الاثنين، 25 نوفمبر 2013

يحررها ويراجعها ويحللها محمود فكري هيكل
الجيش المصري تاريخ من التماهي مع الدولة
العرب  

الجيش تدخل في لحظات فارقة من تاريخ مصر

عادت المؤسسة العسكرية المصرية إلى صدارة الأحداث بتدخلها الذي أرادت من ورائه تصحيح مسار الثورة في مصر. والتصحيح يعني إعادة تشكيل توازن الدولة وإيقاف تغوّل إخواني لا يبقي ولا يذرُ، وكان وقعه لافتا إلى درجة أن هبت فئات واسعة من الشعب المصري إلى الميادين احتجاجا على جموح الإخوان حزبا وجماعة. قد تبدو كلمة عبد الفتاح السيسي (القائد العام للقوات المسلحة المصرية) يوم الأربعاء، والتي أوقف بموجبها محمد مرسي عن القيام بمهمة رئاسة مصر، ضرب من تدخل العسكر في الشان السياسي المدني، وقد يبدو ذلك أيضا نوعا من الإخلال بأهم مقومات الدولة المدنية، لكن إطلالة سريعة على تاريخ المؤسسة العسكرية المصرية وصلاتها المركبة بالمطبخ السياسي المصري، تجعلُ الأمر يتخذُ "خصوصية مصرية". فالعلاقة بين التاريخ السياسي الحديث المصري والمؤسسة، أعمق من بساطة هذا التوصيف ويسره.

المؤسسة العسكرية المصرية، تستندُ إلى تاريخ يشترك ويتقاطع مع تاريخ مصر ذاتها، حيث تشير الدراسات التاريخية إلى أن مصر هي صاحبة أول جيش نظامي في العالم، يعود إلى حوالي 7000 سنة من الوجود، حيث تأسس أول جيش مصري حوالي عام 3200 ق م مع توحيد الملك نارمر لمصر ومن ثمة توحيد جيوش أقاليمها آنذاك. ومنذ تلك الحقبة ارتبط تاريخ مصر بالمؤسسة العسكرية، أو بالجيش المصري.

ارتباط بلحظة الحداثة المصرية

الملــمح الثاني للعلاقة المركبة أو للتماهي بين مصر وجيشها تمثل في أن الجيش المصري تأسس مع محمد علي باني مصر الحديثة، فكان بذلك حلقة من خوض مصر لزمن الحداثة التي وإن كان نجاحها يحتاجُ لبعض التنسيب، إلا أنها كانت مرحلة شهدت فيها مصر نهوضا لافتا، لكنه افتقد المواصلة والتراكم التاريخي.

القطيعة التي أحدثها محمد علي باشا كانت تقوم على أنه كوّن -ولأول مرة- جيشا متكونا من المصريين، وقطع بذلك مع أحقاب طويلة وحضارات متعاقبة كان الجيش المصري فيها دائما يتكوّنُ من غير المصريين وأساسا المماليك، وكان في زمن محمد علي قائما على فرق مشتتة من الألبان والأكراد والشركس. وكان باني مصر الحديثة ينظرُ إلى تحديث الجيش المصري وتعصيره باعتباره مفصلا ضروريا من مفاصل بناء الدولة، ولذلك بادرَ –في محاولة أولى- عام 1815 إلى إنشاء جيش نظامي تشكّل من نواة من الجنود الأرناؤوط الألبان التابعين لفرقة ابنه اسماعيل، وانطلق في تدريبهم في بولاق على الطرق والمناهج العسكرية الحديثة، لكنهم ثاروا عليهم فأوقف العملية وأرجأها إلى وقت آخر.

وكان ذلك ابتداء من عام 1820، حين أنشأ مدرسة حربية في مدينة أسوان واستدعى ضابطا فرنسيا (المعروف بسليمان باشا الفرنساوي) لتدريب الجنود، الذين كان عددهم في منطلق التجربة لا يتجاوز الألف عنصر، وبعد ثلاث سنوات بدأت التجربة تعطي أكلها، مع تخرج الدفعة الأولى التي مثلت أول مجموعة ضباط مدرّبين وفق النظم العسكرية الحديثة وكانت المجموعة نواة الجيش النظامي المصري في صيغته الحديثة. اعتمد محمد علي باشا على جيشه "الحديث" في الحروب التي يخوضها بالوكالة عن الدولة العثمانية في جزيرة العرب ضد الدولة السعودية الأولى وضد الثوار على الحكم العثماني في اليونان فضلا عن ضمه لبلاد السودان، وكان يذهبُ لإرجاع الأقاليم المتمردة على نفوذ "الباب العالي" الذي نخره السوس في تلك الفترة. لكنه تحول لاحقا لمهاجمة الدولة العثمانية ذاتها، لكن بعض القوى الغربية أوقفت طموحه. 

المهم أن ارتباط الجيش النظامي الحديث بمصر الحديثة التي حاول محمد علي باشا رسم ملامحها، كان واضحا، تبعا لأن مشروع محمد علي آنذاك كان أكبر من مجرد بناء جيش نظامي متطوّر، بل كان الجيش عنصرا أساسيا في المنظومة التي حاول محمد علي إرساءها.

العسكر في الحكم

تعدّ ثورة الضباط الأحرار عام 1952 تعبيرا آخر على التماهي الذي يسود العلاقة بين الجيش المصري ودولته، وهو تماه يتفاوتُ حسب الفترات ويتأثر نسقه بالشكل السياسي السائد. فقد أنهت ثورة الضباط الأحرار الحكم الملكي لمصر وطالبت برحيل الإنكليز عن أرض مصر.

ومن هنا اتخذ المسار السياسي للدولة طيلة الحقبة الناصرية ثم فترة أنور السادات ملمحا متصلا بالجيش اتصالا وثيقا. فالسياسة التي انتهجتها مصر الناصرية اختارت الاصطفاف جنب المعسكر الشرقي، بما يترتب عن ذلك من تبعات سياسية عسكرية وسياسية واستراتيجية، ولذلك كان استيراد الأسلحة من دول المعسكر الشرقي اضطرارا (باعتبار رفض دول المعسكر الغربي إمداد مصر بها) وكان في الآن نفسه تعبيرا عن انتماء مصري واضح ومعلن لذلك المعسكر. ومن هنا كانت السياسة المصرية مطبوعة بالصبغة العسكرية طالما أن مصر انخرطت- عن قناعة وفق الأدبيات الناصرية والقومية- في حرب ضد الاحتلال الاسرائيلي.

تفاديا لسرد وقائع تاريخية معلومة لدى الجميع، نشيرُ إلى أن الأداء العسكري المصري في تلك المرحلة (الناصرية والساداتية) كان يؤثر على الضمير الجمعي المصري والعربي برمته، لذلك كانت هزيمة 1967 بمثابة صدمة اجتاحت الشعوب العربية التي كانت –قبل الحرب- شبه واثقة من النصر العسكري، وأثرت الهزيمة لسنوات على كلّ مناحي الحياة بما في ذلك القطاعات الفكرية والأدبية فضلا عن البعد السياسي الذي لحقه تصدّع مازالت موجاته الارتدادية ماثلة إلى حدّ اليوم.

ومن تأثيرات هزيمة 1967 كذلك أن مصر ظلت مستنفرة كل قواها السياسية والعسكرية والاقتصادية طيلة سنوات انتظارا للحظة ردّ الاعتبار السياسي والعسكري، وبالتالي ترميم المعنويات التي تضررت "من المحيط إلى الخليج".

ولذلك كانت حرب أكتوبر 1973 (التي سميت كذلك حرب العبور) أكثر من مجرد عملية عسكرية، وأبعد من تدارك آثار الحرب السابقة، بل كانت فعلا يرتجى منه الوقع السياسي الإقليمي في بعديه القطري والقومي.

فقد قام الجيش المصري بمعية الجيش السوري بشن حرب على قوات الاحتلال الاسرائيلية التي استولت في 6 أكتوبر 1973، وتوغلت الجيوش العربية مسافة 13 كيلومتر في شبه جزيرة سيناء. واقتحمت قوات الجيش المصري "خطّ بارليف" (الذي يمثل سلسلة من التحصينات الدفاعية التي تمتد على طول الساحل الشرقي لقناة السويس، وسمي كذلك نسبة إلى القائد العسكري الاسرائيلي حائيم بارليف وكان الهدف من إنشائه هو تأمين الضفة الشرقية لقناة السويس ومنع عبور أي قوات مصرية عبرها)، وكان عبور خط بارليف نقطة حاسمة في الحرب وكانت مفخرة مصرية.

لكن المنجز العسكري تحوّل بعد سنوات قليلة إلى ترجمة سياسية تمثلت في توقيع محمد أنور السادات لاتفاقية السلام في كامب دافيد في 17 أيلول 1978، وأدى زيارة عُدّت تاريخية إلى اسرائيل، واستعادت مصر سيطرتها على سيناء بالكامل بعد تحرير طابا.

ولكن الترجمة السياسية كانت عند عديد القراءات تفريطا في منجز عسكري، وعدّ اتفاق السلام خذلانا لأداء الجيش المصري الذي توصّلَ إلى تحطيم أسطورة الجيش الاسرائيلي الذي لا يقهرُ.

لم يتوقف الحضور الضاجّ للمؤسسة العسكرية المصرية عند مرحلة حرب العبور، بل كان حضوره حاسما بعد عقود من تلك الحقبة وتحديدا في ثورة 25 يناير 2011. فمع انطلاق الاحتجاج الشعبي الهادر يوم 25 يناير ضد نظام حسني مبارك، تبيّنَ للجميع أن قوات الأمن غير قادرة على إيقاف الزخم الشعبي الذي كان يضاعف نسقه يوميا رغم ارتفاع منسوب القمع والقتل والقنص، مما أجبر الرئيس السابق حسني مبارك على دعوة القوات المسلحة المصرية للتحرك لإعادة الأمن وحماية المنشآت العامة،وقد نجح الجيش المصري في إعادة الأمن مع حماية المتظاهرين في آن واحد. وبعد تنحي حسني مبارك في 11 فبراير 2001، تولت المؤسسة العسكرية المصرية زمام الأمور ومقاليد البلاد، وأكدت في عديد البيانات أن إدارة الجيش للبلاد ستكون لفترة انتقالية تنتهي بتنظيم انتخابات تفضي إلى تسليم دفة القيادة إلى سلطة منتخبة.

تسليم القوات المسلحة المصرية لمقاليد السلطة إلى الرئيس محمد مرسي، كان استجابة (أو رضوخا في قراءات أخرى) للنداءات والمظاهرات الداعية إلى التسريع في نقل السلطة إلى القوى المدنية والتي اتخذت لها مقرا في شارع محمد محمود في شهر تشرين الثاني 2011، وكان شعارها المركزي "يسقط يسقط حكم العسكر".

وهو ما تمّ فعلا حيث بدأ المسار السياسي في التشكل مع انطلاق الانتخابات الرئاسية المصرية، التي أقيمت جولتها الاولى يومي 23 و24 مايو 2012، وأقيمت الجولة الثانية يومي 16 و17 جوان من العام نفسه، وأسفرت عن فوز محمد مرسي مرشح جماعة الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة (ذراعها السياسية).

منذ تولي محمد مرسي سدة الرئاسة يوم 30 يونيو 2012، بدأ في رسم علاقة بدت مريبة مع المؤسسة العسكرية، حيث سارع إلى إقالة المشير طنطاوي وزير الدفاع والفريق سامي عنان رئيس الأركان في 12 أغسطس 2012، أي بعد أقل من شهر من أدائه اليمين الدستورية، واختلفت التأويلات لقرار مرسي لكن أغلب القراءات ذهبت في اتجاه الأمر ضربا من السعي الإخواني للسيطرة على المؤسسة العسكرية العريقة، أو على الأقل ضمان حيادها وعدم تدخلها في الكواليس السياسية. المثير هنا أن البديل الذي عُيّنَ آنذاك عوض المشير طنطاوي كان يحمل اسم الفريق أول عبد الفتاح السيسي. ومنذ تولي الجماعة الإخوانية حكم مصر، بدأت تظهر تدريجيا ملامح مشاريع الأخونة، التي امتدت على كلّ المجالات، وطالت القضاء والإعلام والإدارة فضلا عن السيطرة على الأنشطة الاقتصادية الحيوية في البلاد، مما أنتج حالة من الامتعاض الشعبي العارم وأعاد إلى الأذهان سلوك الحزب الوطني ونظام مبارك. وبتفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، إضافة إلى تراجع دور مصر الإقليمي، تحوّل الاعتمال الشعبي إلى مبادرات شبابية فعلية ترمي إلى إيقاف الكابوس الإخواني وإنقاذ مصر، وبذلك كانت حملة تمرد ترجمة لحصيلة عام كامل من الفشل السياسي لمحمد مرسي وجماعته، وأيضا تعبيرا عن مخزون من الامتعاض والرفض الشعبي لسياسات الإخوان التي كانت تدفع مصر-باطراد- نحو الهاوية.

السيسي أوقف التهافت الإخواني

وبمجرد انطلاق الحشد في ميدان التحرير يوم 30 يونيو، تبين للجميع أن الأمر ليس مجرد احتجاج أو مطالبة ببعض الإصلاحات، بل كان التحرك يذهبُ أبعد من ذلك ويرنو إلى اقتلاع الحكم الإخواني وتغييره بحكم يرى الوطن ولا شيء غير الوطن. هنا كانت استجابة القوات المسلحة المصرية سريعة للتحرك، إذ أعلن عبد الفتاح السيسي (ذاته الذي عينه محمد مرسي وكان يحسب على الإسلاميين) بيان المؤسسة العسكرية القاضي بإقالة مرسي وتعيين رئيس المحكمة الدستورية العليا رئيس مؤقتا إلى حين تنظيم انتخابات مبكرة.

وقد عدّت الأوساط الإسلامية (خاصة تلك المنتمية أو القريبة لتنظيم الإخوان) الأمر من قبيل الانقلاب العسكري على "الشرعية"، ولكن قراءات أخرى رأت في الأمر "عملية جراحية" ضرورية احتاجت إليها مصر، واعتبرت أن إسقاط مرسي لم يتم بتدخل الجيش بل كان في حقيقته وعمقه بمفعول خروج أكثر من 30 مليون مصري في كافة محافظات البلاد للمطالبة بسقوط حكم المرشد. ورأت بعض القوى السياسية المعارضة لحكم الإخوان أن تدخل المؤسسة العسكرية كان منطقيا ومشروعا وضروريا لمنع تطوّر الصدام بين الجماعة الحاكمة (ديدنها العنف) وبين قوى المعارضة، وأن التدخل العسكري لا يحمل معه بوادر أو بذور حكم عسكري طالما أنه سلّم السلطة لجهاز قضائي مدني ممثل في المحكمة الدستورية.

المهم أن الجيش المصري استجاب لدعوات عديدة متتالية لإنقاذ مصر من حكم الجماعة، ولم تكن هذه الدعوات صادرة من فئة معزولة أو أقلية بل كانت تنبع من طائفة واسعة من الشعب، والملفت أن الدعوات الموجهة للجيش ترتفع كلما احتدت الأزمة السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، وهو ما يحيلنا على ضرورة توصيف موقع الجيش لدى الشعب المصري.

فانطلاقا مما تقدم أي تاريخ حضور المؤسسة العسكرية في الأحداث السياسية البارزة من تاريخ، نتبين أن الدعوات الأخيرة لتدخل الجيش كانت تعكسُ موقعا متميزا يحتله الجيش المصري في المخيال الجماعي المصري رغم بعض الخدوش التي أصابته، مثل تظاهرات "يسقط يسقط حكم العسكر" التي أشرنا إليها آنفا.

المكانة التي يحتلها الجيش المصري لدى الشعب وفي الدولة، تعود إلى تراكم آثار كل المراحل التي أشرنا إليها، فهو أول جيش نظامي في العالم وهو أيضا سليل الدولة المصرية الحديثة، وهو كذلك رديفا لهزيمة زلزلت الضمير الجمعي العربي، وإشارة لنصر عسكري (1973) تحوّل بشكل عجيب إلى هزيمة سياسية.

الملمح الثاني لمكانة "مرموقة" تحظى بها المؤسسة العسكرية المصرية، هو أنها أكثر مؤسسات الدولة حفاظا على تماسكها وتوازنها بعد اجتياح الإخوان لبقية أجهزة الدولة، وهذا لا يعني أن الجماعة لم تحاول تدجينها بل إن إقالة طنطاوي وسامي (التي سوقت بتعلات انتمائهما لفلول النظام السابق) كانت ضربا من سعي محموم للهيمنة على المؤسسة العسكرية كانت تتطلب إبعاد الرؤوس الكبيرة داخلها لأنها يمكن أن تكون المصدّ القوي للعاصفة الإخوانية. ولذلك كان يقال في مصر أن الدولة المصرية ستدافع عن نفسها بأقوى أجهزتها وأكثرها تماسكا وهي المؤسسة العسكرية.

نخلصُ إلى أن المؤسسة العسكرية المصرية كانت تمثل طيلة تاريخها الطويل، مرادفا للدولة ذاتها، بل إن عقودا طويلة من التاريخ المصري المعاصر كانت مشوبة بحكم العسكر سواء بشكل مباشر أو بشكل مبطّن وغير معلن (حكم مبارك كان يقدّم نفسه بأنه حكم مدني مع أنه سليل العسكر) ولعلّ كل ما تقدم يمكن أن يفسّر التجاء حشود التحرير وغيره من الميادين إلى دعوة الجيش المصري إلى إنقاذ البلاد من حكم الإخوان.

 فهل يتوفق الجيش المصري في التوفيق بين "الجبهات" الكثيرة المفتوحة أمامه؛ الجماعات الجهادية على الحدود، وتأمين الأمن في هذه الظروف المخصوصة التي يمكن أن تتدهور إن مرت الجماعات الإخوانية والإسلامية إلى مربّع الانتقام؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق