باكثير ولكنه ظل في المرحلة الثانية يكتب للمسرح وينشر مسرحياته، دونما أمل في عرضها في حياته على الأقل. ومع ذلك، فقد عرضت له مسرحيات في المرحلة الثانية ولكنها كانت مسرحيات ذات اهتمامات جانبية تتعلق بالقضايا الاجتماعية.

مرحلة الحصار (1958- 1969م)

الأستاذ علي أحمد باكثير

كان الموسم المسرحي 56/1957م آخر موسم يعرض فيه المسرح القومي مسرحية من مسرحيات باكثير الكبرى، وهي مسرحية "مسمار جحا" التي ظلت تعرض على مدى ثلاثة مواسم مسرحية بنجاح منقطع النظير، وبإسدال الستار على آخر عرض للمسرحية في ذلك الموسم أسدل الستار على أعمال باكثير في "المسرح القومي" لأسباب فكرية عقائدية. ومن حسن حظ باكثير أن يوقف المسرح القومي عرض أعماله بعد واحدة من أكثر مسرحياته نجاحاً وأكثرها وطنية.

وهكذا حجبت مسرحيات باكثير عن الجماهير وهو في عنفوان ازدهاره وقمة مجده، ومع ذلك فقد كتب باكثير في مرحلة الحصار هذه من سنة 1958م حتى وفاته سنة 1969م عدداً كبيراً من المسرحيات، منها اثنتا عشرة مسرحية نشرت في حياته من بينها عمله الدرامي الضخم "ملحمة عمر" في تسعة عشر جزءاً.

وهي كالآتي:

"الزعيم الأوحد"، "أوزوريس"، "دار ابن لقمان"، "هاروت وماروت"، "قطط وفيران"، "الدنيا فوضى"، "جلفدان هانم"، "الفلاح الفصيح"، "الدودة والثعبان"،"حبل الغسيل"، "شادية الإسلام"، "ملحمة عمر".

أما الأعمال المسرحية التي تركها مخطوطه فهي:

"التوراة الضائعة"، "أغلى من الحب"، "حرب البسوس"، حزام العفة"، "أحلام نابليون"، "مأساة زينب"، "قضية أهل الربع"، "الوطن الأكبر"، "الثائر الأحمر"، "عرايس وعرسان"، "شلبية"، "فاوست الجديد"، "عاشق من حضرموت".

وقد تقدم باكثير بمعظم هذه المسرحيات للمسرح القومي ومسارح أخرى فأهملت ولم تعرض وهو ما تثبته إيصالات استلام نصوص هذه المسرحيات من تلك المسارح وخاصة المسرح القومي وجميعها موجودة لدينا تدين أصحابها.

والمفارقة المضحكة المبكية في آن واحد أن تمثل قبل الثورة، وفي عهد الاستعمار، واحدة من أكثر مسرحيات باكثير ثورية وعداءً للاستعمار وهي مسرحية "مسمار جحا" وأن ترفض بعد الثورة وبعد طرد الاستعمار مسرحية لا تقل عنها وطنية وعداءً للاستعمار الجاثم على أرض أخرى في الوطن العربي. فقد عثرت على مسودة رسالة بخط باكثير بعث بها إلى وزير أو مسؤول كبير يشكو "الرقابة" التي اعترضت على مسرحية "إمبراطورية في الزاد"!!

أما ثاني مسرحية توأد لباكثير في هذه المرحلة فكانت مسرحية "الزعيم الأوحد" فقد كتبها في صيف سنة 1959م. وهي واحدة من أكثر مسرحيات باكثير وطنية وقومية لأنها كانت ضد دكتاتورية عبد الكريم قاسم الذي تحالف مع الشيوعيين والشعوبيين في العراق، وقد توقع فيها باكثير نهاية عبد الكريم قاسم قبل وقوعها.

وفي سنة 1960 يحصل باكثير على جائزة المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية عن مسرحية "دار ابن لقمان" حيث كان البطل الحقيقي في هذا العمل الدرامي هم أبناء مصر يقاومون الغزو الصليبي ويأسرون الملك لويس التاسع ملك فرنسا ويسجنونه في دار ابن لقمان الشهيرة بالمنصورة.

ورغم ما في هذه المسرحية من معان عميقة وتجسيد لقوة الشعب وتعبير صادق عن روح مخلصة وبرغم فوزها بجائزة كبيرة فإن المسرح القومي تجاهل عرضها!! ويحترق قلب باكثير سنة 1962م عندما ينال جائزة الدولة التشجيعية في الأدب عن مسرحية "هاروت وماروت" التي لم يعرضها المسرح القومي أيضاً!!

وباستثناء مسرحية "حبل الغسيل" التي كشف فيها باكثير عن سيطرة اليسار على شؤون الفن والمسرح في مصر، فإنه لم تعرض لباكثير مسرحية من مسرحياته التي تمثل اتجاهه الفكري الرئيسي.

فلم يشاهده جمهوره المسرحي حتى وفاته إلا في مسرحيتين اجتماعيتين ليس على خشبة المسرح القومي بالطبع الأولى مسرحية "قطط وفيران" مثلتها فرقة المسرح الحديث على "مسرح الهوسابير" أخرجها حسن إسماعيل واشترك في تمثيلها حسين الشربيني وحسن شفيق وعقيله راتب وزهرة العلا وأحمد شكري. والثانية مسرحية "جلفدان هانم" مثلتها فرقة المسرح الكوميدي، من إخراج عبد المنعم مدبولي تمثيل محمد عوض ونعيمة وصفي.

فقد عرضت مسرحية "قطط وفيران" في موسمين مسرحيين (62-1963م)، (64-1965م) في أكثر من ثلاثين حفلة. أما مسرحية "جلفدان هانم" فلم تعد لباكثير ذكريات مجده المسرحي فحسب، بل وحققت مجداً ونجاحاً لفرقة المسرح الكوميدي ولمخرجها وممثليها، ولا ينسى الممثل محمد عوض أن بروز نجمه وتألقه بدأ بدوره في هذه المسرحية، وقد عرضت مسرحية "جلفدان هانم" على مدى موسمين مسرحيين متتاليين (62-1963م)، (63-1964م)، قدمت فيهما ما يقرب من سبعين عرضاً جماهيرياً ناجحاً في الموسم الأول حققت 27 حفلة، وفي الموسم الثاني 39 حفلة!

وعلى إثر الضجة الكبيرة التي أحدثتها "جلفدان هانم" ظن الجيل الجديد.. جيل الثورة الذي لم يعرف شيئاً عن باكثير أيام مجده أن هذه أول مسرحية تعرض له. وقد أشار الأستاذ أنيس منصور بمرارة إلى هذه الحقيقة في مقال كتبه بعنوان: هذه المسرحية الشريرة أعجبتني".

يقول:

"لم يعرف الناس باكثير مع الأسف إلا أنه مؤلف "جلفدان هانم" والفضل يرجع للتليفزيون والصحافة.. وفي هذه المسرحية حوار جميل ومناقشات محبوكة، ومواقف ساخرة، رغم أن باكثير ليس مشهوراً بالسخرية ولا يشجع عليها"

ثم يعلن أنيس منصور عن اكتشافه لباكثير الساخر فيقول بأسلوب كاريكاتيري:

"الذي يرى باكثير يندهش كيف أنه حاضر النكتة، بارع في خلق المواقف والتخلص من أزماتها. وكيف أنه يجعلك تضحك وأنت مقفل الشفتين، وأن عباراته كالفساتين الضيقة "المحزقة" التي تضغط على الموقف وعلى الجسم فتكشف كل مفاتنه" (جريدة الأخبار، 26/2/1963م، القاهرة).

واستجابة للنجاح الجماهيري الكبير الذي حققته مسرحية "جلفدان هانم" التي أعادت لباكثير شبابه المسرحي أشار وزير الثقافة والإرشاد القومي وقتها د.ثروت عكاشة بإنتاجها سينمائياً فاتفقت مؤسسة الإنتاج السينمائي مع باكثير عليها، وظهرت الإعلانات عن ذلك في الصحف، وأجيزت القصة لحساب المؤسسة، ولم يركض باكثير كما يفعل غيره إلى المؤسسة لتوقيع العقد بل سكن مطمئناً إلى أن جهة رسمية لا يمكن أن تخل بتعهدها وعد الإعلانات الكبيرة التي نشرت عن الفيلم أكثر من كلمة شرف، ثم هدأ كل شيء ومرت فترة صمت سأل بعدها باكثير، ويا للذهول عندما جاءه الجواب بأن المؤسسة قد عدلت عن إنتاجها!!

وكانت مسرحية "حبل الغسيل" آخر ما عرض لباكثير على خشبة المسرح وذلك في الموسم المسرحي 65/1966م مثلتها فرقة المسرح الحديث، إخراج فوزي درويش وشارك في تمثيلها فاروق حكيم، روحية خالد، زوزو حمدي الحكيم، لطفي عبد الحميد، علي الغندور، محمد العناني، هالة الشواربي.

ووضع فيها باكثير آخر كلماته بصراحة عن ما يحدث حوله للمسرح المصري، وكشف النقاب عن لعبة اليسار الانتهازي الذي سخر المؤسسات الثقافية لأغراض شخصية، فانهال القوم على هذه المسرحية بأقلامهم شتماً وتشنيعاً من كل المنابر الصحفية التي كانت بأيديهم، ولم يستمر عرض المسرحية أكثر من ست ليالٍ فقط!!

وفي هذه الفترة شدد على باكثير الحصار واستحكمت حلقاته ووجد نفسه ليس محاصراً فقط في المسرح، بل من قبل كل دوائر النشر وأجهزة الثقافة والإعلام والصحف والمجلات التي سقط معظمها في أيدي التيار اليساري.

وقد كتب صديقه د.عبده بدوي يقول:

"وفي هذه الفترة لم نعرف لباكثير مكتباً أو وظيفة، فقد تم تجميده تماماً، وأسهمت أسماء لامعة في عالم اليسار في إحكام الحصار حوله وحجب الضوء عنه.. وهكذا تظل قضية إبعاد باكثير عن الوظيفة التي تليق به وعن المسرح وعن كافة دوائر الضوء عاراً معلقاً على الحياة الأدبية" (مجلة الهلال المصرية، عدد نوفمبر 1977م).

هاجس الرحيل.. ومفاجأة الموت

وبدأ باكثير يفكر جدياً في الهجرة من مصر حين لم يجد مسرحاً يعرض مسرحياته ولا ناشراً لكتبه ولا مجلةً أو صحيفة تنشر له أو عنه ولا حتى مصيفاً يصطاف فيه. ويروي صديقه الدكتور عبده بدوى أن باكثير كان يقول له دائما "سأهاجر إلى بلادي، لأن أكون راعي الغنم في حضرموت خير لي من هذا الصمت المميت في القاهرة.. أنا مت حين أبعدت عن المسرح ولكني لم أدفن بعد" (عبده بدوي، المرجع السابق).

ولم يهدأ خاطره إلا بعد أن زار وطنه الذي استقل في نوفمبر 1967م. وفي مايو 1968م طار باكثير إلى عدن ومنها إلى حضرموت بعد غياب دام خمسة وثلاثين عاماً وأمضى هناك شهراً في الوطن الذي استقل في 30 نوفمبر 1967 واستعاد ذكريات صباه مع من بقي من رفاق الصبا، ولكنه عاد غاضباً مما رآه في عدن من تصرفات الجناح اليساري في الجبهة القومية الذي بدأت تفوح منه روائح ماركسية قوية وبدأ يبسط نفوذه كعادة الشيوعيين على الصحافة ووسائل الإعلام تمهيداً للاستيلاء على السلطة كاملة.

وعندما وصل باكثير إلى الكويت في طريق عودته للقاهرة استضافته إذاعة الكويت فسأله المذيع عن رأيه في الصحافة في الجنوب العربي المستقل فأجابه باكثير بألم:

"لقد وجدت هناك اتجاهاً لا أرضى عنه يسيطر على الصحافة وأخشى على البلاد منه".

فسأله المذيع: وهل حذرت منه؟!

فأجاب باكثير بصوت عال: "نعم وفي كل مكان". (حوار مع إذاعة الكويت يونيو 1968م)

عاد باكثير حزيناً إلى القاهرة وهو يخشى على وطنه من السقوط في براثن الشيوعية. وبالفعل تحقق ما خاف منه باكثير وتوقعه فقد استولى الشيوعيون على السلطة في عدن في 22 يونيو 1969م أي قبل وفاة باكثير بخمسة أشهر، وزاد هذا الحدث من توتره وانفعاله وأنهك قلبه المتعب فأصيب بأول نوبةٍ قلبية في حياته فلم يكن هيناً عليه أن يرى وطنه النائي الذي يعده ملاذه الأخير يسقط في أيدي الذين يحاربونه في القاهرة ويريدون نفيه فيها أو منها.

وفاته

بدأ باكثير يفكر في الخروج من مصر لكنه لا يلبث أن يتراجع. وقد تلقى عروضاً من مؤسسات ثقافية في الكويت ولبنان وبدأ يضع احتمالات الإقامة النهائية في لندن ليكتب بحرية دون أن يكسر قلبه أحد خاصة أنه قد تلقى عرضاً من جامعة لندن سنة 1962م للتدريس فيها بقسم الدراسات الشرقية والأفريقية الذي كان يرأسه المستشرق روبرت سارجنت، الذي كتب عدة كتب عن حضرموت وأمضى فيها سنوات.وقد حصلت على ثلاثة من الخطابات المتبادلة بينه وبين سارجنت بالإنجليزية.

الرسالة الأولى من سارجنت بتاريخ 15 مايو 1962م والتي يعرب فيها عن سعادته بلقاء باكثير في القاهرة، ويعرض عليه وظيفة أستاذ محاضر بجامعة لندن، والتي تقتضي حضوره إلى لندن في أكتوبر 1962م

ويقول سارجنت كأنه يريد تشجيعه على اتخاذ قرار سريع:

"وإن لم تستطع أن تحضر فإني لن أكون قادراً على إيجاد مثل هذه الفرصة قبل ثلاث سنوات أو أكثر، فهل تستطيع المجيء في أكتوبر 1962م؟".

ويعرض عليه مرتباً مغرياً قياساً براتبه في مصر وعدداً معقولاً من ساعات التدريس وإجازة خمسة أشهر في السنة يستطيع أن يتفرغ فيها للبحث والكتابة ويؤكد سارجنت في نهاية الرسالة مدى حاجته الشخصية للاستعانة بباكثير وعلمه وخبراته في أبحاثه وفي تدريس الطلاب الأجانب طرق البحث في الأدب العربي المعاصر.

وأكد خصوصية حاجته لباكثير حين كتب يقول: "أنا بحاجة ماسة إلى حضرمي حضرمي الأصل على الأقل للتدريس هنا، وسيكون ذلك موضع سعادتي لأسباب عدة..".

وقد رد عليه باكثير برسالة بتاريخ 5 يوليو 1962م يعتذر فيها لأنه ارتبط بمنحة تفرغ من الدولة لمدة سنتين ليكتب "ملحمة عمر" وقال بأسف:"الحقيقة إن قضاء عدة سنوات في لندن كانت حلماً طالما تمنيت أن يتحقق منذ أمد طويل" وتمنى أن تكون هناك فرصة أخرى للعام الدراسي 63/ 1964م.

ورد عليه سارجنت بتاريخ 5 يوليو 1962 يخاطبه في أولها بلقب "الشيخ علي" ويذيلها على العنوان بلقب "الدكتور علي"! وعبر فيها عن أسفه لعدم وجود فرصة في القريب، وإنه سيخطره بأول فرصة تلوح وسأله إن كان قد وصله كتابه الأخير "سادة حضرموت".

ثم لاحت الفرصة مرة أخرى سنة 1969م عندما تمكن باكثير من زيارة لندن التي وصلها من تركيا في أول يونيو أي قبل وفاته بخمسة أشهر وهناك التقى سارجنت وقال له: إن جامعة لندن ستحتاجه ابتداءً من العام الدراسي 69/1970م كما تلقى عرضاً من: إذاعة لندن للتعاون مع برامجها الأدبية والثقافية.

كتب الأستاذ شوقي السكري بعد وفاة باكثير عن قصة لقائه به في لندن إذ يقول:

"وما كاد باكثير يمضي خمسة أشهر في القاهرة بعد عودته من لندن يقلب الأمور ويعد العدة للرحيل عن مصر عندما يتذكر الحال الذي وصلته فيها ثم يقرر البقاء فيها عندما يتذكر أن مصر فتحت له ذراعيها وحققت له أحلامه وأوصلت رسالته وصوته إلى كل مكان، فكان يردد لبعض أصحابه قوله: والله لم تضق بي أرض مصر الكريمة ولكن ضاقت بي بعض الصدور اللئيمة" (مجلة الأديب اللبنانية، عدد مارس 1970م)

وفي العاشر من نوفمبر 1969م، وبينما هو في حيرته تلك جاءه الموت نوبة قلبية على غير ميعاد لتقضي على حيرته فكان ذلك اختاره الله له لينقله إلى عالم أفضل وأعظم وأجل من لندن والقاهرة، عالم الخلد والشهادة.

وقد أثار موت باكثير في النفوس شجوناً كثيرة وأحيا قضايا كادت تموت فظهرت على السطح. وكتبت عشرات الأقلام تأسى على موت باكثير مظلوماً من الأعداء ومخذولاً من الأصدقاء وأثار بعض المظلومين قضيته ليذكروا الضمير الأدبي بأنفسهم.

وقد شهد له أصدقاؤه، والذين عاشوا معه عن قرب أنه ظل محافظاً طوال حياته على طبيعته البسيطة الوديعة التي جاء بها من أقصى جزيرة العرب، ولم يسمح لأضواء الشهرة وبهرجة المهرجانات والندوات أن تفسدها.

ولعل الحديث الذي سجله مع تلفزيون الكويت في أبريل سنة 1969م يشهد بتواضعه فترى أنه لا يعرف نفخ الأوداج عند التربع على الكراسي أمام الأضواء، ولا يعرف التشدق بالأمجاد، أو التحذلق والتظاهر والادعاء؛

بل هو كما يقول يحيى حقي:

"كان برهان طبعه تدخينه الغليون فهو يعينه على إطباق الفم، على الصبر والعكوف على النفس والاستغراق في عالمه الخاص.. كان يحب السكون لا اللهوجة، والتؤدة لا التسرع، والصوت الخفيض لا الجهير. تواضعه الجم يخفي أنفةً شديدة وعزة نفس مصونة من الانحناء، ومن الدنايا..

إن كان بين معارفي رجل طيب، فقد كان هو هو مبرأ من اللؤم والخسة والصغائر وتدبير المقالب من وراء الظهور، لا يتلوث لسانه بغيبة إنسان، وكانت عيناه باب قلبه المفتوح تسلك منهما نظراتك إليه بلا مواربة أو خداع.

ما رأيت أحداً مثله يعرف كيف يصدقك القول دون أن يجرحك، وكان يلتزم الصدق دائماً، طيبة لم يزلزلها أو يكربها أن يحسبها بعض الأذكياء مشتبهة بالسذاجة لا عن ترفع منها بل لأنها قانعة بذاتها" (جريدة التعاون 16/11/1969م القاهرة).

كان يحيى حقي رئيساً لباكثير في العمل بوزارة الثقافة لمدة عشر سنوات، وهي كلمة لم يكتب يحيى حقي مثلها في حق أي أديب من معاصريه. وهذا ما جعل أبناء جيل باكثير يجمعون تقريباً على أنه كان أقلهم كلاماً، وأكثرهم إنتاجاً قياساً إلى سني عمره وهو أهم ما قيل عنه بعد وفاته.

ولعل سبب مأساة باكثير في سنواته الأخيرة "وضوح الرؤية" عنده دون أكثر أدباء جيله، فقد ناقض هذا بوضوح وصراحة بعد وفاة باكثير الأستاذ فاروق خورشيد في مقال بعنوان:"باكثير المفترى عليه" أشار فيه إلى عصر باكثير بقوله:

"لست أعتقد أن هناك كثيرين من أدباء عصر باكثير قد اتضحت لديهم الرؤية مثل اتضاحها بالنسبة له..، ولست أعتقد أيضاً أن كثيرين من أدباء جيله قد حظوا بهذا السلام الفكري النابع من الإيمان الواضح بأشياء محددة مثلما حظي هو وربما كان هذا الوضوح في "الفكر" وذلك الوضوح في الموقف، هو الذي سبب الموقف السلبي لكثيرين من النقاد الواعين الذين عاصروه في الاهتمام بما يكتب وما يبدع..

ربما كان تطلع هؤلاء النقاد الدائم إلى مظاهر القلق والحيرة والضياع في الإنتاج الأدبي لمعاصريهم ومعاصريه، واحتفالهم بكل ما يعكس هذه المظاهر التي يعانون منها ويلمسونها، وهو السبب في الانصراف المؤلم عن متابعة إنتاج باكثير بالنقد والدراسة والتحليل". (جريدة الأخبار، 14/11/ 1969م القاهرة).

عن هذه الحقيقة عبر محمد عبد الحليم عبد الله بصراحة ووضوح غداة وفاة باكثير فقال:

"كان باكثير عربياً دخل مصر الكريمة لكنه لم يشعر بأواصر الصداقة التي عقدها بين نفسه وبين المشهورين من كتاب جيلنا عفا الله عنهم لم يشعر أنها قادرة على أن تعطيه كل ما يريد لذلك كنا نرى حياته في العشر السنوات الأخيرة يظللها رضا المغلوب أو تناوشها ثورة المحموم غير المنتظمة.. رأيته كثيراً وهو (يخربش الهواء) وسمعته يتحدث عن العودة إلى موطن مولده، سمعته يقول كلاماً وهو مقطب الجبين ثم يقهقه" (مجلة الهلال المصرية، عدد يناير 1970م).

هكذا حقق باكثير وجوداً متميزاً في كل إبداع بعد وصوله مصر. وبعيداً عن العروض المسرحية والسينمائية لأعماله، فإن القيمة الحقيقية لإنتاج باكثير تتمثل في مجموعة "الريادات" التي سبق بها، وفي "الفكر" الذي عبر عنه في قوالب فنية جديدة.

ففي الشعر سيبقى علي أحمد باكثير رائداً للشعر الحر وفي الرواية سيبقى هو صاحب الطرح الفني الذي يستشرف المستقبل من خلال الماضي، فهو رائد الرواية التاريخية الإسلامية بلا منازع، ولو لم يكتب إلا روايتي "واإسلاماه" التي صور فيها لوحة رائعة من صور الجهاد والانبعاث في حياة أمتنا و"الثائر الأحمر" التي حذر فيها من المد الشيوعي الذي تحقق في عالمنا العربي فيما بعد، وصور فيها قصة الصراع بين الشيوعية والرأسمالية والعدالة الإسلامية من خلال تجربة الحركة القرمطية المعروفة في التاريخ الإسلامي، وشخصية حمدان قرمط الشهيرة.

لو لم يكتب باكثير إلا هاتين الروايتين لكفتاه خلوداً في سجل الرواية العربية التاريخية فنياً وفكرياً. وفي الوقت نفسه نجد باكثير يقف عملاقاً في مجال التأليف المسرحي الذي خصص له جل إنتاجه فهو الثاني بعد توفيق الحكيم من حيث غزارة الإنتاج، لكنه يبقى الأول من حيث تصدر القضايا التي ترتبط بهموم الأمة وتشغل الناس.

فباكثير بإجماع النقاد من محبيه ومبغضيه –رائد الكوميديا السياسية الهادفة في المسرح العربي، وهو القلم الذي ارتبط مسرحه بالقضايا الوطنية والقومية والإسلامية، فقد جعلت منه أعماله الثائرة في الأربعينيات من القرن الماضي العدو الأول دون كل أدباء جيله للاستعمار والصهيونية قبل أن يخرج الاستعمار من الأوطان العربية وقبل أن تقيم الصهيونية دولتها في فلسطين.

رحم الله علي أحمد باكثير وأنزله منازل الصديقين والشهداء والأبرار لقاء ما قدمه لأمته التي أفنى حياته في سبيلها.

المراجع

الكاتب هو الدكتور محمود جواد المشهداني

بل كتب عبدالله الطنطاوي دراسة ضافية في العدد التاسع من مجلة الآداب سنة 1969 قبيل وفاة باكثير أثبت الريادة له في شعر التفعيلة. (أدباء الشام).


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق