الأحد، 24 نوفمبر 2013

الكاتب المعجزة رقم 3

انتشار الكتب الإسلامية:

ومن الإنجازات التي ميزت الصحوة الإسلامية لجيل السبعينيات حب القراءة وتحصيل العلم وترتب على ذلك حب الكتب والاهتمام بتحديثها وحسن إخراجها وتلوين أغلفتها، وترتب على ذلك رواج غير مسبوق للكتاب الإسلامي ليأخذ مكان الصدارة في معظم معارض الكتاب العربية والإسلامية حتى يومنا هذا.

الزواج المبكر الإسلامي والأسرة المستقرة:

من الظواهر التي ترسخت مع ازدهار الصحوة الإسلامية لجيل السبعينيات ظاهرة الزواج بين الشبان الإسلاميين والشابات المسلمات بطريقة تشبه الزواج العرفي ولكن بضوابط إسلامية من حيث الإشهار بالمساجد والبساطة المتناهية في التجهيزات (منزل بمساحة عش العصافير وكنبة وقلة وكباية)

وكانت الريادة في ذلك لجماعة شكري مصطفي لولا أنها كانت تقوم بذلك من وراء أهل الشاب والفتاة أحيانا، غير أن الجماعات الإسلامية، بالجامعات فعلت نفس الشيء بعلم تام من أهل الشاب والفتاة فكان فعلا محمودا وحاميا للشباب من الوقوع في الرذيلة ومقبولا في الفقه الإسلامي، بهذه الطريقة حدثت مئات بل آلاف الزيجات الناجحة والتي ترتب عليها بيوت مستقرة حتى اليوم ونشأ عنها ذريات صالحة ندعو الله أن يبارك فيها ويرعاها.

شركات توظيف الأموال والبنوك الإسلامية:

نجحت الصحوة الإسلامية في السبعينيات في لفت نظر المجتمع إلى ضرورة التحري في باب الكسب المالي والتأكد من أن المال الذي في أيدينا مكتسب من حلال وينفق في حلال، وأصبح السؤال المطروح مجتمعيا: هل البنوك حلال وهل فوائد البنوك حلال وما هو الموقف من شهادات الاستثمار والصكوك وأوعية الادخار بالفوائد وما علاقة ذلك بالربا الحرم شرعا؛

وبناءا على هذا الطرح واللغط كان لا بد من تقديم بديل يستوعب المدخرات ويوظفها، وهنا تقدم عدد من الإسلاميين بالبديل وهو ما عرف بشركات توظيف الأموال الإسلامية، وكان في المقدمة شركة الشريف وصاحبها عبد اللطيف أحمد الشريف، وكانت شركة الريان وصاحبها محمد الريان وأولاده، وكانت شركة السعد وصاحبها أشرف سعد، وكانت شركة الحجاز للتنمية العقارية والتعمير وصاحبها أحمد عبيد عيسوي، وكانت شركة الحجاز للتجارة والصناعة وصاحبها المهندس محمد شاكر، ثم لحق بهذه المجموعة شركات أخرى مقلدة ومستفيدة من المناخ الذي هيأته الصحوة الإسلامية.

كما تأسس أول بنك إسلامي هو بنك فيصل الإسلامي المصري ولحق به فتح فروع إسلامية بالبنوك العامة الأخرى، وهكذا أصبح للصحوة الإسلامية بعدا اقتصاديا مؤثرا تأثيرا بالغا في مجريات الحياة اليومية للمواطنين.

الشباب يحج ويعتمر:

من أهم المظاهر التي رافقت الصحوة الإسلامية إقبال الشباب على الحج والعمرة بعدما كانت من أعمال كبار السن، ونشطت رحلات الحج والعمرة الجماعية وأصبحت منافسة للرحلات الترفيهية والذهاب إلى المصايف العامة، وفي رحاب البيت الحرام قويت رابطة الشباب وزاد تعارفهم على آخرين من العالم الإسلامي مما سهل نقل الصحوة المصرية إلى بلدان عربية وإسلامية أخرى بالإضافة إلى ما نقله طلبة الأزهر الوافدين إلى بلدانهم عند عودتهم إليها.

الأحداث الكبرى في المرحلة

أهمية إلقاء الضوء على هذه الأحداث ترجع إلى ضرورة النظر للصحوة الإسلامية في مصر كأحد مكونات البيئة الإنسانية والسياسية السائدة في العالمين العربي والإسلامي في هذه الآونة، وبالتأكيد كانت هذه الصحوة جزء من هذه المكونات البيئية مما جعلها تتأثر بها وتؤثر فيها بشكل واضح.

موت الزعيم:

اندلعت الحرب في الأردن بين الملك حسين والفدائيين الفلسطينيين في معركة أيلول الأسود، وبلغ عدد القتلى 1600 قتيلا من الجانبين، وعقد مؤتمر مصالحة بين الجانبين بالقاهرة وفي اليوم الأخير لهذا المؤتمر عاد جمال عبد الناصر من المطار بعد وداع الملوك والرؤساء في حالة مرضية شديدة، ومات لتوه في الساعة الخامسة والنصف من مغرب يوم 28 سبتمبر 1970؛

هكذا بدأت السبعينيات بدون جمال عبد الناصر وبدون زعيم يملأ الفراغ الذي خلفه في الساحة العربية والعالمية، وقد بدا المصريون بعد موت جمال عبد الناصر كالأيتام على مائدة اللئام، هذا هو الشعور العام الذي سيطر على الكافة من المواطنين بغض النظر عن كلام السياسيين والمحللين في بعد الحدث لأربعين سنة؛

عبر المصريون والعرب عن حبهم لعبد الناصر وحزنهم على فراقه بمظاهر عدة وفي مقدمتها الملايين الذين حضروا جنازته، الفقراء لم يذوقوا السعادة ولو كثرت مظاهرها ومهما زادت الأجور ولم يعرفوا الكرامة كما عاشوها في عهد عبد الناصر، المصريون منذ وفاة عبد الناصر لم يلتفوا حول زعيم واحد، وعاشت مصر من يومها جماعات متناحرة تحت مسمى التعددية، النسيج الوطني أصبح في أضعف حالاته، المشروع القومي لم يعد له وجود؛

الحرب التي بدأها فور الانسحاب المهين سميت حرب الاستنزاف وكانت جادة ومكلفة للصهاينة ومقدمة حقيقة لهزيمتهم ولكن وفاته حولت الحرب إلى لعبة سياسية انتهت بالصلح مع العدو والرضوخ لمطالبه، هذه الحالة الجديدة حولت المجتمع إلى الفوضى والتراخي والأنانية، وفي هذا الجو فشل الكل في أن يحقق تقدما على المستوى الوطني، هناك مكاسب تحققت على مستوى الحكومات المصرية ولكن الوطن بقي يعاني الفقر والجهل والمرض وبالجملة كان الوطن هو الضحية وبقينا حتى اليوم دولة من العالم الثالث المتخلف.

انهيار الناصرية تنظيميا:

تأثرت القوى الناصرية بموت جمال عبد الناصر تأثرا واضحا وتشرذمت إلى مجوعات متنازعة، ثم اصطدت بالسادات وتحطمت وخفت بريقها تماما طيلة السبعينيات والثمانينات ولم يعد لها دور يذكر في الجامعات أو الأحياء والمؤسسات، انتهت منظمة الشباب والتنظيم الطليعي وأخيرا ألغي الاتحاد الاشتراكي بقرار من السادات وحلت محله المنابر ثم الأحزاب ثم تلاشى كل شيء وبقي السادات هو الزعيم الأوحد ولكن البيئة حوله محليا وعالميا كانت آخذة في عكس هذا التيار الديكتاتوري.

ظهور الصحوة الإسلامية ونموها:

وفي هذه الساحة الخالية من الزعيم ومنظماته كان طبيعيا أن تنموا قوى جديدة، وكانت إرادة الله ثم الشعب أن تكون القوة الجديدة إسلامية شبابية.

السادات من جانبه وجدها فرصة لتسوية الأرض والقضاء على ما فيها من بقايا الناصرية واليسار المتصارعة، معه، كما وجد في الصحوة الإسلامية أقوى وسائل التعبئة القتالية ليخوض الحرب التي خطط لها.

أصبحت كل الساحات مفتوحة للصحوة الإسلامية بما في ذلك القوات المسلحة التي استقبلت عشرات الدعاة والعلماء وعقدت لهم لقاءات بمعظم الوحدات العسكرية ... ودخلنا الحرب في رمضان وكان التكبير شعارنا.

حرب العاشر من رمضان السادس من أكتوبر:

مع أن السمة الغالبة على تلك الحرب كانت إسلامية عقائدية، لكنها لم تفلح في تقوية الصلة بين السادات وشباب الصحوة الإسلامية، ومن خلال المواقع التي كنت أشغلها في هذه الصحوة سواء في الجامعة أو الحي والمساجد أستطيع القول بأن الحرب بدأت وانتهت ولم يشعر بها غالبية الشباب المتدين، الحرب كانت في بداية الصحوة (1973) وفي هذا التاريخ كانت العقيدة المسيطرة على الشباب أن الحاكم فرعون والجيش جيش هامان والشباب المتدين يمثلون موسى وهارون؛

وكان الخطاب الديني السائد يتمحور حول التفكير وجاهلية المجتمع، ومن هنا لم يعر الشباب المتدين أي اهتمام لحرب يخوضها جيش لا يحكمون له بالإسلام أصلا، على الجانب الآخر فإن السادات زاد الطين بلة في نظر الشباب بدخوله مفاوضات الصلح وأعلن أنها كانت حرب تحريك وليست حرب تحرير، وهذا الخطاب بذاته يعتبر من المحرمات في عقيدة الشباب المتدين في هذه الآونة.

محاولة انقلاب الفنية العسكرية:

تعتبر حادثة الفنية العسكرية أقوى الأدلة على ما ذهبت إيه من حيث استقلالية الصحوة وعدم تبعيتها للسادات حيث كانت العملية برمتها انقلاب على السادات ومحاولة للقبض عيه، في البداية يجب أن نقرر أن تكرار تجربة الانقلابات العسكرية لإقامة دولة إسلامية كان تفكيرا طفوليا متكررا لأجيال متعاقبة من الإسلاميين بدأ من التنظيم السري بقيادة السندي ومرورا بتنظيم يوسف طلعت وتنظيم عبد الفتاح إسماعيل ثم الفنية العسكرية؛

وفي كل مرة كان الفشل هو سيد الموقف، فنحن هنا لا نتحدث عن بطولة أو إبداع ولكننا نعرض الواقع الذي تم بالفعل لكي نأخذ منه العبرة والعظة ونكف عن هذا المنهج الضال ونكف عن حشو أدمغة الشباب بالمفاهيم التي تدفعهم لتكرار لخطأ مرات ومرات؛

ومثل عملية اغتيال السادات تماما كانت عملية الفنية العسكرية محسوسة لدى العديد من الإسلاميين الذين دعاهم صالح سرية للمشاركة في الانقلاب، في منطقة النزهة بمصر الجديدة حيث إقامتي في هذا الوقت تحدث معي أحد الإسلاميين حول مدى استعدادي أن أشارك في عملية لقلب نظام الحكم وكعادتي بدأت مناقشته حول الموضوع؛

وعندما قلت له يجب أن يتلقى المشاركون تدريبا على الأسلحة أولا ثم يختار منهم من يصلحون، قال (يبدوا أنك من الذين يقولون لو نعلم قتالا لاتبعناكم ...) انسى الموضوع ولا تحدث به أحد، وبينما كنت في رحلة التخرج بالساحل الشمالي برفقة زملائي الستة بقسم النبات وبإشراف الدكتور سيد فرج خليفة (رحمة الله عليه) وحرمه الدكتورة سهام محمد علي، أعلنت الإذاعة المصرية نبأ العملية وفشلها والقبض على معظم العناصر التي شاركت فيها، تلقائيا نظر إلي الدكتور سيد فرج مداعبا وقائلا (دي عملة تعملوها يا شيخ سيد ... عايزين تموتوا الراجل وتقعدوا مكانه؟) لم أعلق على ما سمعت ولم أكن أرغب في فتح الموضوع أصلا.

التفاصيل برمتها موجودة في ملفات التحقيق في القضية التي بدأت فجر الخميس 18 أبريل 1974، في صباح هذا اليوم كانت اللجنة المركزية مجتمعة برئاسة السادات، وتقضي خطة الانقلاب بالتوجه للكلية الفنية العسكرية والهجوم عليها في الوقت الذي يكون فيه عضو التنظيم كارم الأناضولي الطالب بالكلية قد خدر الحراس بتوزيع جاتوه منوم عليهم، والاستيلاء على أسلحة الحراس وما وجد في الكلية ثم تتحرك المجموعة إلى حيث اجتماع السادات والقبض عليه ومن معه وإعلان بيان الثورة الإسلامية؛

العملية فشلت تماما لأن جندي الحراسة لم يأكل ولم ينم وبدأ بإطلاق النار على المتسورين القادمين من الخارج وفورا حضرت قوات إضافية وتعاملت معهم بالذخيرة الحية وقتل حوالي 13 من الطرفين وقبض على الباقين والبقية معروفة ... تعذيب وحشي واعترافات على بقية التنظيم وحاكمة ثم خلطة أحكام معتبرة شوية إعدام وشوية مؤبد وشوية عشرة أعوام سجن وشوية إفراج، ولم يعلن بالطبع وحتى تاريخه بيان الثورة الإسلامية الأول في مصر.

الإفراج عن الإخوان المساجين:

فور الانتهاء من حرب أكتوبر 1973 شرع السادات في الإفراج عن الإخوان المسجونين، وأعادهم إلى أعمالهم بنفس درجة زملائهم الذين لم يعتقلوا، وفي عام 1976 سمح لهم بإصدار مجلة الدعوة القديمة وصاحب الامتياز المرحوم صالح عشماوي؛

واعتبر مقر مجلة الدعوة بالسيدة زينب (9 ش بورسعيد) بمثابة المركز العام وأنا شخصيا حضرت فيه اجتماعات تنظيمية عدة، ثم انتقل المقر إلى 1 ش التوفيقية ورفع عليه شعار الإخوان علنا وما زال حتى اليوم بالرغم من وضعه تحت المصادرة والإغلاق، وشكل خروج معتقلي الإخوان متغيرا في طريق الصحوة الإسلامية سوف يفصل في باب خاص بهذا المولف.

قضية التكفير والهجرة:

هكذا عرفت قضية شكري مصطفي، شاب من أسيوط لم يستكمل دراسته في معهد التعاون الزراعي بأسيوط نتيجة لاعتقله في قضية تنظيم عبد الفتاح إسماعيل عام 1965، في المعتقل وتحت شدة التعذيب الوحشي آن بأن المعذبين لا يمتون للإسلام بصلة وأنهم كفار وكل من تعاون معهم والحكومة التي يأتمرون بأمرها ثم تمدد الموضوع في عقله فأضاف والشعب الساكت عليهم كافر مثلهم؛

وبذلك عمم التكفير على الجميع عدا هو ومن معه من الأنصار، وأطلق على جماعته (جماعة المسلمين)، في هذه الأثناء زارنا في مسجد الفرقان والسيدة عائشة بالنزهة بمصر الجديدة شاب نحيف عليه مظاهر البؤس والفاقة وعرفنا بنفسه (عبد المحسن تاجر بيض) هكذا باقتضاب شديد؛

وقال إنه مكلف من أمير المؤمنين شكري مصطفي لإبلاغنا بالحق الذي هم عليه، وطلب منا أن نناظره فإن كان على حق فقد وجبت في أعناقنا بيعته، وبالفعل اجتمعنا في بيت الأخ محمد شريف الفخفاخ ورأس الاجتماع الدكتور فتحي عبد الوهاب الأستاذ بالطاقة الذرية وخطيب وإمام المسجد الحديث وكنا قرابة العشرين؛

غير أنه اتضح خلال المناقشة أن تاجر البيض خال تماما من المعرفة بالدين وأنه مجرد مردد لمقولات شكري، وانتهى الحوار بتوجيه كلمات شديدة لشخصه وخرج شبه مطرود من الجلسة، وانتهت علاقتنا به من ذلك اليوم ولم نره إلا بالجرائد معتقلا أثناء نظر القضية؛

خلال عام 1976 بدأ شكري يفرض أفكاره على الناس بالقوة، وحدث هرج ومرج ومشاجرات وسالت دماء في أكثر من حي، ثم ارتكب التنظيم جريمة قتل المرحوم الشيخ محمد الذهبي لأنه رفض أفكارهم وكتب ونشر في الصحف أدلة تثبت أنهم على خطأ، وكان مقتله على أيديهم سببا مباشرا لاعتقالهم والحكم عليهم بالسجن والإعدام والمحاصرة.

انتفاضة 18 و 19 يناير 1977:

يوم 18 يناير 1977 فوجئ العالم كله بما حدث في مصر، فقد انتفض الشعب انتفاضة تصاعدت حدتها حتى أصبحت في اليوم التالي 19 يناير قتالا حقيقيا في الشوارع بين الجماهير وبين السلطة، لم يتوقف إلا بعد الاستعانة بالقوات المسلحة وفرض حظر التجوال؛

يومها قيل إن السبب كان قرارات اقتصادية اتخذتها الحكومة فاقمت من أزمة المعيشة، وطغى هذا اسبب في أجهزة الإعلام الرسمية على الأسباب الأكثر عمقا، فقد تبين من التحقيقات والمحاكمات التي لم تتوقف منذ ذلك التاريخ، إن الشعارات الأساسية التي رفعها الشعب خلال الانتفاضة كانت أكثر شمولا، رفعت الجماهير شعارات تطالب برفض قرار مجلس الأمن 242، وإلغاء اتفاقية فض الاشتباك ومقاومة السيطرة الأمريكية؛

والمشاركة في نشاط الثورة الفلسطينية على أرض مصر العربية وفتح الحدود لعملياتها العسكرية ضد إسرائيل، وتوجت الجماهير مطالبها بشعار إسقاط السلطة الخائنة لقد ظهرت هذه الهوية العربية التقدمية الوحدوية واضحة خلال المحاكمة التي بدأت منذ يوم أول أبريل (نيسان) 1978 أمام محكمة أمن الدولة العليا بالقاهرة، حيث واجه 176 معتقلا من الطلائع تهمة تحريض الشعب وتحريكه وقيادته؛

ووقف معهم أكثر من خمسين محاميا يدافعون عنهم، وقد اختار المحامون زميلهم الدكتور عصمت سيف الدولة لافتتاح الدفاع، فاستطاع بمرافعته التي استمرت أربعة أيام أن يحول المحاكمة من محاكمة 176 معتقلا من طلائع الشعب إلى محاكمة للنظام المصري في المرحلة التاريخية التي بدأت من عام 1973؛

فجاءت مرافعته تأريخا دقيقا لأحداث وأسرار تلك المرحلة، وكان من أبرز محاور الدفاع الذي أحدث صدى واسعا، ما أقام عليه الدليل القانوني، من أن مصر تعيش في ظل انقلاب غير شرعي وأن من حق الشعب مقاومته بكل الوسائل المتاحة، كما كشف عن أمر لم يكن أحد قد انتبه إليه من قبل؛

وهو أن الأحكام الدستورية المطبقة في مصر تمنع بنصوص صريحة التفاوض والصلح والاعتراف بإسرائيل وفيما يتصل بالصحوة الإسلامية فمن الأمانة أن نقرر أننا كإسلاميين لم نشارك في هذه الانتفاضة ولم ندرك أبعادها ووقعنا في الفخ الذي نصبه الإعلام الحكومي في ذلك الوقت وتعاملنا معها بعنصرية حزبية دون النظر إلى المصلحة الوطنية التي كانت تفرض على الجميع التحرك لوقف تيار الانزلاق نحو مزيد من التهميش للفقراء وفتح مصر لأطماع الامتيازات الأجنبية العربية ويومها أشاع الإخوان أنها حركة شيوعية أو ناصرية وكلاهما لا يصلحان للتغيير مما قلل من مشاركة الشباب الإسلامي في الانتفاضة.

اتفاقية كامب ديفيد:

اتفاقية كامب ديفيد عبارة عن اتفاقية تم التوقيع عليها في 17 سبتمبر 1978م بين الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات ورئيس وزراء إسرائيل الراحل مناحيم بيغن بعد 12 يوما من المفاوضات في المنتجع الرئاسي كامب ديفيد في ولاية ميريلاند القريب من عاصمة الولايات المتحدة واشنطن؛

حيث كانت المفاوضات والتوقيع على الاتفاقية تحت إشراف الرئيس الأمريكي جيمي كارتر، ونتج عن هذه الاتفاقية حدوث تغييرات على سياسة العديد من الدول العربية تجاه مصر بسبب ما وصفه البعض بتوقيع السادات على اتفاقية السلام دون المطالبة باعتراف إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره

وتم تعليق عضوية مصر في جامعة الدول العربية من عام 1979م إلى عام 1989م نتيجة التوقيع على هذه الاتفاقية ومن جهة أخرى حصل الزعيمان مناصفة على جائزة نوبل للسلام عام 1978م بعد الاتفاقية حسب ما جاء في مبرر المنح للجهود الحثيثة في تحقيق السلام في منطقة الشرق الأوسط.

ردود الفعل:

أثارت اتفاقية كامب ديفيد، ردد فعل معارضة في مصر ومعظم الدول العربية، ففي مصر، استقال وزير الخارجية محمد إبراهيم كامل لمعارضته الاتفاقية وسماها مذبحة التنازلات، وكتب مقال كامل في كتابه "السلام الضائع في اتفاقات كامب ديفيد" المنشور في بداية الثمانينات أن "ما قبل به السادات بعيد جدا عن السلام العادل"، وانتقد كل اتفاقات كامب ديفيد لكونها للم تشر بصراحة إلى انسحاب إسرائيلي من قطاع غزة والضفة الغربية ولعدم تضمينها حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.

وعقدت هذه الدول العربية مؤتمر قمة رفضت فيه كل ما صدر، ولاحقا اتخذت جامعة الدول العربية قرارا بنقل مقرها من القاهرة إلى تونس احتجاجا على الخطوة المصرية.

استنادا إلى مقال نشر في جريدة "القدس العربي" اللندنية فإن العرب لم يكونوا الوحيدين المقتنعين بأن الاتفاقية كانت وحسب التعبير السائد آنذاك تفريط في منجزات النصر العسكري العربي في حرب أكتوبر وتركيز السادات على استرجاع سيناء على حساب القضية الفلسطينية؛

فقد تلقى السادات انتقادات من الاتحاد السوفيتي ودول عدم الانحياز وبعض الدول الأوروبية، ففرانسوا بونسيه سكرتير عام الرئاسة الفرنسية في عهد الرئيس جيسكار ديستان قال لبطرس بطرس غالي في قصر الإليزيه ناصحا قبل أن توقع مصر اتفاقية السلام مع إسرائيل:

"إذا لم تتمكن من الوصول إلى اتفاق بشأن الفلسطينيين قبل توقيع المعاهدة المصرية الإسرائيلية فكن على ثقة من أنك لن تحصل لهم على شيء فيما بعد من الإسرائيليين"، وحسب نفس المصدر فإن الفاتيكان كان على اعتقاد بأن السادات ركز بالكامل أهداف مصر وأهمل القضايا العربية الجوهرية الأخرى.

على الصعيد العربي كان هناك جو من الإحباط والغضب لأن الشارع العربي كان آنذاك لا يزال تحت تأثير أفكار الوحدة العربية وأفكار جمال عبد الناصر وخاصة في العراق وسوريا وليبيا والجزائر واليمن؛

واعتبر البعض الاتفاقية منافية لقرار الخرطوم في 1 سبتمبر 1967 والذي تم بعد هزيمة حرب الأيام الستة واشتهر بقرار اللاءات الثلاثة حيث قرر زعماء 8 دول عربية أنه لا سلام مع إسرائيل ولا اعتراف بدولة إسرائيل ولا مفاوضات مع إسرائيل، وحتى في الشارع المصري طالب المثقفون المصريون أمثال توفيق الحكيم وحسين فوزي ولويس عوض إلى الابتعاد عن "العروبة المبتورة" التي لا تروي العروبة إلا في ضوء المصلحة المصرية فقط.

ويرى البعض أن الاتفاقية كانت في صالح إسرائيل كليا حيث تغير التوازن العربي بفقدان مصر لدوره المركزي في العالم العربي وفقد العالم العربي أكبر قوة عسكرية عربية متمثلة بالجيش المصري وأدى هذا بالتالي إلى نشوء نوازع الزعامة الإقليمية والشخصية في العالم العربي لسد الفراغ الذي خلفته مصر وكانت هذه البوادر واضحة لدى القيادات في العراق وسوريا؛

فحاولت الدولتان تشكيل وحدة في عام 1979 ولكنها انهارت بعد أسابيع قليلة وقام العراق على وجه السرعة بعقد قمة لجامعة الدول العربية في بغداد في 2 نوفمبر 1978 ورفضت اتفاقية كامب ديفيد وقررت نقل مقر الجامعة العربية من مصر وتعليق عضوية مصر ومقاطعتها وشاركت بهذه القمة 10 دول عربية ومنظمة التحرير الفلسطينية وعرفت هذه القمة باسم "جبهة الرفض"، وفي 20 نوفمبر 1979 عقدت قمة تونس العادية وأكدت على تطبيق المقاطعة على مصر، وازداد التشتت في الموقف بعد حرب الخليج الأولى إذ انضمت سوريا وليبيا إلى صف إيران؛

وحدث أثناء هذا التشتت غزو إسرائيل للبنان في عام 1982 بحجة إزالة منظمة التحرير الفلسطينية من جنوب لبنان وتمت محاصرة للعاصمة اللبنانية لعدة شهور ونشأت فكرة "الاتحاد المغاربي" الذي كان مستندا على أساس الانتماء لأفريقيا وليس الانتماء للقومية العربية، الصحوة الإسلامية كانت ضد هذه الاتفاقية واعتبرتها خيانة في حق الإسلام والمسلمين ولكننا كإسلاميين لم نكن ناضجين سياسيا بالدرجة التي نستشعر بها خطورة ما يجري.

الثورة الإسلامية في إيران:

هي ثورة شعبية بامتياز ودينية بامتياز وناجحة بامتياز أيضا، نشبت عام 1979 وحولت إيران من نظام ملكي دستوري، تحت الشاه محمد رضا بهلوي، لتصبح جمهورية إسلامية عن طريق الاستفتاء.

آية الله أو الإمام، كما هو معروف في إيران، روح الله الخميني يعد القائد المباشر للثورة في مرحلتها الأخيرة ومؤسس الجمهورية الإسلامية الإيرانية بما وضعه من نظريات للحكم وإدارة الدولة وتنمية هيئتها الثورية الإدارية.

إنها ثورة فريدة من نوعها باعتبارها مفاجأة على مسرح الأحداث الدولية، وذلك من حيث السرعة التي حدث بها التغيير العميق، وكذلك الدور القيادي للدين فيه، كما أنه كان يعتقد أن النظام محمي كما يجب من قبل الجيش والأجهزة الأمنية التي أنفق النظام عليها ميزانيات ضخمة، إضافة إلى انعدام الأسباب الاعتيادية المعروفة للثورة، كالأزمات المالية، أو الهزائم العسكرية، أو عصيان الفلاحين، أو التمرد العسكري.

كانت نتيجة الثورة نشوء جمهورية إسلامية بقيادة عالم دين منفي يبلغ من العمر ثمانين عاما وهو موسوي النسب نشأ في قرية خمين، مدعوما من مظاهرات متقطعة لكن شعبية وحماسية طافت شوارع إيران وطهران التي كانت آنذاك مدينة عالمية، كما تؤكد التقارير، هذه النتيجة وجهت صفعة مدوية لكثير من النظريات والفرضيات.

كانت الثورة الإيرانية من أهم روافد القوة وبعث الأمل بالنسبة للصحوة الإسلامية في مصر، وأنا اليوم أتذكر بقوة المظاهرات التي شاركت فيها في جامعة المنيا وهي تطوف طرقات كلية الآداب وهتافها .. (يا خميني قل لإيران ... مصر جاية بالقرآن) وقوات الأمن المصري تمنعنا بعنف من الخروج إلى الشارع.

جريمة احتلال الحرم المكي:

بدأت أحداثها فجر يوم 1 محرم 1400 الموافق 20 نوفمبر 1979، حين استولى 200 مسلح (مصادر أخرى تقول 500) على الحرم المكي أقدس بقاع العالم عند المسلمين، في محاولة لقلب نظام الحكم في المملكة العربية السعودية إبان عهد الملك خالد بن عبد العزيز، هزت العملية العالم الإسلامي برمته؛

فمن حيث موعدها فقد وقعت مع فجر أول يوم في القرن الهجري الجديد، ومن حيث عنفها فقد تسببت بسفك للدماء في باحة الحرم المكي، وأودت بحياة الكثير من رجال الأمن السعوديين والمسلحين المتحصنين داخل الحرم، حركت الحادثة بسرعة مشاعر الكثير من المسلمين بعضهم شجبها وأنكرها ووقف ضدها وآخرون تضامنوا معها، وكان من المتضامنين مع جهيمان بعض زملائنا الذين التحقوا بالتيار السلفي وأذكر منهم المرحوم عبد الله بن عمر من شبرا وقد صدر عليه حكم بالإعدام ونفذ الحكم مع جهيمان.

خلفية دينية وتاريخية وسياسية:

تؤمن بعض المذاهب الإسلامية بقدوم مجدد للدين كل مئة عام مستندين في ذلك إلى حديث الرسول محمد: "يبعث الله على رأس كل مائة عام من يجدد لأمتي دينها" كما يؤمن البعض بقدوم المهدي المنتظر والذي ينتسب إلى آل بيت الرسول، وأن اسمه يكون "محمد"، واسم أبيه "عبد الله" كما في إحدى الروايات، وأن المهدي سيضطر إلى اللجوء إلى المسجد الحرام هربا من "أعداء الله" أطراف المعادلة أصبحت كاملة من وجهة نظر جهيمان العتيبي قائد العملية، القرن هجري الجديد قادم، وصهره ورفيقه يسمى "محمد بن عبد الله"، و"الفساد" مستشر، و"البعد" عن الصراط المستقيم ظاهر، إذن، لم يبق إلى بيت الله الحرام ليلوذ إليه "المهدي المنتظر" وتتحقق البشارة.

وفي سياق آخر كان نشاط التيارات الإسلامية في أوجه، بداية بالصحوة الإسلامية في مصر، وبدء تشكل التيارات التكفيرية في بعض المناطق السعودية والعالم العربي، والتحركات الإسلامية في سوريا، ومن جانب آخر إبرام معاهدة كامب ديفيد، وما يبدو من أنه بدء الاعتراف العربي الرسمي بانتهاء عهد الحروب مع إسرائيل وبدء الاعتراف بوجودها الطبيعي؛

وأخيرا انتصار الثورة الإسلامية في إيران الذي ولد لدى تيارات إسلامية أخرى تصور إمكانية تكرار مشابه لما فعله الخميني في إيران، وتخوف الحكومات العربية والعالمية في نفس الوقت من نجاح حركات إسلامية في السيطرة على بلدان أخرى في المنطقة، ونشوء دول أو جمهوريات إسلامية خارج نطاق السيطرة، ومن الجدير بالذكر أن أحداث الحرم بدأت بعد 16 يوما على بدء أزمة الرهائن في السفارة الأمريكية في طهران.

مبررات الهجوم:

وقد برر جهيمان العتيبي قائد العملية هجومه باعتباره محاولة لتصحيح الوضع الذي تسبب به آل سعود، الفاقدين للشرعية، حسب زعمه، بسبب فسادهم وتدميرهم لثقافة البلاد وحضارتها ونهجهم في اتباع الغرب وموالاته، إضافة إلى دعوته إلى مبايعة محمد عبد الله القحطاني، خليفة للمسلمين، وإماما لهم على أنه المهدي المنتظر.

وشكلت هذه الحادثة ردود فعل عنيفة وضارة بالحركة الإسلامية واعتبرت دليلا على ما يمكن أن تصل إليه درجة الانحراف الفكري لدى المتدينين.

اعتقالات 5 سبتمبر 1981:

مثلت تلك الاعتقالات القشة التي قصمت ظهر البعير في العلاقة بين السادات والشعب المصري، السادات فقد أعصابه ونفذ صبره، وخطب في المواطنين غاضبا وشتاما ومهددا، قوائم المعتقلين شملت كافة التوجهات الفكرية ومثلت فقدان التوازن لدى القيادة السياسية؛

في يوم 4 سبتمبر تم القبض على حوالي ألف من المعارضة وبقي حوالي 4 آلاف شملتهم قوائم الاعتقالات، كلنا شعر أن مصر أصبحت على كف عفريت، وإن أخطارا مخيفة تحدق بالوطن، وقد تحقق ذلك بالفعل بعد شهر واحد واغتيل السادات وأصبحت مصر تواجه وضعا خطيرا غير مسبوق.

اغتيال السادات في 6 أكتوبر 1981:

حكاية حادثة المنصة منشورة في أكثر من كتاب وموقع وجريدة، المقصود هنا وضعها في جملة نتائج مرحلة كفاح جيل السبعينيات الإسلامي لإقامة ما يراه دولة إسلامية وكيف عايشت أنا الموضوع بصفتي أحد أفراد هذا الجيل، كما تقدم فإن الصحوة الإسلامية انقسمت إلى عدة مدارس فكرية نهاية السبعينيات، حدثت قطيعة بين المدارس السلمية والمدارس الحربية المسلحة، ليس ذلك كراهية ولكن لزوم السرية من قبل المسلحين؛

وعلى ذلك فقد انقطعت عني أخبار الموضوع تماما ولم أدر به إلا قبل حدوثه بشهر تقريبا حيث زارني أحد الشباب المنتمي للإخوان عن طريقي والمجند بالقوات المسلحة أن زملاءه من المنيا يدعونه للمشاركة في عملية اغتيال لقيادة كبيرة قد تكون الرئيس انتقاما منه لقيامه باعتقال الآلاف من إخوانهم وذويهم، وانتهى الأمر برفض الفكرة من قبلي لأسباب عقدية وتنظيمية؛

ولكن الإقدام على العملية تأكد لي من أكثر من ملاحظة على م ن أعرف أنهم أصبحوا في الفريق المسلح، وفي يوم العرض العسكري كنت أتابعه لحظة بلحظة بواسطة راديو ترانزستور صغير انتظارا للحظة إطلاق النار، وحدث ما كان متوقعا ومنتشرا بين الجماعات الإسلامية لدرجة التواتر، وأسرعت للنزول إلى الشارع لمتابعة الموقف وسط الناس؛

كان الجميع لا يصدق ما حدث حتى الجماعات الإسلامية، وانتهى الأمر بالنسبة لي إلى مزيد من الحذر والتخفي وانتظار المجهول، في اليوم التالي ذهبت لصلاة العيد في مسجد لا يعرفني فيه أحد، واخترت مسجد الثورة بشارع صلاح سالم بمصر الجديدة، وهناك وجدت عبد اللطيف الشريف وآخرين ولكن لم يسلم أحد على أحد، اللافت للنظر أن المشاعر كانت متشابهة والحيرة تشمل الجميع؛

أما الأغرب أن الخطيب تحدث عن صراع موسى وفرعون ونهاية فرعون وختم بالآية (فما بكت عليهم السماء ...) وفور نهاية الصلاة عدت إلى البيت وخرجت بعد قليل فقد كنت على موعد مع الأخوين محي الدين أحمد عبسي وأبو العلا ماضي من المنيا هاربين من الاعتقال ومسافرين معي لقضاء العيد في قريتنا بعيدا عن أعين الشرطة، وبدلا من التفكير في استكمال طريق الاستيلاء على السلطة فإن عملية الاغتيال أحدثت تأثيرا عكسيا وسلبيا، أصيبت الصحوة الإسلامية بالتشرذم والانسحاب والخوف وراح كل فريق يحاول بالكاد لملمة أطرافه والكمون لأجل غير مسمى.

حسني مبارك يفوز بالرئاسة:

باغتيال الرئيس السادات خلا منصبه، كان ذلك تحديدا عقب ظهر يوم السادس من أكتوبر 1981، نفس الساعة التي عبر فيها الجيش المصري قناة السويس 8 سنوات، مصر في هذه الساعة بغير رئيس وبغير حكومة وبغير قائد أعلى للقوات المسلحة، بموجب القانون يتولى نائب الرئيس السلطة، ولكن نائب الرئيس ضمن الجرحى في عملية الاغتيال، المجموعة التي خططت ونفذت عملية الاغتيال لم تصدق أنها نجحت، المكلفون بالمتابعة والاتصال ببقية الخلايا الإسلامية المسلحة تعطلت أدمغتهم وانهارت قواهم أمام ضخامة الحدث ومواجهة الواقع؛

المطلوب الآن حسب المعلن الإسلامي طيلة نصف قرن مضي هو الاستيلاء على السلطة وإقامة الدولة الإسلامية التي بشر بها الإخوان المسلمون في الأربعينات والتنظيمات السرية المنسوبة وعمر عبد الرحمن في تنظيم الجهاد، ولكن التقدم لاستلام مقاليد السلطة عمليا يحتاج لرجال وآليات، لأول مرة يكتشف الإسلاميون جميعا أن اغتيال رئيس النظام ومن حوله ممكن

ولكن تسلم مقاليد الوطن بهذه الطريقة لم يعد ممكنا، المغرر بهم جميعا يقفون وظهرهم للحائط، أربعة من المهاجمين قبض عليهم في أرض المعركة، الخامس استطاع الفرار وسط هرج ومرج غير مسبوقين، على جبل عرفات أقيمت احتفالات من حجاج الجماعات بمناسبة سقوط الفرعون قتيلا؛

اليوم التالي كان يوم عيد الأضحى، الحجاج غادروا عرفات متوجهين لرمي الجمرات ورشق إبليس بالحصى، الحجاج بعد أيام يعودون لبلدانهم وبعد شهور يندمجون في مجتمعاتهم، ويعود إبليس يوسوس في آذانهم وتعود ريمة لعادتها القديمة؛

وهنا في ساحة العملية في مصر وصبيحة العيد تتوجه مجموعة من الخلايا النائمة في محافظة أسيوط لتقدم كل ما أمكن تجهيزه وإعداده ليكون قربانا للدولة الإسلامية المنتظرة، عشرات من الشباب الصعيدي المحترق للثأر والانتقام من رموز الحكم عامة وضباط المباحث خاصة، قرابة ثلاث أجولة من الرصاص الحي وعشرات من الرشاشات (وشفرتها رياض الصالحين) وعشرات من المسدسات (وشفرتها فقه السنة) والتوجه لمديرية أمن أسيوط ومحاصرتها والهجوم عليها وقتل قرابة المائة من فقراء المسلمين المرتدين لملابس الشرطة بحكم وظيفتهم، شاشة التاريخ تعلن نهاية الفيلم وتبدو كلمة النهاية بعرض الشاشة، الثورة الإسلامية انتهت يا سادة؛

في اليوم الثالث كنت معتقلا ومودع بغرفة الحجز في قسم مصر الجديدة، علمت أن صوفي أبو طالب رئيس مجلس الشعب تولى السلطة بحكم الدستور لحين إجراء الاستفتاء على من رشحه مجلس الشعب؛

وعلمت أن المجلس رشح نائب الرئيس محمد حسني مبارك لرئاسة الجمهورية وعلمت بعد يومين أو ثلاثة أنه فاز بمنصب الرئيس، وعقب توليه السلطة واستقرار الأمور صدر قرار بترحيلي إلى معتقل أبو زعبل، وحتى اليوم مارس 2009 ما زال الرئيس في موقعه وما زال معتقل أبو زعبل يستقبل مصريين جدد معظمهم من التنظيم السري المحسوب على الإخوان المسلمين.

النهاية الغامضة:

علامة الاستفهام الكبرى التي تظهر في الأفق بعد هذا العرض لظاهرة الصحوة الإسلامية في السبعينيات وما ترتب عليها من وقائع وتغيرات تصبح منطقية والسؤال الذي ينبغي أن نجيب عليه هو:

كيف تم ابتلاع هذه الحركة الشعبية الإسلامية العملاقة وأي مغارة عميقة سحيقة غيبت هذه الصحوة؟ وأي مؤامرة حيكت لهذا الشباب النقي التقي حتى ينتهي ومعه شعب بأثره إلى لا شيء تقريبا؟

ترى .. من هؤلاء الذين أضاعوا على الأمة فرصة لا تعوض وزمنا يصل إلى الثلاثين عاما من الجهد لتعود مصر إلى نقطة البداية في أواخر الأربعينيات، دولة تنتمي إلى العالم الثالث المتخلف وحكومة متهمة بكل ألوان الفساد؛

وإسلاميون متصادمون مع الجميع حكومة ونخبة وشعب، وسجون ومعتقلات وتزوير للانتخابات وطبقية مذرية وغني فاحش للقلة وفقر مدقع للغالبية وتعليم خاص للأغنياء وجهل ومرض للفقراء ... وبالجملة عادت ريمة لعادتها القديمة وانطبق علينا قول الشاعر (... فلا مصر استقلت ولا السودان داما) وعليه العوض في الصحوة الإسلامية إلا أن يتغمدنا الله برحمته.

الإجابة على هذه الأسئلة الحائرة تتطلب سرد الأحداث والوقائع حول ما تم بشأن مصادرة الصحوة الإسلامية واستلابها وهذا هو موضوع الفصول التالية.

الفصل الرابع السريون الجدد وإعادة بناء الإخوان

 

عندما صدرت قرارات السادات بإطلاق سراح من تبقى من الإخوان المسلمين المسجونين لم يكن تبقى من جماعة الإخوان شيء في الأرض المصرية، لا توجد أسر ولا شعب ولا مناطق، لا توجد كتب إخوانية ولا حتى المأثورات، المفرج عنهم خليط من إخوان الأربعينيات والخمسينيات ومن لحق بهم في السجون من تنظيمات 65؛

غالبية المفرج عنهم كانوا في حالة إحباط تام الغالبية العظمى منهم ولو وجهوهم نحو بلاد النفط لحاقا بمن فروا في الخمسينيات والستينيات طلبا للرزق عند ملوك كارهين للثورة ومجلسها، الباقون في الوطن وهم قلة القلة انبهروا لظاهرة الصحوة الإسلامية التي تنامت وترعرعت أثناء غيابهم وراء القضبان، بعض الإخوان المفرج عنهم رأى أن الواجب يقتضي توعية الشباب الإسلامي بهموم الحركة الإسلامية خلال نصف القرن الماضي وتعريفهم بأخطائها؛

رفع هؤلاء شعار (دعاة لا قضاة) وكان معظم الشباب يتهكم على ذلك ويسمى الكتاب الذي حمل هذا العنوان (الكتاب الأزرق)، وقال فريق الكتاب الأزرق بأن قضيتنا تحسين حالة الأمة دينيا وليس الحكم عليها؛

وفي ساحة العمل اليومي شباب الصحوة الإسلامية يسمع ويستفيد وينطلق مسرعا إلى أهداف لم تتبلور بعد، ألمع الشخصيات الإخوانية وأكثرها جاذبية كان الأستاذ عمر التلمساني، ما زلت أذكره جذاب تجمله صراحة كاملة ولغة عربية فصيحة أخاذة، وحوله دائما جابر رزق وأحمد الملط رحمة الله على الجميع.

في الإسكندرية تعرفنا على عباس السيسي ملك الدعوة بالفكاهة والقفشات ومعه محمود شكري ومحمد عبد المنعم، وفي الدقهلية نسمع عن الإمام الغائب محمد العدوي الذي لا يظهر على أحد ويرى أنه المرشد الحقيقي، في البحيرة الدسوقي بقنينة ومعه محسن القويعي، في طنطا أحمد البس ومعه لاشين أبو شنب، في المنوفية الشيخ عبد الخالق الشامي، وفرج النجار وأبو الفتوح عفيفي، في بني سويف العفيف الطاهر حسن جودة ومعه محمود الصعيدي ...

في المنيا الشيخ محمود العسال صاحب الهيبة والوقار وملك التقشف وصديق الطلاب الفقراء ينشر فيهم العلم والعمل ويطعمهم قوت القلوب ورحيق الروح بعدما بنا لهم سكنا جماعيا من تبرعات المحبين، مركز سمالوط كان متميزا من الأيام الأولى وبه كوكبة من الصالحين كبيرهم الحاج محمود الكيال صاحب التواشيح التي تنقلنا إلى أعلى عليين والمتميز في فقه المواريث ومعه أمين المركز المجتهد الوقور علي عمران وحولهما صف من العاملين بجد لنصرة الإسلام القماري وعبد الله وصالح وخليفة ومحمد محجوب.

في أسيوط الشيخ عبود والحاج أحمد فاضل ودسوقي شملول وفي منفلوط العمدة محمد حامد أبو النصر، في سوهاج الأستاذ عيسى عبد العليم وفي قنا د. طه وفي أسوان م. يوسف عليان، ومع روعة الباقين في الوطن؛

وما لهم من فضل السبق والإصرار على إعادة بناء ما تهدم فلم يكونوا على طريقة واحدة ولا ثقافة واحدة ولا فهما واحدا، ولذلك يلاحظ الخبير بإخوانه فروقات واضحة بين الإخوان من محافظة إلى أخرى، ولكن كان لا بد من اتفاق على طريقة للعمل، عندما جلسوا ليتفاهموا برزت خلافات الماضي وطلت رؤى قديمة حسبها البعض قد ماتت وانتهت؛

بعض الإخوان رفض العودة للماضي واعتباره تاريخا قد توقف وعارض مجرد وجد مسمى (الإخوان المسلمين) أو أي تنظيم لهم، وأعلن حربا على الفكر السري لما تسبب عنه من مآس تاريخية معروفة؛

البعض رأى بالإضافة إلى ما سبق العودة كمؤسسة فكرية تمارس التوجيه بالكتابة والنشر والدراسة والحوار (محمود عبد الحليم)، والبعض رأى أن التنظيم السري المحكم الحديدي هو الحل (مصطفي مشهور وأحمد حسنين ومن تأثر بهم من تنظيمات 65)، وغلب رأي القائلين بالعمل العام بين شباب الصحوة مع إصدار مجلة الدعوة وتأسيس دار نشر؛

واعتبار الإخوان رافدا فكريا من روافد الصحوة دون وضع لافتة الإخوان على الصحوة الإسلامية مبررا ذلك بعدم تحميل الجيل الجديد أخطاء السابقين وخلافاتهم ولأن هذا الجيل قد يأتي أعمالا تحمل على أنها من الإخوان وهي ليست كذلك، ورأى هذا الفريق وجود نظام تنسيق بين الإخوان ويس تنظيما سريا أو علنيا؛

وقال هذا الفريق فليكن بيننا نوع مبسط من التنسيق الإخوان فيه سواسية كأسنان المشط، وتبنى هذا الرأي عمر التلمساني وأحمد الملط وجابر رزق ومحمد سليم وصلاح شادي ومحمد فريد عبد الخالق وعبد اله رشوان وغالبية الإخوان الذين تواجدوا في مصر في هذا التاريخ، كما اتفق الجميع على رفض فكرة إعادة النظام الخاص السري رفضا قاطعا.

ويتفق معي في هذا السياق شهادة الأستاذ محمود عبد الحليم ورأيت من المفيد إثباتها هنا:

شهادة الأستاذ محمود عبد الحليم:

(عن كتاب حسام تمام "تحولات الإخوان المسلمين").

محمود عبد الحليم عاصر الأحداث الفاصلة في تاريخ جماعة الإخوان إذ انضم إليها في السنة الأولى من انتقالها من الإسماعيلية إلى القاهرة وشارك في تأسيس أول لجنة طلابية في تاريخها وكان واحدا من خمسة تأسس على أيديهم النظام الخاص للجماعة سنة 1940 وواحدا من مائة تشكت منهم أول هيئة تأسيسية للجماعة سنة 1941م وكان صاحب فكرة شعارها الذي ما زالت تحتفظ به إلى الآن "سيفان ومصحف" ومع ذلك ترك التنظيم في نهاية السبعينيات ليختفي تماما من الساحة الإخوانية.

لماذا توقفت في كتابك "الإخوان المسلمون ... أحداث صنعت التاريخ" عند بداية السبعينيات ولم تصدر جزءا رابعا عن تاريخ الجماعة في عهد السادات وعهد مبارك بما أسقط من الكتاب حقبة تاريخية كاملة رغم أن الكتابة عنها وفيها كانت أيسر بكثير ووثائقها وأحداثها وشخوصها ما زالت حاضرة؟

لأنني كنت أكتب عن تاريخ شاركت في صنعه وأحداث كنت قريبا منها أو ممن صنعوها وكنت في هذه الفترة في مواقع تسمح لي وتمنحني الحق في الكتابة عن الأحداث والتأريخ لها، أما فيما بعد الخروج من السجن وطوال الفترة التي تلته فقد اختلفت الحال بما ينزع عني أهلية الكتابة عنها لذا فضلت أن يقتصر كتابي على ثلاثة أجزاء فقط تتوقف أحداثها مع بداية عصر السادات لأن ما بعد ذلك لا يمكنني الكتابة عنه بما يفيد ولو كتبت لكنت غير صادق مع نفسي، لا تنس أنني لا أعتبر نفسي مؤرخا مهمته كتابة التاريخ بل أنا كتبت التاريخ كشاهد عليه وليس باحثا فيه أو مؤرخا له بالدرجة الأولى.

لكنك عضو بالهيئة التأسيسية للإخوان وهي أعلى هيئة بالجماعة ولم يعرف عنك الانفصال عنها كما أنك كنت المؤهل للكتابة في تاريخ الإخوان خاصة بعد أن أصدرت كتابك الذي يمكن اعتباره المرجع الأول لكل من يكتب عن تاريخ الإخوان، ألم يتح لك ذلك الاستمرار في تسجيل تاريخ الإخوان خاصة أن أحدا غيرك لم يتصد لهذه المهمة؟

لهذا قصة لم أشر إليها من قبل وربما لا يعرفها الكثيرون ... فبعد خروجنا من السجون في أوائل السبعينيات جرت مشاورات بين القيادة التاريخية للجماعة حول الكيفية والشكل الذي يمكن أن تعود به الجماعة إلى الوجود وتستعيد نشاطها داخل المجتمع المصري وعلاقتها خارجه واتصل بي الأخ عباس السيسي (من قيادات الإسكندرية)

وطلب رأيي في ذلك فاقترحت عليه فكرة جديدة تماما عما كان متداولا وقتها بين هذه القيادات وتقوم على التخلي تماما عن السعي لبناء تنظيم للجماعة على النحو والكيفية التي كانت عليها من قبل والابتعاد تماما عن الشكل التقليدي والمعروف للجماعة بما فيها اللافتة أو العنوان "الإخوان المسلمين" واقترحت أن يأخذ نشاطها وجهة ثقافية وفكرية بعيدا عن التنظيمات السرية والعمل السياسي المباشر تحاشيا لتكرار الصدام والمواجهة مع الأنظمة الحاكمة التي كنت قد وصلت بشأنها إلى قناعة أقرب لليقين بأن العلاقة معها قد صارت إلى الفراق الذي لا يرجى بعده لقاء.

وكيف تم التعامل مع فكرتك؟

جرت حولها بعض المشاورات والمناقشات ولكنها لم تأخذ الوقت الكافي للإنضاج ربما بسبب تسارع الأحداث والتفاعل السريع بين الإخوان والمجتمع والذي حال دون دراسة هذه الفكرة كأسلوب ومنهج جديد في العمل، والعودة وعاد الحال إلى ما كان عليه دون أي تغيير؛

ولم ينفذ من فكرتي سوى جزء بسيط منها ولكن دون المعنى والمغزى الذي كنت أقصده حيث اكتفت القيادات بتأسيس دار الطباعة التي أطلق عليها "الإسلامية" رغم أن هذه الصفة لم تكن تضيف إليها شيئا ولم تكن لتفيد خاصة وأن الجماعة كانت في بداية مسيرتها للعودة ومن المفترض أنها تحت الأنظار.

وهل أدى هذا الخلاف إلى الابتعاد أو الانفصال عن الإخوان؟

لا ... لم أشأ الانفصال رغم اختلاف القناعات وقبلت الاستمرار في العمل معهم ولكن كفرد وليس كقيادة كما كان الحال، ولكنني اخترت أن أعمل فيما أعتقد أنه أكثر فائدة ونفعا وهو تصحيح أفكار ومفاهيم الإخوان وتجلية بعض المواقف والأحداث التاريخية وهو ما عكفت عليه بعد خروجي من السجن وحرصت أن تظل بالإخوان جيدة باستمرار فقبلت مثلا العمل تحت مسئولية الأخ عباس السيسي الذي كان قد أصبح مسئولا عن محافظة الإسكندرية رغم أنه كان تلميذي قبل ذللك وتحت مسئوليتي؛

وإن كنت قد رفضت عرضا من الأستاذ عمر التلمساني بترشيحي كعضو في مكتب الإرشاد الذي كان قد أعيد تشكيله وقتها فقد كنت قد حددت وجهتي كما أن هذا المنصب يتطلب التواجد بالقاهرة أو السفر إليها أسبوعيا على الأقل وهو ما لم أكن مرحبا به أو قادرا عليه خاصة وأن حالتي الصحية ومعاناة السجن والتعذيب كانت تحول دون ذلك.

لكن هل يمكن النظر إلى هذه الواقعة كبداية لما صار يعرف بالخلاف بين من يقولون بأولوية الفكرة والدعوة ومن يقولون بأولوية الجماعة والتنظيم؟

أعتقد أن هذا الخلاف قديم في الجماعة وربما يرجع تاريخه إلى أوائل الخمسينيات التي شهدت فصل عدد من كبار الدعاة والقيادات من التنظيم بسبب مخالفات إدارية وتنظيمية أو بسبب خلافاتهم مع قيادات الجماعة.

وماذا عن موقفك ... هل أنت مع مبدأ الجماعة والتنظيم أولا أم مع الدعوة والفكرة غير المتقيدة بإطار تنظيمي؟

الأمور لا تحسب هكذا ... لا يمكن أن أدعو إلى إلغاء أو تفكيك الكيانات والتجمعات الإسلامية الموجودة تحت دعوى خاصة وأنها تمارس دورا مهما في الدعوة الإسلامية لكن ما أرفضه تماما هو أن تسجن فكرة ودعوة عالمية وتوضع عليها القيود باسم مصلحة التنظيم أو أن يدعي تنظيم أو جماعة ما أنه الممثل للإسلام أو أن يكون معيار التعامل مع الآخرين هو شكل العلاقة مع التنظيم

وأعتقد أن ذلك كله قناعات راسخة لدي حتى قبل أن ألتحق بتنظيم الإخوان وربما كان ذلك سببا للخلاف مع قيادات الإخوان في الخمسينيات فيما يخص واقعة فصل الشيخ محمد الغزالي من الجماعة لأنني رفضت مسلك بعض القيادات التي تعاملت معه بشكل غير لائق وتجاهلت قيمته كعالم وداعية له وزنه وعطاؤه الذي لا ينكره أحد؛

وظللت على علاقة وطيدة به وأذكر أننا التقينا بعدها وتعانقنا وكأن شيئا لم يحدث لأنني اعتبرت ما حدث مجرد تجاوزات إدارية وخلافات لا صلة لها مطلقا بتقييم الإنسان إسلاميا، كما أنني وقفت في صف عودة صالح عشماوي صاحب امتياز مجلة الدعوة بعد فصله من الجماعة حينما أقر بخطته وطلب العودة.المشكلة دائما فيمن يعطون لأنفسهم حق الحكم على الآخرين دينيا بحسب مواقعهم التنظيمية.

السريون الجدد يخالفون إجماع الإخوان

سارت الأمور في العلن على طريقة الأستاذ عمر التلمساني، ونال بطريقته ثقة جميع الأوساط الدعوية كالجامعات وجميع المؤسسات الدعوية كالأزهر والجمعيات الخيرية كالجمعية الشرعية وجمعية الخلفاء الراشدين وأنصار السنة المحمدية، وأقام درس الثلاثاء بمسجد الخلفاء الراشدين، وشرع في تأسيس اتحاد للجمعيات الإسلامية، وأصبح صديقا محببا للجميع حتى السادات غير أن المتعودين على العمل السري لم ترق لهم طريقة التلمساني، ومع كثرة الشباب المتدين وتهافته على كل قديم، ما كان للصياد المتربص أن تفوته الفرصة، وعادت ريمة لعادتها القديمة وبدأت فكرة تكوين نظام خاص جديد قديم وبنفس شخصياته القديمة (مصطفي مشهور وأحمد حسنين ومن تبعهم من بقايا تنظيمات 65 التكفيرية)؛

وكنت واحدا ممن بايعوا المرحوم الحاج مصطفى على السمع والطاعة في المنشط والمكره ضمن التنظيم الجديد ولكن بنية مختلفة عنهم كما تكشف فيما بعد، فقد كنت أتصور أنه يأخذ البيعة نيابة عن المرشد المعلن عمر التلمساني وأننا جميعا في مركب دعوي واحد، كما أنني في هذا العمر (حوالي خمسة وعشرين سنة) لم يكن لي أي دراية بتاريخ التنظيمات السرية الإخوانية؛

وعشت مع الحاج مصطفي مشهور أحلى سنوات العمر من مارس 1975 وحتى سفره فجأة في أغسطس 1981 قبل اعتقالات 3 سبتمبر 1981 الشهيرة، وعندما عاد الحاج مصطفي مشهور في وسط عام 1986 وجدني منهمكا في العمل ضمن منظومة الأستاذ عمر التلمساني بكل قوة ودأب، وزارني في بيتي بمدينة نصر وتداول معي الأمر وتأكد أنني ضمن فريق العمل الإخواني المكلف من الأستاذ عمر التلمساني فلم يفاتحني في شيء مخالف؛

ولكن من حيث الواقع العملي فقد بدأت متاعبي معه ومع الفريق الذي حوله، ومن تاريخ الانضمام الأول حتى اليوم جرت أحداث جسام يجدر بكل مخلص أن يعيها، ولنبدأ قصة المتاعب مع السريين الجدد من أولها.

كان الطبيب حديث التخرج محمود عزت يعمل بالعيادة الخاصة بمصنع الشريف في شبرا الخيمة، كنت وقتها رئيس المعامل وضبط الجودة بشركات ومصانع الشريف ومعيدا بكلية العلوم جامعة المنيا وطالب ماجستير بكلية العلوم بجامعة عين شمس وأحد أعضاء تنظيم إسلامي جديد بالقاهرة تشكل من بقايا تنظيم الفنية العسكرية بعد فشل المحاولة الأولى للإطاحة بنظام السادات، ولم يكن لي علاقة بالعيادة ولم ألتفت إلى وجود محمود عزت قط ولا أذكر السبب الذي دعاني من أجله لزيارته بالبيت.

كنت مشغولا في هذه الأيام بالعمل الإسلامي في حي النزهة ومساجدها التي كانت تعج بالنشاط الدعوي البعيد عن مسمى الإخوان المسلمين والمصبوغ بصبغة الجماعات الإسلامية أو الصحوة الإسلامية التي فصلناها في الفصل السابق، قبلت الدعوة وزرته في البيت، مد يده وأعطاني مصحفا وخيرني في تلاوة السورة التي أحبها؛

مباشرة عمدت إلى سورة غافر فقد كانت آخر ما حفظت من كتاب الله، أعجب كثيرا بطريقة تلاوتي فلم يدعني أكمل السورة وقال يكفي هذا القدر، ولما كانت صلاة الجمعة على الأبواب فقد هممت بالانصراف شاكرا له حسن استضافته ورغبته في التعرف على شخصي، على السلم وضع يده في جيبه وأعطاني ورقة مطوية بشدة حتى صارت بمساحة 4 سم مربع.

أخذتها واحتياطيا فتحتها على السلم وأخذت عنها فكرة سريعة ثم وضعتها في جيبي ولم أقرأ ما فيها بدقة حتى رجعت للمنزل عقب صلاة الجمعة.

كانت ورقة بسيطة للغاية مكتوبة بالقلم الرصاص وتبدأ بعرض ما في المجتمع من منكرات وتعلق ذلك على بعد المجتمع عن الدين وتعرض البديل تلقائيا بضرورة التمسك بالدين والعمل على نصرته والبحث عن الجماعة المناسبة للقيام بهذا الدور.

بعد مرور عدة أيام همس أحد الموظفين بمصانع الشريف ويدعى محمد عليوة برغبته في عقد تعارف بيني وبين الحاج مصطفي مشهور، وبطبيعتي كنت تواقا أن أعرف كل شيء عن التنظيمات الإسلامية ومناهجها وطرق عملها عسى أن أجد تنظيما أفضل مما أنا فيه ونضيف جهدنا إليه، فوافقت على الفور وحدد الموعد واصطحبني إلى بيته بكوبري القبة وتركني وانصرف.

مضى اللقاء الأول في التعارف التفصيلي على شخصي واتفقنا على الموعد القادم واستأذنته أن يحضر معي واحدا آخر من التنظيم الذي نشكله حتى ننقل الصورة جيدا لمن خلفنا وقبل الحاج مصطفى، وفي الموعد حضرت ومعي طالب بكلية طب عين شمس (عادل عبد الخالق من مصر الجديدة)؛

ووجدت عند الحاج رابع هو الأخ صيدلي (ممدوح الدسوقي)، واستمرت حواراتنا حول المبادئ العامة للدين ومواصفات الجماعة المسلمة التي ينبغي مبايعتها، كان الحديث من طرف واحد ونحن نستمع ونرد في حدود ضيقة جدا، وخلال شهرين من اللقاءات كان كل منا قد حدد طريقه واختار؛

قررت أن أعمل مع الإخوان ووفقا لفهم حسن البنا وبقيادة عمر التلمساني كمرشد وقيادة مصطفي مشهور المباشرة وكذلك ممدوح، وأما عادل عبد الخالق فقد رفض فكر الإخوان ونقل ذلك لبقية زملائنا في التنظيم الصغير، جلسنا جلسة أخيرة معا وحاولوا كثيرا استعادتي إليهم ولكنني أخبرتهم بقراري النهائي، ومن يومها كأن الأرض انشقت وابتلعتهم ولم تقع عيني على واحد منهم ولو قدرا.

لطلب الحاج مصطفي مشهور لقاء منفردا معي وأخبرته بما حدث فقال: أنت اليوم من الإخوان ووجبت في عنقك البيعة فمد يدك وبايعني، وكانت البيعة على بركة الله.

ما بعد البيعة:

دعاني الحاج مصطفى لحضور أول اجتماع إخواني موسع في بيت أحد الإخوان بعمارة الشريف بمصر الجديدة حضر الاجتماع معظم الإداريين بمصانع الشريف وجلهم من الإخوان المفرج عنهم حديثا (مجموعة الشريف) وقدمني الحاج مصطفى لهم وأردف قائلا: أخ جديد صحيح معضم ولكن عليكوا تنجدوه (من التنجيد) كان رحمة الله عليه من الظرفاء وضحكت وضحك الجميع وقضينا وقتا طيبا وبدأت الحياة التنظيمية المعتادة، عضوا بالأسر الإخوانية، ثم المسئول الثالث بأول قسم للجماعة وهو قسم الطلاب برئاسة مصطفي مشهور؛

ثم سفر الحاج مصطفى ثم اكتشاف التنظيم السري ثم العمل مع التنظيم الشرعي بقيادة التلمساني ثم عودة السريين وكشف مخططهم في العملية سلسبيل لقلب نظام الحكم في الإخوان ثم الانتقال القسري إلى قسم المهن وتولي المسئولية عن نقابة المهن العملية ثم إجراء الانتخابات والفوز بمقعد في مجلس الشوري

ثم كشف الاجتماع واعتقال المجتمعين ثم قضية 1995 أمام المحاكم العسكرية والحكم بسجني ثلاث سنوات ثم قضية حزب الوسط ثم الخروج من السجن ثم المواجهات مع السريين الجدد في أكثر من موقع حتى مرحلة كتابة الرسائل الإصلاحية فانتخابات 2005 فالمواجهات العلنية التي أكدت ضرورة إصدار هذا الكتاب لبيان الحالة التي وصلنا إليها بعد استيلائهم على جماعتنا، ويمكننا تقصي هذه الأحداث وملابسات حدوثها تحت العناوين التالية:

حالة الاقتراب من الجماعات الإسلامية:

عندما أفرج السادات عن الباقين من الإخوان في السجون كانت الصحوة الإسلامية بلغت الذروة في الجامعات، وكان طبيعيا أن يفرح الإخوان بهذه الصحوة بوصفها حققت ما عز عليهم أن يحققوه، وكانت الفرحة بادية على وجوه معظمهم بالفعل، ولكن بدت مشاعر فريق السريين مختلفة ووجهوا نقدا واضحا لسلوكيات الشباب واهتمامهم بالهدي الظاهر وحجاب المسلمة والخلافات في الفروع، ونسي معظم السريين أن المرحلة العمرية للشباب لها متعلقاتها النفسية والسلوكية؛

وبينما كان اقتراب الإخوان من شباب الصحوة يستهدف نقلهم إلى وضع أفضل من حيث الفهم والسلوك كان أسلوب السريين مختلفا وأهدافهم مغايرة لذلك فقد كثرت أحاديثهم وحكاياتهم حول السجون والزنازين والمحمصة والتعذيب والكرابيج والعروسة والتحقيقات؛

وكان قد صدر كتاب البوابة السوداء للأستاذ أحمد رائف في أبريل 1974 ليصب مزيدا من الزيت على النار المشتعلة بما قدمه من صورة تفصيلية لأحداث التعذيب في السجون الناصرية لأول مرة، ثم صدر كتاب في الزنزانة للأستاذ علي جريشة في نفس السياق، ومارس السريون أسوأ عملية تضعيف وتجريح لقادة الصحوة من العلماء مثل محمد الغزالي وسيد سابق وإبراهيم عزت وحافظ سلامة وعبد الحميد كشك والشيخ الشعراوي وبطرق عديدة؛

إن تجريح المخالفين في الرأي وإعداد لوائح اتهام لهم سيبقى وسيلة من وسائلهم المستنكرة، وطالت حملة التضعيف والجرح رموز الصحوة من الشباب مثل أسامة عبد العظيم وعبد الله سعد بجامعة الأزهر وقيل إنهم يتاجرون في الكتب الجامعية مستغلين مقاعد الاتحاد؛

وأنهم يتربحون من ذلك مبالغ طائلة تصل إلى عشرات الجنيهات، كما كان هناك عملية حصار مضروب على بعض الشخصيات الإخوانية بدون مبرر مفهوم مثل الأستاذ فريد عبد الخالق والأستاذ صلاح شادي والدكتور المحامي عبد الله رشوان والشيخ محمد المطراوي والشيخ عبد المعز عبد الستار وصالح عشماوي وصالح أبو رقيق وكان الحاج مصطفي مشهور يحذرنا كثيرا من التحدث إلى أحدهم أو مجرد الاقتراب من أشخاصهم؛

بالتوازي كان هناك تكبير وتضخيم لما وقع لبعض المعتقلين الإخوان من تعذيب، وكيف تعاملوا مع الجلادين بنظرات التحدي والاحتقار، بينما ضعف آخرون وبايعوا جمال عبد الناصر أو تراجعوا عن مبادئهم تحت ضغوط العائلات والأولاد، وسميت العملية (بالزحلوقة) التي تأخذ الأخ من ضعف إلى ضعف حتى يحصل على قرار الإفراج؛

وصور السجن في حد ذاته على أنه بطولة وتضحية بالرغم من أنه ليس كذلك وليس من اختيار أحد بإرادته، والمحصلة الطبيعية لمثل هذا العرض والدأب عليه أن انحلت عرى الوحدة بين شباب الصحوة وتنازعتهم توجهات متصارعة بين قيادات الإخوان أنفسهم وبينهم وبين التوجهات الإسلامية الأخرى وانتهى الأمر إلى التفتت والتنازع.

الصدام والمفاصلة بين الإخوان والجماعات الإسلامية:

لم يمض على خروج الإخوان من السجون غير أربعة أعوام حتى بدت ساحة الصحوة الإسلامية عام 1979 مليئة بالصراعات، وأصبح السؤال المطروح من قبل قادة الجماعات الإسلامية: من مع الإخوان ومن ليس معهم؟ وهل نقبل القيادات الإخوانية القديمة كقيادة للصحوة أم نبقي العلاقة معهم ودية تشاورية تعاونية؟ ومن الذي يمثل الإخوان تحديدا؟

وبطبيعة الحال بدأ كل فريق يبرز أسباب موقفه وحشد فريق الرافضين للإخوان انتقاداته للإخوان بالجمة ودون مقدرة على تبين الفروق بين أجنحتهم المتصارعة، وتصنف الشباب في معظمه مع أو ضد الإخوان وتاهت معالم الطريق من بين أقدام الصحوة الإسلامية وانتشرت في الجامعات صراعات الشباب على الإمامة في مساجد الكليات وفي مساجد الأحياء السكنية وبلغ الصراع حد استخدام الأسلحة البيضاء في أكثر من موقع (في المنيا حدثت معركة دامية يوم العيد على كورنيش النيل بين محبي الإخوان ومعارضيهم، وفي آبا الوقف مركز مطاي طعن بالسكين أحد مناصري الإخوان ... من قبل معارضي الإخوان)؛

واختلفوا كذلك حول من تصدر النشرات باسمه وتحت أي شعار، وبالجملة كثرت المهاترات التي أثرت كثيرا على تقدم الصحوة وحالت دون وحدتها، من ناحيتي كنت قد حزمت قراري وحددت وجهتي بالعمل مع الإخوان بقيادة عمر التلمساني كمرشد، ولكنني ويشهد على ذلك كل الذين تعاملت معهم في هذه المرحلة كنت أعتبر ذلك خصوصية تنظيمية لا يترتب عليها مقاطعة أي فصيل يعمل لنصرة الإسلام مهما كان توجهه الفكري وفهمه للدين، ولقد تعاملت مع طلبة الصحوة الإسلامية في جامعة المنيا خمس سنين قبل أحداث المنصة ولم يشعر أحد منهم أنني شيء غيرهم.

أنهت أحداث المنصة الموقف تلقائيا لمصلحة الإخوان حيث ركزت الشرطة عملها في مواجهة المنفذين الذين مروا بنفس الدورة التي مر بها النظام الخاص السري من قبل وانتهى الأمر إلى نبذ العنف وكتابة المراجعات وهو نفس ما آلت إليه مجموعة السريين بعد أحداث عدة من ممارسة العنف امتدت من الأربعينات وحتى أحداث تنظيم 65 مرورا بالصدام مع الثورة وتفكير وتدبير البعض لأكثر من مرة لاغتيال رئيس الدولة غير أن السريين الجدد لم يصدروا مراجعات حتى اليوم يعترفون فيها بأخطائهم.

وبانتهاء أحداث المنصة وصدور الأحكام بشأنها وعودتنا من السجون إلى المساجد انطلقنا نحن الإخوان بقيادة عمر التلمساني وفي غياب السريين الذين تركوا مصر وانسحبوا ينسجون خيوط العملية السرية الرابعة في مواجهة الإخوان والوطن؛

انطلقنا نحن في تحمل المسئولية الدعوية في ساحة شبه خالية من الجماعات الإسلامية تقريبا خلال فترة الثمانينات مما أتاح لنا فرصة عمل ذهبية تمكن بها فريق العمل بقسم الطلاب والمهن من التمدد بالجامعات واكتساب مقاعد الاتحادات الطلابية بالكامل تقريبا وكذلك مقاعد مجالس أندية أعضاء هيئة التدريس ...

موقفنا من السادات وعرض الجمعية:

لم ألتفت إلى ما قدمه الرئيس السادات للإخوان في شبابي، فقد كنت من أعدائه على طول الخط وكنت أنظر إليه كفرعون موسى، اليوم أطالع كتب الإخوان أنفسهم فأجد اعترافاتهم أنه:

أصدر قرارا جمهوريا بالعفو والإفراج الفوري عنهم.

أصدر قرارا جمهوريا بإعادتهم إلى أعمالهم.

أصدر قرارا جمهوريا بأن يعودوا إلى أعمالهم على نفس درجة زملائهم الذين لم يعتقلوا.

أصدر قرارا جمهوريا بإلغاء قانون المراقبة على المفرج عنهم.

أغمض عينه تماما عن حركتهم الدعوية في الداخل والخارج.

أعطى فرصة واسعة لتدفق رأس المال على كبرى شركات توظيف الأموال ومعروف أنها إخوانية التوجه والهوى.

أعاد مجلة الدعوة منبرا هاما للإخوان 1976.

عرض السادات بجد أن يكون للإخوان جمعية مشهرة قانونية، وعرض الأستاذ عمر ذلك على بقية الموجودين من الإخوان وأذكر أنهم رفضوا ذلك.

تصالح مع المرحوم الأستاذ: عمر التلمساني وكان يدعوه بصفة رسمية لحضور الحفلات الرسمية لرئيس الجمهورية، وسمعت الأستاذ عمر يقول إن السادات استشاره في اتفاقية كامب ديفيد وقد تحفظ الأستاذ عمر عليها موضحا سبب ذلك التحفظ بأننا لن نستطيع مهما حاولنا أن نوقف الإفساد الصهيوني للمجتمع المصري عامة والشباب خاصة لو فتحنا حدودنا للصهاينة.

كل ما فعله السادات من وجهة نظري كان اعتذارا للإخوان من السادات بلغة مفهومة (والحر تكفيه الإشارة ...)، ومع ذلك لم نستطع كحركة أن نشكل حالة وطنية تحدث التغيير المنشود بطريقة سلمية، وكما ضاعت فلسطين ونحن شهود وقعت اتفاقية كامب ديفيد ونحن شهود وانتهى السادات مقتولا ونحن شهود وانتهت فرصة الحركة الإسلامية في الحرية بنهايته مقتولا برصاصها.

الهروب المشين ونتائجه:

انتهت السبعينيات بخصام واضح بين الصحوة الإسلامية والسادات، السادات من جانبه شعر بمرارة من موقف الإخوان وأعلن ذلك مرارا وتكرارا، وراح يحمل الإخوان مسئولية تجييش الصحوة الإسلامية في مواجهته وقيادتهم لحركة التمرد عيه، والحقيقة أن هذه طبيعة فهمنا نحن شباب الصحوة للدين في هذه المرحلة، وإن كانت هناك مسئولية للإخوان فهي صمتهم على هذا الفهم وموافقتهم الضمنية عليه؛

لقد انتقد الإخوان أكثر تصرفات الشباب حتى قصر الجلباب وطول اللحية وقاوموا ذلك ونجحوا فيه ولكنهم لم يقاوموا حركة التمرد المسلح في مواجهة السادات بأي شيء بل كان بعضهم يتصور أنه صدام قد يؤدي إلى انتهاء الحكم وسقوط مع عدم قدرة الشباب على إدارة الدولة وأن الأمر سيؤول لهم في النهاية تلقائيا (نظرية الفوضى الخلاقة) وما تزال هذه عقيدة بعض أعضاء مكتب الإرشاد حتى اليوم؛

وهكذا أصبح السادات معزولا عن الإسلاميين ومكروها من الناصريين ومحاربا من اليساريين، فعلى من يتوكأ في شيخوخته السياسية والعمرية؟ لم يبق إلى جواره ناصحا إلا المتأمركين، ونجح هؤلاء في السيطرة على قراره وتوجهاته وصوروا له الأمر بطريقتهم ووضعوه في خيار واحد هو إما أنت وإما المعارضة؛

وتصرف السادات مثل كل القادة العسكريين وتعامل مع الموضوع بلغة (اتغدى بيه قبل ما يتعشى بيك)، فكانت اعتقالات 3 سبتمبر 1981 التي شملت قادة المعارضة جميعا إسلاميين ومسيحيين وناصريين ويساريين، ووقع المحظور وكانت أحداث المنصة وانهارت الدولة المصرية تماما لمدة 24 ساعة على الأقل، ودخلنا نفق الطوارئ وقوانين الإرهاب وعصر الهامش الضيق المتاح للحريات أو الحياة على رصيف الوطن؛

وهنا ملاحظات هامة لم أرد أن يذكر أو أراد شكورا وهي:

منذ صدور قرارات الاعتقال ومباشرة تنفيذها من صباح 3 سبتمبر بالفعل كان طبيعيا أن يكون هناك قرار جماعي إخواني بشأن الموقف من ذلك وكيف ستكون طريقة المواجهة وبالفعل توجهت للمسئول المباشر عني تنظيميا في مصر الجديدة (محمود عزت) لمعرفة التوجيهات فلم أعثر له على أثر، وتوجهت للمسئول الأعلى (مصطفي مشهور) فلم أعثر له على أثر، وكان الأستاذ عمر التلمساني معتقلا؛

وبصراحة تأثرت كثيرا وشعرت بالحزن من هذا التصرف المشين، نحن الذين نخطب على المنابر قائلين للشباب إن القيادة الناصحة سباقة وهي التي تبادر بإنارة الطريق للجنود وإفهامهم طبيعة الموقف والتشاور معهم بشأن التدابير الواجب اتخاذها نحو الظروف التي تمر بها الدعوة والأفراد، والانتهاء إلى ما نسميه تقدير موقف أو حالة؛

ولكن لم يحدث شيئ من ذلك وحدثتني نفسي قائلة يبدو أن القيادة هربت وتركتني ومن خلفي وحدنا؟ وبقيت أياما وأنا خائف أترقب ولا أبيت في بيتي، وأقول لنفسي: هذه أفكار شيطانية وحتما سوف يتصل بك أحدهم ويبلغك بالمطلوب والموقف ولكن استمر غياب القادة.

في الخامس والعشرين من سبتمبر طرق باب بيتي بغير موعد أحد شباب الإخوان المجندين وكنت مسئولا عنه أيام الدراسة بكلية العلوم، وأبلغني بأن الجماعة الإسلامية قررت القيام بعمل عسكري انقلابي واسع ويرتبون لذلك، وقد أرسلوني لأعرف وجهة نظر الإخوان وليكونوا على علم بذلك حتى يتعاونوا معهم ويساعدوا في مرحلة نجاح الانقلاب.

(لاحظ أن المندوب في الواحد والعشرين وأنا في الثلاثين).

طلبت منه تأجيل الرد يوما واحدا، وخلال هذا اليوم ذهبت إلى كل مكان يحتمل أن أجد فيه أحد المسئولين ولكن بدون جدوى، عاد إلي وأخبرته أنني لم أجد مسئولي لأتخذ قرارا وليس أمامنا إلا العمل بالأصل وهو حرمة الاغتيالات، انصرف أخي المجند، وانتشرت إشاعة الاغتيال وبلغت درجة التواتر وبتنا (والراديوهات) على آذاننا ننتظر تنفيذ العملية؛

وبالفعل تمت العملية يوم 6 أكتوبر 1981 وكان يوم وقفة عرفات واهتزت الدنيا كلها بينما نحن الإخوان بغير قرار ولا رؤية واضحة نحو الموقف والسبب هروب القادة المشين ومن أشهر من هربوا في تلك الأيام مصطفي مشهور ومحمود عزت وجمعة أمين ومحمد البحيري ومحمد عبد المعطي الجزار وصبري عرفة الكومي وخيرت الشاطر ومحمد إبراهيم وكل رجال النظام الخاص وبقيت القيادة التقليدية عمر التلمساني وجابر رزق وأحمد الملط ومن على طريقتهم من شباب الصحوة الإسلامية.

قضية اختفاء محي وأبو العلا ومحمود الراوي:

أثناء فترة الهروب طيلة شهر سبتمبر 1981 توافد على القاهرة أعداد وفيرة من شباب الجماعات الإسلامية ممن كان مطلوبا اعتقالهم في وجه بحري ووجه قبلي، الجميع رأى أن الاختباء في القاهرة أسهل، وكان من بين هؤلاء إخواني م. محي الدين وم. أبو العلا ماضي وكلاهما من قيادات العمل الإسلامي بالمنيا وما حولها ولهم صلة وثيقة بالقيادات الإسلامية من كافة الاتجاهات؛

ولكنهم جزاهم الله خيرا اختاروني دون غيري ليكونوا ضيوفا علي، وقبلت مهمة إخفائهم ورأيت ذلك مكرمة، وفور اغتيال السادات كان لا بد أن يوضعوا في مكان أمين وقد كان والحمد لله وانضم إليهم م. محمود الراوي وملخص قصة الهروب يبدأ من الإحساس الكامل بأن الأخوين محي عيسي وأبو العلا ماضي لم يشاركوا في عملية الاغتيال وأنهما بريئان منها براءة كاملة.

وكانت الجماعات الإسلامية قد اندفعت في مواجهات مع النظام المصري بقيادة السادات ولكن من حيث الواقع فكانت الشرطة المصرية هي الممثل للحكومة على أرض الواقع ... ولذلك احترفنا في الجماعات الإسلامية كثيرا من عمليات تضليل الشرطة ومن ذلك تعود بعض الشباب على التوجه إلى محطات مترو حلوان والتقاط البطاقات الشخصية المفقودة من أصحابها والمعروضة في لوحة المحطة وكان من السهل نزع الصورة الأصلية ووضع صورة جديدة محلها.

وبهذه الطريقة حصلت على بطاقتين أحدهما باسم إبراهيم ووضعت عليها صورة محي والأخرى باسم حسن ووضعت عليها صورة أبو العلا.

وكانت المهمة الثانية البحث عن ملاذ آمن لدى شخصية شجاعة تفرست في كافة المحيطين بي وأخذت من بينهم المهندس محمد عبد السلام شرف الدين لأسباب عديدة ... أولها لم يكن له ملف سابق بالأمن المصري ولم يسبق اعتقاله أو التحقيق معه وثانيها أنه يمتلك الجرأة والشجاعة على القيام بهذا الدور وثالثها أنه يعمل بالمقاولات ذات الطبيعة الصعبة في قلب الصحراء وبعيدا عن الشواطئ في قلب البحر لإقامة الفنارات على الجزر ومد خطوط الكهرباء عالية الضغط ...

وكانت طبيعة عمله ومساعديه يجعلهم دائما بعيدا عن المناطق السكانية وتحول بينهم وبين الاحتكاك بالمواطنين أو الشرطة، وبالفعل فاتحته وقبل أن يسأل أجبت عن كافة استفساراته من حيث براءتهم من الاغتيال وقدرتهم على الالتزام بما يتفق عليه كونهم من اليوم مجرد عمال باليومية سيلتحقون به من أجل العمل كتراحيل ليس أكثر ... والأصل في هذه الحالات لا يطلب عقد عمل ولا بيانات شخصية ... وقبل مشكورا ذلك.

وفي يوم العيد التقيت بالأخوين وزيادة التمويه في خرجت بهم في رحلة طويلة بعيدا عن القاهرة لكشف ما قد يوجد من مراقبة لهم.

وتوجهت بهم إلى بلدتي بمحافظة كفر الشيخ ... ولكن الحياة لا تخلو من مفاجئات ... فبينما نحن على مسافة 20 كم من مدينة قطور في الطريق إلى بلدتنا خرجت سيارة صغيرة مسرعة من طريق جانبي واعترضت الأتوبيس فجأة واصطدم بها ثم انحرف يسارا ليصدم في شجرة ضخمة فتشطره نصفين ويقع تصادم مروع.

اقتلع الصدام كافة مقاعد الأتوبيس وتكردس الركاب عند المقدمة ووقعت كسور وجراحات وبدأ عويل المصابين ... انشغل الجميع بالحاثة وسارع أهل القرى نحو الموقع للإنقاذ وحضرت سيارات الشرطة والإسعاف وبدأت عملية إخلاء المصابين ...

وفي هذه اللحظات تذكرنا أننا في حالة هروب واكتشفنا أننا محاصرون بالشرطة من كل ناحية وأن نظارة محي الطبية قد تحطمت ويصعب عليه الحركة دونها ... ولكننا في أسرع من البرق استعدنا توازننا وجمعنا شملنا ولممنا شعثنا وأطلقنا أقدامنا للريح عدوا بعيدا عن الموقع ...

وبينما الكل متجه ناحية الحادثة كنا نحن نتجه بعيدا عنها وكأننا ذاهبون لاستدعاء الشرطة والإسعاف ... وعند أول منطقة سكنية ركبنا سيارة بالأجرة واتجهنا نحو الهدف ... كانت كل تصرفاتنا بالإشارة والنظرات وكافة أفعالنا آلية (أتوماتيكية) كأننا تروس ماكينة واحدة توافقت على فعل ما تريد.

وقبل العصر بلغنا بيت العائلة في قريتنا والتقطنا أنفاسنا وقدم لي ولضيوفي الغداء اللذيذ المعتاد في مثل أيام العيد ... ولكن خلال ساعة من الزمن بدأ أشقائي يشعرون بأن الأمر ليس طبيعيا ... فلم أتعود الذهاب إليهم بأغراب! يوم العيد من كل عام كما أنني لم أتعود زيارتهم بغير أهل بيتي.

في المساء طرق الباب كبير الخفراء في القرية وخرجت لمقابلته في الفرندة الخارجية حتى لا يدخل إلى المندرة ويلحظ وجود الهاربين وفور لقائه همس في أذني وشقيقي قريب يسمع "فيه إشارة وصلت من المركز بالإبلاغ عن أي أغراب يتواجدون بالقرية ثم أردف قائلا و كان عندكم حد غريب اتصرفوا فيه بسرعة

ولم يعطنا فرصة للتعليق وانصرف سريعا كان لا بد من مصارحة أشقائي بالأمر وكانوا على قدر المسئولية فقلت لهم تحملوا استضافتنا يوم أو يومين وسأتوجه للقاهرة لإتمام اللمسات الأخيرة المتعلقة بالمكان الذي سوف يقيمون فيه كان في خلدي أن أجهز لهم فراشا مناسبا وملابس كافية وأدوات نظافة لمدة طويلة.

وهكذا ... بالفعل في الصباح توجهت إلى القاهرة وتركتهم في البيت ... وما أن غادرت بيتنا حتى (كما حكي لي بعد ذلك) بدأ التليفزيون بعرض خمس صور لأفراد مطلوبين هم (عبود الزمر، ناجح إبراهيم، أبو العلا ماضي، محي الدين عيسى، طارق الزمر) لم يصدق أشقائي أن الصورة والأصل أصبحت في بيتنا؛

وتصرفوا بحكمة وشجاعة فلم ينتظروا للصباح ... وفي سيارة خاصة تم نقل الهاربين إلى مكان أمين بعيدا عن بيت الأسرة وفور خروجهم بأقل من ساعة كانت قوة من الشرطة تداهم البيت وتبحث عنهم ولكنها لم تعثر على غرباء، واعتبر ذلك بلاغا كاذبا، هنا في القاهرة لم أتمكن من بلوغ بيتي وتمت عملية اعتقالي قدرا في إحدى الكمائن ...

وتصرف الأخوين وفقا لخط السير الذي شرحته لهم والتقوا بالمهندس محمد شرف الدين وسكنوا المكان الجديد في منطقة بالصحراء الشرقية يقام بها مشروع جديد على أنهم مجرد عمال ترحيل.

ظل الإخوان على المنهج المتفق عليه ثمانية أشهر بينما كنت أنا في المعتقل تمارس معي كافة أنواع الضغوط المعتادة للاعتراف بمكانهم ولكن الله أعانني فلم يعرف مكانهم أحد إلا أطراف الموضوع الأربعة م. شرف والهاربين والعبد لله.

تشكلت فرق للبحث عنهم في كافة أنحاء الجمهورية وكانت تصل الفرق إلى معلومات شبه صحيحة فيأتون إلي في السجن لاستكمال المعلومات ولكن الله ألهمنا القدرة على إذابة ما لديهم من معلومات صحيحة وتحويلها إلى شيء غير ذي قيمة.

في نهاية المطاف مل الهاربان الهروب واقتربوا من المدينة المزدحمة وتحركوا في مطاعمها ... وحاولوا رؤية ذويهم وأصدقائهم على اعتبار أن التحقيقات في القضية انتهت من شهور ... وحبب إلى محي ومحمود الراوي التوجه إلى مدينة البعوث الإسلامية لزيارة أصدقاء لهم من المنيا طلبا لإرسال السلامات إلى ذويهم بالمنيا؛

وفور توجههم إلى المدينة وقعت عليهم أعين المخبرين وجلهم من المنيا ويعرفون محي لصفاته الفريدة (الطول الفارع والنحافة المتناهية والنظارة الطبية المقعرة ..) وتنادوا في نفس واحد محي الدين عيسى ... محي عيسي ... امسك ...، وتكاثروا بالعشرات في عملية مطاردة لمحي عيسي وهو يهرول بسرعة ناحية السور للخروج قفزا وقبل السور بقليل أمسك أحدهم بملابسه وعلى الفور لم يتردد محمود الراوي في التقاط قطعة من الحديد في الموقع وعاجل المخبر بضربة قاتلة على رأسه وسقط المخبر مغشيا عليه وتراجع المطاردون من هول المفاجأة وقفز محي ومحمود عدوا فوق السور ودخلوا بين مقابر الإمام وسكنوا أحد المقابر ...

أدركت الأجهزة الأمنية ما يحدث واجتمعت كافة فرق البحث في أقل من عشر دقائق ومعهم الصور المطبوعة ومواصفات الهاربين وطوقت المقابر قوات الأمن بالآلاف في حلقة محكمة وراح الباحثون يضيقون الحلقة شيئا فشيئا حتى لم يعد أمامهم سوى المقبرة الأخيرة ... توجهت إليها كافة الأسلحة وعلا صوت الميكرفون " ... ارم سلاحك ... ارفع إيدك ... سلم نفسك ..." أمامك دقيقتين ...

قبل مرور دقيقة واحدة خرج محي ومحمود رافعين أذرهم إلى السماء وتم القبض والكلبشة والربط مع الجنود وفي موكب مهيب سيق الاثنان إلى مكاتب التحقيقات وتحت التعذيب الوحشي دلا على عنوان أبو العلا ماضي وتوجهت القوات للقبض عليه وتمكنت من ذلك وتحت التعذيب الوحشي اعترفوا على المهندس محمد شرف وتم القبض عليه ووجهت المباحث له سؤالا واحدا .. من أوصل هؤلاء إليك؟

فقال: السيد عبد الستار المليجي .. وهنا اتحلت العقدة وتم الإفراج عنه بعد يومين وأحيلا الأخوة الثلاثة إلى سجن طرة وفي الصباح طالعت الخبر في الجريدة اليومية وبعد يوم واحد تم الإفراج عني ونظرا لكونهم بريئان من عملية الاعتقال فقد أفرج عنهم بعد شهور قليلة وأصبحت تلك الأحداث جزءا من التاريخ.

في سجون 1981:

بعدما تأكدت من سلامة خطة إخفاء الأخوين محي وأبو العلا بحيث لا يمكن تتبعهم عدت قافلا إلى القاهرة، ونظرا لتوقع وجود كمين في بيتي لمكتبي بإدارة مصانع الشريف بشارع أبو سمبل بمصر الجديدة لأستطلع الأمر ممن لم يغادروا القاهرة؛

وكنا في عطلة عيد الأضحى والوقت قبيل العشاء والمكان كله مظلم تقريبا، تحسست الموقع ولم أر ما يفلت الأنظار فتسللت إلى باب الإدارة في الطابق الثاني، وفور دخولي تابعني شخص غريب ودخل ورائي وعليه علامات التوتر، تفحصته بدقة ولمحت مسدسه في خصره وأدركت أنه كمين، سألني متماسكا: حضرتك المهندس محي عيسي؛

فقلت: لا أنا سيد عبد الستار، تركني وخرج وتذكرت وقتها أن محي عمل مهندسا بمصانع الشريف لمدة شهرين وطبيعي أن يتوقع هروبه هنا وعلى ذلك تشابهت هيئتي معه ولو من حيث الطول والرفع، وبعد حوالي دقيقتين عاد وطلب مني في لطف تحقيق الشخصية، وما أن رأى بطاقتي مدون بها في خانة العمل (معيد بكلية العلوم، جامعة المنيا) حتى عاد ينظر إلى بعد أن وضع البطاقة في جيبه وقال لازم نفحص حضرتك في القسم.

وفي قسم مصر الجديدة بميدان الجامع أحضروا ضابط أمن الدولة (كان اسمه عادل وعيناه خضراوان)، وما أن رآني حتى ظهرت عليه ابتسامة صفراء وهو يقول (الحمد على السلامة يا سي السيد) وفورا صدر قرار باعتقالي، في القسم مكثت خمسة أيام، وتقلب على أكثر من خمسة مخبرين في هيئات متنوعة وكلهم يحاول بأساليب متنوعة معرفة معلومات عن الهاربين؛

وكلما أخبرت أحدهم بأنه مخبر مكشوف يطلب الذهاب للحمام ثم لا يعود ويأتي آخر بأسلوب جديد، وفي نهاية المطاف كان الترحيل إلى أبو زعبل، وهناك سكنت عنبر 4 ووجدت به من سبقني من أبناء القاهرة والقليوبية وبدا العنبر كرنفالا للجماعات الإسلامية من كل لون، أكثر من عشر جماعات حتى كان منها ما يسمى نفسه جماعة الخشبتين الخلة والسواك؛

وممن سبقني للعنبر من الإخوان الأخ مختار نوح المحامي المصر على إقامة درس الثلاثاء الإخواني والشيخ عبد الهادي من أسوان ومجموعة فرماوية مثيرة للضحك في كل ما تأتي من أعمال وطبيب بيطري يدعى أحمد شبه مجنون ويدعي أن كل شيء في حياتنا ملوث بالخنازير؛

والعدد الإجمالي في العنبر الذي سعته عشرون يبلغ 72 معتقل وحمام واحد والطابور على الحمام مستمر بالحجز 24 ساعة، استقبلوني مرحبين مهللين مكبرين ولم يكن معي شيء تقريبا لأنني معتقل من الطريق وكنت ما زلت ببدلتي كاملة وبالكرافتة، صحيح كانت متسخة من النوم في الحجز ولكنها بقيت بدلة كاملة وآخر تمام.

بعد أسبوع خضنا ملحمة الحلاقة زيرو ونقلنا إلى العنبر السياسي من أجل إجرائها ثم عدنا إلى عنبر أربعة ويوم السادس والعشرين من أكتوبر جاءت النداهة المسائية، ونادت بالميكروفون (السيد عبد الستار المليجي ... لم هدومك واستعد للترحيل)

كان هذا يعني الذهاب إلى ساحة الموت بسجن التحقيقات بملحق طره، وبسرعة البرق لبست شرابي المبلول وحزائي ووضعت الكرافتة في جيبي وتسمرت على الباب الحديدي بلا وعي تقريبا، إنها لحظات الإقبال على الموت وهو الأمر الذي ينبغي خوضه بشجاعة وحزم.

ولم تمر دقيقة حتى رأيت خلفي كل العنبر مصطفا وراء الشيخ عبد الهادي يصلون من أجلي صلاة الحاجة، وبينما كان صوت دعائهم يرج الأرض والسماء جاء حاملي الكلبشات وقيدوني في أحدهم وأسرعوا بي إلى سيارة شرطة وفي المقعد الخلفي ربطوا معي صول آخر وجلس بجوار السائق ضابط مسلح بالرشاش؛

وفور خروجي للشارع سارت أمامي سيارة لا يكف ميكروفونها من تحذير المواطنين (على الجميع أن يركن يمين الطريق) وخلفي سيارة حراسة بها ست جنود مشهرين الرشاشات.

كانت زفة عظيمة مهيبة تشعرك أنه لا مناص من الإعدام مهما طالت التحقيقات، وفي الطريق من أبو زعبل إلى طره تذكرت كل الماضي وذكريات الطفولة ونضالات العشر سنين الفائتة واسترحت نفسيا لكل ما أديت وحمدت الله كثيرا وقلت في نفسي ليكن ما يكون فقد فعلت كل ما آمنت أنه يجب على فعله.

على أبواب سجن الاستقبال الرهيب عصبوا عيني بعصابة سوداء ثقيلة، وتقدم نحوي من راح يتأكد أنني لم أعد أر شيئا، مرت لحظات ثم سحبني جندي إلى داخل السجن الذي انفتحت بوابته بصوت مسموع، لم أتلق علقة الاستقبال المعتادة وسألت أول مسجون فأخبرني قائلا (النهار ده بس أوقفوا التعذيب لأن كمال السنانيري مات ... الله يرحمه ..)

استمرت التحقيقات ثلاثة أشهر ونصف حول قضية الاغتيال، وقضية تهريب الأخوين محي وأبو العلا وتأكدوا من أطراف أخرى أنهم كانوا بحوزتي حتى يوم اعتقالي، وانتهوا لقرار (سوف تبقى مكانهم حتى تدل عليهم) وبعد ثلاثة أشهر وأيام أعادوني إلى أبو زعبل، ويوم عودتي أحسست أنني دخلت الجنة بالفعل وكانت لحظة زوال الغمامة السوداء من على عيوني ورؤية النور والبشر في أبو زعبل ميلاد جديد.

براءتي من قضية الاغتيال:

أسفرت التحقيقات مع حوالي 800 من المهتمين بمعاونة مجموعة الاغتيال عن اتهام 302 منهم وتبرئة الباقين وكنت من بين الذين برأتهم التحقيقات بالسجون بينما نقل الباقين إلى نيابة أمن الدولة وبدأت محاكمتهم فور الحكم على مجموعة العشرين التي باشرت عملية اغتيال الرئيس.

لقاء جابر رزق كان أول من لقيني بسجن أبو زعبل فور عودتي من التحقيقات أخي جابر رزق (رحمة الله عليه) ما زلت أذكر محياه وهو يتسلق باب الزنزانة ليكلمني من فتحته الصغيرة ويقول (الحمد لله على سلامتك يا أخ سيد)

ولأنني عدت شبه عاري تقريبا من سجن الاستقبال فقد لاحظت عليه التأثر الشديد لما أنا عليه، وانسحب سريعا ليعود بعد دقائق ويناديني ويمد يده لي بغيار داخلي وجلباب بلدي شبه جديد وهو يقول جلابية أخوك لاشين إن شاء الله تيجي مقاسك؛

وبالفعل تحولت صورتي في دقائق من شحات إلى عمدة، دعوت له بالخير وما زلت حتى اليوم أترحم عليه كثيرا، وفي أول فسحة سارع إلي وجلس معي لأروي له كل ما وقع في سجن الاستقبال من تحقيقات وطمأنته أن التحقيقات لم تتناول أي شيء يتعلق بدوري في الإخوان.في التنظيم الأصيل للتلمساني والتعرف على عبد المنعم لأول مرة.

لم يمض على خروجي من السجن بضعة أيام حتى اتصل بي أخي جابر رزق واستضافني في بيته بشبرا، وأبلغني رسالة مؤداها أن الحاج مصطفي مشهور يسلم عليك ويقول لك اجمع من تعرفهم من قسم الطلبة وابدءوا العمل برئاسة أخيك عبد المنعم أبو الفتوح؛

وقلت: أنا لا أعرف عبد المنعم ولم يكن معنا في القسم فقال (الخميس القادم نصوم ونفطر سوى وأعرفك عليه)، وبالفعل تم ذلك وتعرفت على عبد المنعم أبو الفتوح وخلال شهر تقريبا وفي ظروف أمنية بالغة الشدة تكونت أول لجنة مركزية للاتصال والمتابعة بعد أحداث المنصة تحت قيادة الأستاذ عمر التلمساني والدكتور أحمد الملط والأستاذ جابر رزق

وشكلت اللجنة من (م. محمد سليم، د. محمد حبيب، د. ممدوح الديري، د. السيد عبد الستار، د. عبد المنعم أبو الفتوح، د. أنور شحاتة، وانضم إليها آخرون تباعا)، وكان لهذه اللجنة مهمتان، الأولى الاتصال بالمحافظات والثانية إعادة تكوين قسم الطلاب كأول أقسام الجماعة.

وتمت المهمتان بنجاح وبدت جماعة الإخوان لأول مرة منذ أحداث 1954 تعمل بانتظام وتوافق واضحين، ودعي إلى قسم الطلاب المركزي كل من د. حلمي الجزار والمهندس أبو العلا ماضي، وهنا ملاحظة هامة جدا:

التنظيم السري في الخارج:

تبين لي أن ما قمت به لم يكن بموافقة الحاج مصطفى وبدى ذلك فور عودته بعد ست سنوات من الهروب في الخارج حيث قابلني بفتور شديد ولم يفتح معي موضوع تنظيمه الجديد الذي شكله في الخارج من المبعوثين والمعارين في السعودية واليمن والخليج والكويت، من جانبي لم أشعر لحظة أنني أخطأت في شيء فالعهد الذي بيني وبني الحاج مصطفي مشهور كان على أساس أن التلمساني هو المرشد وهو ينوب عنه في البيعة لا أكثر؛

ولم أكن على علم بخلافات الإخوان القديمة، لقد طالعت مؤخرا هذا التاريخ بهدف التعرف على جذور المشكلة المزمنة وواضح أن عمر التلمساني كان طيلة عمره كما عرفناه عفا متعاليا على الصغائر مؤمنا بوحدة الصف ووحدة القيادة وضد التنظيمات السرية، بينما الحاج مصطفى كان يؤمن بجدوى العمل السري في تحقيق أهداف الدعوة وإيمانا منه بعقيدة إسلامية التنظيم وجاهلية ما عداه.

الإخوان والجامعات (قسم الطلاب):

بحمد الله وتوفيقه بلغ قسم الطلاب ذروة لم يصلها من قبل، وبلغت جماعة الإخوان درجة راقية من الثبات والنمو والتأثير، وأسسنا أول مركز دراسات متخصص في مجال رفع كفاءة الإخوان في شتى ما يحتاجونه من دورات وأسميته (المركز العلمي للبحوث والدراسات، معبد)؛

وكانت النتيجة رغم التضييقات الأمنية فوز طلبتنا بكافة مقاعد الاتحادات الطلابية تقريبا، وفوز أساتذتنا بكافة مقاعد مجالس إدارة نوادي هيئة التدريس عدا جامعة واحدة ألغيت فيها الانتخابات، (طالع كتاب تاريخ الحركة الإسلامية في ساحة التعليم "مكتبة وهبة" لتعرف كافة التفاصيل ولاحظ الصور المرفقة لأول اجتماع تنظيمي للإخوان تحت إدارة التلمساني وقبل هبوط التنظيم الخاص السري بالصراعات والفشل) هداهم الله.

صراع التنظيم السري مع تنظيم التلمساني ومظاهره:

لم يكد عام 1985 ينصرم حتى بدأت إرهاصات القلق على أعصاب التنظيم السري، وبدأت طلائعهم تتقاطر على مصر بغير مبررات معقولة لعودة المعارين، ولوحظ أنهم يأتون ويرفضون الاندماج فيما هو قائم، وبدءوا حملة من الشائعات حول إخوانهم الباقين هنا في رحاب الوطن؛

فنشروا مقولة (الحي أبقى من الميت) وكانت تعني أن العمل بالأحياء (التنظيم السري) يفضل على العمل بالنقابات والجامعات والمؤسسات العلنية، وبدأنا نشكو من شح الأفراد وقلة المعاونين في هذه المؤسسات، واقترح اعتبار الجامعة حي له إدارة مستقلة وبدأ العمل بالفعل بهذا المقترح، ثم ألغي المقترح وعدنا للمتاهة الأولى، كان الهدف هو إضعاف نقاط التميز لتنظيم التلمساني وتقوية العمل السري تحت قيادة جديدة وافدة، والترتيب لانتخابات مخططة تعطي للمبعوثين والمتسعودين والخلايجة المجندين للتنظيم السري مشروعية تنظيمية في القيادة.

في الحي الذي أعيش فيه (شرق القاهرة) نزل من السعودية أحد الإخوان الشراقوة ويدعى محمد العريشي، وتعرفت عليه أول مرة في منزل محمود غزلان بالمعادي بواسطة ممدوح الديري، وبعد سنة تقريبا أدمجوه في تنظيم الحي، وهو الذي تسبب في مشكلة الأزهر وظل ينفخ في نارها حتى انتهت بانفصال خيرة شباب الإخوان بجامعة الأزهر؛

ومن يومها والإخوان بدت كالأم التي تأكل أولادها، وهبط علينا من الكويت المهندس أشرف عبد السميع، وكان صريحا في كونه جاء على تنظيم مواز، فعندما دعوته للانضمام إلى أسرتنا لأننا كنا نسكن في بيت واحد صرح لي قائلا (أنا جاي من الكويت لأعمل مع الأستاذ العريشي) والعجيب أنه انتقل إلى الدقي فور انتهاء أول انتخابات وكأنه أدى المهمة وانصرف إلى غيرها كما أنه كان ضمن المعتقلين في العملية سلسبيل لقلب نظام الحكم في الإخوان.

وكان مما كشف وجود التنظيم السري وبدأ محاولاته الانقلابية الموقف التالي الذي لا أنساه للمهندس (أشرف عبد السميع): فقد دعاني لزيارته في بيته، ولما دخلت وجدت عنده اجتماعا به قرابة العشرين من الإخوان الذين أعرف معظمهم، وجلست حيث انتهى المجلس وكانت جلستي قدرا في قبالة الداخل إلى الصالة ولا بد للداخل أن يراني، فإذا به يطلب مني بغضب واضح الانتقال إلى زاوية في مكان لا يراه أحد ولأنني في بيته فلم يكن بمقدوري أن أخالفه؛

وبعد دقائق اتضح السبب، فقد وزع علينا أقلام رصاص وقصاصات ورق أبيض قائلا مطلوب منا أن نختار عدد كذا ليكونوا مجلس الشعبة (يعني هناك انتخابات بدأت دون علمي بالحي وأنا المتواجد قبل الداعي لها بخمسة عشرة سنة في الموقع يعني الجهاز السري اشتغل من ورانا ورتب الانتخابات كما يريد)

واتضح أنه تعمد إخفائي في هذه الزاوية حتى لا يراني الناخبون ولا يختارني أحد، ولكن كانت النتيجة على عكس ما أراد، قد يرى البعض أن هذا لعب عيال صغيرة، وأنا مع هذا البعض ولكنني أوضح بهذا المثل حجم شحنة الكراهية التي شحنوهم بها في الخارج ليفرغوها نارا حامية في قلوب الإخوان هنا

وفي نفس الحي ظهر الأخ (محمد مهدي عاكف) عام 1987 ومارس دورا خطيرا يتعلق بتصفية قسم الطلاب سوف أشرحه بعد قليل، وفي أمسية كنا فيها عند الأستاذ مختار نوح مدعويين على إفطار الخميس للتشاور حول انتخابات نقابة المحامين دخل علينا رجل لا نعرفه بصحبة عبد المنعم أبو الفتوح وعرف نفسه قائلا (أخوكم مسعود السبحي)

ولما لم يكن هناك سبب لوجوده فقد اعتبرته عنصرا جديدا من عناصر السريين، كانت طريقتهم دائما على هذا النحو، يأتي أحدهم فيندس وسطنا بصفته أخ جديد قادم من هنا أو هناك لا ليتعاون معنا ولكن ليشارك في محاصرتنا، ثم تقاطر العائدون واحدا تلو الآخر وكلهم بنفس الروح ونفس الجمود العاطفي والتخشب الإنساني، وكم كنت أستغرب المواقف قبل أن تكتمل عندي الصورة وتظهر معالمها الدميمة.

وفي غضون هذه الأيام كذلك هبط علينا مبعوث جديد يدعى (محمود حسين)، وكانت الرسالة أنه عائد إلى كلية هندسة أسيوط، وكلفنا أنا والأخ أبو العلا ماضي أن نستقبله في مطار القاهرة ونقوم بخدمته، وفي المطار تعرف عليه أبو العلا وعرفني به ولكن الغريب كان برود عاطفته نحونا مع أنها أول مرة نلتقي به؛

لقد كان لوحا ثلجيا يمشي بيننا على قدمين، قلت في نفسي يبدو أن هناك مصنع في أوروبا ينتج لمصر إخوان بلاستيك، وبمرور الأيام اتضح أنه من التنظيم السري الموازي وما شاء الله عليه، بسرعة الصاروخ ضرب الكل في أسيوط، ثم تعين في 2006 عضوا بمكتب الإرشاد بدون انتخابات (رجل مزكى على الشريعة السرية)، أنا أعرف من الإخوان الأفاضل بأسيوط العدد الوفير، ولكن لحكمة يعلمها الله لا يرقى أحدهم إلى مرتبة المعلبين في الخارج؟!

العملية ... سلسبيل .. لقلب نظام الحكم في الإخوان وتوابعها:

أنشأ التنظيم الجديد شركة (سلسبيل) صورة طبق الأصل من (المركز العلمي للبحوث والدراسات، معبد) من حيث الشكل والأدوار، (كاد المريب يقول خذوني فأنا تنظيم موازي).

فقد تأسس المركز العلمي للبحوث والدراسات (معبد) عام 1983 ليكون مساعدا للباحثين والدارسين بالجامعات المصرية على إتمام بحوثهم بمدهم بالمراجع والكيماويات والأجهزة، وشكله القانوني شركة توصية بسيطة، ونظرا لكوني مسئولا في هذا الوقت عن متابعة عمل الإخوان بين أعضاء هيئة التدريس؛

فقد كان مناسبا بحكم طبيعته أن يقوم بدور الاتصال والمتابعة بجميع الجامعات المصرية، وشكلت به لجنتان واحدة للخبراء والثانية للمستشارين، وشكلت اللجنتان بطريقة طبيعية وشفافة بمراسلة كافة عمداء الكليات المصرية، ومن ضمن الخبراء والمستشارين بالطبع الإخوان المتواجدين بالجامعات، ولذلك كان اجتماعهم بالمركز ونشاطهم من خلاله قانونيا ومنطقيا، وحتى يسهل الاتصال بالطلاب كنا نقيم باسم المركز كل عام مصيفا لتعليم لغة الكمبيوتر ودورات تصفية للتنمية البشرية المتكاملة، وقد أفادنا كثيرا في هذا المجال.

فور اكتمال طلائع الغزو المعد في أوروبا والسعودية والكويت واليمن تشكل منهم تنظيم مصغر تحت لافتة (شركة سلسبيل)، بمجلس إدارة مكون من: أحمد عبد المجيد بصفته (مالك الشركة الأم في لندن)، خيرت الشاطر (رئيس مجلس الإدارة)، حسن مالك (عضو)، محمد إبراهيم (عضو)، طاهر عبد المنعم (عضو)، عدد من الإخوان المراسلين بكل محافظة كما تأسس فرع لشركة سلسبيل بالمنيا تحت قيادة د. محمد سعد الكتاتني ود. كمال الفولي ليكون المسئول عن تسويق التنظيم السري في الصعيد؛

وبدا التنظيم يجمع معلومات تفصيلية حول جميع الإخوان ويسجلها في كروت باسم كل عضو، وجمعت المعلومات في شركة سلسبيل دون أي علم من الأستاذ عمر التلمساني أو العاملين معه؛

وبدأت هذه المنظمة الجديدة تصنف الإخوان دينيا تبعا لمواصفاتها الخاصة، وفور قدوم الحاج مصطفي مشهور فقد اعتمد على جهل الإخوان بالصراعات التاريخية الداخلية (بين إخوان الفضاء العام وإخوان الفضاء الخاص) أو بين النظام الخاص السري ومكتب الإرشاد وأعاد ترتيب الإخوان بالشكل الذي يتوافق مع اجتهاداته الشخصية، وطموحاته التنظيمية وتجنب التعامل معي وكافة الإخوان الذين يعملون مع الأستاذ عمر بوصفه المرشد الحقيقي للإخوان؛

حيث ارتكزت نظرية عمل الحاج مصطفي مشهور على اعتبار نفسه المرشد الحقيقي والأستاذ عمر التلمساني مجرد صورة مرشد (أو مرشد صورة) وهو نمط التفكير المسيطر على كل مجموعة التنظيم الخاص السري من السبعينيات، وعقيدتي أن هذا اجتهاد له عليه أجر واحد؛

ومن المعلوم تاريخيا أن تجربة العمل بهذه الطريقة جرت على الإخوان متاعب كثيرة وتسبب تاريخيا في قتل المرشد الأول حسن البنا بعدما غافلوه وقتلوا رئيس الوزراء النقراشي بغير إذنه وباجتهادهم الخاطئ، وهي نفسها طريقة التفكير التي عرقلت عمل المرشد الثاني حسن الهضيبي، وها هي اليوم تشق صف الإخوان، وتثير الشكوك والريبة فيما بينهم وتنتهي بهم إلى التنازع والفشل والحياة على رصيف الوطن.

ولكن كيف كانت نهاية المتورطين في العملية سلسبيل لقلب نظام الحكم في الإخوان؟ كان جهاز أمن الدولة وراءهم خطوة بخطوة وتركهم يعملون بدأب واجتهاد في جمع المعلومات الذي عجز هو عن جمعها عن الإخوان، ولما اكتملت عمليتهم ونضجت الثمرة وحان وقت قطافها تقدم ضباط أمن الدولة بقيادة العقيد محمد قمصان وقبضوا على المعلومات مرة واحدة بضربة واحدة في ساعة واحدة، وكانت قضية سلسبيل الشهيرة والتي لم تقدم لمحكمة رغم خطورتها لأن أجهزة الأمن اعتبرت مجلس إدارة سلسبيل أبطال أمنيون أدوا للمباحث خدمة جليلة.

وهكذا سلم الإخوان الكرام الأفاضل أعضاء النظام الخاص السري لمباحث أمن الدولة أهم وأخطر معلومات عن الإخوان بشكلهم الجديد، وهم جميعا شركاء عرفا وقانونا في المسئولية عن هذا الاختراق الأمني في الوقت الذي يدعون أنهم أحرص على الدعوة من غيرهم!!

والسؤال المطروح هو: هل تم التحقيق معهم من قبل أي جهة إخوانية؟ وما نتائج التحقيق؟ وما هي الدروس المستفادة؟ وأعجب من ذاك أن مجموعة سلسبيل مضت في مخططها فور خروجها من الحبس الاحتياطي وكأن شيئا لم يكن؟!

الإبعاد إلى النقابات وما ترتب عليه:

في الوقت الذي كان التنظيم السري يرتب الأمور لنفسه بطريقة متسرعة في الأحياء والمدن، كانت هناك خطوات تتخذ لوقف نشاط الأقسام الناجحة في الجماعة بحجة أنها تقدم للمجتمع قيادات غير راضية عن تصرفات النظام الخاص، وكان أقوى هذه الأقسام قسم الطلاب، فلقد نجح القسم في العمل من خلال الاتحادات الرسمية في كافة الجامعات بغير استثناء حتى الجامعة الأمريكية استطاع الأخ عصام سلطان (المحامي)، أن يكون فيها مجموعة عمل جيدة.

وعلى مستوى نوادي هيئة التدريس فقد صارت كل مجالسها من الإخوان تقريبا، كما كان قسم الطلاب هو المصدر الرئيسي للإخوان الجدد بغير منازع، وأدخل هذا القسم منذ عام 1982 وحتى سلبته مجموعة الخاص عام 1988 آلاف من الشباب في جماعة الإخوان.

انقلاب مهدي عاكف في قسم الطلبة:

كان من الطبيعي أن يكون العاملون في قسم الطلاب ولكن حدث العكس، ففي اجتماع عقد في بيتي بمدينة نصر حضر (محمد مهدي عاكف) برفقة (عبد المنعم أبو الفتوح) وأخبرنا أنه سيتولى رئاسة القسم بقرار من مكتب الإرشاد، وما لم تكن هناك كالعادة أسباب مقنعة، فقد استخدموا سياسة الركل إلى أعلى.

واستطرد (محمد مهدي عاكف)، سيكون عبد المنعم مسئولا عن قسم النقابات المهنية.وكالعادة لم يترك فرصة للنقاش وانصرف بحجة أنه مسافر، ولفنا غم وهم كبيرين، كنا نحس من خلال مواقف كثيرة أن شيئا ما يدبر بليل ولكننا أمرنا بإحسان الظن.

ولم يطل الانتظار ففي الاجتماع التالي وكان في بيتي كذلك قال (محمد مهدي عاكف) بصفته رئيس القسم:

(أنا عارف أنكم عاملين رديف لكل واحد فيكم يا ريت يحضروا معاكم الاجتماع القادم)، وحضر معنا الرديف في الاجتماع الثالث، وفي الاجتماع الرابع وجدتني وحدي مع الرديف من القسم وهو يقول (رئيس القسم مكاني سيكون د. رشاد البيومي وسيدعوكم للاجتماع به قريبا)؛

بذلك قطعت رأس قسم الطلاب وفصلت عن جسده وصاروا به في توجهات جديدة ظهر آخرها في استعراض الأزهر المشهور وفي الملصق الذي غطى حوائط الجامعات وسبب المتاعب للطلبة وللجامعة وإدارتها ومنطوقة (طلاب الإخوان المسلمين)، وانتهى القسم إلى خارج الاتحادات وانتقل عمله إلى كشك على رصيف الجامعة أطلقوا عليه (الاتحاد الموازي) ..

قسم الطلبة في قبضة النظام الخاص:

ومن الجدير بالذكر توضيح ماذا حدث معي شخصيا بوصفي الوحيد الذي تركوه بعض الوقت من قيادة قسم الطلاب الأساسية، طلب مني الحاج مصطفي مشهور وبحكم المعرفة القديمة والراسخة بيننا أن أستمر في قسم الطلبة مسئولا عن أعضاء هيئة التدريس ولكن تحت رئاسة (محمود عزت)

وقلت له: يا عم الحاج تكفي رئاسة (رشاد البيومي)، ولماذا رئاسة أخرى وسيطة، فقال (اعتبره الأصل وأنت مساعده) فقلت منفعلا المفروض يا عم الحاج أن يكون لي مساعد إن أردتم ذلك لأنني أعمل في هذه المهمة لأكثر من خمس سنين، ثم إنني بصراحة لم أعد أثق في محمود عزت منذ أن تركني وحدي وسافر والمحنة على أشدها عقب أحداث المنصة، تغير وجه الحاج مصطفى وأحسست أنه أخذ الكلام على نفسه وقال:عموما فكر في الموضوع وأنت حر.

كان هذا آخر عهدي بقسم الطلاب وبالرغم من عدم صدور قرار واضح في اللقاء فلم أدع لحضور الاجتماعات من رئيس القسم الجديد حتى اليوم ومنذ عام 1989، وخلال أعوام أربعة بعد ذلك تركت مفتاح مكتبي (المركز العلمي للبحوث والدراسات) بمدينة نصر للأخ الدكتور (محمود أبو زيد) بطب القصر العيني وكثيرا ما كان يعقد اجتماعات متعلقة بقسم الطلاب في مكتبي وأنا أسكن فوقه مباشرة دون دعوتي للاجتماع، ومع ذلك فقد كنت أستريح كثيرا لموقفي هذا، كما أن ثقتي في محمود أبو زيد لم تتغير حتى اليوم.

خلال عام 1988 بدأت أتردد على نقابة المهن العلمية وأدرس القوانين المنظمة لها وأجمع المعلومات حول مجلسها وتاريخها، والحمد لله كان تاريخها مشرفا ومشجعا للعمل ضمن مجلسها مهما بدى عليه من ضعف في الأداء، وسريعا أبلغني عبد المنعم بوصفه رئيس قسم المهن بأن أنتقل إلى قسم المهن لأتحمل المسؤولية عن العلميين ونقابتهم وكان، واستمر العمل بنقابة العلميين حتى كانت قضية محاكمة المهنيين العسكرية عام 1995، وهي المحاكمات التي استغلها التنظيم السري لينقض على موقعي بالنقابة ويسلمه لأحد المتعاونين معه ويدعى أحمد حشاد ويعمل باحثا بهيئة المواد النووية.

الإخوان والنقابات:

تكفي هنا الإشارة إلى أن جميع قيادات قسم الطلاب تم إبعادهم إلى قسم المهن والنقابات بالإخوان ووجدنا أنفسنا نحن الفريق المتكامل مرة ثانية في قسم واحد جديد (عبد المنعم أبو الفتوح، السيد عبد الستار، أنور شحاتة، أبو العلا ماضي، محمد عبد اللطيف، صلاح عبد الكريم، حسام حسين)

وممثل لكل مهنة على النحو التالي: "حسب ذاكرتي"

الزراعيين: د. توفيق مسلم (المعلمين: أ. علي لبيب، الأطباء عبد المنعم أبو الفتوح، العلميين: السيد عبد الستار، الصيادلة تغيروا كثيرا، أطباء أسنان: تغيروا كثيرا، المحامين: مختار نوح، الصحفيين: محمد عبد القدوس، الإعلاميين: بدر محمد بدر، المهندسين: محمد علي بشر) وأصبحنا الفريق الذي أوكل إليه أخونة النقابات المهنية.

لم يكن ذلك تكريما من التنظيم السري المتربص بإخوانه والمصر على أن يقبض على مقاليد كل شيء ولكن فلسفتهم كانت تقوم على اعتبار قسم الطلاب من أهم الأقسام التي تشكل شخصية الفرد في المستقبل؛

وأن بقاءنا في قسم الطلاب معناه استمرار إدخال عناصر جديدة تفهم وتعمل على طريقة الإخوان المسلمين وليس على نمط السريين، ومن هنا وجب إبعادنا ثم دفننا في النقابات المهنية بوصفها بيئة شاقة أو أشغال شاقة، وكذلك فإن عادتهم القديمة هي الافتئات والسطو على مجهودات الآخرين وسلب ما تم تعميره وتشجيره من الأرض ودفع غيرهم إلى أرض صحراوية أخرى ولكن خاب ظنهم وطاش سهمهم وندموا كثيرا على ما فعلوا؛

ففي غضون عامين أصبحت النقابات المهنية أعلى صوت إخواني في مصر، وسمعت الدنيا كلها بالنقابات المهنية في مصر واستطاع فريق المبعدين أن يحقق بفضل الله تقدما ملموسا في حركة النقابات المهنية على كافة الأصعدة، وارتج لما حدث نظام الحكم فأصدر القانون 100/ لسنة 93 ليوقف زحفنا وما استطاع فكانت قضية النقابات المهنية عام 1995 وساقونا للمحاكمات العسكرية مع آخرين، وبذلك تراجع النشاط في النقابات المهنية؛

كما أن أعضاء النظام الخاص وجدوها فرصة ونحن وراء القضبان فأكملوا عمل النظام وملأوا مواقعنا بعناصرهم بعدما زودوهم بأسلحة فتاكة من الكراهية لأشخاصنا حتى يكونوا لنا بالمرصاد عند انقضاء فترة حبسنا.

أول انتخابات داخلية والترتيب لها ونهايتها:

ظل هذا الفريق السري من الإخوان يشعر أنه غريب في أوساط الجيل الإخواني الجديد وأن القيادة الطبيعية للجيل جلها ممن قادوا العمل الطلابي في السبعينات، وعلى الرغم من طيبة قلوب هذا الجيل وخلوه من ضغائن الماضي وطهارته من أدران الصراعات الداخلية القديمة

فلم يرق لفريق النظام الخاص أن يلتزم بخط الإخوان الجديد المعلن وهو توريث الدعوة بنقائها وطهارتها والإبقاء على جيل الصحوة في المقدمة وإحسان توجيهه وإبعاده عن الشقاق والنفاق وسوء العلاقات التنظيمية التي لوثت سمعة الإخوان في الأربعينيات الخمسينيات الستينيات، وبدأ هذا الفريق يستغل توجهات الجيل في تولي المسئوليات بالانتخابات فقرر أن تكون الانتخابات هي الوسيلة التي تحقق لهم مشروعية التحكم في الإخوان فماذا حدث؟

في سرية تامة وخلال ثلاث سنوات وهم يغيرون في البنية التصويتية بالقاهرة وغيرها ويغيرون الدوائر الجغرافية وينقلون الحدود من مكان إلى مكان وينقلون أفرادهم من محافظة إلى أخرى ومن مدينة إلى أخرى وبأي سبب، وفجأة بدءوا العملية الانتخابية على النحو التالي:

يأتيك واحد من إخوان الحي وبيده ورقة استدعاء (نفس طريقة المباحث) مكتوب على الورقة (اجتماع الشعبة الليلة في منزل فلان والساعة كذا) ويعرض عليك الورقة على الباب ثم يضعها في جيبه ويفر هاربا دونما أن يعطيك فرصة للسؤال عن أي شيء ولا حتى سبب الاجتماع؛

في المكان تدخل فتجد معجنة بشرية يتصاعد منها لهيب حرارة الأنفاس، ستون شخصا في مساحة مخصصة لخمسة أو عشرة، المنظر كأننا معتقلين في سجن مهين، خليط لا تعرف معظمه ولا من أين أتوا وبعد دقائق يوزع على الحاضرين ورقة وقلم رصاص مبري؛

ويقول أحد الحاضرين مطلوب اختيار عدد كذا لمجلس الشوري وعدد كذا لمجلس المنطقة وأمامك دقيقة واحدة وتسلم الورقة، وقبل أن تمر دقيقته يبدأ الأستاذ في جمع الأوراق ويأخذ معه فردين آخرين وينتحيان إلى غرفة جانبية وبعد دقائق يخرجون علينا ويقولون النتيجة، انتهى الاجتماع متشكرين عظم الله أجركم، فيحمل كل واحد بلغته تحت إبطه مخافة إحداث صوت على السلم ويعود من حيث أتى.

وهناك تسأله زوجته: مالك يا راجل مسهم كده كان مصيبة وقعت على راسك؟ وهو يشير لها صه صه هذا أمر قالوا لنا في شأنه ولا تحدث به نفسك بعد اليوم.

مصطفي مشهور يسقط في انتخابات مجلس الشوري:

وهكذا تمت أول انتخابات إخوانية منذ عام 1948 فماذا كانت النتائج، كانت مصيبة على رأس السريين، فقد أسفرت عن مجلس شورى غالبيته من جيل السبعينات، وكان من نتائجها الفجة الكريهة أنا الحاج مصطفي مشهور نفسه الذي أشرف على إعداد الأمور كلها رسب في انتخابات القاعدة في شعبته، وأجريت محاكمة للمتهم بتدبير ذلك، ولا أعرف كيف سويت المسألة بالضبط لكن الذي أتيقن منه أنها أثرت بعمق في نفس الحاج مصطفي مشهور وزادت من حدته وتخوفاته.

انتخابات أول وآخر إرشاد:

بنفس طريقة الانتخابات السابقة جرت انتخابات مكتب الإرشاد فقد دعينا عدة مرات وألغي الموعد ثم دعينا واجتمعنا بالمقر الرئيسي في 1 شارع التوفيقية صباح الخميس 17 يناير 1995، وهناك توالت المفاجآت، مجلس الشوري المكون من 85 عضوا أضيف عليه بالتعيين 30 عضوا، معظم الإخوان السريين في حالة توتر أو توجس، تشعر من حركتهم وتجهمهم وكأننا مقدمون على حرب أو في ساحة القتال ...

أي حاجة غير الحب في الله، كانت التعاملات والملامح والتعليقات كلها تقول:اليوم يوم الملحمة، وأجريت الانتخابات بعد كلمة طلبها عصام العريان ولمدة خمس دقائق وكان خلفي رشاد البيومي يقول بصوت مسموع لسيد نزيلي ومتهكما على عصام:(حضرته لازم يتكلم ويخطب في كل اجتماع) وانتهت الانتخابات وأعيدت على المقعد الأخير بين محمود عزت وخيرت الشاطر.

لم تكن النتائج مغايرة لتوقعاتي فعن نفسي كنت أعتبر مكتب الإرشاد بمثابة لجنة حكماء وحتى هذه الانتخابات وما قبلها لم أحاول مرة مطالعة اللائحة ولم يشغلني يوما ما فعلوه، لقد كنت من المستغرقين للنخاع في القيام بواجباتي التنظيمية وهي المقدمة على ما عداها؛

ولم يكن هناك سوى مفاجأة واحدة غير منطقية وهي فوز سكرتير الأستاذ عمر التلمساني اللواء إبراهيم شرف بمقعد في مكتب الإرشاد، حيرتني كثيرا هذه الواقعة لأنني أعرف أنه مجرد سكرتير من الإخوان، ثم كانت المفاجأة أنه ضابط جيش وأنه على رتبة عقيد.

كان بيننا اتفاقات مشددة بعدم ضم الضباط لتنظيم الإخوان لغرضين الأول مخافة الاختراق المخابراتي، والثاني لأن هذا يزيد من تخوفات الدولة فالضباط وظيفتهم الحرب وليس الدعوة، وما زلت حتى اليوم أعتبر وجود الأخ إبراهيم شرف في مكتب الإرشاد نموذجا توضيحيا لطريقة تفكير مجموعة التنظيم السري الخرقاء.

ثم ماذا بعد:

لم يجتمع مجلس الشوري من يومها ولا مرة واحدة وكأن مهمته انتهت بانتخاب مكتب الإرشاد، ومن ناحية الواقع لم يعد له أي دور في الجماعة حتى القرار الوحيد وهو ضرورة السير في الإجراءات القانونية لإشهار حزب سياسي يمثل الإخوان، اعتبره مكتب الإرشاد غير ملزم وواقعيا وبعد مضي 13 عام لم يتقدموا خطوة واحدة نحو لجنة الأحزاب، أو نحو أي صيغة أخرى لاكتساب المشروعية القانونية.

ومن وجهة نظري المتواضعة فالسبب ليس لجنة الأحزاب ولا الأوضاع الأمنية فهذه نتائج وليست أسباب ولكن السبب الرئيسي أن إخوان النظام الخاص السري لا يستطيعون العمل في ظل أي قانون، أو لائحة إنهم أمة همجية بمفهوم الدولة الحديثة يرفضون القانون أو العهد أو الدستور أو اللائحة أو العدالة ... كل هذه المعاني تمثل أعداء بالنسبة لهم.

وأعتقد أن أية أوضاع قانونية سليمة داخلية أو تشريعية سوف تنهي دورهم واسأل التاريخ عنهم تنجي لك الحقيقة، فهذا حسن البنا يسيل دمه على الإسفلت والسبب الحقيقي جرائم القتل التي ارتكبوها بغير مشورته، وهذا حسن الهضيبي محاصر في بيته ثم مخبأ في مكان غير معروف والسبب تصرفات التنظيم الخاص وهؤلاء هم الإخوان المسلمون معلقون كالذبائح في ساحات السجن الحربي والسبب إقدام التنظيم الخاص على محاولة قتل جمال عبد الناصر باعترافاتهم هم وليس الحكومة، وهذا جهد التلمساني وفريق العاملين معه في مهب الريح والسبب هم هم أعضاء النظام الخاص؛

سيقول البسطاء من الإخوان كيف تقول ذلك وكان معهم ابن البنا وابن الهضيبي، وأقول: إن هذا جزء من سياسة الخداع للإخوان فمن المعروف أن الأستاذين المحترمين سيف الإسلام حسن البنا ومأمون حسن الهضيبي لم يكونا يوما مع من عكروا حياة أبويهم ولكن سياسة (حلق حوش) التي يمارسها أرباب النظام الخاص رأت ضرورة احتجازهما رهينة لدى النظام الخاص بأي ثمن والوسيلة إغرائهم بكراسي كبيرة يتوسدونها حتى لا ينضموا لأي فريق إخواني آخر فيكتسب بهم شرعية تاريخية؛

ولكن من حيث الواقع ليس لسيف الإسلام أي دور في سياسة التنظيم وأخيرا صرح عاكف في الصحف معلقا على ما أسماه انتخابات مكتب الإرشاد التي لم يفز فيها سيف الإسلام (الإخوان مش عايزينه) وهو يطلق كلمة الإخوان خداعا ولكن الواقع يعني إخوان النظام الخاص السري، وأما المرحوم مأمون الهضيبي فقد فعلوا به ما فعلوه بأبيه وأدخلوه على تنظيم لا يعرف عنه شيء وملأوا أذنه نارا تجاه من خالفهم في الرأي، وكثيرا ما كان يصاب بالغثيان الحقيقي عندما يلتقي ببعضنا فيكتشف أننا إخوان مسلمين عاديين جدا، وقد حدث هذا معي شخصيا ولذلك تفاصيل في باب الرسائل الإصلاحية.

وأما كون هذا آخر مكتب إرشاد فلأن الحاج مصطفي مشهور فور توليه القيادة بمظاهرة (بيعة المقابر) ألغى معظم نتائج الانتخابات وانقلب عليها وجمد مجلس الشوري واتبع سياسة التعيين في المواقع التي تخلو في مكتب الإرشاد أو غيره.

قضية 1995 وما ترتب عليها:

لم يمض يوما واحدا على انتخابات مكتب الإرشاد حتى بدأت عملية اعتقال مجلس الشوري بعدما تم تسجيله صوت وصورة، جرت عملية الاعتقالات على دفعات خلال عام 1995 وكان آخر مجموعة 9 أكتوبر من نفس العام واكتمل عددنا 82 متهم وقسمتنا الداخلية على رقمين لقضيتين 9، 11/ 95 عسكرية عليا ثم أضيفت علينا قضية 13/ 95 بها متهمين اثنين واحد خارج البلاد وواحد مقبوض عليه ... جرت المحاكمات بسرعة بالغة وصدرت أحكام على 54 والباقي براءة.

بدأنا في سجن مزرعة طره حتى صدور الأحكام وبعدها بأسبوع نقلنا إلى سجن ملحق طره، ومع أن الأمر يحتاج لمؤلف خاص ولكن الذي يهمنا هو مواقف فريق التنظيم السري مع إخوانهم في السجن (بالله عليك عزيزي القارئ خبرني: نروح فين بعد السجن حتى يؤمن هؤلاء بأننا إخوانهم وشركاؤهم في جماعة الإخوان؟!)؛

بدأ محمود عزت ومحمد الصروي يكتبا تقارير سرية حول الإخوان بالسجن ويرسلاها إلى الحاج مصطفي مشهور في الخارج عن طريق الزوجات الزائرات.

عندما أراد أن ننظم السجن ونعين مسئولا بالانتخابات رفض المساجين من أعضاء مكتب الإرشاد أن يدخلوا ضمن عملية التصويت وقالوا مخالفين لائحة الجماعة (نحن أعضاء مكتب الإرشاد بره وجوه) ووصل الأمر بمحمود عزت أن يفتح خطاب شخصي مرسل من أحد الإخوان لزوجته في الخارج ليتجسس عليه ويعرف ماذا يقول لزوجته، وكان يوما أسود من قرون الخروب بين الإخوان بعضهم وبعض لأن صاحب الرسالة أخبرته زوجته أن الخطاب وصلها مفتوحا وكاد صاحب الرسالة أن يقتل من فتح الخطاب كما كاد أن يموت هو من الصدمة النفسية والتوتر والتشنج.

عندما جاء دوري بحكم نتائج الانتخابات في تسلم إدارة السجن لمدة ثلاث شهور، تكاتفوا ليفسدوا كل عمل أقوم به ليثبتوا أنني غير قادر على الإدارة، وبلغ العراك معهم مبلغا عظيما ونكدوا علينا العيشة حتى في يوم العيد، ثم كانت واقعة الخريطة التي كشفت عقائدهم الكامنة في أعماق عقولهم وقلوبهم، فقد صنعت خريطة مجسمة مصر بغرض تذكير الإخوان المساجين بوطنهم الذي حرموا من الحركة بين جنباته، وحتى لا ينسوا معالمه بطول فترة الحبس؛

فقال أحدهم (هذا صنم يجب إزالته) ومنعوا أنصارهم من مساعدتي في إتمام القاعدة الخرسانية المخصصة للخريطة، لكنني مضيت وأتممت المشروع، وكان له أثر إيجابي في نفوس أولادنا أثناء الزيارة، لم نعقد حلقة دراسية أو علمية إلا حولوها نكد في نكد أو حرضوا الإخوان على مقاطعتها، حتى حلقة علوم القرآن من كتاب الشيخ مناع قطان حاولوا إفشالها.

كان أحدهم يقول ممنوع أي شيء سوى حفظ القرآن وبطريقة (سيدنا) وادعى أنه أخبر الناس بطريقة سيدنا، وهكذا صارت الأيام معهم ثقيلة وكئيبة وجمعوا علينا هم السجن وهم الخلافات والشحناء في معظم الأيام.

وفي الشهور الستة الأخيرة أصروا ونحن مغلق علينا في سجن مساحته لا تتجاوز ألف متر مربع أن يقسموا الإخوان إلى أسر؟! وعينوا على كل أسرة نقيب (لاحظ أننا قيادات الإخوان المسجونة بحكم محكمة عسكرية) والهدف هو تشديد الرقابة على حوارات الإخوان وكتابة تقارير حول ما يتداولونه من قضايا وأفكار.

للعلم والتاريخ:

قائمة المحكوم عليهم في القضية 8 والقضية 11 – لسنة 1995 أحد عشر من القاهرة والجيزة وهم:

صبيح على صبيح صاحب شركة نسيج

السيد عبد الستار المليجي أستاذ بكلية العلوم الإسماعيلية

حسن الجمل صاحب شركة فراشة بالمنيل

عبد المنعم أبو الفتوح طبيب

عصام العريان طبيب

رشاد نجم وكيل وزارة التموين على المعاش

محي الزايط طبيب

محمد سعد عليوة طبيب

محمد الصروي مهندس بشكل أبو زعبل

سيد نزيلي موظف بالشئون

محمود عزت أستاذ بطب الزقازيق

أحد عشر من الإسكندرية:

إبراهيم الزعفراني طبيب

محمد حسين موظف

السيد مصطفى سمك طبيب

جمال ماضي

مصطفى حلمي كيميائي بشركة الدخان

فهمي عامر موظف بشركة سياحة

أسامة مسعد مهندس زراعي

محمد شحاتة

عبد العزيز زويل موظف بنقابة أطباء الإسكندرية

طلعت فهمي مدرس

حامد المداح أصغرنا سنا 31 سنة والوحيد العازب ويعمل موظف بمستوصف للإخوان.

من بقية المحافظات:

محمد خيرت الشاطر من المنصورة ويعمل مدير شركة حاسبات

عاشور غانم موظف من المنوفية

أحمد محمود مهندس من السويس

بشير العبد مدرس من العريش

علي عز الدين ثابت أستاذ بطب أسيوط

أمين سعد مدرس بالشرقية

محسن القويعي مهندس زراعي بدمنهور

محمد سويدان مدرس ابتدائي بدمنهور

جمال بطيشة مهندس من دمنهور

طلعت الشناوي مدرس بسنفا دقهلية

د. علي عمران باحث بمركز البحوث الزراعية بالمنيا

محمود بسيوني مهندس بطوخ قليوبية

محمود الكيال موجه بالتعليم من سمالوط المنيا

محسن راضي صاحب شركة دعاية وإعلام في بنها

أنور شحاتة طبيب من شبين منوفية

محمد فؤاد عبد المجيد طبيب من كفر الشيخ

محمود حسين فلسطيني وأستاذ في هندسة أسيوط

رزق عبد الرشيد مهندس من منوف

عبد الخالق الشريف محاسب من بني سويف

على الداي طبيب عيون من دمياط

محمد فرج مهندس دواجن من بورسعيد

نبيل عزام مدرس وخطاط من بورسعيد

الحاج حلمي مصطفى حمود كبير الإخوان في بورسعيد وتاجر أقمشة

محمد طه وهدان أستاذ مساعد بزراعة الإسماعيلية

محمد القصبي مدرس بمدرسة الإخوان بطنطا

علي متولي مدرس بالشرقية

محمد العريشي محاسب بالشرقية

محمد السيد حبيب أستاذ بعلوم أسيوط

محمد عبد الغني طبيب الزقازيق

أحمد فرج مدرس بالفيوم

عيسى عبد العليم موجه بسوهاج ولحق بهم في القضية 13/95 عبد الوهاب شرف الدين صاحب شركات خدمات بحرية بالسويس

ولحق بهم من قضية حزب الوسط كل من:

محمد مهدي عاكف موجه تربية رياضية على المعاش

محمد بدوي موجه بالتعليم على المعاش

مصطفى الغنيمي طبيب بطنطا

الأستاذ الدكتور المحترم محمود العريني أستاذ بزراعة عين شمس على المعاش

عبد الحميد الغزالي أستاذ بالاقتصاد والعلوم السياسية بالقاهرة

حسن جودة موجه بالتعليم على المعاش

محمود أبو رية موظف بجامعة الدول العربية على المعاش ومن المنصورة.

قضية حزب الوسط ومن وراءها:

كانت قضية حزب الوسط وما جرى حولها من نقاشات كالقشة التي قصمت ظهر البعير، تصورت في البداية أن التشاتم بين الإخوان في الخارج على صفحات الجرائد كان مجرد خطة إعلامية لتوافق الحكومة على الحزب؛

ولكن اتضح أن المصيبة جلل والفتنة عارمة، بدا أرباب التنظيم السري منفعلين وراحوا يكيلون الشتائم لوكيل المؤسسين ومن معه، حاولت وقف نزيف الأخوة والحب في الله والعيش والملح ولكنهم استمروا في غرس أظافرهم في قلوبنا، أعددت محاضرة لساعتين مزودة بما استطعت من وسائل الإيضاح لأثبت في نهايتها أن الإخوان القائمين على الحزب صادقون في مسعاهم ومحبون لجماعتهم وأن أفضالهم كثيرة ولا ينبغي الهجوم عليهم من خلال معلومات من الجرائد، ولكن لم يستطع كل ماء الإخوة الذي بذلناه لهم أن يطفئ نار العداوة في نفوسهم، وانتهى الموضوع إلى قطيعة بين الإخوان.

تقاطرت التقارير على المتربصين بنا وحدثت اجتماعات وبانت العداوات التي كانت مستورة حتى مع زوجتي وأنا وراء القضبان بقضية الإخوان قالوا لها تنقلين أفكر زوجك للأخوات، وتعاملوا معها بغير ما يجب، وعندما خرجت قابلني الحاج مصطفي مشهور بوجه متغير وسألني عما سمعه عن وجهة نظري في قضية حزب الوسط أو محرقة حزب الوسط التي أججوها للإخوان؛

وقلت له كلاما مختصرا جدا حتى لا أفسد الجلسة الأولى ومجمله (ما رأيته في الموضوع هو ما سوف أقوله لله يوم القيامة لأنه حدود علمي وأنا مسئول أمام الله عما أعلم ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها)، طلب مني أن ألتقي في اليوم التالي بمكتب الإرشاد وذهبت والتقيت وأعدت كلامي أمامهم كما هو، رأيت في عيونهم الكثير من الغضب وسوء التقدير، تركت المكان وانصرفت بعدما أخبرتهم بأنني باق في الإخوان ومنتظر التكليف وأنني في بيتي حتى تجدون العمل المناسب لي بالجماعة.

زارني من الإخوان في بيتي من أعتز بأخوته وهو الأخ عبد الرحمن سعودي وأخبرني أنه علم بوجهات نظري قبل خروجي من السجن، ونصحني قائلا إخوانك في مكتب الإرشاد تحديدا وهذه نصيحتي لا يتحملون أي حوار في هذا الموضوع.

الانكماش التنظيمي والعودة إلى رفقاء الزنازين:

تواصلت مع الإخوان أزورهم وأطمئن على أحوالهم، فإذا بالوجوه تغيرت والمواقع تبدلت كل شيء قد تغير وتبدل، تأكدت أن المؤامرة قد اكتملت وأن التنظيم الخاص السري قد هدم كل ما بنيناه لا لفائدة ترجى ولكن فقط لتكون أمة هي أربى من أمة؛

وتذكرت قول الله تعالى (ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة) (النحل: 92) كل المواقع تم احتلالها بأحد الرفقاء المساجين سابقا أو الهاربين الخلايجة أو المتسعودين أو مندوبيهم؛

حتى الذين عاشوا لأكثر من خمسين سنة بالخارج جاءوا ليأخذوا غنيمتهم من المناصب الفانية، وقيل لهم زورا وبهتانا (والله خير الشاهدين) أن جيل السبعينيات يوشك أن يستولي على قيادة الصحوة الإسلامية، فرصتنا اليوم وقيادتهم وراء القضبان أن نعيد القيادة المفقودة والسلطان القديم، هلموا إلى قصعتكم قبل فوات الأوان، وقد كان ،وراح الإخوان يأكل بعضهم بعضا عيانا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

لقد كانت هناك مشكلة حقيقية يمكن أن تشق الإخوان شقا عندما هجموا على قسم الطلاب في منتصف الثمانينات وأشاعوا حوله أكاذيب كثيرة، ولكن قيادات القسم من جيل السبعينيات كانت أعقل من الكبار وبالصبر والمثابرة طوقنا الفتنة وكظمنا غيظنا وعفونا عن إخواننا وانصرفنا بكل ما نملك من جهد نحو النقابات المهنية كما أرادوا حتى أصبحت الأعلى صوتا في مصر.

وكان هناك مشكلة قاصمة يمكن أن تحدث لو حققنا فيما جرى لمجلس الشوري المنتخب في التسعينيات من حيث زيادة آخرين عليه والكذب أن ثمة لائحة تسمح بذلك، وعندما همش دوره حيث لم يجتمع سوى ليأتي بمن أرادوا ثم ألغي تماما بدون مبرر مقبول، ولكننا صبرنا واحتسبنا الأمر عند الله وطوقنا الفتنة وكظمنا غيظنا وعفونا عن إخواننا.

ثم كانت مشكلة حزب الوسط ونحن وراء القضبان فلم يتخلق من بيدهم الأمر بما يجب أن تكون عليه جماعة المسلمين، وسعى الشيطان بينهم وركب على أكتافهم وأغراهم بالسوء فحولوا الجماعة إلى ساحة حرب وجيشوا الجيوش ضد إخوانهم بحزب الوسط واشتعلت الفتنة هنا وهناك، ونقلوا إلينا كل سوءاتهم لتلاحقنا وراء القضبان، ولأن صبر الإنسان له حدود فإن مؤسسي الحزب رأوا أنه لم يعد ثمة سعة في النفوس وأن التنظيم السري يصر على إيذاء الإخوان والسير بهم في متاهاته القديمة السوداء ولم يجدوا بدا من الاستمرار في المشروع الذي أوصى به مجلس شورى الجماعة.

إن طريقة التنظيم السري القديمة هي هي، يكيل لك الضربات في الظلام بالمكر والخديعة والمقالب والدسائس ويشوه سمعة الإخوان في عيون بعضهم ويوغر صدورهم فإذا تحدثت مشيرا إلى مصادر التخريب قالوا: ألم نقل لكم إن هؤلاء كذا وكذا! وأنهم يفضحون الجماعة!

ولماذا لا يكون النصح داخليا؟ والجماعة لا تدري لسنين طويلة كم عانينا من هؤلاء وكم تحاورنا معهم وكم قاومنا غرورهم وشرورهم، وتحسب الجماعة أن الأمر وليد الساعة، نحن ندرك من نهاية الثمانينات أننا مقبلون على خطر الوقوع في براثن السريين ولكننا تريثنا طويلا في إعلان ذلك حتى أصبح هذا التأخير في البلاغ مما نعاتب عليه اليوم.

ضرب الحصار حول قيادات السبعينيات:

عقب هزيمة يونيو 1967، انتفضت مصر متجهة إلى الله فيما سمي بالصحوة الإسلامية كان على رأس هذه الصحوة علماء أجلاء وقادة ودعاة، وحولهم كوكبة من الشباب المقبل على الله، من هؤلاء العلماء نذكر، عبد الحميد كشك خطيب عين الحياة وإمام أكبر صلاة جمعة في العالم أجمع، ومحمد الغزالي السقا أفضل خطباء الأوقاف في ذلك الوقت، وسيد سابق صاحب كتاب فقه السنة، وعبد اللطيف المشتهري رئيس الجمعية الشرعية للعاملين بالكتاب والسنة المحمدية، وجميل غازي رئيس جماعة أنصار السنة المحمدية، والشيخ حافظ سلامة مؤسس مسجد النور بالعباسية، والشيخ إبراهيم عزت إمام التبليغ والدعوة وسليمان ربيع مؤسس جمعية الخلفاء الراشدين، ومن الشباب الذي استجاب وأقبل وعمل تحت قيادتهم مئات بل آلاف، ومثل هؤلاء في المحافظات أمثال الشيخ أحمد المحلاوي في الإسكندرية.

والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو: أين هذا الجيل من قيادة الحركة الإسلامية، ومن الذي نحاهم وحل محلهم، وكيف تم ذلك؟ لقد كان الشاغل الأعظم للسريين دائما أن يذكر لنا عيوب لهؤلاء الدعاة ويعتبرهم جبناء وجهلاء بالدين حتى لا يفكر أحد في الاقتراب منهم أو السير في ركابهم أو الرجوع إليهم في أي أمر من الأمور، لقد ارتكب التنظيم الخاص السري عملية إقصاء عنصرية بأساليب متنوعة حتى وضع نفسه في مكان المؤسسين من العلماء والشباب وراح يدعي لنفسه تاريخا في الحركة الإسلامية المعاصرة التي صادر جهود أبنائها لخدمة أهدافه الخاصة، ووضع شباكه في طريق الصحوة حتى استولى على محصولها من الرجال.

ومن المفيد هنا أن يعرف الجميع أن الوقت الذي بدأنا فيه تكوين تنظيم للإخوان كان المتفق عليه هو شعار (توريث الدعوة) بمعنى نقل خبرة الإخوان التاريخية للجيل الجديد ومساعدته على تفادي الأخطاء التي وقع فيها الإخوان تاريخيا؛

وكذلك تحذير الجيل الجديد من الفكر التكفيري الذي يبدأ بتكفير الحكام ثم ينسحب على المعاونين لهم ثم يتوسع فيشمل كل من هو خارج التنظيم السري، والتحذير الشديد من استخدام العنف المسلح كوسيلة للتغيير السياسي، ولكن ما إن اخضرت الأرض ونما زرعها الإسلامي الجديد حتى هجم عليها السريون فصادروها لأغراضهم وغيروا سماتها بدهان زائف ثم وضعوا خفراءهم على مداخلها.

تجربتي الشخصية مع السريين:

قد يكون ما حدث معي شخصيا نموذجا لما حدث مع الآخرين ولكنني آثرت أن أكتب عمما وقع لي توخيا لصدق الرواية والشهادة، فما أستشهد به أحداثا وقعت لي ومعي، وليست منقولة عن آخرين.

الحصار في النقابة وعدوانية التنظيم السري:

بعض الإخوان يتصور أن استبدال شخص بشخص في موقع نقابي حق مطلق للتنظيم السري للإخوان دون مراعاة حقوق أعضاء النقابة، أو اعتبار النقابات بمثابة امتداد تنظيمي للجماعة أو شعبة من شعبها، ومع اعتراضي المعلن على هذا الفهم ومقاومتي المستمرة لتبقي النقابات المهنية ملك لأعضائها بالتساوي؛

فإن المفترض أن يكون التغيير متعلقا بالكفاءة النقابية وليس لأغراض وصراعات تنظيمية، ولقد ثبت خلال غيابي ثلاث سنين معتقلا بسبب نشاطي الإخواني عامة والنقابي خاصة أن فريق السريين بالنقابة الذي تولى المسئولية قد أفسد معظم ما تم إصلاحه فيها؛

وعندما خرجت من السجن وجدت هذا الفريق قد ألغى أهم مشروعات النقابة وهو مشروع تكافل العلميين، كان حجم المال الذي توفر له أربعة ملايين جنيه، وعجز كبير السريين بالنقابة د. رشاد البيومي عن الاستمرار في المشروع أو استثمار المال للأعضاء في شكل قانوني آخر من أشكال الشركات على كثرتها، فصفوا المشروع وأعدموه وما تزال بعض أمواله باقية بغير تصرف حتى اليوم؛

كما أن جميع النشاطات المتميزة وعلى رأسها مشروع (السلع المعمرة) قد أوقفت لعجزهم عن إدارتها وسقوطهم ضحايا لعمليات نصب من أقرانهم في البزنس ومن آخرين، وأما مشروع المظلة الطبية فلم يتقدم خطوة واحدة للأمام ويمثل وصمة في جبين المشرف عليه لسوء إدارته؛

كما أن هذه الفئة أنهت دور مجلس النقابة ولم يعد يجتمع غير مرة واحدة في العام، وبالجملة عندما قامت لجنة بتقييم عمل هذا الفريق السري كشفت عن قصور فاضح في أدائهم النقابي وقصور مشين في تحمل الأمانة (التقرير سوف ينشر قريبا، ضمن كتاب الإخوان والنقابات)، وعجزوا حتى عن أن يجمعوا المتأخرات وعجزوا عن أن يتقدموا بتعديلات قانونية لمجلس الشعب تعوض النقابة عما فقدته بتوقف تحصيل الدمغات؛

وكما فشلوا في كل ما تقدم فقد فاجأوا الجمعية العمومية المنعقدة في 28/ 12/ 2008 بأنهم أجروا مبنى (دار العلميين) بمدينة نصر لشركة مصنعي الموبيليا الدمياطية وكما باعوا وأفشلوا وفشلوا في كل المشروعات السابقة فقد باعوا شرف المهنة وحولوا (دار العلميين) مخالفة لكل قرارات اللجان وهيئة المكتب والمجالس السابقة إلى دار للنجارين والأسترجية؛

لقد فشلوا في إدارة عمارة من ستة أدوار خالصة للعلميين، وسجل التاريخ أن 35 من القيادات السرية، عجزوا عن إدارة عمارة من ستة أدوار فتركوها للأسترجية والنجارين ليديروها لهم مقابل إيجار يقولون إنه مجزي وهو في الواقع مخزي، والحقيقة أن القيادات التي فعلت ذلك هم جميعا من التنظيم السري وهو الذي يتحمل تبعة هذا الفشل المريع، كل شيء يدل على تراجع وضعف وتهاون في الأمانات، فما معنى إبعاد الكفاءات وتثبيت الفاشلين في مواقع تخص العلميين المصريين؟!

نحن جميعا سمعنا عن الجاسوس الأمريكي على روسيا الذي لم يكن له عمل تخريبي سوى تعيين الفاشلين والاستغناء عن الناجحين، فهل يحوز أن تكون هذه سياسة للمتدينين عندما يمسكون بالسلطة؟

فور خروجي من المعتقل السياسي كابدت مع هؤلاء في النقابة عيشة كئيبة وكلما وصلتهم وحاولت التقرب إليهم فاجأوني بعدوان جديد حتى كان آخر مجلس في 11 – 10 – 2008 (مطعون في صحته أمام القضاء الإداري) ومع أنني غبت عن المجلس لأعطيهم فرصة التصرف بكل حرية ودرءا لأي تصرف يزيد الجفوة لكنهم فاجأوا المجلس بموضوع لم يكن مدرجا بجدول أعماله وهو إعادة انتخاب هيئة المكتب ورشحوا في مكاني أقرب الإخوان العلميين إلى قلبي والغائب عن النقابة معارا للسعودية منذ عشر سنين؛

وقطعوا بذلك صلة الأخوة بيني وبينه بلا رحمة أو تعقل متصفين بكل ما نهى الله عنه (... يقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض ...)، إن طبيعة السريين القديمة الجديدة أنهم إذا حكموا أو ملكوا لدغوا لدغات يتصورون أنها مميتة متناسين حكم الله المبرم (... ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ...)

هؤلاء منذ استيلائهم على هيئة المكتب في غيابي لا يعقدون مجلس النقابة إلا مرة واحدة في العام قبل عرض الميزانية على جمعيتهم العمومية وبذلك لا يسمحون لأعضاء مجلس النقابة أن يطلعوا على محاضر مجلسها إلا بعد مرور عام كامل وهي فترة كافية لينسى الأعضاء ما تم في المجلس خوفا من كشف ما بالمحضر من مخالفات لإرادة العلميين، وكم ستكشف الأيام عن مخازي لهؤلاء، إن تجربتنا في العمل النقابي كشفت بوضوح أن الإخوان ليسوا نسيجا واحدا، وأننا أجنحة متباينة لم تتحاور أو تتفاهم مع بعضها بالتي هي أحسن، حتى انطبق علينا قول الشاعر:

(يعاف الذئب يأكل لحم ذئب ... ويأكل بعضنا بعضا عيانا)

كانت فترة اعتقالي من عام 1995 وحتى عام 1998 بسبب نشاطي النقابي والدعوي فترة عابرة في حياتي، وأشعر أنني نسيتها تماما بعد ترك باب المعتقل بمتر واحد، وفورا توجهت إلى نقابة المهن العلمية عقب خروجي من المعتقل لأمارس عملي أمينا عاما لها كما كنت يوم اعتقالي، لم أفكر لحظة أن أحدا بالمهن العلمية ينكر الدور الذي أدته النقابة طيلة الخمس سنين التي توليت فيها منصب الأمين العام، وكانت المفاجأة أنني وجدت الذي شغل موقعي (د. أحمد حشاد) يرفض ترك منصب الأمين العام ويرفض عودتي إليه، ويواصل قائلا: (الإخوان أمروني بكده)، سألته: أي إخوان تقصد؟ لم يرد.

توجهت للدكتور: رشاد البيومي بوصفه المحرك الأساسي لتصرفات الدكتور أحمد حشاد ولكونه تعين في مكتب الإرشاد ونحن وراء القضبان وسألته صراحة، هل هناك قرار بإبعادي عن هيئة مكتب النقابة؟ فقال لا ولكن الإخوان شايفين إنه يعني مفيش بأس من إنه يكون فيه حاجة يعني ... وبقى وقتا ملموسا لا يجد عبارة مفيدة، تدخلت مقاطعا؛

وقلت: ستكون فضيحة يا دكتور إذا قال الناس إن الحكومة أعادت السيد عبد الستار إلى عمله مكرما فور انتهاء فترة حبسه بينما إخوانه في الله أزاحوه عن مكانه بغير مبرر، لم يرد كعادة أرباب التنظيم السري ...

وواصلت حديثي: إذا كان الأمر كذلك وحتى نخفف من الفضيحة فعلينا أن نستر الموضوع ونخرجه بطريقة إنسانية، واقترحت عليه أن يدعوني ويرحب بي أمينا عاما كما كنت أمام المجلس الذي سوف ينعقد بعد أسبوع وأنا من جانبي سوف أعتذر بحجة انشغالي بأعمالي البحثية التي تأخرت ثلاث سنوات بسبب الحبس، ووافقني على ذلك وانصرفنا، وجاء يوم المجلس وعشت لحظات طيبة مع أعضائه الذين واسوني كثيرا على حبسي وبدأت وقائع الجلسة.

وانتظرت أن يقوم الدكتور ببدء خطوات السيناريو المتفق عليه ولكن كانت المفاجأة عكس ذلك، فيصرح الدكتور المحترم قائلا: نرحب بأخينا الدكتور سيد في مكان الأخ فلان الذي سافر للإعارة ونتمنى له التوفيق مع إخوانه الأمناء المساعدين، ونشكر الدكتور فلان على مجهوداته في موقع الأمين العام ونبارك له استمراره في الموقع.

كان الموقف يمثل لي صدمة جديدة في أشخاص ابيضت منهم الرءوس، وكيف يتصرف بالمخالفة على ما اتفقنا عليه مع أن النتيجة واحدة، ولقد مر على ذلك اليوم عشر سنين والموقف لا يغادر خاطري، لاحظوا معي أن الذي خالف الحل الإنساني عضو عين بمكتب الإرشاد وواحد من التنظيم السري الجديد وهو هو نفس الشخص الذي سعيت إليه بصحبة د. ممدوح الديري عام 1983 في وجود المرحوم عمر التلمساني للمعاونة في نشاط قسم الطلاب بجامعة القاهرة فأبى وقابلنا بجفاء شديد ورفض التعاون معنا بإصرار وتعلل أنه مشغول برسالته للدكتوراه؛

اليوم بعد أن أخضرت الأرض وتثبتت أركان الإخوان بمجلس نقابة المهن العلمية، يدعي ملكيتها لنفسه ويتخذ إجراءات في مواجهة من سبقه بالعمل وبطريقة مذرية، وبدون أسباب معلنة، ويدرك كل من يتصل بالنقابة أن سيادته يشغل منصب وكيل النقابة ومع أهمية ذلك إداريا فلا يأتيها غير مرات معدودة في كل عام، منهم مرة عند انعقاد الجمعية العمومية.

ويعلم الجميع بالنقابة أن فريق التنظيم السري لم يعد له عمل سوى إعاقة عمل السيد عبد الستار وسد منافذ الهواء عليه، فهل هذه تصرفات إسلامية؟ أو حتى إنسانية؟ أو تتصل بأي صلة بأمانة العمل النقابي؟

ولا يتصور القارئ أن المسألة شخصية ترجع لشخصي أو حالة فردية ولكنها نفس حالة الفساد الذي لحقت نقابة المحامين وقصتها منشورة ومشهورة حتى صارت نموذجا للتفسخ الإخواني بسبب سوء إدارة التنظيم السري، واليوم لا يوجد بالنقابة مختار نوح ولا خالد بدوي ولا جمال تاج الدين وهم الثلاثة الأول الذين أوكلنا إليهم تثبيت وجود الإخوان في مجلس نقابة المحامين، وفي الانتخابات الأخيرة تمكنت قائمة الحزب الوطني من كنس فريق التنظيم السري بزعامة طوسون كنسا وأنهى كل شيء ... فهل يعترف السريون مرة واحدة بفشلهم في كل مجال؟

وكذلك الحال في المهندسين والصيادلة والأطباء والتجاريين والزراعيين والصحفيين وسوف أفصل ذلك بمشيئة الله في الكتاب القادم حول الإخوان والنقابات ليرى الجميع أن النقابات مرت بمرحلتين مختلفتين مرحلة ازدهار ثم مرحلة انكسار وتراجع بسبب سياسات التنظيم السري وسيرى الجميع أن التنظيم السري أوجد مشكلة عويصة بكل نقابة من النقابات مما قلل من قدرتها وشل حركتها.

الحصار في الطباعة والنشر:

تأسست دار الطباعة والنشر الإسلامية لتكون مطبعة لكتب الإخوان بالدرجة الأولى، وفرحت كثيرا بتأسيسها ووضعت كل مدخراتي القليلة آن ذاك (800 جنيه) أسهما بها، وعندما حدثت مشكلة توظيف الأموال وهجمت الحكومة على الشركات سارعت بتأليف كتابي الثاني لأوضح الموقف لعموم الناس بصفتي كنت رئيسا لمراقبة الجودة بمصانع وشركات الشريف ومن القريبين من كافة الشركات التي طالتها قرارات نيابة الأموال العامة؛

أوضحت في الكتاب خطورة ما اتخذته الدولة من قرارات وضررها على الاقتصاد المصري وأضفت مع ذلك موقف الحكومة في قضية سلسبيل وموقفها في قضية اغتيال الدكتور فرج فودة المسلم، وكان الكتاب برمته صحيفة اتهام لتصرفات الحكومة وعنوانه (الإسلاميون والإرهابيون) وكل ما فيه يقول إن الحكومة تصرفت في الموضوع بدوافع سياسية وليست اقتصادية، وتوجهت طبعا بكل شجاعة وثبات نحو مطبعتنا الغراء لتطبع الكتاب ..

أخذوا مني الكتاب وطبعوه فورا وغلفوه بالسيلوفان وأرسلوه للتوزيع، وبعد حوالي شهر كلمني موظف بالشركة اسمه حسن وطلب مني زيارتهم، هناك وجدتهم جمعوا الكتاب من السوق وطالبني الموظف باستلام الكمية اليوم وليس غدا (ألفين كتاب تقريبا)، وبعد عدة أيام وجدت بالبريد خطابا يقول (خصمنا ثمن الطباعة من أسهمك بالشركة وباقي عليك مبلغ كذا يرجى المسارعة بسداده)، وحتى اليوم لا أعرف لماذا تصرفوا على هذا النحو المشين لأي دار نشر محترمة.

الكتاب الثاني معهم كان الأول في سلسلة تحت عنوان (النصر أو الشهادة) وفكرتها كانت اختيار شخصية نموذجية معاصرة في كل مؤسسة وتقديمها في كتاب لتكون قدوة للجيل، ووقع اختياري الأول على أهم مؤسسة وهي القوات المسلحة المصرية، واخترت من بين أبطالها اللواء صاعقة جمال عبد المجيد غانم، البطل الذي هزم شارون في الثغرة ومنعه بالقوة والشجاعة من الوصول إلى الإسماعيلية؛

كان رحمة الله عليه نموذجا وقدوة لكل ضابط مجاهد بحق يرجو الله واليوم الآخر، جمعت كل المعلومات حول شخصه من المهد إلى الشهادة وتوجهت لمطبعتنا بنية صافية، وكما حدث سابقا أتموا الطباعة ثم فاجأوني بطلب ثمنها، قلت لهم أنا قدمته لكم لتنشروه، قالوا: نحن هنا دار طباعة، وقد انفصلنا تماما عن دار النشر، ادفع واستلم وتعاقد مع دار النشر ومكتبهم في الأوضة التانية، ودفعت وأخذت كتابي ورحلت واعتقلت بعد ذلك بأسبوع في قضية النقابات وتصورت ليلتها أن الكتاب هو السبب لكثرة ما فيه من انتقادات لاتفاقية كامب ديفيد.

بعد انتهاء فترة حبسي متهما بإدارة جماعة الإخوان المسلمين سارعت إلى مطبعتنا للمرة الثالثة (كم كنت على نياتي وكم كنت لا أرى من إخواني أي عيب مهما عظم؟!)

وتقدمت لهم بأهم مؤلف كتبته في فترة السجن على مدى ثلاث سنين وعنوانه (علم النبات في القرآن الكريم) وهو كتاب علمي متأدب يهدف إلى نشر الثقافة العلمية في ثوب قرآني، ولكنهم هذه المرة كانوا صرحاء فلم يعدوا بطباعته فورا ولكن وعدوا بدراسة ذلك؛

وبعد حوالي سنة كنت قد سافرت إلى أمريكا لبعض أبحاثي في الهندسة الوراثية ومن هناك اتصلت واطمأن على الكتاب وسمعت بأذني ما لا ينسى، الأخ محمد الجزار يقول للأخ حسن: قله مش ح نطبعله حاجة، وصمت وبيده السماعة ينتظر لمدة دقيقة حتى يستجمع قواه ويقول لي د. محمد الجزار بيوعدك أن تنتهي المراجعة خلال أسابيع وكان المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قد عاد من حائل بعد هروب ربع قرن وبسرعة قلدوه منصب كبير المراجعين بدار الطباعة والنشر (مهنة تنظيمية كمهنة الرقيب).

وهكذا حرمني التنظيم السري ومن أواخر الثمانينات من الدار التي كنت من أوائل المساهمين فيها، اليوم بفضل الله طبعت كتبي الهيئة المصرية للكتاب والهيئة المصرية لقصور الثقافة ومكتبة وهبة ودار الشروق الدولية ودار الوفاء وجاري التعاقد مع دور أخرى بفضل الله ورحمته وليهنأ السريون بدار نشرهم المحترمة!

الحصار في مجال صلة الإخوان والتراحم بينهم:

من تصريحات السيد الهمام المرشد العام محمد مهدي عاكف لجريدة البديل قوله عندما سألوه عن شخصي (وهو بيجينا من وقت لآخر ...) وهو اعتراف صريح بأنني لم أقطع صلتي بأحد رغم كل الإساءات التي ارتكبوها في حقي؛

ويعلم الله أنني حاولت صلة هذا الفريق بكل وسيلة ممكنة وقبلت التنقل من مهمة إخوانية إلى أخرى دونما ملل ورغم ملاحظتي أنها كانت مجرد عملية احتواء وتعطيل وتجميد ولكنني اعتبرتها وما زلت شعرة معاوية حتى يحكم الله بيني وبينهم، وكنت كلما تأزمت نفسي ذهبت لمن أتوسم فيه التعقل والفهم ليتوسط بيني وبين فريق السريين المفترين، ذهبت إلى الإسكندرية وشرحت الموقف للأستاذ محمد عبد المنعم فراح يضرب كفا على كف مستغربا من أفعالهم، ووعدني بالتدخل ولم يصلني رده.

رافقت د. محمد سعد الكتاتني من مصر الجديدة إلى شقة البرلمانيين بالمنيل وشرحت له كافة تفاصيل المؤامرات الدائرة في الصف وكان تعليقه (يعني استولوا على الأموال والتنظيم) ثم أردف قائلا: إذا كانوا يفعلون ذلك بواحد إخواني حتى النخاع فماذا هم فاعلون مع غيره؟

ولأكثر من سنة لم يرد علي بشيء، عندما فكرت في موضوع الجمعية كمخرج من الأزمة الداخلية أكثر من الخارجية، ولاحظت التوتر والهياج في استقبال المشروع توجهت للأستاذ إسماعيل الهضيبي فرفض التدخل أو حتى التعليق وقال أنا من السبعينات راكن لأني معترض على طريقة العمل واليوم ليس لي رأي في أي شيء، وتوجهت للأستاذ محمد فريد عبد الخالق وتحمس للوساطة وأتمنى له التوفيق، وكذلك د. عبد الحميد الغزالي ود. إبراهيم الزعفراني ... فهل ينجحون؟ أتمنى الهداية والتوفيق للجميع.

مع الإخوان في أمريكا:

فور عودتي لعملي بكلية العلوم جامعة قناة السويس وبعد غياب ثلاث سنين خلف القضبان استقبلني الأستاذ الدكتور: أحمد شكري رئيس الجامعة استقبالا حسنا وأخبرني أنه حافظ على حقي في البعثة العلمية ولم يعطها لأحد غيري، وأعلمني أنه باستطاعتي أن أبدأ إجراءات السفر للدولة والجامعة التي أفضلها لمدة ست شهور بحثية، شكرته كثيرا على موقفه وانصرفت لإتمام إجراءات السفر؛

واستطعت الحصول على موافقة جامعة بولاية إنديانا الأمريكية وكانت هي الأنسب لتخصص الهندسة الوراثية الذي رغبت التدريب على فنونه، هناك كان في استقبالي بالمطار أخوين كريمين من المبعوثين المصريين (طارق زايد مبعوث جامعة الزقازيق وجهاد قنديل مبعوث جامعة عين شمس) وعلى رأس المستقبلين أ. د. رونالد كولبو رئيس القسم المضيف بالجامعة وكانت لحظات سعادة وتعارف على عالم جديد وصحبة جديدة؛

وعشت مع المصريين والعرب بالمركز الإسلامي هناك ستة أشهر هنية، من معمل الأبحاث إلى المسجد الأنيق مرورا بطبيعة خلابة ومع صحبة إسلامية سمحة ومحبة غامرة.

وتعرفت في هذه الأيام على كبير المسلمين بالمدينة المهندس محمد صبحي (أبو هاني) وأسرته الكريمة وأثمرت محبتنا في الله بعد خمس سنين من التزاور زواج ابنه هاني بابنتي أسماء وصرنا متصاهرين ببركة الأخوة الطاهرة ونسأل الله دوام الود بيننا.

قبل عودتي بشهر ونصف تعرفت هناك على د. صلاح سلطان ذكرني بحضوره عضوا في مخيم للإخوان كنت ضمن إدارته، وصل بنا الحوار إلى أن طلب مني أن أعاونه في تدريس مقرر حول الإعجاز العلمي في القرآن لتقديمه لطلبة ما أسماه (الجامعة الإسلامية الأمريكية) بولاية ميتشجن، ولبيت له طلبه رغم ضيق الوقت وصعوبة الإمكانيات، كتبت المقرر في مذكرة وسجلته مشروحا على ستة أشرطة فيديو وستة أشرطة كاسيت وأرسلت له المجموع مع امتحان تحريري للدارسين.

وعقب انتهاء الستة أشهر عدت قافلا إلى الوطن ومستريحا لما تم تجاوزه في الستة أشهر المتاحة، والحمد لله فلم يكن أحد من السريين في هذه البقعة من العالم.

تدخل السريين بالحصار في الجامعة الصغيرة:

بعد عودتي من أمريكا بشهرين حضر للقاهرة د. صلاح سلطان رئيس الجامعة الصغيرة والتقى بي في نادي أعضاء هيئة التدريس بجامعة القاهرة وألح في ضرورة عودتي لمساعدته في إدارتها، وفور عودته لأمريكا أرسل لي كافة الأوراق اللازمة لاستخراج التأشيرة الأمريكية، قبل سفري توجهت للحاج مصطفي مشهور وأبلغته بما أنا عازم عليه وسألته إن كان هناك ثمة توجيهات لي أو للإخوان في أمريكا يراها أو يكلفني بها واتفقنا على أن يسجل ذلك على شريط فيديو؛

وحضرت بالفعل اليوم التالي بعد الاتفاق مع مصور الروضة المعتاد، أثناء تصوير الحوار بيني وبين الحاج مصطفى كان هناك اثنان يقفان ويتابعان كل ما يقال وكأنهما يقفان على الجمر (محمود عزت ومسعود السبحي)

وما أن انتهى الحديث حتى تقدما للمصور وصادروا الشريط بحجة المونتاج والمراجعة، وانتهى الوقت ولم يعيدا لي الشريط وسافرت من غيره، بلغت أمريكا 24/ 8/ 2001 وكانت المفاجأة، أن التنظيم السري الذي صادر الشريط استدعى أحد أفراده بالكويت ([[عبد الوارث سعيد]) ونقله إلى نفس الجامعة وتسلم نفس العمل الذي تعاقدت عليه عشت شهرا واحدا أتأمل (التنظيم الخاص السري) وأفراده وسوء تصرفاتهم وظلامية أفكارهم، بوقوع أحداث 11/ 9 توقف العمل بالجامعة، وفي أول فرصة للسفر حصلت عليها أسرعت بالعودة إلى بيتي وأسرتي مرددا قول ربي (الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين).

حتى أنت يا بروتس؟!

أثناء هذه المواقف المخزية للتنظيم السري اتصلت بمدير مكتب الإخوان في لندن (إبراهيم منير) بصفته وبحكم موقعه التنظيمي ولأنه يعرفني جيدا والتقينا في أعمال إخوانية مشتركة في لندن واستانبول وغيرها من العواصم وسافرنا معا وأكلنا عيش وملح في بيته بلندن؛

نقلت له ما حدث ودعوته أن يتدخل فإذا به يقول (ما أنت يا دكتور موقفك مش واضح)، أدركت من كلامه ولهجته أن الأمر كما توقعت، إنها تعليمات التنظيم الخاص السري وهو أحد أفراده القدامى (مجموعة إمبابة التي شاركت في حادث المنشة).

انتخابات مجلس الشعب 2005:

لم تشهد الساحات بلبلة وخداعا كما حدث معي في انتخابات 2005، باختصار شديد التقيت قدرا بالأستاذ الدكتور فاروق فهمي أستاذي في الكيمياء بجامعة عين شمس قبل الانتخابات بشهرين، وتجاذبنا أطراف الحديث حول المشكلة المالية المتعلقة بنقابة المهن العلمية وعدم قدرتها على دفع معاشات الأعضاء؛

وانتهينا إلى أن عدم تواجد ممثل للعلميين بمجلس الشعب سبب في تفاقم المشكلة، واقترح علي أن أترشح في الانتخابات للعمل على تمرير قانون تطوير ودعم نقابة المهن العلمية المقدم للمجلس من قرابة ثلاثة أعوام ولا يوجد في المجلس من يتبناه، وعندما عرضت الأمر على عائلتي بكفر الشيخ اتفق هذا مع رغبتها وكانوا قد عرضوا علي ذلك من شهر فات.

توجهت على الفور إلى لجنة الانتخابات بمكتب الإرشاد وعرضت عليهم فقبلوا وسألوني عن الموقع المناسب للترشح وقلت لهم بلدي بكفر الشيخ فوافقوا وطلبوا التنسيق مع الإخوان في كفر الشيخ، تمسك إخوان كفر الشيخ بمن رغبوهم ولم يوافقوا على إخلاء مقعد فئات من بين 18 مقعد بالمحافظة، نقلت ذلك للجنة فوجهوني للترشح في كوبري القبة شريطة موافقة مسئول المنطقة (الترزي/ عبد المنعم دحروج)؛

وتوجهت إليه فوافق، أبلغت اللجنة ومضيت في تحضير الأوراق وأتممتها وتوجهت في أول يوم لأقدمها، وفي طابور المتقدمين وجدت الأخ الفاضل الدكتور الشيخ عبد الحي الفرماوي، سألته عن دائرته الانتخابية فقال (كوبري القبة) فئات، فقلت: يعني ح نترشح ضد بعض؟!

استغرب كثيرا، وقال يبدوا أن الأمر فيه خطأ، وعرض أن نتصل برئيس اللجنة (د. محمد حبيب) طلبته على تليفوني الموبيل فلم يرد، طلبه الدكتور عبد الحي فرد عليه وأبلغه أن يمضي في ترشحه بكوبري القبة، تناولت التليفون المحمول وتكلمت مع د. محمد حبيب فأبلغني أنهم نقلوا د. عبد الحي من دائرته الطبيعية بالمطرية ليترشح بكوبري القبة وسوف نبحث لك عن دائرة أخرى تترشح فيها، من جانبي أيقنت أنها حلقة جديدة من سلسلة مهازل التنظيم السري السوداوية ورددت في نفسي (وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا)

لقد كان من الأولى مصارحتي برغبتهم في عدم ترشحي حتى لا أستخرج الأوراق الرسمية وأسير في الإجراءات وهي مكلفة ومرهقة كذلك، وأفقت على نداء د. حبيب ... ألو ... ألو ... فقلت له: سأنتظر حتى اليوم قبل الأخير لتقديم أوراق الترشيح فإن لم يصلني رد فسوف أترشح في الدائرة التي أراها مناسبة.

لم يصلني رد كما توقعت وترشحت حيث محل إقامتي ومعظم معارفي بالقاهرة بحي النزهة بمصر الجديدة، لم يكتف التنظيم السري بما جرى بل جند نفسه لمحاربتي ومساعدة مرشح الحزب الوطني د. حمدي السيد وتمكينه من الفوز، جندوا من كانوا تحت إدارتي الإخونية لمدد طويلة ليقولوا للناخبين انتخبوا مرشح الحزب الوطني ولا تنتخبوا أخانا؛

وكانت أعجوبة الانتخابات ومسار استهجان العقلاء، ولولا أن الدائرة مضاف عليها المرج والسلام وبركة الفيل والكيلو أربعة ونص ومناطق عشوائية لم يكن لي بها علم لتحقق فوز ملموس مع أن الدعاية التي سمحت بها السلطات الحكومية والإخوانية لم تتجاوز العشرة أيام الأخيرة من رمضان.

والسؤال: ماذا يضير السريين لو نجح أحد الإخوان بمقعد في المجلس ولو بمجهوده الفردي وبمساعدة أهله وعزوته ومحبيه؟ وإذا كان أرباب التنظيم السري يعتبرون مرشح الحزب الوطني جدير برعايتهم ومساعدتهم بينما أحد الإخوان يلقى منهم العداء والعنت إلى هذا الحد، فعلى أي معيار عقلي أو نقلي يمكن فهم سلوكيات هذه الفئة؟!

هكذا تبدوا مواقف هذه الفئة الباغية مع من يعارضها بالرأي حتى ولو كان من الإخوان المسلمين عند العامة والخاصة.

حتى دعم فلسطين حاربوه عنادا:

في اجتماع للقوى الوطنية بمكتب الإرشاد تقرر عقد عدة مؤتمرات لدعم المحاصرين في غزة وتقرر أن يكون مؤتمر الإخوان في شرق القاهرة بمبنى دار العلميين بمدينة نصر تحت إدارة لجنة الإغاثة قرابة 600 ألف جنيه تبرعات لفلسطين، وشاركني في إدارته من الحي د. مصطفى النجار صاحب مدونة أمواج في بحر التغيير وهو شاهد على مجريات المؤتمر الأول كلها؛

وفي الموعد كانت النقابة قد جهزت المكان لاستقبال الفين من شرق القاهرة، وعشرة متحدثين من القوى الوطنية، ولكن حضر المتحدثون جميعا ولم يحضر الجمهور ولا أحد من الحي، وكان أمرا غريبا، وتبين أنهم ندموا على المشاركة في المؤتمر الأول فأصدر التنظيم السري تعليمات بإفشال الثاني لأن المؤتمرات تديرها لجنة برئاستي، وهكذا وصل عنادهم وضررهم إلى فلسطين وتصرفها.

التجسس على الإخوان:

عدة مواقف معي شخصيا، الأول فور خروجي من سجن طره عام 1998، قبل مضي عشرة أيام على خروجي جاءتني دعوة من شركة صناعية أعمل معها كمستشار علمي لأكون ضمن وفدها المسافر إلى معرض دولي صناعي بألمانيا، وهناك التقيت ببعض معارفي من الإخوان وحملتهم السلام إلى الدكتور كمال الهلباوي كبير الإخوان بلندن؛

وما أن بلغه سلامي حتى هاتفني والمرسال عنده وتكلم معي طويلا مواسيا على فترة الحبس وشارحا لي بعض مضايقات إخوانه له في الغربة، وعندما عدت من رحلتي كتبت رسالة عادية وفكاهية إلى الأستاذ محمد عاكف حيث كان ما يزال في السجن، إلى هنا الأمور عادية، ولكن بعد أيام طلبني الحاج مصطفي مشهور لأزوره، وزرته بالفعل، وفاجأني وهو يقول: صحيح أنت أرسلت لإخوانك المساجين، فقلت وكل علامات الاستغراب على وجهي: نعم، وإيه العيب في كده؟

واستطردت ... الرسالة عادية جدا ومرسلة للأستاذ عاكف وهو تنظيميا المسئول عن السجن في هذه المرحلة، غير أنه رحمة الله عليه لم يكن يتحمل أي شيء يمر دون علمه وبموافقته حتى خطابات الود بين الإخوان تحاور معي بشأن ما ورد في الرسالة وكان غير الراضين عن توصيف لوضع أ. كمال الهلباوي وأبى رغبته في أن أتوقف عن الكتابة للإخوان بالسجن، السؤال هو: من أبلغ مشهور بخطاب المليجي إلى عاكف؟ والإجابة واضحة: إما عاكف نفسه وإما الجواسيس.

الموقف الثاني متعلق بالشيخ عبد المنعم تعيلب وترجع معرفتي به من عام 1985 وما بعدها، في وقتها كان الشيخ يعيش في مكة كواحد من الإخوان الهاربين إلى السعودية، أما أنا فكنت أصحب فوجا كل عام من أعضاء هيئة التدريس لأداء فريضة العمرة، كنا نستأجر بيتا واسعا مناسبا للمعتمرين ونعقد حلقات منزلية لتدريس المفاهيم الإخوانية التي ترغب في تزويد المعتمرين بها؛

وحتى يبدو الأمر عاديا كنا نستضيف علماء مصريين مقيمين هناك ومنهم سيد سابق وعبد المنعم تعيلب، هنا في القاهرة عام 1998 وعقب انتهاء فترة حبسي علمت أن التنظيم السري استدعى الرجل بعد غياب 50 سنة هاربا في السعودية ليعينه رئيس حي شرق القاهرة في التنظيم السري، وهو ما اعتبرته من جانبي انقلابا على نتائج انتخابات 1994 وأما الواقعة فتتلخص في مكالمته لي لزيارته في بيته؛

وعندما زرته في بيته إذا به يقول لي: الكلام اللي سمعت إنك تتداوله مع زوارك من الإخوان من شأنه أن يعرضك لمتاعب داخل الجماعة ...قلت له: كلام إيه ومن بلغك؟ فقال (مش مهم مين بلغني المهم الكلام) فقلت: أعتقد أن من حق الإخوان أن يزوروا أخاهم بعد غيابه محبوسا بقضيتهم ثلاث سنين ومن حقي أن أقول لهم ما أرى أنه في مصلحة الإخوان، ولو أن كلامي فيه شيء فنناقشه معا في جلستنا؛

أما الذي ليس من حقك هو أن تتجسس علي في بيتي مخالفا شرع الله نقطة احتدمت الجلسة ويبدو أن الشيخ لم يتوقع ردي عليه أو لم يكن مستعدا فسكت ثم استأذنته وخرجت غاضبا ولم أره من يومها والسؤال المطروح هو: من أبلغ الشيخ بحوار جرى مع عدد من الإخوان في بيتي؟

إنهم الجواسيس، لقد كان بوسع الشيخ أن يدير معي حوارا أخويا علميا راقيا حول الموضوع مباشرة فيفيد ويستفيد ولكنها الطريقة السرية الإرهابية التي تقوم على إرهاب الأعضاء بإيهامهم أنها تعرف كل شيء عنهم وتسمع سرهم ونجواهم.

الموقف الثالث: تجسس على حزب العمل:

فور خروجي من السجن السياسي نهاية عام 1998 زارني مهنئا الأستاذ عادل حسين (رحمة الله عليه) ثم كرر الزيارة مرتين ليحدثني عن سوء معاملة مكتب الإرشاد له ولحزب العمل وطلب مني التوسط في ذلك، وسوف أضع التفاصيل التي انتهت إليها تلك العلاقة في كتاب قادم بإذن الله حول علاقتنا بالقوى الوطنية؛

وقبل انتخابات عام 2000 لمجلس الشعب زارني مسئول بحزب العمل وأخبرني بأن هيئة الحزب ترغب في ترشيحي ممثلا لحزب العمل الإسلامي في الانتخابات القادمة، وكان جوابي واضحا وصريحا بأن الأمر يتطلب موافقة مكتب الإرشاد قبل ذلك ووعدته أن تتم زيارتهم خلال الأسبوع وأخبره بالنتيجة؛

وبعد هذا اللقاء بيوم واحد فوجئت بأحد الإخوان بالحي (أحمد شوشة) يزورني صباحا في مكتبي بمدينة نصر ويخبرني أن الأستاذ مأمون عايزك تزوره في البيت، وتوجهنا مباشرة لبيته الواقع بالقرب من ميدان الجامع بمصر الجديدة، وكان المفاجأة أنه يكلمني عما دار بيني وبين الأستاذ عادل حسين ويقول: يا دكتور سيد أنت من قيادات الإخوان فكيف تترشح على قوائم حزب العمل؟

وأوضحت له أنني عرض على ذلك وكانت إجابتي واضحة بأن الأمر يتطلب موافقة مكتب الإرشاد، وكنت عازما على زيارتكم بالروضة خلال يوم أو يومين لأستطلع رأي مكتب الإرشاد، فقال: أنا أبلغك أن مكتب الإرشاد لا يوافق على هذا الترشيح، وقلت: وأنا ملتزم بقرار مكتب الإرشاد ولن أترشح على قوائم حزب العمل رغم عدم قناعتي بالقرار.

انصرفت من عنده وأنا غير مستريح البتة لهذه الطريقة من السلوك التجسسي على الإخوان وعلى حزب العمل، ولكنني عندما راجعت تاريخ النظام الخاص وجدت أن التجسس على الأحزاب والجمعيات والجماعات والإخوان كان من أهم أدواره ولهم في ذلك قصص وروايات يفخرون بها؛


ومن أشهرها قصة الحاج أسعد السيد أحمد الذي كلف من قبل الجهاز السري بالتجسس على حزب مصر الفتاة فانضم لحزب مصر الفتاة وترقى في صفوفه حتى وصل إلى أن يكون في الحرس الحديدي الذي أنشأه الحزب لحراسة زعيمه أحمد حسين ثم كشف أمره عندما قبض عليه في قضية السيارة الجيب مع الإخوان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق