الأحد، 24 نوفمبر 2013

الكتاب المعجزة رقم 2

هيا بنا نبني الوطن:

لم أنتظر حتى انتهاء سنة القوات المسلحة لأستفيد بما تلقيته من علوم بالكلية، وقبل أن يصلني خطاب التكليف بالعمل الحكومي توجهت إلى كل من أعرف بحثا عن عمل، وقدر الله لي الخير فوجدت العمل، اصطحبني رفيق المسجد الحاج محمود صالحين (رحمة الله عليه وعلى والديه وجميع ذريته ومن يحب) مدير العلاقات العامة بشركة الكيماويات العملاقة (سويسفارما) ليس إلى شركته ولكن لشركة حديثة التكوين تقع بشارع أبي سنمبل بمصر الجديدة

وصعد بي إلى الدور الأول حيث إدارتها الكائنة في شقة صغيرة، هناك التقيت بالمدير العام الأخ عبد اللطيف أحمد الشريف، يكبرني بسبع سنين تقريبا، يكاد يطير من على الأرض وهو يمشي من قوة النشاط وخفة الحركة مع أنه قصير وبدين ولكنها قوة روح وإشراقة أمل؛

كان معي نعم الأخ والصديق، لم يضيع لحظة من الوقت وبسرعة فهم عني كل شيء، أخرج من يده قلم جاف وكأنه حاوي يقدم لعبته للجمهور، فكك القلم إلى أجزائه وهو يقول هذا جسم القلم من البولي ستيرين وأنتجناه، وهذه أنبوبة الحبر مصنوعة من البولي إيثيلين وصنعتها، وهذا السن النحاسي وما به من بلية أنتجناه أيضا، وفي الأنبوبة يوجد الحبر الجاف ودي مهمتك؟! هل تستطيع أن تصنع لنا الحبر الجاف؟

لم أنتبه سريعا للسؤال لأنه جاء مباغتا، وعندما أفقت قلت بالتأكيد ممكن ولكن الأمر يحتاج بحث ودراسة ومعمل، قال على الفور: كل ما تطلبه سيكون عندك وابدأ فورا، وكانت البداية التي لم ولن يكون لها نهاية مثل كل عمل صالح يمتد أجره حتى يبلغ الجنة والجنة باقية؛

من هذا اليوم اكتشفت عالم جديد وعمل فريد وجهد مفيد وتسابق مع الفرسان، وتواجد في قلب الميدان، وما أحلى العمل إذا كان شعاره (هيا بنا نبني الوطن) (هيا بنا نلحق بالعالم المتقدم صناعيا) (هيا بنا نغني بلادنا عن الحاجة لمن يعاديها)؛

وبغير دخول في التفاصيل الرائعة لقصة الحبر الجاف فالفصل الأول فيها كان معاناة البحث عن خاماته التسعة، والفصل الثاني كان تأسيس معمل أبحاث الحبر وإنتاج العينات والفصل الثالث كانت تصميم مصنع تجريبي وإنتاج أول كمية صناعية، وخلال أربعة أشهر كان أمام عبد اللطيف الشريف المدير العام لشركات ومصانع الشريف 2 طن من حبر القلم الجاف؛

وتوالت التكاليف وتوالت بفضل الله النجاحات الصناعية التي تعاون عليها فريق من الجادين يشرفني أن أكون واحدا منهم، وخلال خمس سنين 1975 – 1980 تحقق الحلم واكتفت مصر نهائيا من جميع أنواع البلاستيك المصنع، وانتهى من الجمارك تقريبا ما يسمى بلاستيك مصنع مستورد، ثم شرعنا في الخطوة التالية وهي إنتاج خامات البلاستيك وحققنا بفضل الله نجاحا مبهرا في مجال أهم الخامات (بي . في . سي)

وأصبح فريق الكيماويين العاملين معي بقسم المعامل وضبط الجودة فوق الثمانين وعلى رأسهم الكيميائي عثمان عمر عثمان صاحب ومدير الشركة الوطنية لصناعة البلاستيك بالعاشر من رمضان، وبنينا معا أول مركز أبحاث مسمى مركز الاستشعار عن بعد بالشارع المواجه لمطار القاهرة أول طريق مصر الإسماعيلية، وقد استولت عليه جهة ما ولأسباب ما.

وقبل أن يحدثنا فلان وعلان عن الجودة بعشرين سنة أصدرت كتابي المسمى (الطرق العلمية لضبط الجودة) عام 1983 وهو الأول في هذا المجال باللغة العربية وطبعته الثالثة متوفرة بدار الوفاء اليوم، وتوسعت الشركة العملاقة بسرعة الصاروخ من شقة وبدروم عمارة عام 1975 إلى مدينة صناعية بالعاشر من رمضان ومنطقة صناعية بشبرا الخيمة ومنطقة صناعية بجسر السويس ومنطقة صناعية بمنطقة الخانكة ومخازن وجراجات في كل أنحاء مصر وأكثر من خمسين منفذ بيع بمصر وتصدير للخارج، وهذا وبالله التوفيق.

ومن الجدير بالذكر وللتاريخ فإن المؤسسين لشركتي ومصانع الشريف بوصفها أو تجربة صناعية متكاملة في حياة الصحوة الإسلامية في السبعينيات هم:

عبد اللطيف أحمد الشريف بكالوريوس تجارة ومنصبه رئيس مجلس الإدارة والمدير العام.

حسن عبد المنعم ليسانس آداب ومن إخوان إمبابة المحكومين في 1954، ومنصبه نائب المدير العام.

أحمد رجائي بكالوريوس هندسة والمهندس الأول بالشركة، صديق عبد اللطيف من مجموعة مسجد الشعراوي أو كوبري القبة سابقا جمال عبد الناصر حاليا.

محمد حلمي أبو عيطة بكالوريوس تربية رياضية وعمل لفترة بمصر للطيران ثم انتقل للعمل بالشريف كرئيس قسم المشتريات الخارجية (الاستيراد) وهو اليوم صاحب مجموعة شركات (مصر الحجاز) وحاص على دكتوراه في إدارة الأعمال.

أحمد عبيد عيسوي ليسانس آداب قسم اجتماع ومن إخوان السويس المحكومين 1954 ومنصبه بالشركة رئيس قسم المبيعات والتحصيل.

محمد يونس محاسب من عرب جهينة ومنصبه المدير المالي والمشرف على عمل الميزانيات، وهو اليوم صاحب محلات التجار العرب بشارع مكرم عبيد.

سعد سرور من إخوان السويس المحكومين 1954 ومنصبه رئيس قسم شئون الأفراد.

عادل فريد مهندس ومن إخوان المنوفية المحكومين 1954 ومنصبه بالشركة رئيس المصانع.

السيد عبد الستار المليجي معيد بكلية العلوم والكيميائي الأول بالشركات ومنصبه رئيس معامل الأبحاث وضبط الحودة.

محمد الشناوي من إخوان القاهرة المحكومين 1954 وعمله ضابط فني سابق بالقوات الجوية ومنصبه بالشركة الأب الروحي العمال وإمام المسجد بالمصانع ومشرف على مبيعات الدرجة الثانية.

صبري سابق رئيس قسم السكرتارية والأرشيف.

رأفت عياد أمين المخازن.

نور الدين محمود محاسب ونائب رئيس المشتريات الخارجية.

عبد الله مسعود وعمل ضابط سابق بالجيش وزميل لوالد عبد اللطيف الشريف رئيس الحملة وأعمال النقل والإنشاءات الجديدة.

محمد عبد الفتاح فني سابق بشركة العبوات الدوائية ورئيس الورشة بالشريف.

وتعاون مع الشركة من مندوبي الشركات (د. فاروق برقاوي – مصري بورسعيدي ويعمل ممثل شركة هولز الألمانية لمنطقة الشرق الأوسط) (جورج قسيس مندوب شركة باير الألمانية) (جلال عبد الحميد – ممثل شركة باسف الألمانية) (وجيه فهمي – ممثل شركات بيرلوخر وسينسيناتي الألمانية) (أحمد أبو النجا ممثل شركة مونت إديسون الإيطالية). وسامي علي حسن وأشرف سعد موردين عملة أجنبية.وحسين بالبوفيه – وهاشم – الحلاق الخصوصي – ودكانه يقع في شارع المنصورة بمصر الجديدة.

ولحق بهؤلاء فيما بعد طبقة تالية أذكر منها:

عثمان عمر عثمان كيميائي بالمعامل وضبط الجودة.

أحمد حجازي ويوسف قتة ومسعد الشافعي بإدارة الاستثمار.

فؤاد هارون وأنور عزت ومحمد عبد الفتاح ومشهور مصطفي مشهور مهندسين بالمصانع.

حسين السبكي وسعيد بالمشتريات الداخلية.

ومن الجدير بالذكر أن هذه الفرصة التي سنحت لي لم تصرفني عن قبول العمل معيدا بكلية العلوم جامعة المنيا فأستأذنت عبد اللطيف الشريف وتسلمت عملي واتفقنا ضمنيا أن عملي معه سيكون (بالمقطوعية) وهذا يعني أنني أملك الحرية الكاملة في ترتيب جدول أعمالي حسب ظروفي؛

وكانت تجربة رائعة لمعنى الحرية في العمل العلمي وتحمل المسؤليات الجسام طوعا لا كرها وهو الشيء الذي رفع من روحي المعنوية وجعلني أصل الليل بالنهار ضمن منظومة عمل متعدد بين البحث العلمي المتعلق بالصناعة وإدارة منظومة الجودة في المصانع وبين بحوث الماجستير والدكتوراه بعلوم عين شمس وبين التدريس بالمنيا وبني الحركة الإسلامية ضمن صحوة جيل السبعينيات الواعدة، في هذه الفترات من العمر كانت ساعات التأمل والتفكير والراحة الأساسية في القطار وما توفيقي إلا بالله.

الحياة في المنيا لأربعة عشرة سنة:

يعرف الجميع كلمتي كلما ذكرت المنيا (معكم ... وقلبي في المنيا) فمنذ تركت القوات المسلحة وتسلمت عملي كمعيد بكلية العلوم جامعة المنيا في يناير 1976 وأنا حتى اليوم متيم بالمنيا، لقد وجدت فيها كل ما كنت أحبه وأتمناه.

في المنيا وجدت أجمل مواقع نهر النيل، ويعتبر كورنيش المنيا لوحة فنية ربانية مبهرة وخاصة وقت شروق الشمس أيام الشتاء، وتتجلى عظمة الخالق وروعة الجمال الأخاذ عندما تغطي أرصفة الكورنيش بزهور البوانسيانا الحمراء المتساقطة على خضرة الحديقة الموازية للنهر على مد البصر؛

وهناك تلمع مياه النهر الخالد ملونة بلون الشمس التي تطل عليك من خلف الجبل الممتد موازيا للبر الشرقي، وأحيانا تلمح الجزر المتناثرة متوارية خلف الضباب حتى ساعة بعد شروق الشمس وهو الوقت الذي تبدو لك هذه الجزر بكامل زينتها وروعة حلتها الخضراء، فإذا أدركت هذا الجمال فاعلم أنك في مدينة المنيا.

وفي محافظة المنيا تعرفت على أوفى الناس وأحسنهم خلقا ودينا وكرما، عشت بينهم لا أشعر بغربة قط ورغم تقلبات الأيام والليالي فما يزال عهد الأخوة بيننا وثيقا تحوطه وترعاه وتقويه أحداث الحياة بحلوها ومرها.

أسرة كلية العلوم وجامعة المنيا:

في كلية علوم المنيا كنا أسرة واحدة وما زلنا حتى اليوم، الطلاب الذين درست هم العلوم في المنيا يبعثون لي اليوم أبناءهم وأبناء أقربائهم لأعتني بهم في دراستهم الجامعية في تواصل رائع بين المعلم وطلابه الذين تخرجوا وتوظفوا وتزوجوا وكبر أبناؤهم ودخلوا الجامعات وما تزال حلاوة أيام الصبا تحلي أفواهنا وتنعشنا نحن أصحاب الرءوس البيضاء؛

وأذكر من الطلبة بكل خير حشمت خليفة ومحمود أبو المعاطي وأحمد زكي وجمال عبد الصمد وعادل خضر، وأما الزملاء الذين بدأنا معهم وما زلنا أسرة واحدة فأذكر منهم أ. د. سامي كامل أول رئيس للقسم من أبناء المنيا، عادل العشماوي وهو الآن أستاذ بكلية العلوم بالإسماعيلية، وعصام أبو القاسم وهو اليوم أستاذ بكلية العلوم جامعة طنطا؛

وجيهان شعبان وهي اليوم أستاذة بعلوم المنيا ومحمود المحلاوي وهو اليوم رئيس قسم الجيولوجيا بعلوم المنيا وزوجته وفاء زهران الأستاذة بعلوم المنيا ونجيبة إبراهيم وهي اليوم أستاذة بعلوم المنيا وزوجها المرحوم د. علي ومصطفى الفقي وزوجته أميرة وكلاهما اليوم أساتذة بالكلية، وفي قسم الرياضيات مصطفى الصباغ ومحمد السعيد ود. شوقي وممدوح حسن ومحمد ربيع وفي الطبيعة رابح وسعد قناوي رحمة الله عليه وعلي حسنين ومحمد رفعت وفي الكيمياء خالد أبو حديد وعايدة لطفي ولطفي مدكور وفتحي فهيم.

وعلى مستوى الجامعة خارج كلية العلوم فقد تعرفت وتآخيت مع الطلاب محي الدين عيسى وأبو العلا ماضي بالهندسة وإبراهيم ذنون بالزراعة، والمعيد مدحت خشبة ومحمد شوقي ود. زكريا ود. محمد دهيم ودسوقي شملول وكرم زهدي وفؤاد الدواليبي وأسامة حافظ وعاصم عبد الماجد وحسن يوسف وآخرين من الأحباب مطبوعة صورهم وأصواتهم في قلبي وعقلي بالرغم من نسيان أسمائهم اليوم فسلام عليهم جميعا إلى يوم الدين.

الرجل الذي قل ودل:

إنه العالم الجليل الذي شد انتباهي من أول يوم بلغت فيه المنيا في يناير 1976، أحببته كثيرا وأحبني وصاحبته متعلما فلم يبخل علينا بشيء قط وكانت من أحلى لحظات العمر حضوره درسه الخاص فوق سطح بيته المتواضع القريب من المسجد، كان لديه دفتر كبير يشبه دفاتر الحسابات يسجل في صفحاته ملاحظاته اليومية معلقا على المواقف بتوجيهات إيمانية أتمنى لو تنشر، إنه الشيخ محمود عبد المجيد العسال إمام المنيا بلا منازع وشيخ وإمام مسجد الإيمان بمدينة المنيا، أو مسجد تحت الكوبري كما يطلقون عليه؛

في هذا المكان الذي كان مهجورا أقام الشيخ محمود العسال صرحا للتوعية وتقديم الخدمات الاجتماعية، وكانت مؤسساته تتكون من المسجد وسكن الطلبة الوافدين من خارج المدينة ومطعم ومغسلة ملابس وقاعات للدرس وكان العنوان الواضح لحركة الشيخ محمود العسال (تاكل وتشرب وتنكسي وتتعلم) أما هو في ذاته فقد كان شخصية مهابة من الجميع مسلمين ومسيحيين وحكومة وأهالي؛

خطبته على المنبر تقل عن العشر دقائق ولكنها تكفيك زادا إيمانيا لعام أو يزيد وخطة عمل لعمرك وعمر من تحب، وهو مع ذلك دقيق الحجم بسيط الملبس والمأكل والمشرب ولذلك لا عجب أن أسميه بحق خير الرجال ... الذي قل ودل فهو قليل ومتقلل من كل أعراض الدنيا ومع ذلك دال على الخير بكل معانيه، رحمة الله عليك يا شيخ محمود وعلى والديك وذريتك إلى يوم الدين.

نهاية رداميس:

في المنيا كانت أروع نماذج الرجولة ونصرة المظلوم، فأهل المنيا لم يقبلوا أن يظلمني عميد الكلية (أ. د. رداميس بطرس فهيم) بسبب ارتباطي بالمواطنين وبالطلاب خارج قاعات الدرس وأراد أن يحدد إقامتي وفق معاييره التي لم تكن ترضيني ولا ترضي الله من وجهة نظري؛

وما أن حرمني من التدريس ودفعني عنوة لأختار جامعة أخرى أنتقل إليها حتى انتفضت محافظة بأسرها تهز القطر بشجاعتها وقوة نصرتها لمعيد نحيف ضعيف حتى تأخذ الحق له من عميد متغطرس يمشي مسعرا خده مختالا بالبايب الذي يمارس رضاعته كبرا وخيلاء ويمثل المستعمرين ولا يمثل المسيحيين من قريب ولا بعيد يومها اعتصم الطلاب بالكلية ولم يفضوا اعتصامهم حتى تدخل وزير التعليم العالي (أ. د. مصطفى كمال حلمي) فأعادني للعمل وأوقف العميد سنة كاملة عن العمل في سابقة لا ولن تتكرر، حقا إن الحب في الله يصنع المعجزات.

موقعة الكوبري:

خلال عام 1977 اشتد الصراع بين طلاب الجماعة الإسلامية والأجهزة الأمنية كما كانت طبيعة المرحلة في كل جامعات مصر، وفي يوم من أيام الصراع قرر الطلاب الخروج بمظاهرة تطوف مدينة المنيا منددة باعتقال بعض طلاب الجماعة الإسلامية؛

وعلى الفور تحركت قوات مكافحة المظاهرات وأغلقت طريق مصر أسوان من المدخل الشمالي والمخرج الجنوبي حتى يمنع وصول الطلاب إلى المدينة التي يفصلها عن الجامعة ترعة الإبراهيمية عدا كوبري واحد قبالة كلية الزراعة، ونحو هذا الكوبري اندفعت جموع الطلاب من جميع الكليات تسابق القوات عدوا ولكنهم فوجئوا بوجود قوات في الناحية الأخرى من الكوبري مدججة بالأسلحة والعصي والقنابل المسيلة للدموع وبدأوا في الاشتباك مع الطلاب بالفعل.

انسحب الطلاب وباتوا ليلتهم مبعثرين وسط الزراعات والعزب ولكنهم عادوا وتجمعوا في صلاة الظهر بمسجد كلية الزراعة وهناك صليت بهم وألقيت فيهم كلمة حماسية ألهبت مشاعرهم فخرجوا معاودين المحاولة للوصول إلى المدينة، وكانت المعركة الشرسة مرة ثانية عند الكوبري وفي هذه المرة اجتاز الطلاب الكوبري ومروا أمام المدينة الجامعية القديمة.

ومن هذا الموقع بدأوا الزحف نحو المدينة مرددين هتافاتهم المعتادة، إسلامية لا شرقية ولا غربية ... يا حرية فينك أمن الدولة بيننا وبينك ... وهناك تحركت القيادات الأمنية وعنفت الجنود وراحت تمنعهم من التقهقر فهجموا واستبسلوا فردوا الطلاب أمتارا إلى الخلف، في هذه اللحظة كنت قد نجحت في الوصول إلى خلفية القوات واختلط بالقيادة ورحت أسمع بوضوح كافة الأوامر والتوجيهات التي يصدرها قادة القوات، أيقن الطلاب أنهم لن يستطيعوا المرور فاندفعوا نحو المدينة الجامعية وتحصنوا بها؛

كان الوقت قد بلغ قرابة المغرب، وراح الطلاب يوقعون أعمدة الكهرباء المحيطة بالمدينة ويسدون بها المسافات بين العمارات حتى لا تلاحقهم قوات راكبة في المدينة، وبالفعل لم تستطع القوات الدخول فبدأت بإطلاق النار على كل من يظهر بالنوافذ الخارجية للمدينة لتخويف الطلاب من استخدام النوافذ كقواعد رمي للحجارة، وجاء الليل وسكنت الأصوات والحالة على ما هي عليه من التوتر والمراقبة والتحفز من الطرفين.

الدروع البشرية:

لم يكتف الطلاب بوضع المتاريس وتكديس كميات من الزلط فوق أسطح العمارات وتعيين ناضورجية فوق كل عمارة لرصد حركة القوات المحاصرة للمدينة، ولكن خوفهم من المداهمة الليلية والقبض والاعتقال دفعهم إلى الأسوأ، قام الطلاب بالقبض على جميع الطلاب المسيحيين بالمدينة في هذه الليلة وبلغ عددهم قرابة العشرين، وحبسوهم في شقة واحدة من شقق المدينة، لكنهم في نفس الوقت أفهموهم أن هذه محاولة لفك الحصار وعدم التعرض للطلاب بالاعتقال؛

وبعد حوار وأخذ ورد قبل الطلاب المسيحيون المهمة وتعاطفوا مع زملائهم طلاب الجماعة الإسلامية، وأعلن الطلاب في ميكرفون المسجد أن أي محاولة لاقتحام المدينة سوف يترتب عليها ذبح جميع الطلاب المسيحيين، وبلغ الخبر كافة الأوساط المسيحية وكان لحركتها أثر ملموس وعاجل.

ومر يوم والوضع على هذا الحال، وفي عصر اليوم التالي استدعت الحكومة الشيخ محمد نجيب المطيعي ليقوم بالوساطة بين الطلاب والقوات الأمنية التي تحاصرهم وشكل الطلاب لجنة لتمثيلهم وكنت واحدا من هذه اللجنة، عرضنا شروط الطلاب على الشيخ وكانت إطلاق سراح المعتقلين وفك الحصار عن المدينة وانصراف القوات وعدم القبض على أي طالب من جامعة المنيا بسبب هذه الأحداث، والعجيب أن الأمر لم يأخذ وقتا وبسرعة انسحبت القوات وأفرج عن المعتقلين وقمنا بتسليم الطلاب المسيحيين إلى الشيخ المطيعي، وظلت هذه الوقائع فيما بيننا تسمى موقعة الكوبري حتى اليوم.

عفاريت العجل:

تعتبر الدراجات (العجل) من أهم وسائل المواصلات الداخلية في مدينة المنيا، ولم يكن بالمنيا في السبعينيات غير العجلة أو الحنطور الذي تجره الخيل، وتمشيا مع الواقع ففي أوقات السخونة بين الشباب والشرطة كانت الدراجات تستخدم من الطرفين، وفي أثناء الحصار كانت الأوامر التنظيمية تخرج من المسجد إلى المدينة بواسطة الطلاب راكبي الدراجات؛

وفي لحظة واحدة يتحرك عشرات الطلبة راكبي الدراجات في حركة متسرعة وخلفهم مباشرة مخبر بدراجته لكل طالب بدراجته، وهنا يبدو المنظر وكأنه سباق دراجات في لحظة الانطلاق، وما هي إلا دقائق حتى يكون الجميع كأنهم عفاريت ظهرت واختفت حيث لاذ كل بقرينه وذهب إلى بعيد، اللهم احفظنا.

صباح الحبر:

ظلت الأوضاع متوترة وعدائية بين الجماعة الإسلامية في المنيا والأمن بشكل واضح، وكان المخبرون يمثلون عناصر التجسس على الطلاب في الجامعة والأحياء، وفي الأقاليم فإن معرفة الأشخاص نسبا وعلاقات اجتماعية وتوجهات تكون متوفرة لدى المخبرين أكثر من الضباط؛

والمخبر في الأقاليم يعتبر موظفا في الحكومة ولديه راتب شهري، ولذلك تجد عليه بعض علامات الشبع والاستقرار المعيشي ومن ذلك ارتداءه للجلابيب الصوف في الشتاء والسكروتة الحريرية في الصيف، وهذه الصورة الظاهرية الحسنة كانت وقتها مستفزة للطلاب في الشتاء للجماعة الإسلامية حقدا وحسدا للمخبرين؛

وتطوع أحدهم بعملية تشويه للمخبر في حارته، وتفتق ذهنه عن سلاح جديد وهو سلاح الحبر، وانتظر مرور المخبر تحت شرفته وعاجله بدلق الدواية على رأسه، وملابسه اعتبرته الجهات الأمنية نقضا للهدنة وإعلان حرب الدواية فقامت بمحاصرة المكان وتمشيط الحي حتى تمكنت من اعتقا الطالب.

روسية كرم زهدي:

كرم زهدي في هذه الآونة طالب بمعهد التعاون بأسيوط ولكنه هنا في المنيا كل يوم يمارس القيادة في الجماعة الإسلامية بطريقته، نحيف البدن متوقد الفكر مفتوح العينين كأنه صقر يتأهب للانقضاض دائما وأطول ما فيه اليدين والجبهة، يتعامل مع خصومه بنظرة مستهينة وحركة منسحبة ثم بهجمة بالروسية لا تخطئ أنف أو جبهة الخصم الذي يتدهول لحظات كافية لفرار كرم وكأنه فص ملح وداب؛

حتى أن ضباط المباحث ميزوا الجميع بالبصمة وأما كرم فقد كانت بصمته الروسية، وكثيرا ما استدلوا بها على قيامه بالفعل مؤكدين للنيابة هذه فعلة كرم والدليل الروسية كما وصفها الشاكي، كرم الآن هو الشيخ كرم زهدي المحامي بالإسكندرية ومن قيادات الجماعة الإسلامية بمصر.

قنبلة الشطة:

لم يتوقف تفكير الجماعات الإسلامية بالمنيا عن استحداث أسلحة موجهة مع قوات الأمن، وأصبحت الحياة تجري بين الطرفين على شاكلة لعبة القط والفأر، وكان من أسلحة الشباب العجيبة قنبلة الشطة، حيث قاموا بتخزين كميات من الشطة السوداني المعبأة في أكياس بلاستيك (قوة 100 جرام وقوة 200 جرام وقوة نصف كيلو)، وعند الصدام كانوا يشعلون النار في الكيس ويلقونه على الجنود فيصابون بالسعال والدموع بدرجة أشدو وأوجع من القنابل المسيلة للدموع المستوردة من أميركا.

بيضة مفخخة:

بدأ بعض الطلاب في جامعة المنيا على مشارف نهاية الثمانينات يتجه تفكيره للصدام المسلح مع الدولة والنظام ويمثلها أمامه الشرطة، وكان من علامات ذلك أن زارني بعضهم وعرض علي أن أساعدهم بوصفي معيدا بكلية العلوم في عمل قنبلة صغيرة ولو (قد البيضة) كما قال كبيرهم، ولأنني كنت متعاطفا معهم فلم أشأ ردهم بعنف أو استهزاء ورحت أحاول أن أردهم عن ذلك بالحسنى؛

فقلت لهم، وماذا بعد تصنيع القنبلة الصغيرة، ماذا تفعلون بها أمام قوة الدولة، وفجأني ما يفكرون به ولم أكن متوقعا الجواب بالمرة حيث قال المتحدث، إحنا ناويين نتسلل إلى معسكر الأمن المركزي ونضرب القنبلة فيخاف الكل ويهرب فناخد ما فيه من السلاح ونتسلح بسلاحهم؛

وهنا تبين لي أن التعقد الفكري وكراهية النظام قد تجاوز الحد، ومع ذلك قلت لهم افترضوا أننا نجحنا في السيطرة على كل محافظة المنيا وقطعنا طريق مصر أسوان وقسمنا مصر نصفين، ماذا سنفعل مع القوات الجوية والمدرعات والمصفحات؟

وهنا فقط تبين لهم أن الأمر ليس سهلا كما يفكرون فانصرفوا ولم يعاودوا الاتصال بي في مثل هذه المسائل، ولكنني وجدت فيما بعد أن معظم الذين حاورتهم في هذه الليلة كانوا ضمن المتهمين بالمشاركة في عمليات اغتيال السادات والهجوم على مديرية أمن أسيوط بعد ذلك بعامين تقريبا.

الضرب بالمعروف والنهي عن الموسيقى:

في شارع الحسيني أطول شوارع المنيا التجارية محلات تبيع الأشرطة الكاسيت ومن الطبيعي أن يقوم المحل بالإعلان عن بضاعته، وشيئا فشيئا ارتفعت أصوات الأغاني في الشارع وأصبحت من سماته،الجماعة الإسلامية اعتبرت ذلك منكرا يجب تغييره باليد بعد النصح باللسان؛

وبالفعل توجهوا في مجموعات لنصح المحلات ومطالبتها بوقف إذاعة الأغاني،المحلات لم تقبل النصيحة واستمرت فقررت الجماعة الهجوم، وفجأة انقلب شارع الحسيني إلى مهرسة كبرى طالت المحلات التي تبيع الأغاني ومن حاول إنقاذها من التدمير وسرعان ما وصلت قوات الأمن وعمت الفوضى، وبالرغم من انسحاب الشباب من المواجهة أو خوفا من الاعتقال فإن المحلات اشترت سلامتها وامتنعت عن إذاعة الأغاني لفترة طويلة.

منعوا الشيخ:

أعلنت الجماعة الإسلامية عن محاضرة للشيخ عبد الحميد كشك في كلية الآداب بالمنيا، ولم يكن قد تم الاتفاق معه أصلا، فلما ذهب الشباب لدعوته اعتذر عن الحضور لأسباب تخصه، ووجد الشباب نفسهم في ورطة، ولكن الصراع مع الشرطة دفعهم لتحميلها المسئولية عن ذلك، تركوا الأمر على ما هو عليه وحضرت آلاف من أهل مراكز المنيا لرؤية الشيخ كشك شخصيا وسماع محاضرته؛

ووسط هذه الجموع المحتشدة المنتظرة وقف أمير الجماعة ليعلن في تمثيلية محبوكة أن الأمن منع الشيخ من الحضور وحرمونا وحرموكم من رؤيته، وهاج الجمهور هياجا شديدا وخرجوا في مظاهرات طويلة يهتفون، منعوا الشيخ ... يا حرية فينك فينك أمن الدولة بينا وبينك ... منعوا الشيخ منعوا الشيخ ...

التلمساني لا يدخل القفص:

مرت موقعة الشيخ واستضافت المنيا الأستاذ عمر التلمساني ليلقي محاضرة بمسجد الرحمن بعد العشاء، كان الأستاذ عمر عائدا يومها من زيارة أسيوط، كعادته بدأ فور وصوله بزيارة محافظ المدينة أولا وبالطبع يكون عند المحافظ رؤساء الأجهزة الأمنية والحزبية وتمت المرحلة الأولى وفي المساء فاجأنا الأمن بإزالة السرادق قبل المحاضرة بدقائق وأصر أن تتم بالمسجد الذي لا يسع غير مئة فرد؛

ومنع التواجد تماما بالساحة أمام المسجد ودفع الجمهور بالقوة ليتفرق في الشوارع والطرقات وبدت العملية كلها انتقاما من مظاهرة (منعوا الشيخ ...) تحرك موكب الأستاذ عمر نحو المسجد ومعه قرابة المئة من المرافقين ولم نشأ نخبره بما حدث وصحبناه إلى المسجد في هدوء تام، وأثناء صلاة العشاء والكل مشغول بها؛

كان تنفيذ ما خططنا له، سحبنا تضمها والميكرفون والكرسي وصعد الأستاذ عمر وبدأ المحاضرة مباشرة بدعوة المدعوين للاقتراب من المسجد وقال أنا واثق أن رجالات الأمن سوف يساعدونكم على الوصول فأرجو التعامل معهم بكل رفق ولين؛

حاول بعض الضباط التدخل لمنع ذلك ولكننا صنعنا حول المنصة سدا منيعا لم ينفذ منه أحد منه أحد منهم رغم شدة التدافع رغم شدة التدافع بيننا وبينهم، أحد الضباط تعمد تفتيشي ذاتيا بحركة سريعة لوجود محفظتي في الجيب الداخلي للجاكيت ظنا منه أنني أحمل سلاحا، وفي لحظات اندفع الجمهور نحو الساحة وتمت المحاضرة والمحاورة والكل وقوف على قدميه.

شركة المديرين الستة:

تمشيا مع الظرف الجديد بعد تخرج الدفعة الأولى من شباب الصحوة الإسلامية بالمنيا ومستفيدا بتجربتي في الصناعة والحياة فقد وجدت من المهم أن يكون لهم عمل، ونتج عن المشاورة الاتفاق في إقامة شركة تعمل في مجال مواد البناء (الرخام والكربونات وكسر الصخور المستخدم في صناعة البلاط)، تعتبر المنيا شرق النيل مصدرا أساسيا لهذه المواد؛

وبالفعل تأسست الشركة من ستة شركاء هم المهندس علي عمران (رئيس مجلس الإدارة) والدكتور السيد عبد الستار مدير المعامل وضبط الجودة والمهندس محي الدين عيسى (المدير العام) المهندس أبو العلا ماضي (مدير الإنتاج) والجيولوجي حشمت خليفة مدير المبيعات والتسويق والجيولوجي جمال عبد الصمد (مدير المصانع).

واتخذنا للشركة مقرا يعتبر من أعجب المباني التي رأيتها، مبنى يطل على النيل مساحته 20 مترا مربعا، نعم عشرين ... لا تتعجب فقد كان مكونا من أربعة أدوار يربطهم سلم، فكان المبنى أقرب إلى المئذنة منه إلى الإدارة ولكنه كان كافيا للغرض ...

وخلال عام 1980 اشترينا من سوق الخردة بروض الفرج كسارة حجارة ضخمة تنتج عشرين طنا يوميا وغربا ورخصنا محجرا وبدأنا الإنتاج والبيع، وفور قيام الجماعة الإسلامية باغتيال السادات قبض على المديرين الستة ضمن المتهمين بالاغتيال، وحقق معي بشأن الشركة وكان سؤال المحقق الذي أضحكني بعمق هو، إذا كانت الشركة من ستة مديرين فمن هم العاملون معكم؟ من هم موظفو الشركة؟

وعندما تمالكت من الضحك أجبته، لو تركتونا سنة واحدة كان ممن يشتغل عندنا حد، ولكن بعد اليوم لن يعمل معنا أحد ولن يشتري منا أحد، وبالفعل فور خروجنا نحن الستة من المعتقل لم تقبل أي شركة أو مصنع أن يشتري منا بضاعة حتى مصنع بلاط محمد شاكر المحسوب على الإخوان المسلمين رفض التعامل معنا تماما، وكان لا بد من البحث عن عمل آخر.

محاولة فك رقبة:

بصدور قرارات الاعتقال في 3 سبتمبر أصبح قطار الصعيد من المواقع الخطرة الملغمة بالمخبرين الباحثين عن شباب الصحوة المطلوب اعتقالهم وجلهم من الصعيد، لم أتردد في العودة للمنيا صباح يوم 4 سبتمبر فقد كنت قلقا على إخواني هناك وكان ضروريا أن أكون معهم، وفي القطار وبعد محطة بني سويف سمعت في العربة المجاورة جلبة وضجيجا وعراكا، جريت مندفعا لأتفقد الحادث، وجدت عددا من المخبرين يشهرون مسدساتهم نحو شاب ويطلبون منه أن يسلم نفسه وهو في ركن من العربة يرفض التسليم ومتأهب للمقاومة بصورة هستيرية ولا يتوقف عن توجيه السباب لهم وللحكومة التي ينتمون إليها؛

لم أكن أعرفه ولكن سحنته ولغة كلامه دلت على أنه من شباب الصحوة الإسلامية، حاولت أن أعطيه فرصة للهرب فتدخلت نحو المخبرين مدعيا المصالحة وحجزت بينهم وبينه ولكنهم فطنوا لمرادي فدفعني أحدهم بقوة خارج الحلبة، وتلقفني آخر وهكذا أفسدوا خطتي، وبعد قليل تمكنوا من وضع الكلبشات في يده، وربطوا معه مخبر في اليد الأخرى، كل هذا والقطار منطلق ناحية المنيا، وقبل المحطة بقليل حاصرني المخبرون وفعلوا بي ما فعلوا معه، وفورا حضرت قوة من الشرطة وتسلمتني في محطة المنيا ثم ذهبت بي إلى مديرية أمن المنيا.

فيش وتشبيه أول مرة:

في مديرية الأمن مكثت يومين وخلالهما تم عمل أول ملف لي بالمنيا، وتطلب ذلك عمل فيش وتشبيه، وأثناء حركتي بالمدينة من المديرية إلى الأدلة الجنائية كنت أتمنى أن ألتقي بأي شخص يعرفني حتى أبلغ أسرتي بوجودي بالمديرية، وبالفعل قابلت مدرس مساعد زميلي بزراعة المنيا ويسكن معي في استراحة الجامعة فتوجهت نحوه أناديه، فلما وجدني والكلبشات في يدي أشاح بوجهه بعيدا وفص ملح وداب، حزنت كثيرا لموقفه، ولكن ما العمل والخوف وحش كاسر يأكل الرجولة والمرؤة إلا من رحم ربي؟

الفولي ينقذ الموقف:

إنه أخي وصديقي المهندس محمد محجوب الفولي، من عرب المنيا وأعيانها، ربطتنا به علاقة أخوية وحب في الله وكان من أنصار الصحوة الإسلامية، وكان له قرابات في أماكن مرموقة بالمحافظة ومنهم ضباط شرطة برتب عالية، وبدون أن يقترب مني أرسل لي في المساء وجبة ساخنة وإفطار في صباح اليوم التالي؛

وسعى لفك أسري ونجح في ذلك وأغلق المحضر على ذلك ولم يصدر قرار باعتقالي وفور خروجي من المديرية وجدته عند الباب في انتظاري وحملني بسيارته إلى استراحة الجامعة، حيث بت ليلتي وغادرت إلى القاهرة في اليوم التالي.

لا مفر من المعتقل:

لم يمض وقت طويل بعد هذه الحادثة حتى اغتيل السادات يوم وقفة عيد الأضحى وانقلبت الأمور رأسا على عقب، وفي يوم العيد استقبلت أخويا محيي الدين عيسى وأبو العلا ماضي وتوجهت بهم نحو الملاذ الآمن الذي أعددته لهم، وأثناء عودتي للقاهرة يوم 9 أكتوبر 1981 كانت القاهرة كلها كمائن ضبط المطلوبين للاعتقال من الشباب، وفي الكمين المحاصر لمكاتب شركات الشريف قبض علي وتوجهوا بي إلى قسم مصر الجديدة ومن هناك ركبت سيارة الترحيلات متوجها إلى سجن أبو زعبل، وفي أبو زعبل وجدت كل من أعرفهم تقريبا وبدأنا سنة أولى سجن.

رسائل الوفاء للسجناء:

من توفيق الله لك أن يذكرك الناس بالخير بعد الموت، والسجن مقبرة الأحياء، والمسجون السياسي من أمثالنا عادة لا يجد من يسأل عنه سوى أهله ومضطرين أحيانا، أما عموم الناس فما يزالون يعتبرون الخلاف مع الحكومة خط أحمر لا يجب الاقتراب منه؛

ومع ذلك هناك بشر في مصر ما يزالون يملكون القدرة على تخطي حواجز الخوف ومراسلة المساجين السياسيين من زملائهم وليكن ما يكون، والحمد لله أن وهب لي من هؤلاء من راسلني واتصل بأهلي في محنتي الأولى، الزملاء بكلية علوم المنيا جمعوا تبرعات من بينهم واشتروا حلوى ولعب أطفال وأرسلوا بها إلى بيتي في القاهرة الزميلة سهام إبراهيم المدرسة المساعدة بقسم الكيمياء فزارت أسرتي وخففت عنها ما هي فيه، والزميل مصطفى الصباغ المدرس المساعد بقسم علم الحيوان رشح مكاني في البعثة التي كانت من حقي قبل الاعتقال ومن بريطانيا أرسل لي خطابا رائعا يقول فيه إنه مستعد فور خروجي من المعتقل أن يعود للكلية ويتنازل عن البعثة لصاحبها الأصلي؛

وأما الزميلة الدكتورة جيهان شعبان فقد أرسلت خطابا مؤثرا للغاية بالرغم من أن زوجها المستشار شكري العميري في سلك القضاء وهو الأمر الذي قد يضر بموقفه ولكنني بتعامي مع هذه الأسرة الكريمة الصديقة أدرك أنه من الرجال العظام الذين لا يتأخرون عن الواجب ويسعده أن تكون زوجته كذلك.

أ‌.د. أحمد راضي يصنع المعروف:

على النقيض من المحترمة للزملاء بالكلية تصرفت إدارة الجامعة بحمق شديد فأصدر رئيس الجامعة قرارا بتحويلي من معيد بقسم النبات إلى موظف بمكتبة الكلية متذرعا زورا بأنني لم أتقدم برسالة الماجستير؛

وقد فاتت المهلة المسموح بها ومفهوم لدى الجميع أن القرار كان سياسيا وبإيعاز من جهات أمنية تريد تصفية وجود الإسلاميين بالجامعات، وفي مثل هذه الحالات ينص القانون عى ضرورة موافقة وزير التعليم، فلما عرض الأمر على أ. د. مصطفى كمال حلمي الوزير في هذا الوقت أشر على الخطاب بضرورة أخذ رأي قسم النبات في مثل هذه الحالة بوصفه القسم المختص؛

وفعلا عاد الخطاب إلى الجامعة وحوله رئيس الجامعة إلى القسم وهنا حدثت المعجزة قام أ. د. أحمد فرج راضي رئيس القسم وعلى نفس الخطاب حتى لا يلغى بكتابة ما معناه (السيد: السيد عبد الستار المليجي المعيد بقسم النبات يؤدي عمله بنجاح ورسالته للماجستير معدة للمناقشة ولا داعي لاتخاذ أي قرار مثل هذا بحقه)

ووقع باسمه وصفته وصور الخطاب بهذه الحالة وأعاده إلى رئيس الجامعة، هنا وقع رئيس الجامعة في حيص بيص، وانتظر حتى سفر الوزير خارج مصر في عمل واستخدم صلاحياته الخاصة وأصدر قرارا بوصفه يأخذ بعض صلاحيات الوزير حال سفره، وحولت بالفعل إلى وظيفة إدارية بينما كنت وراء القضبان.

عميد وخائف ومرعوب:

فور الإفراج عني توجهت إلى الكلية فوجدت الحالة لا تسر، الجميع حزين على ضياع مستقبلي العلمي وضياع وظيفتي التي يعتبرونها مرموقة، مدير المكتبة أبلغني بخجل وتأثر أنه مضطر أن يكتب تقريرا عني لو تغيبت عن الحضور يوميا ووقعت في دفتر الحضور والانصراف؛

توجهت للعميد ليتدخل بإصلاح الخطأ فوجدته في حالة يرثى لها من الخوف والرعب وأصر على معاملتي كإرهابي متهم باغتيال الرئيس وكموظف مفروض عليه وبصورة متعسفة وراح يقول (أنت عندي موظف ولست معيدا والموضوع انتهى وم تدخلنيش في موضوعك ...) خرجت من عنده وتوجهت مباشرة لمحطة القطار وغادرت وعدت إلى القاهرة وأنا لا أعرف تحديدا كيف أتصرف.

الأرزاق على الله يا سيد:

بعد طول تفكير قررت أن أفسد خطة القضاء على مستقبلي العلمي بأيسر الطرق تقدمت بطلب إجازة بدون مرتب، ووافق عليها العميد فورا وكأنه يتخلص من مشكلة أو مصيبة، وعدت للقاهرة وقررت أن أرفع أمري للقضاء وتوجهت للمرحوم الأستاذ عمر التلمساني في مكتبه بالتوفيقية؛

استمع مني ووافقني على قراري وأعطاني كارت وعليه توصية للأستاذ محمد عصفور المحامي الشهير، في مساء نفس اليوم توجهت إلى مكتب المحامي فوجدته بالحجز وسكرتيرته تتحدث عنه كأنه رئيس جمهورية ولا يمكن لقاؤه بدون حجز موعد مسبق؛

ثم أردفت بصرامة بالغة (انتو ح تموتوا الأستاذ ولا إيه؟!) أظهرت لها كارت الأستاذ عمر فتغير كل شيء وأحضرت لي كرسيا وقبلت مني دفع 200 جنيه لفتح ملف القضية، وقالت الأتعاب مع الأستاذ، الحمد لله كان المبلغ معي، دخلت بعد قليل، كان مكتبه بالفعل مكتب رئيس جمهورية، لقيني بترحاب شديد وقدمت له الكارت وعرفته بنفسي ولم يسألني عن صلتي بالأستاذ عمر التلمساني؛

نظر فيما أعددت من أوراق، وقال سنأخذ منك أقل أتعاب 500 جنيه بس، قلت له ممكن الأسبوع القادم قال نعم في أي وقت، وبعد أن دفعت المبلغ وحتى اليوم لا أعرف أي شيء عن هذه القضية وما آلت إليه في القضاء الإداري؛

توجهت لجامعة عين شمس لأسجل لدرجة الدكتوراه، واعتمدت على الله وما أملكه من خبرات فدخلت في شراكة لإقامة مصنع كيماويات وبويات وكان أجر إدارتها كافيا لحياتي وزيادة، مكثت مضطرا في إجازة بدون راتب 8 سنوات وكان رزق اله لي فيها أضعاف مرتب الحكومة ولم أتأخر كثيرا في الحصول على الدكتوراه عن زملائي الذين سافروا في بعثات على نفقة الدولة.

أ‌.د. حسن فودة يبعث الأمل:

لم يكن التسجيل للدكتوراه أمرا سهلا لمن ليس معيدا بالجامعة ولا توجد جهة تصرف عليه ومتابع من أمن الدولة أينما ذهب، ولكن العلاقة الإنسانية التي ربطتني بأساتذتي كان لها أعمق الأثر في تخطي كافة الصعاب التي واجهتني في مساري العلمي، واستطاع أستاذي الفاضل حسن أنور فودة أن يحجز لي مكانا في معمل الأبحاث ووجهني بطريق غير مباشر أن أقوم بشراء الكيماويات اللازمة على نفقتي الخاصة، والحمد لله أنهيت رسالة الدكتوراه وحصلت على الدرجة العلمية بجامعة عين شمس.

أ‌.د. محمود الريس يعدل الكفة:

فور حصولي على الدكتوراه توفي إلى رحمة الله رئيس الجامعة الذي أوقفني عن العمل بدون وجه حق وتولى المسئولية بعده أ. د. محمود الريس، توجهت إليه والتقيت به وشرحت له الموضوع بشفافية كاملة وتقدمت له بطلب عودتي لعملي، وبالفعل وافق على أن أعود بإعلان إلى نفس وظيفتي وفرح بذلك رئيس قسم النبات وقتها أخي أ. د. سامي كامل ووافق على الإعلان وعدت إلى عملي وأقام الزملاء بالكلية حفلا بهيجا بهذه المناسبة وقالوا كلاما ذرفت له عيني دموع الفرح بعودة المياه إلى مجاريها، والحمد لله رب العالمين.

هكذا عشت في المنيا وفي المنيا شاركت في بناء صرح الدعوة الإسلامية في الجامعة وخارجها، وفي المنيا كانت سنوات من الكر والفر بين مفاهيم الإسلام وجماعاته ومحاولات رتق الصفوف وتوحيد الجهود وكانت النتائج بفضل الله أفضل مما نتوقع ونأمل والأهم من ذلك أنني ما زلت متعلقا بالمنيا ومحبا لكل من فيها حتى من اختلف معي في الرأي من أبناء هذه المحافظة المتميزة بطيبة القلب وصفاء الروح في تناغم خلاق بين الطبيعة والإنسان، فسلام على المنيا مكانا وسكانا إلى يوم الدين.

الإسماعيلية مدخل فلسطين:

غادرت المنيا إلى كلية العلوم بالإسماعيلية في يناير 1991، ومع أن سجلي السياسي كان يمنع قبولي في أي جامعة مصري أخرى ولكن رسالة توصية كريمة من أستاذي حسن أنور فودة إلى رفيقه أ. د. أحمد دويدار عبد البسيوني والذي كان يشغل وقتها منصب نائب رئيس الجامعة

وكذلك شجاعة وكر أ. د. أحمد خضير رئيس الجامعة وأ. د. حلمي منصور رئيس قسم النبات بالعلوم سهل لي مهمة النقل إلى الجامعة الجديدة ولله ثم لهم يرجع الفضل في إتمام هذا الانتقال الذي قصر مسافة السفر الأسبوعية بالنسبة لي 250 كم وهي المسافة من القاهرة إلى المنيا إلى 120 كم وهي المسافة من القاهرة إلى الإسماعيلية؛

ومن أعاجيب الأقدار أن أول ترشيح لي بالعمل معيدا بلغني أثناء الخدمة بالجيش كان لكلية علوم الإسماعيلية، وقتها في عام 1975 لم يكن للإسماعيلية محطة سفر أعرفها ولم أستطع التوصل لطريقة أسافر بها وبينما أنا كذلك بلغني خطاب آخر بالتكليف على جامعة المنيا فركبت القطار وذهبت إليها بسهولة ويسر ورضيتها موطنا لعملي الرسمي أو الحكومي أو الميري وكان بها الخير العميم الذي أوضحت بعض جوانبه، في الإسماعيلية عشت وما زلت حياة الزائر المتعجل وأكاد بعد 18 عاما بها لا أعرف الكثير من طرقات المدينة وأجهل كل مراكزها وقراها، حياتي كلها مع مجتمع الكلية الصباحي ومجتمع الأتوبيس الذي ينقلنا بين الجامعة والقاهرة؛

ومع ذلك فمن فضل الله علينا أن رصيد الحب والأخوة والتواصل مع الزملاء يزيد ولا ينقص وعندما ترشحت لعضوية نادي أعضاء هيئة التدريس من عامين حصلت على أعلى الأصوات بجامعة قناة السويس والحمد لله رب العالمين، ويبقى أجمل ما في الإسماعيلية أنها تذكرني دائما أنني أقترب من سيناء ثم فلسطين فبوابات القدس فالمسجد الأقصى، اللهم ارزقنا الصلاة فيه بعد تحرير أرضه من دنس المعتدين.

الفصل الثالث:جيل السبعينيات ... صحوة واعدة ونهاية غامضة!

 

البدايات

لعله من المفيد قبل أن نتعرض لفترة السبعينيات أن أوضح معنى العنوان، فكلمة جيل تعني زمنيا قرابة ثلث قرن (35 سنة تقريبا) ومجتمعيا تعني البشر الذين مرت عليهم تلك السنون وهم عاقلون راشدون وما قدموا به من فعاليات، وجيل السبعينيات هم مواليد 1948–1955 وواقعيا هم الذين كانت أعمارهم في عام 1970 حول العشرين وهم اليوم تتراوح أعمارهم حول الخمسة والخمسين، وأما كلمة الإسلامي فتعني وجود فاعلين آخرين من توجهات ليست محسوبة على الإسلاميين؛

وأنا هنا أكتب عن الإسلاميين عرفا دون غيرهم كما أنه من الضروري وحتى لا يساء فهمي فإنني أعتبر الإسلاميين لغة كل من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن الإسلاميين عرفا هم المشاركون منهم في الصحوة الإسلامية شكلا وموضوعا خلال فترة السبعينيات التي نتحدث حولها.

كانت نكسة 1967 وهزيمتنا أمام الصهاينة وما وقع للجيش المصري خلال حرب الأيام الستة السوداء هي الباعث الحثيث لمشاعر الشباب الذي أحس أنه خدع لوقت طويل وأن الهزيمة كانت بسبب فشل النظام الاشتراكي الناصري وما عاناه من الفساد في معظم القطاعات واتفق مع هذا التفسير الناصريون أنفسهم وبدت جبهتهم في حالة انقسام وتشتت.

وقد علا صوت بعض الإسلاميين مبكرا ليقول إن الهزيمة كانت نتيجة لما قام به النظام من تعديات على الشريعة الإسلامية والبعد عن الدين لا سيما في الإعلام والتعليم والسياسة والاقتصاد، وقد وجدت هذه المقولة صدى واسعا لدى الكثيرين من الشباب والكبار؛

ومع أن مؤتمر القمة المنعقد بالخرطوم عقب الهزيمة مباشرة أعلن لاآته الثلاث التاريخية في مواجهة إسرائيل (لا صلح ... لا تفاوض ... لا اعتراف) إلا أن ثقة الشباب بالنظام الناصري كانت قد انتهت وبغير رجعة وحدثت عدة ثورات طلابية في مواجهة النظام لا تعدو أن تكون ردود أفعال نفسية ولم تكن لها صبغة محددة ولكن الغالب عليها الشعور الوطني العام لدى قطاعات الطلاب المشاركة بضرورة التغيير ونوجز من هذه الثورات الطلابية.

ثورة فبراير 1968:

حيث قامت مجموعات من طلبة حقوق القاهرة في مسيرة متجهة لمجلس الأمة منددة بالأحكام المخفضة التي صدرت ضد قيادات سلاح الجو المصري الذي تسبب في هزيمتنا بعد ما تحطم سلاح الجو كله على الأرض وبدون طيران بينما كان القادة يغطون في نومهم العميق صباح 5 يونيو بعدما قضوا ليلة حمراء وصفتها المصادر بعد ذلك بما لا يمكن كتابته في كتاب مثل هذا.

غير أن طلاب الحقوق لم يبقوا وحدهم وانضم إليهم في صباح السبت 14/ 12/ 1968 طلاب كلية الهندسة وعدد من طلاب الجامعة من كليات أخرى وقد حاصرتهم قوات الأمن حتى مقر المجلس وخدعوهم بالوعد أن مطالبهم سوف تجاب ولكن عليهم تسجيل أسماء قيادتهم ومطالبهم... وفي نفس الليلة كان الجميع بالمعتقلات والسجون بعدما قبض عليهم من منازلهم.

في هندسة عين شمس كانت معركة شرسة بين الطلبة والبوليس الذي لم يستطع منع الطلاب حيث تقع الكلية وسط الأحياء السكنية فأطلق النار في المليان فوقع عدد من الطلاب جرحى وكذلك من المواطنين فتفرق الكل أمام ضراوة القتال.

وظلت الأحداث حية في ذلك الوقت حتى استقر أمر الطلبة على ضرورة الاعتصام حتى تجاب مطالبهم وقد بلغ عدد المعتصمين حوالي 500 طالب بهندسة القاهرة انخفض بالليل إلى حوالي 200 طالب وقد أوجز البيان الصادر هذه المطالب بعد مقدمة طويلة في الآتي:

الإفراج فورا عن جميع المعتقلين من الطلبة.

إطلاق حرية الرأي والصحافة.

اختيار مجلس أمة حر يمارس الحياة النيابية.

إبعاد المخابرات والمباحث عن الجامعات.

إصدار قوانين للحريات والعمل بها.

التحقيق الجدي في مقتل العمال المتظاهرين بحلوان.

إعادة محاكمة المتهمين في الطيران.

التحقيق في انتهاك حرمة الجامعات واعتداء الشرطة على الطلبة.

ثورة 1969 بالإسكندرية:

أطلق شرارتها تلك المعاملة الدموية التي لاقاها طلاب المعهد الديني بالمنصورة عندما تظاهروا في 21/ 11/ 1968 مطالبين بتحسين أحوال الدراسة والعمل للأزهريين خريجي المعهد.

وقد التهب حماس الطلبة بجامعة الإسكندرية وخرجوا في مظاهرات صاخبة شارك فيها المواطنون وازدحم ميدان محطة الرمل بالمتظاهرين الذين طوقتهم قوات الأمن وأمطرتهم بالقنابل المسيلة للدموع ولكنهم واصلوا مظاهراتهم مطالبين بتغيير النظام برمته ومحاكمة المسئولين فيه.

وفي الوقت الذي صدرت فيه الأوامر للجيش أن يتحرك هطلت على الإسكندرية أمطار غزيرة لم يثبت لها أحد وخلت الشوارع من الناس والشرطة وكان ذلك سببا لانتهاء الثورة وفي المساء كالعادة واصلت قوات الحكومة اعتقال الناس والطلبة الذين شاركوا في التظاهرات.

وفي يوم 11 يناير 1969 فتحت الجامعات للدراسة بعد قرار إغلاقها الذي استمر قرابة العشرين يوما.

ومع استمرار غياب التيار الإسلامي في الجامعات في هذه الفترة وكذلك استمرار الاحتلال الصهيوني لسيناء والإحساس العام بالهزيمة والضياع فقد نمت بالجامعات التيارات اليسارية في مواجهة نظام الحكم الناصري لكنها لم تلق القبول لدى الطلبة أو المصريين عموما ... وظلت حالة الركود الفكري والسياسي تخيم على الجامعات حوالي أعوام 69/70، 70/71 ولكن العام الدراسي 71/72 شهد بعض الإرهاصات لنمو الحركة الإسلامية وتمثل ذلك في:

صدور بعض الصحف التي تنادي بضرورة العودة للإسلام والاحتكام للقرآن: مثل جريدة (آراء حرة) التي أصدرها الطالب وائل عثمان بهندسة القاهرة، ومجلة الإيمان التي كنت أصدرها بعلوم عين شمس.

ظهور ما يسمى (جماعة شباب الإسلام) بهندسة القاهرة ثم حصولها على موافقة الاتحاد العام للطلبة بأن يكون لها أفرع في الجامعات والكليات باعتبارها جناحا من أجنحة الاتحاد.

وقد أشهرت الجمعية نفسها في مؤتمر ضخم بجامعة القاهرة حضره الشيخ محمد الغزالي، وكان يرأس هذه الجماعة الطالب عدلي مصطفى ويساعده الطالب عصام الغزالي ومن أعضائها الطالب وائل عثمان صاحب كتاب "أسرار الحركة الطلابية" والطالب عصام الشيخ بالهندسة ونبيل يس بالعلوم.

الإسلاميون وفترة النمو الكبرى:

تعد فترة السبعينيات بمثابة فترة النمو الكبرى ومرحلة استعادة الهوية الإسلامية، واستعادة سيادة الطابع الإسلامي في المظهر العام والحركة الاجتماعية، وسيادة اللغة العربية والألفاظ الإسلامية، وأضحى الإسلام بالجملة هو موضوع ومحور المناقشات العامة والخاصة؛

ففي مرحلة السبعينيات سادت الجماعة الإسلامية وعلا صوت الدعوة إلى الله وامتلأت الجامعات والأحياء بالمساجد، واحتشد الناس صفوفا بين يدي الله خاشعين ضارعين ...

وتداول الرأي العام ألفاظ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والشورى، والحجاب والنقاب، كما انتشرت الكتب الإسلامية ومعارض الكتاب الإسلامي والمحاضرات الإسلامية، وصارت الجامعات معبرة عن حالة التدين الجديدة في الأمة ومنبرا عاما تعبر فيه عن وجهة نظرها تجاه القضايا العامة، ومما لا شك فيه أن ذلك لم يكن مخططا له من قبل الذين أسسوا الجامعة المصرية في بداية القرن العشرين.

وطبيعة عملية النمو الكبرى هذه لا تختلف عن أي عملية طبيعية أخرى، فقد كانت محكومة بالتدرج والزيادة المضطردة بقدر ما توفر لها من عناصر النجاح والدفع إلى الأمام.

فأما عناصر النجاح فقد تمثلت في الظروف التاريخية والظروف السياسية والاقتصادية التي مرت بها الحياة المصرية والتي يمكن تفصيلها على النحو التالي:

أولا: سقوط الناصرية:

فلقد مات جمال عبد الناصر معنويا عام 1967 في الخامس من يونيو ودفن عام 1970 في 28 أغسطس، كانت هزيمتنا أمام شراذم اليهود عام 1967 أكبر تنبيه لنا جميعا أننا نسير في طريق خاطئ ومصير مشئوم طالما تقودنا هذه المجموعة التي كشفتها الهزيمة؛

فإذا هم جماعة من الفاسدين الذين يتقلبون بين أحضان الممثلات، وخرج الزعيم على الناس يبكي في انكسار وذلة محاولا تبرير ما حدث بأنه خيانة من جانب الأصدقاء، وانشغل الناس يفلسفون أسباب الهزيمة وكانت النتيجة التي اتفق عليها أكثر الناس ضرورة العودة إلى الله فليس لها من دون الله كاشفة، وترتب على ذلك عودة الكثيرين إلى دين الله أفواجا، وأول هؤلاء شباب الجامعات.

ثانيا: جذوة الإيمان الكامنة:

نجح فريق العلمنة والإذلال أن ينثر بعض الرماد على جذوة الإيمان فيغطيها بعض الوقت، ولكنها كانت موجودة وحية في نفوس الكثيرين من الأساتذة والمربين الذين التقطونا في بداية مرحة السبعينات من على أعتاب المساجد كأنهم يلتقطون حبات الياقوت والمرجان فرحين بنا سعداء بلقائنا وكأنهم كانوا يبحثون عن أولاد لهم قد فرقت بينهم أيام وأحداث.

في جامعة عين شمس التي بدأت فيها أولى خطواتي على طريق الله ما زلت أذكر حتى الآن الأستاذ الدكتور عبد الغني الوشاحي رحمه الله أستاذ طب الأطفال وهو يحملني مع آخرين في سيارته (الفولكس) الصغيرة إلى مسجد في مكان لم أكن أعرفه في ذلك الوقت (مسجد أنس بن مالك بالدقي) حيث نستمع إلى حديث طيب ومؤثر من الشيخ إبراهيم عزت ثم يعيدنا الأستاذ الجليل بسيارته إلى حيث كنا، ولا أحسب أنه كان يفعل ذلك بتكليف من أحد إلا حب الله ومرضاته ورغبته في مساعدة هذه النباتات الضعيفة من أمثالنا أن تنمو وتزدهر وتثمر.

وأذكر آخرين كانت لهم أدوار مشابهة من أمثال الأستاذ الدكتور محمد الكريمي أستاذ الفسيولوجيا بكلية الطب أيضا والذي كان يتبنى معسكراتنا في بدايتها، وفي كلية العلوم أذكر الدكتور محمود الخشان أستاذ الطبيعة الذي كان يجالسنا بالمسجد ويساعدنا على التحصيل، وأذكر الدكتور عبد المحسن زيكو الذي بحث عني أياما بعدما أخرجت أول مجلة حائط إسلامية حتى لقيني وأحسن ضيافتي وتعهدني بالصحبة إلى محاضرات الشيخ محمد الغزالي بجامعة القاهرة.

ثالثا: صراع الديكة بين الشيوعيين والرأسماليين:

في بداية السبعينات بدأ توجه السادات نحو الغرب عامة وأمريكا خاصة، وتخاصم مع الروس وطردهم من مصر، ولم يكن ذلك إلا مقدمة للارتماء في أحضان أمريكا، وهذا ما تم بعد ذلك في اتفاقية السادات، بيجن المسماة (بكامب ديفيد) المشئومة؛

وليس هذا مجال الحديث عنها، ولكن ترتب على هذا التوجه غضب الشيوعيين على السادات، في مهب الريح، ولجأ إلى اللعبة السياسية المعروفة بضرب الاتجاهات السياسية بعضها ببعض، فأغمض عينه عن التيار الإسلامي المتنامي ليسود بالجامعة ويحل محل الشيوعيين؛

وما زلت أذكر وأنا طالب بالجامعة في بداية السبعينات معسكراتنا الإسلامية التي كانت تعقد بالمدينة الجامعية وباشتراك رمزي، وكان يأتينا مندوب من وزارة الشباب يوزع علينا الجوائز في نهاية المخيم، كما كانت تصاريح المحاضرات والندوات غاية في السهولة واليسر من قبل القائمين على إدارة الجامعة في ذلك الوقت؛

وقد ساهم ذلك كله في الإسراع والتعجيل بسيادة الإسلاميين في الجامعات أثناء فترة السبعينات، كما أنني أذكر أن مطبعة جامعة عين شمس المركزية طبعت لي شخصيا كتيبا عن الحجاب الإسلامي وآخر عن قواعد تجويد القرآن الكريم بموافقة من إدارة كلية العلوم.

ولكن ... هل تم ذلك دفعة واحدة، أم صار في مراحل وخطوات.كما أوضحت سابقا، تم ذلك محكوما بسنة التدرج ومصانا بخطوات ثابتة مما أعطاه صفة الشباب والدوام إلى يومنا هذا، ويمكننا أن نلخص خطوات الحركة الدعوية الإسلامية بالجامعات على النحول التالي:

مرحلة (القطاع الديني) في معسكر النشاط الصيفي العام.

مرحلة (اللجنة الدينية) المنبثقة من اللجنة الثقافية باتحاد الطلاب.

مرحلة (الجماعات الدينية).

مرحلة (الجماعات الإسلامية) – (1973 – 1977).

مرحلة استلام اتحادات الطلاب وتأكيد الثقة في الإسلاميين (1977 – 1979).

مرحلة انقلاب السلطة وتحرشها بالإسلاميين.

مرحلة الصدام والمواجهة.

وفيما يلي نلقي الضوء على تلك المراحل:

(1) مرحلة القطاع الديني في معسكر النشاط الصيفي:

كان المعسكر الصيفي من الوسائل المتبعة لحشد الشباب حول الفكر الحكومي، وفي كل إجازة صيفية يعقد هذا المعسكر ويقسم فيه الطلاب إلى قطاعات منها القطاع الديني إلى جانب القطاع الرياضي والقطاع الفني والقطاع الثقافي والقطاع السياسي ... إلخ.

ووسط هذا الحشد الطلابي المتنوع كان القطاع الديني في عام 1970/ 1971 يمثل موطن السخرية من ناحية الشكل والمضمون ...

ففي جامعة عين شمس حيث تخرجت كان المسئول عن القطاع الديني فتاة طالبة بكلية البنات!! تدعى صفاء نقف خلفها كل صباح في الطابور وكانت تتمايل أمامنا في الحركات الرياضية، في هذه المرحلة السنية الخطيرة، ودعك من تفاصيل أخرى حول القطاع الديني وطريقة معاملته بين القطاعات وما يطلق عيه من نكات وتهكمات، لقد كانت حقا تجربة قاسية على نفوسنا نحن القلة المتدينة التي قدمت إلى المعسكر منخدعة بالاسم (القطاع الديني).

وأما المعسكر فكان صورة للحياة الجامعية في ذلك الوقت فهو معسكر مشترك ومختلط بين فتيات وفتيان الجامعة، يمضون يومهم في البرامج وهم مشغولون عنها، فإذا جاء العصر حيث تنتهي فترات البرامج يجلس الجميع في الحديقة الواسعة على شكل شلل ومجموعات من البنين والبنات يتمازحون باللسان والأيادي والأرجل حتى ساعة متأخرة من الليل فيتوجهون كل إلى حجرته البنين في مبنى والبنات في المبنى الآخر.

وأما المادة الدينية التي كانت تقدم في معسكر القطاع الديني فكانت اجتهادات الطلبة المشتركين لبعضهم ومطالعاتهم الخاصة ... يتحاورون حولها في خيمة خاصة أعدت لهم ... وأذكر أننا كنا نتصارح معا في هذه الخيمة الخاصة ونبدي استياءنا عن الحالة العامة للمعسكر، وأذكر في هذه المرحلة أيضا أن شابا من كلية الطب هو الزميل عبد العزيز سويلم ..

كان يتسلل إلى خيمتنا بعد العصر من كل يوم ويعلمنا قراءة القرآن وتجويده وكنا نتشرب المعلومات بسرعة بالغة حتى خرجنا بعد عشرة أيام ومعظمنا يجيد التلاوة بدرجة عالية، وأحسب أن هذه كانت أكبر الفوائد التي تحققت لي شخصيا.ومن الفوائد الهامة أيضا، أننا تعارفنا وتعاهدنا على أن تدوم صلتنا على طول العام المقبل.

وعموما تميزت هذه المرحلة بما يلي:

قلة أعداد المتدينين إلى حد الندرة.

لا توجد فتاة واحدة تغطي شعرها ولا شاب ملتح.

لا توجد مطبوعات إسلامية ولا محاضرات إسلامية.

الصلاة لمن أراد ولم يشر إليها برنامج المعسكر.

قيادات المعسكر وإدارته من اليساريين أو الناصريين مع صعوبة التفريق بينهما.

العلاقات السائدة بين الأعضاء من الجنسين تحكمها تصورات ومبادئ غربية أو شيوعية.

وكانت حالة الجامعة مطابقة تماما للتوصيف السابق على طول فترة العام الجامعي.

ثانيا: مرحلة النشاط الديني المنبثق من اللجنة الثقافية (1972):

كانت الاتحادات الطلابية مثلها كالاتحادات العمالية والنقابية تمثل مرتعا خصبا لممارسة عملية تطويع الأفكار للسياسة العامة التي تهدف إليها الأجهزة الحاكمة حتى صار شكل الجامعة العام كأنها جامعة في موسكو أو واشنطن، ولم يكن غريبا أن ترى تحت كل شجرة من أشجار الجامعة طالبا وطالبة قد تعانقا وإلى جوارهما آخران قد جلسا ممددين يتداعبان بالأيدي والأرج؛

والويل لمن يحاول مجرد الاعتراض حيث يواجه بعبارات الاستهزاء ويوصف بأنه متخلف أو رجعي أو متزمت أو فلاح أو إلى آخر قائمة الألفاظ المحفوظة، فإن توجه إلى مسئول بالجامعة كانت الإجابة المشهورة: وأنت مالك؟ أي ما شأنك بهم؟

ولم تنجح الحكومة المصرية في مواجهة المد الشيوعي في الجامعة وانطبق عليها المثل القائل (سمن كلبك يأكلك) فعندما حاول الرئيس المصري أن يوجد لنفسه قاعدة شعبية تسانده أبت عليه الجامعة وما سمي بعد ذلك مراكز القوى، وكانت هذه القاعدة الطلابية تبعا لها ومن هنا جندت هذه المراكز التابعين لها ليقوموا بحملة مضادة لسياسة الرئيس الجديد؛

وفجأة امتلاك حوائط الجامعات خاصة القاهرة وعين شمس بمجلات حائط تسخر من الرئيس المصري السادات ومن سياسته، ورسمت له صورا كاريكاتيرية من أقبح الأوضاع وكذلك زوجته مما أشعل في صدره نار الانتقام.

أسست الحكومة خطتها في مقاومة هذا الاتجاه على أساس ضربه باتجاه آخر، ولعله من المعلوم لدى أجهزة الأمن والمسئولين في الإعلام والثقافة والتربية والأخلاق أنه لا يقضي على الشيوعية وما شابهها إلا الإسلاميين وإنفاذا لهذا المخطط وليس لأية دوافع أخرى اتخذت الحكومة عدة خطوات كان أهمها:

اتصال الحكومة سرا بالقلة المتدينة من الطلاب ومثل الدولة في هذه الاتصالات على ما أذكر أ. د. أحمد كمال أبو المجد أ. د. صوفي أبو طالب وأ. د. رفعت المحجوب.

رفع شعارات إسلامية والإعلان عنها والدعاية لها بأكبر قدر ممكن في أجهزة الإعلام ومن أشهر هذه الشعارات "دولة العلم والإيمان".

الإفراج عن معتقلي الإخوان المسلمين.

السماح لبعض علماء الإسلام بدخول الجامعة لإلقاء المحاضرات وأذكر من هؤلاء الشيخ محمد الغزالي السقا والشيخ سيد سابق والشيخ إبراهيم عزت، ود. حامد حسين من علماء الأزهر، وترتب على ذلك تنشيط حقيقي للدعوة الإسلامية في الجامعات المصرية بدت مظاهره في المجلات الإسلامية وفي الدعاية الصريحة للعودة للإسلام وإعلان ذلك في المحاضرات العامة واللقاءات الخاصة مع الطلاب وخلال عام 1973 اتسع النشاط الإسلامي ليشمل النواحي التالية:

عقد حلقات تعليمية بالمسجد لتعليم قراءة القرآن ولعل أول ما طبع بالجامعة في هذا المجال هي مذكرة علم التجويد.

التفكير في إيجاد شكل منظم لإدارة العمل الإسلامي فوجد ما يسمى بمسئول حلقة التجويد ومسئول المسجد ومسئول الطالبات ومسئول الإعلام لعمل مجلات الحائط ... إلخ.

المطالبة بأن تكون لنا كإسلاميين حصة مالية في ميزانية الاتحاد وكانت في جامعتي عين شمس على ما أذكر 75 جنيها في العام للإنفاق على النشاط الديني.

عمل قسم خاص بالمسجد كمصلى للطالبات.

بتصاعد النشاط الإسلامي والذي كان ينمو ويزداد بسرعة ملحوظة كان لا بد من الصدام مع الاتجاهات العلمانية سواء كان ليبرالية أو شيوعية، ولكن نصيحة الكبار كانت تؤكد أن الصراع بين الإسلاميين وخصومهم لا بد أن يستمر في خط الدعوة والبيان وأنه من الخطأ تحويله إلى مشاجرات، حققنا بعض التقدم في خط سير الدعوة كان من أهم مظاهره أن بعض الطالبات قد تجرأت وحضرت إلى الجامعة وعلى رأسها غطاء يخفي شعرها وبعضهن بدأن يخفين سيقانهن بارتداء البنطلون أسفل ما يسمونه بالجونلة، ولكن لم يكن هناك ما يسمى بالزي الإسلامي المعروف لدينا الآن.

أما من ناحية الوضع الرسمي للمتدينين فكانت الاتحادات ما تزال تسيطر عليها غيرهم وكذلك النشاطات الكبيرة كالمعسكرات والرحلات والندوات وحفلات التكريم للمتفوقين والأسر الثقافية الخاصة، ولكن هجومهم على الدين والمتدينين بدأ يتراجع شيئا ما.

وفي آخر العام الدراسي ينصرف كل منا إلى بيته ولم يكن هناك أي تفكير في أن نلتقي لممارسة العمل الإسلامي أثناء الأجازة الصيفية.

ثالثا: مرحلة الجماعة الدينية:

لم يستغرق هذه المرحلة طويلا، كان عمرها حوالي ستة شهور بداية من عام 1973 ولم تكن سوى مرحلة انتقالية من مراحل العمل الخائف المتوجس الذي لا يشعر قوته الذاتية إلى مرحلة العمل الصريح للإسلام ومعاداة غيره والجهر بذلك.

وتبلور ذلك في جمع المسئولين عن الأنشطة الإسلامية بالمسجد تحت مسئول واحد أطلق عليه اسم الأمير وسمي هذا التكوين بالجماعة الدينية التي سرعان ما غيرت اسمها إلى الجماعة الإسلامية

وذلك لأسباب:

أولا: أن الحركة التبشيرية في هذا الوقت كانت قد تصاعدت وذلك بتولي الباب شنودة رئاسة الأقباط في مصر، ووقعت أحداث الخانكة المشهورة والتي جرت على أثرها معركة بين المسلمين والنصارى.

ثانيا: أن أجهزة الإعلام كانت ما تزال تضرب على وتر أن الأديان كلها صحيحة وأن ما عليه النصارى أو اليهود يسمى دينا وله وجه من الصحة بينما الشباب الإسلامي يعتقد أن الدين عند الله الإسلام.

ثالثا: رغبة الشبيبة الإسلامية أن تعود الأمة لاسمها الذي أراده الله لها (هو سماكم المسلمين من قبل).من أجل ذلك لم يكتب لاسم الجماعة الدينية أن يستمر طويلا فتغير بعد ستة أشهر تقريبا إلى "الجماعة الإسلامية" ذلك الاسم الذي دارت حوله الأحداث بعد ذلك.

رابعا: مرحلة الجماعة الإسلامية: أو سمها إن شئت مرحلة المعسكرات الإسلامية ويصح أيضا أن تطلق عليها اسم مرحلة الترشيد في العمل الإسلامي وتقع أحداث هذه المرحلة منذ عام 1973 وحتى 1977.

فلم تكد تمر شهور ثلاثة منذ بداية عام 1973 حتى صار اسم الجماعة الإسلامية هو الاسم المقبول لدى جميع المتدينين بالجامعات المصرية وكأننا كنا على موعد ولم تمانع أية كلية أو أية جامعة في أن تضع لنفسها هذا الاسم (الجماعة الإسلامية بكلية ....).

وفي البداية كانت الجماعات الإسلامية بكليات الجامعة منفصلة تماما عن بعضها البعض، بل لم تكن موجودة في بعض الكليات وآخر الكليات إقامة للجماعة الإسلامية عادة كليتي الآداب والحقوق ومعاهد اللغات الأجنبية، وذلك يرجع لطبيعة الدراسة وكذلك التكوين النفسي والتربوي لطلاب هذه الكليات والمعاهد، وأسبق الكليات كانت الطب والهندسة والعلوم.

وقبل نهاية العام الدراسي بشهر تقريبا بدأ التفكير الجاد في أن يكون للجماعة الإسلامية معسكر منفصل عن الأنشطة الفنية والرياضية وما شابه ذلك.

والمعسكر الإسلامي يبدأ الإعداد له بطلب يقدم من أحد أمراء الجماعة الإسلامية للسيد مدير الجامعة يطلب فيه السماح بإقامة المعسكر في أرض المدينة الجامعية وباستخدام حجراتها وصالات الطعام بها مع تكلفة مبدئية للدعم المالي المطلوب صرفه من الجامعة يسلم إلى إدارة المدينة الجامعية، وفي العادة كان يرفق بالطلب البرنامج اليومي للمعسكر والمحاضرين وكذلك قائمة بالمسئولين من الطلبة، وكان يختار أستاذ من أعضاء هيئة التدريس كمشرف عام على المعسكر.

ولم يحدث مرة أن اعترضت إدارة الجامعة على إقامة المعسكرات التي كان يحضرها من (500 – 800) طالب في المتوسط ولمدة عشرة أيام.أما أسباب موافقة الجامعات على إقامة هذه المعسكرات فكانت كثيرة منها السياسي ومنها الأمني ومنها الاجتماعي.

فمن الناحية السياسية:

كانت الاتجاهات المعادية لحكومة السادات ممثلة في الناصريين ما تزال لها نوع من القوة والسطوة في الجامعات، وكان يعقد في جامعة عين شمس ما يسمى المؤتمر الناصري العام الدولي الذي يجمع ممثلين للناصريين من البلاد العربية الأخرى كل عدة أعوام وكانت حاجة الحكومة المصرية ماسة لدفع النشاط الإسلامي حتى تكون له قوة حقيقية تقف في وجه هذا التيار.

ومن ناحية أخرى كانت التحضير قائما على أشده لحرب أكتوبر 1973، ولم تجد الحكومة المصرية وسيلة للتعبئة العامة أفضل ولا أيسر من إذكاء الروح الإسلامية في الجنود والشعب، فلم يكن مقبولا مقاومة الحركة الإسلامية بالجامعات بينما أجهزة الإعلام تدعو لأخذ الثأر وإعادة الأرض المغصوبة.

ومن الناحية الأمنية:

فإن أجهزة الأمن تدرك دائما أن النشاط العلني يمنع تواجد الأنشطة السرية كأمر طبيعي، ولذلك يسهل عليها متابعة هذه الأنشطة العلنية ورصد نموها وحركتها مما يسهل التعامل معها في الوقت المناسب وبالأسلوب المناسب.

أما الطرف الآخر وهو الشعب فكان إقباله جارفا نحو الإسلام ودعاته خاصة بعد هزيمة يونيو 1967، وكانت المؤشرات كلها تشير إلى أن الأمة أصبحت تفكر بجدية في بديل للتجارب الفاشلة التي مرت عليها منذ داهمتنا حكومات العساكر سواء كانوا غربيين أو شرقيين.

لكل ما سبق من ظروف فإن إدارة الجامعة تركت الحبل على الغارب للجماعات الإسلامية، ولكن هذا لم يكن يعني أنها تركت الحبل من يدها خاصة وأن إدارة الجامعة نفسها كالعادة تكون مربوطة بحبل آخر تمسك به السلطات الحاكمة، وكلهم مربوط بحبل غليظ تمسك به القوة العظمى التي تحكم العالم.

وهكذا بدأت مرحلة المعسكرات الإسلامية وسط هذه الظروف البالغة التعقيد، وإثباتا للحقيقة فقد كان الشباب الإسلامي لا يهتم بالتحليل السياسي للأوضاع التي يعمل في ظلها ولم نكن نفكر في غير التدين والعمل بالإسلام كما نعي ونفهم.

ومرحلة المعسكرات الإسلامية التي نحن بصدد الحديث عنها أخذت أهميتها وتسميتها من خلال الإنجازات الكثيرة التي كانت تتحقق أثناء المعسكرات.ففي المعسكر الصيفي ينضم إلى النشاط الإسلامي بالجامعة أكبر عدد من الطلاب الذين تعرف أقدامهم طريق العمل الإسلامي لأول مرة.

وفي المعسكر الإسلامي المجال الخصب لتعارف الشاب المتدين بأقرانه تعارفا كاملا من خلال المعايشة اليومية الكاملة ومدارسة ما تيسر من الأحكام الإسلامية المتعلقة بقضايا المجتمع الداخلي والعالمي. والمعسكرات الإسلامية الصيفية كانت الفرصة للتحضير خطة العمل الإسلامي أثناء العام الدراسي القادم مع دراسة ما تم إنجازه في العام السابق وتلافي الأخطاء التنفيذية.

وكانت عملية التحضير هذه تتناول:

الموضوعات الهامة على أساس المشكلات الفكرية التي تعرض للشباب.

المحاضرين الذين سيتناولون هذه الموضوعات.

المطبوعات التي تصدر.

وقد انتشرت المعسكرات الإسلامية في جميع الكليات والجامعات المصرية حتى أصبحت أهم سمة لهذه المرحلة.

ففي عام 1973 عقد المعسكر الإسلامي الأول لجامعات القاهرة وعين شمس.

وفي عام 1974 عقد المعسكر الإسلامي الثاني لجامعات القاهرة وعين شمس والأول بالنسبة لجامعة الأزهر.

وفي عام 1975 عقد المعسكر الإسلامي الثالث لجامعات القاهرة وعين شمس والثاني بالنسبة للأزهر والأول بالنسبة لجامعات المنصورة والزقازيق وطنطا.

وفي عام 1976 عقد المعسكر الإسلامي الرابع لجامعات القاهرة وعين شمس والثالث بالنسبة للأزهر والأول بالنسبة لجامعات المنصورة والزقازيق وطنطا والأول بالنسبة لجامعة المنيا وأسيوط والإسكندرية.

وفي عام 1977 كانت كل الجامعات المصرية قد بلغتها المعسكرات الصيفية الإسلامية وأصبحت تقليدا متبعا عند الجميع.

وفي العادة كان يسبق المعسكر العام بكل جامعة معسكرات مصغرة بكل كلية من كليات الجامعة كعملية تنشيطية استعدادا للمعسكر العام للجامعة الذي يمثل فيه عدد من طلاب الكليات الذين حضروا المعسكر الخاص بالكلية.والمعسكرات الإسلامية يمكننا أن نسميها معسكرات تعريف بالإسلام وتربية الأفراد على ذلك

ومن خلال البرنامج اليومي للمعسكر يمكنك أن تتبين ذلك بوضوح:

نموذج للبرنامج اليومي للمعسكر الإسلامي:

الذي يتكرر في جميع المعسكرات:

3.00 ص استيقاظ وتهجد

4.00 ص أذان الفجر

4.20 ص صلاة الفجر

4.50 ص أذكار الصباح

6.10 ص الاستعداد لطابور الرياضة.

6.30 ص طابور الرياضة.

7.30 ص الاستعداد للإفطار.

8.00 ص الإفطار

9.00 ص فترة حرة للقراءة.

10.00 ص محاضرة الصباح.

12 ظ صلاة الظهر.

12.45 ظ نوم وراحة.

2.30 ظ استيقاظ للغذاء

3.00 م صلاة العصر.

4.30 محاضرة المساء.

6.00 أذكار المساء.

7.00 م صلاة المغرب.

7.30م العشاء.

8.00 م صلاة العشاء.

8.30 م جلسات اللجان.

9.30 م النوم والراحة.

وكانت نتائج هذه المرحلة (1973 – 1977) كما يلي:

أصبح الزي الإسلامي للطالبات هو السمة المميزة والجديدة للجامعات المصرية.

انتشر الكتاب الإسلامي بالجامعات خاصة في أوساط الشباب عامة بما يجعه الكتاب الأول من ناحية الموضوعات والتوزيع والجودة في الإخراج والطباعة.

أصبحت المحاضرات الإسلامية والدروس التربوية سمة من سمات الجامعة المصرية مما أثر كثيرا في تحسين أخلاق الطلاب وإشاعة الفضيلة بينهم وتنويرهم سياسيا واجتماعيا.

برزت قيادات إسلامية من بين الشباب كان لها أثرها الملموس في توجيه الحركة الطلابية.

تكون بالجامعات المصرية وكذلك الأوساط الطلابية رأي إسلامي عام.

وقد يسأل القارئ نفسه: كيف انتظرت الحكومة هذا الوقت الذي بلغ أربعة سنين دون مقاومة الحركة الإسلامية؟

وأجيب عليك فأقول:

أولا: هذه الإنجازات كانت تتم في هدوء بالغ وحذر شديد كما أنها كانت كلها مشغولة بداخل الحركة الإسلامية نفسها ولم تصدر أي نشرات تهاجم السياسيين أو تكدر الأمن العام.

ثانيا: أن الحكومات كانت مشغولة بنفسها وبصراعاتها الشخصية بين الناصريين واليساريين والساداتيين.

ثالثا: قبل ك ذلك وبعده إرادة الله الذي يقول للشيء كن فيكون.

رابعا: مرحلة استلام الاتحادات الطلابية (1977 – 1979)

إنها مرحلة الدخول في المناطق المحرمة ... إنها مرحة الوصول الإسلامي إلى منطقة السلطان والإدارة ولو على هذا المستوى الصغير مستوى إدارة اتحاد طلاب أو جامعة .. والوصول الإسلامي إلى مراكز التوجيه ... يعني إضاءة النور الأحمر في مكاتب المسئولين عن الإدارات الحكومية في الداخل والخارج على حد سواء.

وهذه المرحلة في حياة الجماعات الإسلامية جاءت نتيجة حتمية للمجهود المبذول في السنوات السابقة والتي أوضحت لجمهور الطلاب وأعضاء هيئة التدريس بالجامعات المبادئ الآتية:

أن الجماعة الإسلامية تجمع الشباب الجاد في تدينه والصادق في دعوى الإسلام عقيدة وأخلاقا.

أن أفراد هذه الجماعات قادرون على إدارة شئونهم بكفاءة أفضل من أقرانهم من أصحاب الانتماءات الحزبية الأخرى.

بهذه الخلفية لدى الرأي العام تقدمت الجماعات الإسلامية بأفراد منها في انتخابات الاتحادات الطلابية ... وكانت المفاجأة ... الجماعات الإسلامية تفوز بمرشحيها على جميع الاتجاهات الحزبية أو الفكرية .. بما فيها حزب الحكومة مع وفرة إمكانياته وضراوة حملته والتي استخدم فيها التهديد المسلح وخطف أفراد من الجماعة الإسلامية بطريقة سينمائية وتكرر ذلك على مستوى الجامعة والاتحاد العام لاتحاد طلاب الجمهورية ... وانتهت العملية الانتخابية بقائمة من الإسلاميين يشكلون رؤساء الاتحادات الطلابية للجامعات المصرية.

أما تشكيل مكتب الاتحاد العام لطلاب الجمهورية فكان أكثر وضوحا وتعبيرا على نمو الحركة الإسلامية:

رئيس الاتحاد العام لطلاب الجمهورية: محمود طلعت جلال الدكش مستقل ومتعاطف مع الجماعات الإسلامية وهو مرشح الجماعات الإسلامية الذي اختاروه لتخفيف الصدمة على الحكومة إلى حد ما ويعمل اليوم طبيبا بوزارة الصحة.

النائب الأول لرئيس الاتحاد للشئون العربية: أبو العلا ماضي أبو العلا جماعة إسلامية، وهو اليوم وكيل المؤسسين لحزب الوسط ومن رواد الحركة السياسية بمصر.

النائب الثاني لرئيس الاتحاد للشئون الخارجية: محمد جلال قنديل مستقل ومتعاطف مع الجماعة الإسلامية.

النائب الثالث لرئيس الاتحاد للشئون الداخلية: عادل أسعد الخياط جماعة إسلامية، ويعمل اليوم مهندسا مدنيا بسوهاج.

النائب الرابع لرئيس الاتحاد لشئون الإعلام والنشر: محسن عبد الفتاح الشرقاوي جماعة إسلامية، ويعمل اليوم بتجارة الأجهزة الكهربية بالمنصورة حسب علمي.

خامسا: مرحلة الردة الديمقراطية والتحرش بالطلاب:

رغم أن الجهود الضخمة التي بذلتها الحكومة عن طريق عناصرها في الإدارة الجامعية وكذلك الأمن والتي تمثلت في تهديد المرشحين الإسلاميين وشطب عدد كبير منهم الأسباب مختلفة وكذلك تزوير الانتخابات لصالح المرشحين من الحزب الحاكم في بعض الكليات والدعاية الضخمة لهم، رغم كل ذلك كانت النتيجة تقول بصراحة كاملة إن طلاب الجامعات المصرية قبلوا قيادة الإسلاميين لهم، وبالطبع كانت هذه النتيجة مزعجة لكل الأوساط المعادية في الداخل والخارج ومن هنا بدأ التفكير الجاد في استخدام طريق آخر وأساليب جديدة للتعامل مع الجماعات الإسلامية.

وقد جرت الأحداث بعد ذلك في طريق دام وعنيف وأعلنت الحكومة حربها الشعواء على الطلاب عموما وجاءت إلى الجامعات بخيلها وخيلائها وأعلنت حالة الطوارئ القصوى في صفوفي "بلوكات" الأمن وقطعت آلاف الأشجار لتصنيع منها العصي الغليظة التي هي سمة المرحلة القادمة وأرسلت أمريكا عشرات الأطنان من القنابل المسيلة للدموع ذات التركيبات السامة (السيانيد).

أما التدريبات الحديثة لأفراد الأمن المركزي فكانت تتم على أساس تقسيم الجنود إلى قسمين: قسم يرتدي الملابس المدنية ويرفع شعارات إسلامية ويهتف بأعلى صوته "لا إله إلا الله"، "حسبنا الله ونعم الوكيل" والقسم الثاني يهجم عليه بالعصي الغليظة ويشبعه ضربا بالعصي والنعال والركل حتى تتفرق جماعتهم ... ثم يتبادلا المواقع مرة ثانية، وفي هذا إشارة كافية للاتجاهات الحكومية في المرحلة القادمة.

ومنذ اليوم الأول رفضت الجهات المباحثية تسليم مكتب الاتحاد العام لرئيس الاتحاد الجديد الذي انتخبه الطلاب وأغلق مكتب الاتحاد وجلس على بابه المخبرون في حالة استعداد لضرب أي لحية تقترب من باب الاتحاد، وقد ظل الاتحاد العام يمارس عمله من خلال المكاتب الفرعية بالجامعات ولمدة ستة أشهر كاملة بعد تشكيله.

ولم تصرف ميزانية الاتحاد المقررة لها كالعادة فكانت أنشطته تقوم على تبرعات الطلاب أو حصيلة مصروفاتهم .. كما أن الميزانية المخصصة للاتحاد من المجلس الأعلى للشباب والرياضة قد ألغيت تماما.

وفي شهر يونيو 1979 صدر أغرب قرار جمهوري في حياة الجامعات المصرية بإلغاء الاتحادات الطلابية كلية وإعادة تكوينها بتشكيل جديد يحول دون أن تكون كلمة الطلاب للطلاب ...

وقد أصدر المكتب التنفيذي لاتحاد طلاب مصر مذكرة حول هذه القضية بعث بها إلى رئيس المجلس الأعلى للجامعات، أعرب فيها عن أمله في إعادة النظر في هذه اللائحة الجديدة وما تضمنته من قيود على الحركة الطلابية ...

ونحن ننقل هنا، نص المذكرة، لما لها من أهمية كبرى في إيضاح خطورة هذه اللائحة من ناحية، ومن ناحية أخرى، إيضاح الصورة الهادئة الواعية التي كانت تتعامل بها الجماعات الإسلامية مع الإدارة.

نص المذكرة:

السيد الأستاذ الدكتور رئيس المجلس الأعلى للجامعات.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد ،،،

فقد فوجئت اتحادات طلاب الجمهورية المنتخبة شرعيا من القاعدة الطلابية، وفقا للقواعد المقررة قانونا، خلال العطلة الجامعية، بتجميد أموالها وإغلاق مقارها، وحظر اجتماعاتها بالطريق الإداري استنادا إلى قرار صدر من رئيس الجمهورية في التاسع عشر من يونيو 1979 برقم 265 بإلغاء لائحة اتحاد طلاب جمهورية مصر العربية، الصادر بالقرار الجمهوري رقم 235 لسنة 1976م.

(1) ولما كانت المادة 56 من الدستور تقضي بأن (إنشاء النقابات والاتحادات على أساس ديمقراطي حق يكفله القانون، وتكون لها الشخصية الاعتبارية) فإن القانون يعتبر هو الأداة التشريعية التي تنظم بمقتضاه الاتحادات، وأن استخدام أية أداة تشريعية أخرى كقرار يصدر من رئيس الجمهورية أو من الوزير المختص يعتبر عملا غير دستوري ... ولا يعتد بما يقال من أن الاتحادات كانت منظمة من قبل بلائحة صادرة بقرار من رئيس الجمهورية؛

إذ أنه لم يكن هنالك محل للطعن في تلك اللائحة لعدم مخالفتها للأسس الديمقراطية المنصوص عليها في الدستور، سواء بقصر إنشائها على مستويات تنظيمية محددة أو تقييد نطاق نشاطها أو بتحديد قواعد تشكيلها بما يفقدها الصفة الطلابية، كما فعل قرار رئيس الجمهورية الأخير رقم 165 لسنة 1979 وهذه المآخذ التي شابت القرار المذكور هي التي اشترط الدستور من أجل تفاديها، وحماية حق إنشاء النقابات والاتحادات منها، أن تكون الأداة التشريعية المنظمة لهذه المنظمات هي القانون، وإعمالا لحكم المادة 56 المذكورة من الدستور، فإن جميع النقابات المهنية القائمة والنقابات العمالية واتحاداتها، واتحاد الغرف التجارية، والاتحادات التعاونية منظمة بقوانين.

(2) إننا نخشى أن يكون الدافع إلى إصدار القرار الجمهوري رقم 265 لسنة 1979، هو وجه من اتهامات، وجهتها إدارات المباحث العامة إلى الجماعات الإسلامية التي ينتمي إليها الكثيرون من أعضاء الاتحادات الطلابية عن مسئوليتها عن بعض حوادث فردية أو ردود انفعالية إذا صح وقوعها بالصورة المعروضة ودون بيان لملابساتها لا تقرها الاتحادات الطلابية، وهي شخصيات اعتبارية لها مجالس تنطبق باسمها وفقا لنص الدستور، ولا توافق عليها الجماعات الإسلامية نفسها، كما أعلنت في رسالة مطبوعة تعليقا على ما جاء بالخطاب المشار إليه، وذكرت فيها بوضوح أنها ترفض كل أشكال العنف والعمل السري، وتتصدى للأفكار المتطرفة أو المنحرفة.

(3) قصر التنظيم الجديد لاتحادات طلاب الجامعات على مستوى واحد، وهو اتحاد طلاب الكلية أو المعهد من الطلاب النظاميين بقسم البكالوريوس أو الليسانس وينبني على ذلك:

(أ) استبعاد طلاب الدراسات العليا من اتحاد الكلية أو المعهد في حين أن هذه الخبرة الطلابية وهذا المستوى الدراسي الأعلى يحققان نفعا مؤكدا للعمل داخل الاتحادات الطلابية.

(ب) إلغاء الاتحادات بالكليات والمعاهد التي تشملها الجامعة الواحدة وحل حلها جهاز إداري على مستوى الجامعة، أطلق عليه اسم "مجلس تنسيق الأنشطة الطلابية" وهو ما يؤدي إلى فقدان الجامعة الواحدة، مما يتعارض مع التسمية المتعارف عليها للجامعة بوصفها تجمع بين أصحاب الدراسات العلمية المتنوعة، في إطار واحد.

(ت) اختفاء الاتحاد العام لطلاب الجمهورية كقمة للحركة الطلابية في مصر والممثل الشرعي لطلابها في تنظيم الأنشطة المختلفة بين اتحادات الجامعات أو الاتصال بالمنظمات الطلابية المناظرة في الأخرى، وهو ما يضر بسمعة مصر أمام سائر دول العالم ذات الاتحادات والتنظيمات الطلابية.

(ث) إلغاء اتحاد الدارسين أبناء مصر خارج الوطن، وهو التنظيم الذي كان موجودا في ظل اللائحة الطلابية الملغاة، الأمر الذي يفقد الطلاب المصريون في خارج البلاد الصلة التي تجمعهم، مما يسهل التأثير على بعضهم واستقطابهم في تجمعات أخرى.

(4) كما نص القرار الجمهوري رقم 265 لسنة 1979 على تشكيل مجالس اتحادات الطلاب ذات المستوى الوحيد المسموح به داخل الكلية أو المعهد من العميد أو من ينيبه من أعضاء هيئة التدريس رائدا يرأس مجلس الاتحاد، ومن أحد عشر عضوا بنفس الصلاحيات في الحضور والتصويت ...

خمسة من أعضاء هيئة التدريس هم رواد اللجان الخمس المشار إليه (اللجان هي:الثقافية الفنية، لجنة الأسر، اللجنة الرياضية، لجنة الجوالة، اللجنة الاجتماعية والرحلات)، ورئيس جهاز رعاية الشباب بالكلية أو المعهد، كأمين لصندوق الاتحاد ... وهو ما يجعل عدد الطلاب في مجلس الاتحاد خمسة من اثني عشر، مما يفقد الاتحادات صفتها الطلابية.

(5) وقيد التنظيم الجديد نشاط الاتحادات الطلابية ذات المستوى الواحد، المنفصلة عن غيرها من الاتحادات على الوجه التالي:

(أ) حرمت هذه الاتحادات من أداء الخدمات الطلابية كطبع المذكرات الدراسية، ومنح الإعانات الاجتماعية، وعهد بها إلى صناديق التكافل الاجتماعي لطلاب الجامعات، المشكلة تشكيلا غير طلابي، في حين أن الاتحادات الطلابية قامت بنشاط واسع غير منكور النفع في مجال الخدمات الطلابية، وفي مقدمته طباعة الكتب العلمية وتوصيلها إلى الطلاب بثمن زهيد، مساهمة في حل مشكلة الكتاب الجامعي، ومشروع الزي المخفض للطالبات، ومشروع أتوبيسات الطالبات ومعسكرات العمل داخل الجامعة، ورحلات الحج والعمرة ومشروع الكتاب الإسلامي وندوات ومحاضرات عامة وإسلامية.

(ب) استبعد حل المشاكل الطلابية من اختصاص الاتحادات وعهد به إلى رواد مجاميع الطلاب داخل كل كلية ومعهد، وهم من أعضاء هيئة التدريس فيها ... ولا يوجد ما يمنع "بطبيعة الحال" من أن يتولى أعضاء هيئة التدريس الجامعية، معاونة الطلاب لحل مشاكلهم، بل هو ما يقتضيه دورهم كأساتذة وآباء، ولكن لا يقبل أن يؤدي ذلك إلى حرمان اتحادات الطلاب من الإسهام في حل مشاكل أعضائها من الطلاب.

(ت) حظر على اتحادات الطلاب أن يكون لها (نشاط فئوي أو سياسي أو عقائدي) وهو حظر غير مفهوم من ناحيتين.

فهل يتصور ألا يناقش طلاب الكلية أو المعهد، المستقبل المهني أو الفني أو العلمي لما يتخصصون فيه باعتباره نشاطا فئويا.وهل يعقل أن تمنع اتحادات الطلاب من ممارسة الأنشطة العقائدية بصفة عامة، بمعنى ألا تناقش في ندوات أو محاضرات الشئون الدينية، في الوقت الذي يطالب فيه بعض المسئولين بتدريس الدين في الجامعات؟

(6) إن إلغاء الاتحادات الطلابية المنتخبة شرعا، وفقا للقواعد المقررة من القاعدة الطلابية في أنحاء الجمهورية بقرار رئيس الجمهورية رقم 265 لسنة 1979 وليس بقانون كما نص عليه الدستور وإقامة تنظيم جديد لهذه الاتحادات يفتقر إلى الأسس القومية التي يتطلبها الدستور تقتضي منا بحكم الأمانة التي وضعتها القاعدة الطلابية على أكتافنا يوم أن منحتنا ثقتها لتمثيلهم ورعاية مصالحهم أن نتقدم إلى المجلس الأعلى للجامعات؛

وإلى مجالس الجامعات وإلى أعضاء هيئات التدريس فيها، بعرض وجهة نظرنا في القرار الجمهوري المذكور، طالبين المعاونة الجادة في إعادة النظر فيما تتضمنه من قضاء على الحركة الطلابية وإضعاف لفاعلية اتحادات الطلبة وإفقادها لصفتها التمثيلية مما يتعارض مع التصريحات بتعميق الجامعية، لتجعلها مسئولة مسئولية تاريخية عن تحقيق هذا الطلب ...

وإن ثقتنا في أستاذتنا تجعلنا نؤمن بأنهم لن يترددوا لحظة في الوقوف موقف المدافع عن الكيان الطلابي الديمقراطي داخل الجامعات، حفاظا على التقاليد، وصونا للقاعدة الطلابية من الالتجاء إلى العمل السري ... الأمر الذي يضر بهم، ولا يتفق مع الصالح العام ..

ونرجو لكل ذلك التفضل بعرض هذه المذكرة على المجلس الأعلى للجامعات، حيث إن القرار الجمهوري رقم 265 لسنة 1979 المعترض عليه صدر دون الاستماع إلى وجهة نظر الطلاب، لمخالفته للدستور، ولتعارضه مع الديمقراطية، ولانعكاسها الضار بالكيان الطلابي داخل الجامعات ...

وفقكم الله إلى ما فيه الخير للجامعات والصلاح لطلاب العلم ... المكتب التنفيذي لاتحاد طلاب مصر

وقد استطاع الاتحاد العام لطلاب الجمهورية أن ينظم العديد من المؤتمرات داخل الحرم الجامعي في مختلف الجامعات للتنديد باللائحة الجديدة، ومطالبة المسئولين علنا وفي برقيات مكتوبة بإلغائها والعودة إلى اللائحة القديمة، وكان موضوع اللائحة الطلابية هو جزء أساسي من كل مؤتمر أو ندوة طلابية، تتناول أي موضوع آخر؛

ولم تفلح كل تلك الجهود في أثناء القيادات السياسية والجامعية عن موقفهم المؤيد للائحة الجديدة، اللهم إلا في عام 1984، حيث حدثت بعض التعديلات الطفيفة، التي لا تغير من جوهر اللائحة شيئا ... وما زالت الحركة الطلابية في مصر تبذل جهودها من أجل المطالبة بإعداد لائحة طلابية حرة، ترضي الطلاب وتخرج من الجامعة.

مؤتمر الأزهر:

وكان المؤتمر الذي عقده اتحاد طلاب الجمهورية في جامعة الأزهر الشريف، وحضره أكثر من عشرة آلاف طالب وطالبة واحدا من المؤتمرات الهامة التي تناولت قضية اللائحة وقضايا أخرى وأعلنت فيها الجماعة الإسلامية، باعتبارها ممثلة لجموع الطلاب، رأيها في أكثر من قضية بوضوح، وأصدرت بيانا تحت عنوان "حقائق ... ومواقف" جاء فيه:

وسط هذه الظروف الحرجة التي تجتازها أمتنا وتمر بها الحركة الطلابية كان لا بد لنا من وقفة نحدد فيها معالم الطريق، ونضع النقاط على الحروف، ونذكر بحقائق يجب ألا تغيب عن الأذهان، ونعلن رأينا واضحا صريحا باسم جموع الطلاب الواعية:

أولا: إن الطريق الذي ارتضاه طلاب مصر هو الإسلام بشموله وكماله، نظرية سلوكا ... سياسة وحكما ... منهجا وطريقا، بل إنه الطريق الذي نرتضيه لأمتنا، ونرفض التقاط الفتات من فوق موائد الغرب تارة أو موائد الشرق تارة أخرى! ... بل ونرفض زيف الشعارات مهما كان بريقها، وخبث الكلمات مهما كان رنينها.

ثانيا: اتحاد طلاب مصر، وهو القناة الشرعية الممثلة لجموع الطلاب، يرفض الوصاية بكافة أشكالها، ويرفض الوصاة في كافة صورهم، سواء كانوا رواد لاتحادات الطلاب من داخل الجامعات أو من خارجها، بل نقول: "ارفعوا أيديكم عن طلاب مصر".

ثالثا: إننا نرفض رفضا قاطعا ما يجري الآن من تخطيط وتدبير من أجل تقييد الحركة الطلابية والحركة الإسلامية، أو التضييق عليهما سواء في صورة الحرس الجامعي أو "البوليس الجامعي" بل نعتبر ذلك ردة إلى عهود الكبت والإرهاب والظلم والطغيان، في الوقت الذي ترفع فيه شعارات الحرية والديمقراطية.

رابعا: إن اتحاد طلاب مصر لن يسمح بتشويه صورة الحركة الطلابية الإسلامية في جامعات مصر، والممثلة في الجماعات الإسلامية والتي أثبتت بحق نقاءها وإخلاصها ووعيها ووطنيتها، وهذا ما شهد به المسئولون في كافة مواقعهم.

خامسا: إن اتحاد طلاب مصر يرفض رفضا قاطعا التشكيك والاتهامات التي تكال جزافا لطلاب مصر، فطلاب مصر ليسوا "قصر" أو "لا ولاية لهم" أو "دون المسئولية" أو "لا وعي لهم" كما يتردد ويقال... هل كان لهم الولاية، وعلى مستوى المسئولية، يوم أن كانت ترفع الشعارات الزائفة، الفارغة المضمون؟! وهل أضحى الطلاب قصرا ولا ولاية لهم يوم أن رفضوا الزيف، واكتشفوا الحقيقة، وارتضوا الإسلام طريقا؟!

سادسا: إنه قد آن الأوان لتعرف جماهير الطلاب الواعي تاريخ الحركة الإسلامية في مصر قبل الثورة، والممثلة في الإخوان المسلمين، ودورهم الوطني الضخم والصادق والمخلص لا ينكره إلا حاقد أو جاهل أو جامد ... بل نقول إن ما قدمته الحركة الإسلامية من آلاف الشهداء على أرض فلسطين وضفاف القناة وصور البطولة النادرة، كانت سببا للتآمر الصهيوني الصليبي الشيوعي لضرب الإخوان المسلمين، والذي بات معلوما كل شباب مصر، فلننتبه قبل أن تمسح الحقائق ويزيف التاريخ مرة أخرى.

سابعا: إننا باسم طلاب مصر نستنكر أي أسلوب قد يمارس من أجل استعداء أساتذة الجامعات على أبنائهم الطلاب وطليعتهم الإسلامية، وإننا لنؤكد أن العلاقة بين الطلاب وأساتذة الجامعة هي علاقة الأبناء بآبائهم، ونحن ومعنا آباؤنا الأساتذة نربأ أن تتحول هذه العلاقة الشريفة الطاهرة إلى نوع من الوصاية أو الإرهاب أو الشك والريبة.

ثامنا: إننا نعلن أن هنالك حملة عالمية محمومة على الحركة الإسلامية في العالم أجمع، تمثلت في مئات المقالات والبرامج في الصحافة والإذاعات العالمية، وكلها تهدف إلى تصدير الشك والقلاقل واستعداء الحكام على الشعوب المسلمة في المنطقة بأسرها، وأن مصطلحات "التطرف الديني، والتستر وراء الدين" وغيرها قد صنعت في صحافة وإذاعات الغرب والمشرق، وبدأ تصديرها إلى صحافتنا، فلننتبه جميعا، ولتنتبه صحافتنا لهذا المخطط الآثم، الذي يريدها فتنة لا تخمد، ونارا لا تنطفئ.

تاسعا: إن موقف طلاب مصر من "حادثة التكفير والهجرة" كان واضحا غاية الوضوح، فك الشباب المسلم بجامعات مصر أعلن استنكاره لتلك الفعلة الشنعاء ... ولكن كما قال الإمام الراحل الشيخ عبد الحليم محمود: "إن صحت هذه الحادثة، فنحن لا نخطئ الفكر ونجرمه .. والفكر لا يرد عليه إلا بالفكر".

عاشرا: إننا من خلال بياننا هذا، ومن خلال مواقفنا الواضحة هذه، يحدونا أمل في أن تفهم وجهات نظرنا على وجهها الصحيح، ومن خلال اللقاءات المباشرة بممثلي الطلاب وكلنا بقلوب ملؤها الإيمان، وعقول ملؤها الحكمة نتوجه إلى رئيس الجمهورية بطلب لقاء قريب، حتى تتضح الصورة وتفهم المواقف على حقيقتها".

انتهى البيان ونلاحظ أن "اللهجة" قد تغيرت، بعد أن أدركت الجماعات الإسلامية أن المسئولين لم يحركوا ساكنا، وأنه لم يصدر منهم أي رد فعل إيجابي، للتفاهم حول مطالب الطلاب وقضاياهم.ونلاحظ أيضا إعلان الجماعة الإسلامية عن موقفها من حركة الإخوان المسلمين، وأنها تكن لها كل احترام.

وملاحظة ثالثة هامة وهي حرص الجماعة الإسلامية على توضيح موقفها من "حادثة التكفير والهجرة" والتي راح ضحيتها فضيلة الدكتور محمد حسين الذهبي وزير الأوقاف الأسبق، وإدانتها للحادث في حالة ثبوت قيام عناصر التكفير به ...

والجدير بالإشارة أيضا أن الجماعات الإسلامية في مختلف الجامعات، قد أدركت خطورة المفاهيم والأفكار التي ينادي بها شكري أحمد مصطفى أمير جماعة المسلمين "جماعة التكفير والهجرة"، فوقفت بكل قوتها في وجه انتشار هذه الأفكار، واستعانت في ذلك بالكتب والعلماء لدرء هذا الخطر.

ملاحظة أخيرة على البيان الذي صدر عقب مؤتمر الأزهر الشريف، أن الذي أصدره هو الاتحاد العام لطلاب مصر الذي ألغته لائحة 1979، فقد ظل الاتحاد يحاول جاهدا أن يثبت وجوده، أملا في إعادة الشرعية القانونية له ... دون جدوى

وقد استغرقت هذه الفترة حوالي 18 شهرا كانت نتائجها كما يلي:

أولا: أضحت الجامعة إسلامية من ناحية الشكل العام والتيارات الفكرية، فمن ناحية الشكل العام أصبحت الفتاة المحجبة هي الظاهرة التي لا يخلو منها مدرج أو معمل أو ممر ولم يكن ذلك شكلا ظاهريا فقط ولكن أكده وجود المضمون الإسلامي لدى الغالبية من الطالبات، وكان ذلك واضحا كذلك في الأعداد الضخمة من الطلاب التي أعلنت انتماءها للجماعات الإسلامية بالشكل والمضمون، أما من ناحية التيارات الفكرية فلم يعد هناك صوت مسموع للناصرية أو الشيوعية أو الاتجاهات الحزبية الأخرى وتحول أفرادها القليلون إلى حالة من الكمون بعد أن انصرف جمهور الطلاب من حولهم دونما أي تعرض من الإسلاميين لهم بسوء أو أذى.

ثانيا: استطاع اتحاد الطلاب أن يمد يده إلى طلاب المدارس الثانوية الذين رغبوا في أن تكون لهم جماعات إسلامية في مدارسهم إعجابا بمن هم الأكبر سنا ودراسة وقد تكونت لهم جماعات إسلامية بالفعل في أكثر من مدرسة ثانوية، كما امتد نشاط طلاب الجماعات الإسلامية إلى أحيائهم السكنية ووجدت مساجد نشطة ها صوت مسموع يعبر عن فهم في الإسلام يشبه فهم الجماعات الإسلامية ويمارس العمل بنفس الطريقة التي تدعو بها الجماعات الإسلامية في الجامعة.

ثالثا: تمكن الطلاب من المساهمة الفعلية في إحياء بعض السنن الإسلامية التي أميتت في وعلى رأسها الأفراح الإسلامية وإعلانها في المساجد (الوليمة) الاجتماعات الإسلامية للتهنئة بالمواليد (العقيقة)، وكان أهم هذه المظاهر إحياء سنة صلاة العيدين خارج المساجد وحشد المسلمين في مظاهرة إسلامية رائعة ... وقد بلغ عدد المصلين في آخر صلاة عيد قبل اعتقالات سبتمبر 1981 حوالي 200 ألف مصل في ميدان عابدين بالقاهرة وكانت هناك بالقاهرة تجمعات للصلاة في أحياء أخرى، كذلك حذت كل المحافظات حذو القاهرة، أما الإسكندرية فكان اجتماعها الرئيسي في الاستاد الرياضي وهكذا خرجت الجموع الإسلامية من الأحياء متوجهة لمكان الصلاة هاتفة "الله أكبر ... الله أكبر" وأصبح الناس يعيشون طوال العام انتظارا ليوم صلاة العيد وما فيه من شهود الخير وعزة الإسلام.

رابعا: الشعور لدى المسئولين بالحكومة أن الدعوة التي تقوم بها الجماعات الإسلامية دخلت في طور التأثير على طوائف الشعب المختلفة، ذلك لأن الطالب الجامعي ليس مقيدا بكلية ولكنه يتحدث إلى أهله وإلى أصدقائه في الحي الذي يعيش فيه مما أسمع المجتمع بما يدعو إليه الجماعة الإسلامية ... استقر لدى الجهات الحكومية أن سياسة الحرية والديمقراطية المعلنة لن تجدي ... فتقرر إلغاء الاتحادات الطلابية ومصادرة حريات الطلاب الانتخابية.

خامسا: فهم جمهور الطلاب أن حكومتهم ليست جادة في تنشيط الدعوة الإسلامية وأن المسألة عند الحكومة لا تعدو أن تكون مجرد إحداث توازنات فكرية في المجتمع، فتنشيط الدعوة الإسلامية ليس رغبة في الإسلام ولكن لموازنة الحركة التبشيرية المسيحية وكذلك الإلحادية الشيوعية، وتأكد ذلك بالمواقف من الثورة الإيرانية واستضافة الشاه بمصر والعلاقات المصرية الأمريكية واتفاقية كامب ديفيد المرفوضة شعبيا.

سادسا: صعدت الحكومة حملتها ضد الطلبة المتدينين إلى درجة عالية فلم يكن يمر أسبوع بغير تحرش بهم والقبض عليهم ومحاكمتهم لأتفه الأسباب وكثيرا ما كانت الأسباب تفتعل، كذلك أصبحت مجالس التأديب للطلبة المتدينين ظاهرة يومية وكانت نتائجها مقررة قبل عقدها وهي الفصل عاما كاملا للطالب وحرمانه من الامتحانات أو الفصل من الجامعة أو الكلية، لمجرد أن يكتب كلمة على السبورة أو يعلق مجلة أو يهتف هتافا يعبر عن رأيه.

سابعا: كان لهذا التضييق الحكومي ومعاملة الطلبة كخصم لهم وليس كمسئول عنهم بالإضافة إلى نجاح الثورة الإيرانية على يد أبنائها العزل أكبر الدوافع لظهور الاجتهادات الجديدة للعمل الطلابي في الجامعة والتصدي بالقوة والقيام بالأنشطة الطلابية رغم أنف اللوائح الجديدة المقيدة لهذه الأنشطة وكذلك التصدي بالقوة والقيام بالأنشطة الطلابية رغم أنف اللوائح الجديدة المقيدة لهذه الأنشطة وكذلك التصدي لأفراد الإدارة الذين بدأوا في محاولة لإعادة الجامعة إلى شكلها القديم؛

وذلك بإعادة النشاطات المتعارضة مع فهم الطلبة الإسلاميين كالغناء الغربي وفرق الموسيقى الأجنبية ومعارض التماثيل واللوحات والصور الفاضحة وتحدي الشعور الإسلامي بمظاهر الخلاعة والمجون بين الفتيات والفتيان مع التهكم من الحجاب، وكان واضحا أن فخا حكوميا ينصب للحركة الإسلامية بالجامعات لإدخالها إلى حلبة العنف الذي لم تكن لديها أية مقدمات لخوضه.

وضاعت أصوات المحذرين وسط التحدي الحكومي لعواطف الشباب فوقعت عدة أحداث عنيفة في أكثر من جامعة كانت مقدمة طبيعية لتضرب الحكومة ضربتها الأمنية ومعها ورقة تقدمها للشعب كمبرر لهذه الضربة، ونذكر من هذه الأحداث على سبيل المثال وليس على سبيل الحصر:

ففي أسيوط:

قررت الجامعة بإيعاز من الجهات الأمنية أن تزيد من الاستحكامات الداخلية والمتاريس داخل الجامعة، فبدلا من أن يكون للجامعة سور واحد أقامت الجامعة عدة أسوار داخلية فحصرت كل مبنى من مباني الجامعة في سور خاص، وكان الغرض من ذلك أن تكون الجامعة عبارة عن شوارع محيطة بالكليات فلا يعد ما يسمى بالحرم الجامعي وهذا يسهل لقوات الأمن الدخول إلى أعماق الجامعة دون اعتراض عليها، كما أن التعامل مع مجموعات صغيرة من الطلاب أسهل من التعامل مع الجماعة ككل؛

وفهم الطلاب أن هذه استعدادات لضربهم وتصفيتهم بالقوة فانقسموا فريقين:

الفريق الأول: رأى أنه من الحكمة الانسحاب من هذا الموقف ... فليست ظروف الطلاب مواتية لدخول هذه المعركة.

والفريق الثاني: استشعر في نفسه القوة والاستعداد لمواجهة الحكومة بالقوة وكانت حجته في ذلك أن التهاون مع الحكومة في هذا الأمر سيدفعها إلى الاستهتار بالشباب المسلم والتنكيل به.

وبالفعل قامت المجموعة الثانية بهدم بعض هذه الأسوار الداخلية وشرعت في هدم الباقي، وهنا تدخلت قوات الأمن التي كانت في حصار دائم للجامعات، وانهالت القوات بأعداد كبيرة، وكانت معركة دامية بين الطلبة وسلاحهم الحجارة والقيادات الحكومية وسلاحهم العصي والرصاص والقنابل المسيلة للدموع، وبالطبع فالنتيجة حتما كانت خسارة كبيرة من الجانبين واحتجاز عدد من الطلبة كأسرى وتقديمهم للمحاكمة فيما عرف "بقضية السور".

وفي المنيا:

كان ضبط النفس من الطلبة رائعا، فقد مضت سنة كاملة وقوات الأمن تحاصر الجامعة من كل مكان وكانت العربات العسكرية المكتظة بالجنود تجوب شوارع المدينة باستمرار، والدخول إلى الجامعة بإبراز تحقيق الشخصية وكذلك الدخول للكليات بالكرنيهات، مع انتشار المخبرين بأعداد كبيرة بين الطلاب ولم يكن عمل هؤلاء مجرد جمع المعلومات، ولكن عددهم الكبير كان يشير إلى احتمال استخدامهم كقوة ضاربة في حالة تأخر القوات الحكومية.

وأصبحت الجامعة مثل جامعة أسيوط كأنها وحدة عسكرية، الأمر فيها والنهي ليس للأساتذة والطلاب ولكن الأساتذة والطلاب جميعا عليهم إطاعة الأوامر العسكرية الصادرة من جهات خارج الجامعة تماما، وفي ظل هذه الظروف كانت التوقعات تشير إلى حتمية وقوع معركة بين الطلبة والقوات الحكومية؛

ولكن ذلك لم يحدث نظرا لعدم وجود سبب لذلك، فقد ظلت الجامعة تحترم القيم الدينية التي تعلمتها في السنوات السابقة وظل الأساتذة والطلاب كذلك حراسا أوفياء للمكاسب الإسلامية التي حققتها الجماعة الإسلامية.

ويبدو أن الأوامر كانت تحتم وقوع معركة بين القوات الحكومية والطلاب وكان لا بد من اختلاق سبب لذلك، وكان السبب إعلان مكتوب يدعو فيه أحد المدرسين بالجامعة إلى حفلة غنائية تعقد في المدرج الكبير بالجامعة، وتحرك الطلبة على الفور لمحاولة منع الحفلة المختلطة بين الطلبة والطالبات كالعادة، وأصر المدرس على ذلك؛

وفي وقت الحفلة سبق طلبة الجماعة الإسلامية إلى المدرج وجلسوا فيه وشرعوا يقرأون القرآن فتدخلت القوات الحكومية لتلقنهم الدرس المطلوب ولم يكن الضرب هذه المرة بالعصي ولكنه كان بأسياخ الحديد مما نجم عنه تهشم عدد من الجماجم ونقل عدد كبير من الطلبة إلى المستشفيات ولما سالت دماء الطلبة غزيرة اندمج بقية الطلاب الذي عز عليهم رؤية إخوانهم في هذه الحالة، فانهالت جموع الطلبة من المدينة الجامعية وكانت معركة رهيبة استخدم فيها الطلبة كل ما يملكون حتى هزموا القوات الحكومية هزيمة منكرة وطاردوهم في المزارع المحيطة بالجامعة حتى ساعة متأخرة من الليل ...

ولم تستطع قيادة القوات الحكومية أن تجمع أفرادها فعادوا متسللين فرادى إلى معسكرهم المجاور للجامعة، وعاد الطلبة إلى الجامعة ليسيطروا عليها ليلة كاملة في جو من الفوضى والذهول ... والغموض في نفس الوقت.

انتهت هذه المعركة بما عرف بقضية "الحفلة" والنتيجة عدد من الجرحى وعدد من الطلبة المفصولين من الجامعة وعدد من الممنوعين من دخول الامتحان لمدة سنة وآخرين لمدة سنتين.

وفي القاهرة:

كانت أحداث المسجد الشهيرة فقد خصص الطلبة حجرتين كبيرتين كمسجد للطالبات وإلى جواره حجرة ثالثة كمكتب ومكان خاص بتفصيل الزي الإسلامي وكانت هذه الحجرات فيما سبق مخصصة لاتحاد الطلبة وبوصفهم مسئولين شرعا بالانتخاب الحر عن الاتحاد فقط قاموا بهذا العمل قاصدين التصرف فيما يملكون؛

وعندما قررت الحكومة إزالة نشاط الجماعة الإسلامية من الجامعة أرسلت من يطلب إزالة المسجد والمكتبة ومقر الزي الإسلامي، ولم يقبل الطلبة ذلك وتجمهروا في المكان تلقائيا بغير توجيه، وعلى الفور تدفقت القوات الحكومية على المكان وكانت مستعدة في مكان قريب وحاصرت وشرعت في الاشتباك مع الطلبة المتجمهرين؛

ولكن الطلبة قرروا الانسحاب وعلى الفور تقدم الجنود الحكوميون نحو المسجد والمكتبة ومقر تفصيل الزي الإسلامي وفعلوا بالمكان الأفاعيل وكأنهم يأخذون بثأر قديم بينهم وبين المسجد.وحدثت أحداث قريبة من ذلك في جامعة الإسكندرية والمنوفية لسبب أو لآخر.

الحرب بالتفريق (عام 1980):

ارتكزت جهود النظام الحاكم في هذه المرحلة على ضرب الجماعة الإسلامية باتجاه إسلامي آخر ترى أنه أقل تأثيرا في مجتمعه ... إنها سياسة تنشيط الاجتهادات الشاذة في الإسلام وذلك لهدفين:

الأول: تفريق الشباب حول رايات عدة فيمكن تصفيتهم على مراحل بحيث يضرب كل تجمع على حدة دون إعانة من الآخر.

الثاني: إظهار الحركة الإسلامية بالجامعة على أنها مجموعات متناحرة وأن الأمن يتدخل ليس لوقف الحركة الإسلامية وإنما لفك الاشتباك بين هذه الجماعات.

فكانت المجموعة التي تحمل شعارات الاستخفاف بالتعليم المدني كعلوم الزراعة والتجارة والطب والهندسة والصيدلة والعلوم وكان شعارها حول هذه المسألة "علم لا ينفع وتركه لا يضر" وقد استطاعت هذه المجموعة أن تقنع عددا من الطلبة بترك الجامعات والعمل كبائعين متجولين يبيعون الترمس والهريسة وعسل النحل على أرصفة المدينة ... وقاد هؤلاء نفر من حي شبرا أشهرهم عبد الله بن عمر وأسامة القوصي من طب عين شمس، ومعظم الذين سافروا السعودية وبقوا هناك حتى حادثة احتلال الحرم المكي 1979.

وكانت المجموعة التي فهمت الإسلام على أنه عودة لواقع الجزيرة العربية في زمن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ولم تفرق بين ما كونه سنة واجبة الاتباع وبين ما هو عادة من عادات العرب فكانت المعارك الجدلية واليدوية حول "الجلباب والعصا" وضرورة دخول الجامعة بالجلباب والعصا والجلوس على الأرض والأكل عليها والاكتحال والتخضب بالحناء ... إلخ، كما نادت هذه المجموعة بحرمة قراءة الكتب الإسلامية التي ألفها دعاة معاصرون، وقادها وسيطر عليها جماعة التبليغ والدعوة ولكن بعد وفاة المرحوم الشيخ إبراهيم عزت.

وكانت المجموعة التي استشعرت بقدوم ضربة حكومية فأرادت أن تجعل لنفسها اسما جديدا فسمعنا بما يسمى "شباب الأزهر" وكان شعارها (الله أكبر وليرتفع صوت الأزهر) وترأسهم الشيخ أسامة عبد العظيم والدكتور عبد الله سعد بطب الأزهر.

وسمعنا عن الذين رفعوا شعار "الجماعة الإسلامية نحو فهم سلفي جديد" وكانت حجة هذه المجموعات الأخيرة أن الجماعة الإسلامية تسير متتبعة أثر الإخوان المسلمين، ولا بد أن يحدث لهم ما حدث للإخوان المسلمين من فرقة وتمزق إلى تنظيم علني وآخر سري وخلافات وصراعات واتهموا الإخوان بأنها جماعة تركت الجهاد وهادنت الحكومة، وترأس هؤلاء معظم قادة الجماعة الإسلامية بالصعيد وعلى رأسهم من الشباب كرم زهدي وأسامة حافظ من المنيا وناجح إبراهيم من أسيوط.

وحظيت معظم هذه الاتجاهات بتسهيلات إدارية غير مباشرة فعقدت لبعضها معسكرات بينما ألغيت معسكرات الجماعة الإسلامية تماما وقامت جامعات أخرى بتلبية رغبات مجموعة أخرى حتى سمنت وتضخمت واستشعرت أنها قوة، ومجموعة ثالثة سهلت لها الاجتماعات بالمساجد بينما حرم الآخرون.

وبالرغم من قلة عدد المنساقين وراء هذه التيارات إلا أنه شغلت الجماعة الإسلامية مدة عام كامل لإصلاح هذا العطب.وقبل أن تنتهي الجماعة الإسلامية من لم شملها وإصلاح ما فسد من ابنتها كان توقيت الضربة قد حان.

ثامنا: من المساجد إلى المعتقلات:

بدأ عام 1981 وما تزال الجماعة الإسلامية قوية فتية، وبالرغم من تصاعد المشاكل الداخلية إلا أن الجماعة الإسلامية كانت ماضية في عملها بانتظام، فالمؤتمرات كانت تعقد لمناقشة قضايا الأمة الداخلية والخارجية وكانت النشرات تصدر باستمرار تعبر عن حكم الإسلام في كل ما يدور من أحداث، وكانت توقع بالخط الواضح أسفل النشرة "الدكتورة حلمي الجزار الأمير العام للجماعات الإسلامية".

وفي عيد الفطر السابق على مقتل الرئيس السادات كانت صلاة العيد تضم 200 ألف مصل جاءوا تلبية لدعوة الجماعة الإسلامية للصلاة في ميدان عابدين بالقاهرة، ومثل هذا حدث في جميع المحافظات التي بها جامعات تقريبا، وكانت هذه مؤشرات صادقة تدل بوضوح على ثقة المواطنين في أبنائهم الذين يعملون تحت لواء الجماعة الإسلامية بقيادة الدكتور حلمي الجزار.

ومن ناحية أخرى فقد واكبت هذه الفترة الإعلان عن ميلاد أول اتحاد للجمعيات الخيرية الإسلامية مع جماعة الإخوان المسلمين وسمي هذا الاتحاد باسم "مؤتمر الدعوة الإسلامية الدائم".

وضم هذا الاتحاد جمعيات الخلفاء الراشدين ويمثلها الشيخ سليمان ربيع، وأبي بكر الصديق ويمثلها اللواء راشد، وشباب محمد، والهداية الإسلامية ويمثلها الشيخ حافظ سلامة، ونخبة من علماء الأزهر الشريف ويمثلها الشيخ محمد المطراوي إلى جانب ممثلين عن جماعة الإخوان المسلمين (أ. عمر التلمساني، د. أحمد الملط، أ. جابر رزق، أ. عبد المتعال الجبري، أ. محمد عبد المنعم (الإسكندرية)، أ. محمد المسماري (محامي).

وزيادة في إيضاح وجهة هذا الاجتماع فقد اختير الأستاذ عمر التلمساني المرشد العام للإخوان المسلمين، مسئولا عاما عن هذا المؤتمر.

كما أن بعض النقابات العامة كانت محسوسة النبض الإسلامي خاصة نقابة المحامين التي كانت تعلن رفضها الدائم للمعوقات المفروضة على الحركة الإسلامية ولمع في هذه المرحلة المرحوم محمد المسماري المحامي والمرحوم عبد الله سليم من العمار دقهلية والدكتور عبد الله رشوان، وكانوا جميعا متحلقين حول كبير المحامين الإسلاميين الأستاذ عمر التلمساني.

أما الطرف الآخر الذي تمثله الحكومة وحزبها "الحزب الوطني الاشتراكي" فكانت حالته كما يلي:

في الخارج كان السلام مع إسرائيل قد استقرت قواعده وأصبحت العلاقات في مرحلة ما بعد السياسة، ودخلت في مرحلة التبادل التجاري والثقافي والفني واقتربت من مرحلة التبادل "الكروي" أو الرياضي.

وكان التزاوج الحكومي مع الأمريكان يصل إلى درجة الاتحاد الفدرالي أو قبل ذلك بقليل، فالأمريكان لهم في مصر ثلاث قواعد عسكرية تحت اسم "تسهيلات عسكرية"، وكل كبيرة أو صغيرة لا تمضي حتى يعلن الرئيس المصري بغير أدنى حرج أنه في مشاورات مكثفة مع الرئيس الأمريكي، أما العلاقات العربية فكانت مقطوعة تماما إلا مع النميري وقابوس.

وفي الداخل شهدت البلاد ومعها العالم أجمع أغرب عرض عسكري لقوات الشرطة، فعرضت أسلحة ثقيلة ومصفحات وأنواع أخرى لا عهد للناس بها من أسلحة المطاردة ومقاومة التظاهر وتعقب الهاربين، وقد أقر ك من رأي هذه القوات أن الأمة مقدمة على حرب أهلية بين الناس والحكومة وتلك بشائرها.

ومن الغرائب أن طلبة الشرطة الذين حضروا الاحتفال المسائي اشتركوا لأول مرة في الغناء بفرقة موسيقية بما لا تعهده الأمة في العسكريين من قبل، وليس ذلك فقط بل تعمد المغني أن يقدم أغنية خليطا بين اللغة العربية والإنجليزية (فرانكو أراب) على موسيقى الجاز الأمريكي، كان ذلك مؤشرا واضحا لطبيعة الثقافة والتطلعات في جانب الحزب الوطني وحكومته وأجهزته العسكرية "راجع شريط الفيديو للحفلة لدى التليفزيون المصري".

واستكمالا لهذه الاستعدادات فقد كانت الحكومة قبل ذلك بعام قد شرعت في بناء سجن (الاستقبال الدامي) بمنطقة طرة حيث كان ذلك مؤشرا واضحا أيضا أن النية مبيتة لاستخدام سياسة المعتقلات كما اتضح بعد ذلك، ويسع هذا السجن ألفين من المعتقلين في المتوسط، يمكن أن تزاد عند الضرورة إلى أربعة آلاف.

ومما اتضح أيضا أن كشوفا قوامها ألفين من القيادات الوطنية المعارضة للسادات ومعها سبعة آلاف من الجماعات الإسلامية كانت قد أعدت لاعتقالها كدفعة أولى كما صرح بذلك الرئيس السادات في خطابه الذي أعقب عملية الاعتقال الأولى.

وكانت المشكلة العويصة أمام السادات وحزبه هو الاسم الذي تسمى به العملية، وعقد اجتماعا كبيرا باستراحة الرئيس بالإسكندرية كما قررت جريدة الحزب بعد مقتل الرئيس حضرته قيادات الحزب الوطني والقيادات الأمنية عامة والمباحثية ومستشاري الرئيس لشئون الأمن القومي ... إلخ.

وكان موضوع الاجتماع "الصياغة السياسية للضربة الأمنية القادمة والاسم الذي يطلق على هذه العملية".وعرضت أسماء كثيرة فاز من بينهم اسم "الفتنة الطائفية" وتقرر أن تكون القضية القادمة تحت اسم "قضية الفتنة الطائفية".

"والفتنة الطائفية" مصطلح سياسي مخترع منذ عهد الاحتلال الغربي ويقصد به تخويف المسلمين من التعرض للعقائد المسيحية واليهودية بالنقد.ولكنه استخدم هذه المرة استخداما سياسيا جديدا حيث اعتبر من يعترض على سياسة الحكومات وتصرفات الحاكم حتى في المسائل العائلية أو الشخصية متهما بإثارة الفتنة الطائفية.

وتحت هذا التجريم الجديد صدرت قرارات 5 سبتمبر وبموجبها دخلت قيادات مصر كلها المعتقل ممثلة في كل ما لا ينتمي إلى حزب الحاكم.فالإسلاميون شيوخا وشبابا ومعهم عينة من السياسيين على اختلاف اتجاهاتهم وعدد من الصحفيين والإعلاميين وعدد من المسيحيين سيقوا إلى المعتقلات على ذمة الفتنة الطائفية، وعاد زوار الفجر بعد انقطاع دام عشر سنين وأعلنت حالة الاستعداد القصوى في أجهزة الاعتقال والقمع ودهموا البيوت في أوقات نومها واستيقظ الأطفال على صراخ الأمهات اللاتي فقدن أزواجهن إلى مكان وزمان لا يعلمها إلا الله.

وبين عشية وضحاها كانت الجماعات الإسلامية مودعة في السجون ممثلة في قياداتها وعدد كبير من أفرادها والقسم الباقي بين هارب وخائف أو هارب يتحين الفرصة للانتقام.

وكانت خطابات الرئيس السادات التي أعقبت عملية الاعتقال والقبض من أكبر العوامل التي ساعدت على تأجج ثورة الانتقام من شخصه ومن نظامه، حيث تعرض للجماعات الإسلامية وعلماء الإسلام بكلام وسب وشتم واستهزاء بكل ما يمت للحركة الإسلامية بصلة من قريب أو بعيد؛

وكانت كلماته بحق الشيخ أحمد المحلاوي سقطة قاصمة لرئيس دولة ظهر متشفيا في أحد مواطنيه المعتقلين حيث قال عن المحلاوي (مرمي في السجن زي الكلب) وذكر الشيخ حافظ سلامة قائلا (راجل مجنون)، بهذه الاعتقالات وهذا الخطاب المستفز استكمل السادات في نظر الشباب المتدين كافة أسباب الحكم بالإعدام، وكان الحكم عند البعض نهائيا لا نقض فيه مما جعلهم يباشرون التنفيذ على النحو الوارد في ملفات القضية.

المفاجأة التي شلت الجميع:

إنها مفاجأة اغتيال السادات على المنصة وهذه إحدى الروايات الشائعة لكيفية اغتيال السادات.

في حوالي الساعة الثانية عشرة والنصف من ظهر يوم السادس من أكتوبر 1981 (وقفة عيد الأضحى) وبينما كانت فصول العرض العسكري تمضي برتابة وفق ما أعد لها فجأة ارتجت إحدى العربات وانحرفت إلى اليمين قليلا وتصور الحاضرون أن السيارة أصابتها لعنة الموتوسيكل وتعطلت؛

وعندما نزل منها ضابط ممتلئ قليلا تصوروا أنه سيسعى لإصلاحها وأنه سيطلب العون لدفعها إلى الأمام بعيدا عن المنصة، كما حدث من قبل في عروض عسكرية سابقة أقيمت في عهدي عبد الناصر والسادات لم شك أحد في عطل العربة الجرار بل إن قليلين هم الذين انتبهوا لذلك ...

وكان أول ما فوجئ به الحاضرون بعد ذلك هو رؤية الضابط الممتلئ الذي قفز من العربة وهو يلقي بقنبلة يدوية تطير في الهواء ثم ترتطم بسور المنصة منفجرة ... في ذلك الوقت كان المذيع الداخلي يحيي رجال المدفعية ويقول:

(إنهم فتية آمنوا بربهم!!) كان ذلك الضابط هو الملازم خالد الإسلامبولي الضابط العامل باللواء 333 – مدفعية ...

جرى خالد الإسلامبولي إلى العربة، وفتح بابها، وأمسك بمدفع رشاش ... عيار 9 مم، وكان ذلك الشخص هو عطا طايل ... وقبل أن ينتبه أحد، من الصدمة، ألقى خالد الإسلامبولي القنبلة اليدوية الدفاعية الثالثة في اتجاه المنصة، فسقطت بالقرب منها لكنها لم تنفجر هي الأخرى ... واكتفت بإخراج دخان كثيف منها ...

وقبل أن ينتهي الدخان، انفجرت القنبلة الرابعة، وأصابت سور المنصة أيضا ... وتناثرت شظاياها في أنحاء متفرقة .. لكن .. هذه الشظايا لم تصب أحدا .. وكان السبب هو سور المنصة الذي كان بمثابة (الساتر) الذي حمى من خلفها من شظاياها ... وكان رامي هذه القنبلة هو عبد الحميد عبد العال ... في تلك اللحظة انتبه أبو غزالة ..

وأحس أن ثمة شيء غير طبيعي يحدث .. وقد تأكد من ذلك بعد أن لمح الرشاش في يد خالد الإسلامبولي ... واكتشف أنه عار الرأس، ولا يضع البرية كالمعتاد ... وانتبه السادات هو الآخر ... وهب من مقعده واقفا ... وانتصبت قامته ... وغلا الدم في عروقه ... وسيطر عليه الغضب ... وصرخ أكثر من مرة: مش معقول ... مش معقول ... مش معقول .. وكانت هذه العبارة المكررة هي آخر ما قاله السادات ...

فقد جاءته رصاصة من شخص رابع كان يقف فوق ظهر العربة ويصوب بندقيته الآلية (عيار 7.92) نحوه وكان وقوف السادات، عاملا مساعدا لسرعة إصابته ... فقد أصبح هدفا واضحا، وكاملا، ومميزا ... وكان من الصعب عدم إصابته ... وخاصة أن حامل البندقية الآلية هو واحد من أبطا الرماية في الجيش المصري وقناص محترف ... كان ذلك هو الرقيب متطوع/ حسين عباس علي ... اخترقت الرصاصة الأولى الجانب الأيمن من رقبة السادات في الجزء الفاصل بين عظمة الترقوة وعضلات الرقبة ... واستقرت أربع رصاصات أخرى في صدره، فسقط في مكانه ... على جانبه الأيسر ... واندفع الدم غزيرا من فمه ... ومن صدره ... ووشاح القضاء الأخضر الذي كان يلف به صدره والنجوم والنياشين التي كان يعلقها ويرصع بها ثيابه الرسمية المميزة ...

بعد أن أطلق حسين عباس دفعة النيران الأولى، قفز من العربة، ليلحق بخالد وزملائه الذين توجهوا صوب المنصة ... في تشكيل هجومي، يتقدمهم خالد، وعبد الحميد على يمينه، وعطا طايل على شماله ... وبمجرد أن اقتربوا من المنصة أخذوا يطلقون دفعة نيران جديدة على السادات ... وهذه الدفعة من النيران أصابت بعض الجالسين في الصف الأول، ومنهم المهندسين سيد مرعي، والدكتور صبحي عبد الحكيم الذي سارع بالانبطاح أرضا ليجد نفسه وجها لوجه أمام السادات الذي كان يئن ويتألم ويلفظ أنفاسه الأخيرة ...

ومنهم فوزي عبد الحافظ الذي أصيب إصابات خطرة وبالغة وهو يحاول أن يكوم الكراسي فوق جسد السادات، الذي ظن أنه على قيد الحياة، وأن هذه المقاعد تحمي حياته، وتبعد الرصاصات المحمومة عنه ... كان أقرب ضباط الحرس الجمهوري إلى السادات عميد اسمه أحد سرحان ...

وبمجرد أن سمع طلقات الرصاص تدوي، سارع إليه وصاح فيه: انزل على الأرض يا سيادة الرئيس ... انزل على الأرض ... انزل ... ولكن ... كان الوقت كما يقول العميد أحمد سرحان متأخرا ... (وكانت الدماء تغطي وجهه وحاولت أن أفعل شيئا وأخليت الناس من حوله، وسحبت مسدسي وأطلقت خمسة عيارات في اتجاه شخص رأيته يوجه نيرانه ضد الرئيس، لم يذكر عميد الحرس الجمهوري من هو بالظبط الذي كان يطلق نيرانه على السادات ...

فقد كان هناك ثلاثة أمام المنصة يطلقون النيران (خالد، وعبد الحميد، وعطا طايل ... كانوا يلتصقون بالمنصة إلى حد أن عبد الحميد كان قريبا من نائب الرئيس حسني وقال له: أنا مش عايزك، إحنا عايزين فرعون ... وكان يقصد بفرعون أنور السادات!

وأشاح خالد لأبو غزالة قائلا: ابعد. قال ذلك، ثم راح هو وزملاؤه يطلقون الرصاص ... فقتل كبير الياوران، اللواء حسن عبد العظيم عام (51 سنة)؛

وكان الموت الخاطف أيضا من نصيب سبعة آخرين هم مصور السادات الخاص محمد يوسف رشوان (50 سنة) ... وسمير حلمي (63 سنة) وخلفان محمد من سلطنة عمان ... وشانج لوي أحد رجال السفارة الصينية ... وسعيد عبد الرؤوف بكر ... وقبل أن تنفذ رصاصات خالد الإسلامبولي، أصيب الرشاش الذي في يده بالعطب ... وهذا الطراز من الرشاشات معروف أنه سريع الأعطال خاصة إذا امتلأت خزانته (30 طلقة بخلاف 5 طلقات احتياطية)، عن آخرها ...

وقد تعطل رشاش خالد بعد أن أطلق منه 3 رصاصات فقط، مد خالد يده بالرشاش الأخرس إلى عطا طايل الذي أخذه منه وأعطاه بدلا منه بندقيته الآلية واستدار عطا طايل ليهرب ... لكنه فوجئ برصاصة تأتي له من داخل المنصة وتخترق جسده ...

في تلك اللحظة فوجئ عبد الحميد أيضا بمن يطلق عليه الرصاص ليجد رجلا يرفع طفلا ويحتمي به كساتر فرفض إطلاق النار عليه ... وقفز خلف المنصة ليتأكد من أن السادات قتل ... واكتشف لحظتها أنه لا يرتدي القميص الواقي من الرصاص ... وعاد وقفز خارج المنصة وهو يصرخ: الله أكبر الله أكبر!

في تلك اللحظة نفدت ذخيرة حسين عباس فأخذ منه خالد سلاحه وقال له: (بارك الله فيك ... اجر .. اجر ..) ونجح في مغادرة أرض الحادث تماما ... ولم يقبض عليه إلا بعد يومين ... أما الثلاثة الآخرون فقد أسرعوا بعد أن تأكدوا من مصرع السادات يغادرون موقع المنصة ... في اتجاه مسجد رابعة العدوية ... وعلى بعد 75 مترا وبعد قرابة دقيقة ونصف انتبه رجال الحراس وضباط المخابرات الحربية للجناة فأطلقوا الرصاص عليهم .. فأصابوهم فعلا ...

وقبضت عليهم المجموعة 75 مخابرات حربية وهم في حالة غيبوبة كاملة، وبعد أن أفاق الحرس من ذهول المفاجأة ... وبعد إصابة المتهمين الثلاثة، بدأ إطلاق النار عشوائيا على كل من يرتدي الزي العسكري، ويجري في نفس الاتجاه الذي كان يجري فيه الجناة فأصيب 3 أشخاص وفيما بعد ... ثبت من تحقيقات المحكمة أن عبد الحميد وعطا كانا ينزفان وهما يجريان ... وثبت أيضا أن رجال المجموعة 75 أخذوا أسلحتهم بعد إصابتهم ... وثبت كذلك بعض هذه الأسلحة كان بها ذخيرة، وقال العقيد محمد فتحي حسين (قائد المجموعة 75) أمام المحكمة؛

أن أسلحة بعض المتهمين كان فيها ذخيرة وأنهم لم يردوا على رجال المخابرات عندما أطلقوا عليهم الرصاص ... وكان عدم الرد على رصاص رجال المخابرات الحربية قناعتهم بانتهاء مهمتهم عند قتل السادات، ولأنهم اعتبروا أنفسهم شهداء منذ تلك اللحظة وفيما بعد شوهد ممدوح سالم في الفيلم التليفزيوني الإيطالي الذي صور الحادث وهو يلقي عددا من المقاعد في اتجاه السادات وشوهد وهو يشد حسني مبارك إلى أسفل .. وشوهد نائب رئيس وزراء سابق وهو يتسلل باحثا عن مهرب من هذا الجحيم.

مدرسة المعتقلات:

فور استعادة الدولة المصرية توازنها من وقع المفاجأة انتقلت السلطة تلقائيا لنائب الرئيس الذي أصدر فورا قرارا باعتقال كل من له نشاط ديني سياسي وبذلك أضيف عشرات الألوف من المعتقلين إلى الألف الذين تم التحفظ عليهم من قبل.

مثل الاجتماع الحاشد بالسجون للإسلاميين من جميع المحافظات المصرية من أسوان إلى الإسكندرية على اختلاف توجهاتهم وأعمارهم فرصة لم نكن نحلم بها ... فرصة في الحوار والدراسة العميقة لكل من هو معروض بالساحة السياسية وكل ما يخطط للحركة الإسلامية.

وكان معنا في المعتقلات في هذه الفترة عدد من الطلاب الوافدين بمدينة البعوث الإسلامية والقادمين للدراسة الإسلامية بالأزهر الشريف، مما جعل الاجتماع دوليا وليس محليا، وما زلت أذكر أسماء الثلاثة الأتراك الذين رافقوني في زنزانتي قرابة سبع شهور كاملة وهم الأخ، داوود تفير والأخ موسى كليكرك والأخ مصطفى أوزجان والأخير من كبار الصحفيين الأتراك الآن في مدينة اسطنبول في صحيفة (الزمان) التركية الإسلامية.

في المعتقلات عاشت المجموعات الإسلامية عاما كاملا تحولت خلاله المعتقلات إلى معسكرات عمل دائم، نظمت الندوات والمحاضرات وتكونت فرق للنظافة وفرق للتغذية وفرق للإعلام والصحافة وفرق للاحتفالات أقامت لنا أروع الاحتفالات بالعيدين والمناسبات الإسلامية.

وضرب جيل الصحوة الصغيرة والكبير مثالا رائعا في الصبر والثبات والرجولة أمام عنف النظام وضراوة التعذيب وعنت التحقيقات التي كانت تطول إلى ساعات الفجر كل يوم في ليل الشتاء البارد.وهكذا انتهت فترة السبعينيات لتخلف وراءها النتائج التالية.

أولا: تأكد أن سياسة تنشيط الاجتهادات الشاذة وتفريق العاملين تعتبر من أفعل الأسلحة لمحاربة الحركة الإسلامية وإضعافها.

ثانيا: أن الأمة المصرية تمتلك عقيدة إسلامية غضة طرية وفي حالة شوق وانتظار لاستئناف الحياة الإسلامية على أي مفهوم من المفاهيم المعتمدة.

ثالثا: أن الدعوة الإسلامية قد عبرت مرحلة التخويف بالسجن أو الإعدام فلم تعد هذه وسيلة مانعة أو مخيفة.

رابعا: لم يعد من الممكن تطويق الحركة الإسلامية حيث بلغت حدا من التكاثر والعمق بما لا يسمح بعملية التطويق أو المحاصرة.

خامسا: أن البيئة المصرية حبلى بميلاد جماعات إسلامية تعتبر الإخوان المسلمين ليسوا أهلا لقيادة الحركة الإسلامية وترفض الانضواء تحت قيادتهم.

هكذا كانت قصة الجماعات الإسلامية خلال عشر سنين، وكنت في ذلك مسجلا لما رأيته بعيني وعايشته بنفسي، وأرجو أن يكون ما كتبته موضحا لكثير من الغموض حول هذا الموضوع خاصة أن بعض الجهات تعمدت إثارة الدخان وإشاعة الشائعات حول هذه الظاهرة المصرية الصميمة.

جيل السبعينيات في طور جديد:

واصلت الصحوة الإسلامية جهودها بالجامعات والأحياء فور خروجها من المعتقلات في نهاية عام 1982، وبينما غابت قيادات هامة من الجماعة الإسلامية وراء القضبان بعد الحكم عليهم في قضية اغتيال الرئيس السادات، شرعت المجموعات الأخرى في العمل، في البداية الجديدة للعمل في فترة الثمانينات باتت الفوارق بين العاملين واضحة جلية.

فالتيار الذي اقترب من الإخوان وقبل العمل وفق منهج الإخوان شرع في تنظيم نفسه ولكن مع الكثير من التحديث في الأدوات الذي فرضته طبيعة العصر.

وأما التيار الذي اتخذ الجهاد المسلح طريقا للعمل الإسلامي فقد شكل لنفسه تجمعا منظما آخر وابتعد بمعظم عمله عن الجامعات، وترتب على تنظيماته وتدريباته موجة العمليات المسلحة التي هزت مصر منذ عام 1990 وحتى عام 1997 ومع صدور مبادرة وقف العنف في 5 يونيو 1997 نشطت مجموعة جديدة معترضة على المبادرة وقامت بالمذبحة المروعة في وادي الملوك بالأقصر والتي راح ضحيتها أكثر من 70 جلهم من السياح الأجانب؛

ثم صدرت المراجعات التي اتفق عليها قادة العمل المسلح في الداخل والخارج ونشرت للعموم في يناير 2002 وتوقفت موجة العنف كوسيلة للتغيير الداخلي حتى تفجرت دهب وشرم الشيخ والأزهر ثم الحسين 2009 والتي لم يعرف من وراءها حتى كتابة هذا المؤلف.

الفريق الأول الذي عملت معه وعايشته وما أزال أستأنف العمل على أصعدة ثلاث:

الصعيد الأول هو الاهتمام بالدعوة الإسلامية بين الطلاب بالمدارس والجامعات.

الصعيد الثاني الاهتمام بأعضاء هيئة التدريس بالجامعات.

الصعيد الثالث العمل بالأحياء السكنية من خلال المساجد.

وسلكت الصحوة الإسلامية مسلكا قانونيا بحتا فجعلت وسيلتها للعمل:

الاتحادات الطلابية.

الأسر الجامعية المنبثقة من الاتحادات.

نوادي أعضاء هيئة التدريس بالجامعات المصرية.

النقابات المهنية في أواخر الثمانينات.

والمجال هنا للتحدث عن دور جيل السبعينيات بالجامعات والأحياء والمدن من خلال الاتحادات الطلابية ونوادي أعضاء هيئة التدريس والمساجد.

جهود الإسلاميين بالجامعات في الثمانينات

أولا: من خلال الاتحادات الطلابية

في القاهرة تشكلت لجنة مركزية من حسب السن (السيد عبد الستار، عبد المنعم أبو الفتوح، حلمي الجزار، أنور شحاتة، أبو العلا ماضي) واللجنة كلها من جيل السبعينيات المنتمين للإخوان وكان عبد المنعم وقتها عضوا بمكتب الإرشاد الذي يرأسه الأستاذ عمر التلمساني؛

والحديث هنا متعلق بدورهم كمؤسسين في هذا الجيل ومنتمين إليه وسوف أفصل العلاقة بين اللجنة والإخوان في الفصل القادم، تشكلت لجنة معاونة في معظم المحافظات، في الإسكندرية (إبراهيم الزعفراني، خالد داوود، سعيد لطفي) في المنصورة (عاصم شلبي وآخرون) في قنا (مصطفى حسن وآخرون) في أسوان (أسامة عبد المعطي وآخرون) كما لحق بهؤلاء الأول أسماء أخرى على مدى 8 سنوات من العمل.

واعتمدت الصحوة الإسلامية بالجامعات خلال فترة الثمانينات أسلوب تحديد الأهداف وتقسيمها إلى أهداف مرحلية وأهداف نهائية وكذلك تحديد الوسائل بدقة كاملة وتوصيف العقبات المحتملة وكيفية التغلب عليها، وتعمق الإيمان في نفوس الشباب بضرورة الالتزام بكافة الأصول الإدارية الحديثة في القيام بالواجبات الدعوية فتشكل بالجامعات جهاز طلابي يتعامل من خلال تقسيم الواجبات وتحديد الاختصاصات والمتابعة والتقييم وتصحيح الأخطاء أولا بأول، وإدراكا لأهمية التدريب الإداري تأسس المركز العلمي للبحوث والدراسات (معبد) تحت إدارتي لقيام بهذا الدور الهام.

اختلفت فترة الثمانينات عن السبعينات في أساليب العمل ووسائل الدعوة وطريقة إدارتها.فقد لاحظت مجموعة العمل الجديدة عدة أخطاء في مرحة السبعينات وراحت تعالجها.

نذكر من هذه الأخطاء:

أسلوب الجماهيرية العشوائية في تسيير الدعوة في الجامعات، وعولجت هذه الظاهرة بالتوجه لأعضاء هيئة التدريس والنظر إليهم باهتمام خاص.

الخلط بين أعداء الإسلام كمنهج حياة وبين المعترضين على سلوكيات المتدينين من القيادات الجامعية حيث كان الخطاب النقدي الموجه من الإسلاميين في السبعينيات يعم كل من ينتمي إلى إدارة الجامعة بوصفه جزءا من النظام الحاكم، ولكن مرحلة الثمانينات شهدت لينا واضحا في خطاب الإسلاميين لمعظم الإداريين بالجامعة بوصفهم يتلقون أوامر ويكرهون على تنفيذها في مواجهة الحركة الإسلامية وكثيرا ما كانت تدور حوارات بين الإسلاميين وهؤلاء الإداريين حول كيفية التخلص من هذه الأوامر وكيفية إفشالها على أرض الواقع.

الانصراف عن قضايا الطلبة الحياتية الملحة كمشكلة الكتاب والسكن والملبس والمواصلات والبطالة بعد التخرج والاكتفاء بعرض عموميات إسلامية يغلب عليها الجانب العاطفي أكثر من الجانب التفصيلي العملي والواقعي، وقد عالجت الحركة الإسلامية ذلك القصور بإجراء دراسات جيدة حول القضايا الهامة التي تهم الطلبة من خلال الاستبيانات واستطلاعات الرأي بأسلوب علمي لمعرفة أحاسيس الطلبة وما يشغل أذهانهم ويسيطر على أفكارهم ومشاعرهم، ثم انخرطت المجموعات الإسلامية في تلبية هذه الحاجات وتقديم الحلول المناسبة لها والتحاور حول تلك القضايا، والكتابة لشرحها وتحليل أسبابها، ووصف علاجها.

ولاحظت مجموعة العمل بالجامعات انصراف معظم المتدينين عن التحصيل العملي التخصصي زهادة فيه أو انشغالا عنه، وشرعت مجموعة العمل الإسلامية في علاج تلك القضية بالوسائل الناجحة فرصدت جوائز للمتفوقين دراسيا من أبنائها وعقدت لهم حفلات تكريم على أعلى مستوى ورصدت الكثير لمساعدة الطلاب المتميزين وأقامت معسكرات خاصة للتحصيل العلمي في شهور ما قبل الامتحانات وكذلك أوقعت عقوبات وجزاءات على المتخلفين دراسيا من أبنائها والعاملين في صفها بالوقف عن ممارسة النشاط الإسلامي الدعوي حتى يجتاز الطالب مستوى معين من التفوق الدراسي.

وانتبهت مجموعة العمل الإسلامية بالجامعات إلى قصور الدور النسائي حيث كان مقتصرا على الاهتمام بالزي الإسلامي طوال فترة السبعينيات ... فعمد الإسلاميون في فترة الثمانينات إلى الاهتمام بالجانب التربوي والثقافي حتى صارت منهن نماذج قادرة على أن تنقل فكرتها إلى غيرها بالإضافة إلى استمرارها على طريق الصحوة في مرحلة ما بعد التخرج من الجامعة.

وقد أثمرت تلك الجهود المبذولة من قبل الكتيبة الإسلامية العاملة بالجامعات ثمارا يانعة تمثلت في استمرار المسيرة الإسلامية أثناء فترة السبعينات وامتدادها للثمانينات بمعدل أفضل، كما ترسخت أقدام الإسلاميين بالجامعات وشكلوا عينة واضحة في أعضاء هيئة التدريس الجدد بالإضافة لفوزهم بأغلب المقاعد في الاتحادات الطلابية من خلال الانتخابات الحرة ... وكان ذلك تعبيرا عن سلامة التنظيم الإسلامي بالجامعات وقدرة مجموعة العمل على التعامل مع المتغيرات المحيطة.

ولا يفوتني أن أذكر بأن التوجه الإسلامي في الثمانينات كان يقضي بالعمل من خلال المنظمات العامة القانونية والتي يمثلها هنا بالجامعات الاتحادات الطلابية، مع أن اللائحة التي تحكم الاتحادات الطلابية لا تعطي إلا هامشا ضيقا من الحرية للطلاب وتجعل أمر الاتحادات برمته في أيدي المشرفين والإدارة الجامعية ولكن الطلبة الإسلاميين استطاعوا بعون الله ثم بحسن الصلة بالأساتذة أن يمارسوا قدرا جيدا من النشاط الدعوي والطلابي في ظل تلك اللائحة الجائرة.

ومن اللافت للنظر أن الإسلاميين بالجامعات لم ينسوا التنويه إلى مجلس الشعب بهدف إقرارها ولكنه لم يفعل .. فعاودوا التقدم لرئيس جامعة القاهرة ثم وزير التعليم فوعدهم ببعض التعديلات في حدود جامعته فقط على سبيل التجربة.

كما أن رؤساء الاتحادات بالجامعات حاولوا أكثر من مرة إعادة الاتحاد العام لطلاب الجمهورية إلى سيرته الأولى ولكن تصديات الحكومات المتعاقبة كانت وما تزال أشرس من قدرات الطلبة ولم تفلح جموع الطلاب في استرداد حقهم بإقامة الاتحاد العام لطلبة الجامعات المصرية كما كان من قبل ...

استمرت جهود الإسلاميين من خلال الاتحادات طوال أعوام 82، 83، 84 تتنامى وتزداد.وفي عام 1984 استطاع الإسلاميون إعادة الجامعات إلى صورتها العامة في السبعينيات واستطاعوا بفضل الله وعونه إزالة كل أثر للعدوان على الجامعات أثناء فترة اعتقالهم طيلة عام كامل بعد اغتيال السادات.

وفي عام 1984 والأعوام التي تليه فاز الإسلاميون بمعظم الاتحادات الطلابية بالجامعات المختلفة ومثلت الاتحادات الطلابية أوعية للنشاط الطلابي الإسلامي الأساسية.وفي جامعة القاهرة كبرى الجامعات على سبيل المثال تمكن الإسلاميون من الفوز بالاتحادات طوال سنوات 84، 85، 86، 87، 88، 89، حيث كانت لهم أغلبية ملموسة بمجلس اتحاد الجامعة.

القضايا الهامة التي اهتم بها الإسلاميون بالجامعات

واكبت الحركة الطلابية الإسلامية بالجامعات كافة الأحداث التي مرت بها أمتها في هذه الفترة من الناحية السياسية، كما هتمت بالقضايا الطلابية والعالمية.

من أهم القضايا التي اهتمت بها الاتحادات الطلابية الإسلامية:

قضية فلسطين والمسجد الأقصى.

قضية أفغانستان.

قضية ضعف المسلمين وسبيل النهوض بهم.

قضية بطلان الصلح مع الصهاينة المحتلين.

قضية الحريات.

قضية الشورى والديمقراطية.

قضية حقوق الإنسان.

قضية الفساد الاجتماعي والسياسي وكيفية مواجهته.

قضية المشاركة السياسية والفاعلية الاجتماعية.

قضية الانتخابات العامة والمشاركة فيها.

في إطار القضايا الطلابية:

قضية الكتاب الجامعي وسبيل تيسيره للطلاب.

قضية إسكان الطلاب بالمدن الجامعية.

قضية النشاط الطلابي ورفع الوصاية عنه.

قضية اللائحة الطلابية والمطالبة بإعادتها لأصلها.

في إطار القضايا الاجتماعية:

قضية المخدرات والإدمان وسبل الوقاية منها.

قضية الصحة والرياضة.

قضية البيئة والتلوث.

قضية ارتفاع الأسعار وقلة الدخل.

قضية القدوة الصالحة وأهميتها للمجتمع.

قضية التفوق العلمي وأهميته القومية.

في إطار القضايا الطارئة:

قضية حرب الخليج وما ترتب عليها من أضرار.

قضية مؤتمر مدريد ورفضه شكلا ومضمونا.

وهكذا مارست الاتحادات الطلابية دورا هاما في توعية جموع الطلاب نحو تلك القضايا مستخدمة الوسائل المختلفة للتوعية والإرشاد كالنشرة والكتاب والمحاضرة والمسرحية، والمعارض الفنية واللوحات الحائطية والمناظرات الفكرية ... إلخ.

كما واكب الاهتمام بتلك القضايا نشاط طلابي هائل من خلال لجان الاتحاد المختلفة.فلجنة الثقافة كانت معنية بالندوات والنشرات والمناظرات الفكرية.

ولجنة الجوالة أقامت معسكراتها في كل مكان وضمت إلى صفوفها عددا هائلا من الطلبة، ولجنة الرحلات نظمت رحلاتها إلى جميع أنحاء القطر وتوجت ذلك برحلات الحج والعمرة، ولجنة الرياضة أقامت المباريات والمسابقات الرياضية على مستوى عال من الجودة والالتزام حتى كانت حديث الجميع، ثم كان موجة أشرطة الكاسيت الهادفة إحدى ثمار هذه اللجان الطلابية المختلفة.

مواقف الخصوم:

تحالف الحزب الحاكم مع التيارات الغير إسلامية (الشيوعيون، اليساريون، الناصريون، المسيحيون) في محاولة لتطويق النشاط الإسلامي ومحاصرته وفض الطلاب من حوله، وكانت أهم أسلحتهم خلال أعوام: 87/ 88/ 89/ 1990.

التشويه الإعلامي.

الحصار الاقتصادي والمالي.

اعتقال إسلاميين وفصلهم دراسيا.

تهديد أولياء الأمور.

إطلاق يد البوليس بالجامعات ونشر المخبرين.

تزوير الانتخابات.

شطب المرشحين الإسلاميين من قوائم الترشيح.

تعيين الاتحادات بعد إلغاء الانتخابات.

تكوين أسر نشاط مضادة ودعمها بكل ما تريد.

إرهاب رؤساء الجامعات وعمداء الكليات وإرغامهم على إنفاذ مخططات التزوير. وتعودت ساحات الجامعات وقبيل كل انتخابات تجديد للاتحادات الطلابية السنوية أن تشهد سلسلة من الأحداث الدامية بين الطلاب وقوات الأمن.

وكانت الأمور ترتب على النحو الذي يحتم وقوع صدام بين قوات البوليس التي تملأ الجامعات وبين الطلاب أعضاء الاتحادات وجلهم من الإسلاميين، وعلى الفور يعتقل الطلاب ويقدمون للمحاكمة والتي تقضي في النهاية بفصل بعضهم من الجامعة وحرمان الآخرين من دخول الانتخابات، فإذا تقدم غيره قامت إدارة الجامعات بشطب معظم الطلاب فلا يبقى إلا المتقدمون من قبل جهات الإدغرة الحكومية.

وفي البداية كان الشطب جزئيا ولكن في نهاية الثمانينات كان كليا في معظم الجامعات.وبالرغم من تصاعد حملة الضغط الحكومي للطلاب في النصف الأخير من الثمانينات فقد صمدت الجبهة الإسلامية وقاومت وتشبثت بمواقعها وكانت تواجه عميلة الشطب بدفع أعداد كبيرة من الطلبة للترشيح فلجأت الإدارة الجامعية إلى إلغاء العملية الانتخابية كلية.

وتميزت نهاية فترة الثمانينات بتصاعد الحملة الحكومية في مواجهة الطلبة الإسلاميين وتحولت الجامعات في أعوام 88/ 89/ 90 إلى ثكنات عسكرية مليئة بالعنف الذي فاق كل حد.

الحرب بالأفكار المخالفة منذ بداية التسعينيات

أثمرت جهود الإسلاميين في الجامعات أثناء فترات السبعينيات والثمانينات ثمارا طيبة في معظم ميادين الحياة الجامعية، ولكن الخصوم لم يهدأ لهم بال وتنادوا فيما بينهم وعقدوا المؤتمرات واللجان لبحث كيفية مجابهة الإسلاميين.

وقد تمخضت كافة دراساتهم عن ميلاد جبهة عريضة مكونة من العناصر التالية:

المجلس الأعلى للشباب والرياضة.

جهاز رعاية الشباب بالجامعات.

الحرس الجامعي.

أعضاء الحزب الحاكم من أعضاء هيئة التدريس.

وبالرغم من أن هؤلاء قد اتفقوا على هدف ضرب الحركة الإسلامية ومواجهة الإسلاميين بالجامعات لكنهم اختلفوا في الوسائل المؤدية لذلك تماما.

جهود جيل السبعينيات: من خلال نوادي أعضاء هيئة التدريس

اهتمت مجموعة العمل الإسلامية بالجامعات اهتماما بالغا بأعضاء هيئة التدريس وتم ذلك من خلال التنسيق بين أعضاء هيئة التدريس المشهود لهم بالتدين والتفاوض معهم حول ضرورة أن يكون لهم دور اجتماعي بالجامعات، وكلفت شخصيا من مجموعة العمل بأن أتحمل مسؤولية الاتصال والتنسيق مع أعضاء هيئة التدريس، وبدأت هذه المهمة بإجراء دراسة ميدانية في معظم الجامعات لواقع الأستاذ الجامعي وكيفية النهوض بهذا الواقع، وصدرت الدراسة في أول مؤلف أصدره تحت عنوان (الأستاذ الجامعي ... الواقع والأمل)

كما أسست المركز العلمي للبحوث والدراسات ليكون وسيلة صحيحة وقانونية للقيام بهذا الدور، ولم تكد تنتصف الثمانينات حتى كانت نوادي أعضاء هيئة التدريس تملأ سمع المجتمع المصري وبصره، وكان طبيعيا أن تزداد أعداد الإسلاميين بالهيئة التدريسية بالجامعة نتيجة لهذا الاهتمام.

الثلاثاء 25 أغسطس 1987 الموافق 1 محرم 1408 كان يوما له تاريخ في حياتي، إنه اليوم الذي تحقق فيه تكوين تنظيمي للصحوة الإسلامية بين أعضاء هيئة التدريس تحت مسئوليتي، وفي هذا اليوم عصرا توافد على مدرسة المكفوفين بالإسكندرية بمنطقة زيزينيا ممثلين لهذا الكيان الجديد، وكان من بين هؤلاء المرحوم الدكتور يوسف عبد الرحمن الذي عبر عن فرحته بالمخيم والمشاركة فيه بأن ارتدى طاقية بيضاء ودخل المدرسة بهذه الهيئة وقابلته على الباب ومددت يدي برفق وأخذت الطاقية وداعبته قائلا (بكرة من حضرتك)

ولكن السبب كان لعدم لفت الأنظار لهوية المستأجرين، وفي هذا اليوم فجرا وضعت زوجتي توأما عبد الرحمن وأسماء وتوقع بقية فريق إدارة المخيم عدم حضوري حفلة الافتتاح، وما بين الفجر وقت الولادة والعصر موعد الافتتاح يسر الله أمري وأنهيت كافة ما هو مطلوب مني وودعت زوجتي والتوأمين وسافرت إلى المخيم قبل وصول الكثيرين إليه، وتكلم في الافتتاح المرحوم ممدوح الديري وضرب بحضوري المثل في التجرد للدعوة وتقديمها على ما عداها مستدلا بما فعلت؛

لقد كان الحب في الله والتفاني في أداء المهام الإيمانية منتهى أمانينا ومصدر سعادتنا حتى حلقت طيور الظلام في سمائنا فبدلت وغيرت ومررت طعم الحياة من حولنا، في نهاية عام 1987 كانت نوادي أعضاء هيئات التدريس بالجامعات المصرية تتشكل معظم مجالسها من رجالات الصحوة الإسلامية الفتية، في القاهرة يرأس النادي أ. د. يوسف عبد الرحمن.

وفي الإسكندرية أ. د. نبيل هاشم وفي أسيوط أ. د. محمد السيد حبيب وفي الزقازيق أ. د. لطفي شهوان، وجميعهم من الإسلاميين ثم توالت جهود الإسلاميين في النوادي يرأسونها أو يعملون في مجالسها حتى نالوا ثقة الأوساط الجامعية في بقية الجامعات المصرية ... في المنصورة والمنيا والإسماعيلية وغيرها من الجامعات، نشطت نوادي أعضاء هيئة التدريس في ظل الإسلاميين نشاطا محمودا في كافة العمل الجامعي وأثمرت في ذلك ثمرات طيبة.

وعقدت النوادي المنتخبة حتى بداية التسعينيات ثلاثة وسبعين مؤتمرا مشتركا لها، وذلك لتبادل الرأي وإجراء المناقشات والحوارات حول أوضاع الجامعات المصرية وأعضاء هيئات التدريس وتوفير الجو الملائم لهم لتأدية رسالتهم الهامة من أجل التعليم والبحث العلمي.

وأصدرت النوادي عددا من الدراسات والتوصيات يجدر بنا دراستها للوقوف على حجم العمل الكبير الذي قامت به تلك النوادي (راجع كتاب الأستاذ الجامعي .. الواقع والأمل .. للمؤلف).

وأهم تلك التوصيات والتوجيهات يمكن إجمالها فيما يلي:

(1) وضعت النوادي مقترحا مفصلا لتعديل القانون الخاص بالجامعات (49 لسنة 72) طالبت فيه بـ:

(أ) الاستقلال المالي والإداري للجامعات.

(ب) اختيار كافة القيادات الجامعية عن طريق الانتخاب الحر المباشر.

(ج) ربط سياسة الشورى الجامعي باحتياجات المجتمع.

(د) ضمان حرية الرأي والتعبير والنشر والاجتماع بالجامعة ووضع الضمانات الكفيلة بتأمين الأعضاء على حاضرهم ومستقبلهم.

(2) وضعت النوادي اقتراحا تفصيليا لتصحيح هياكل رواتب أعضاء هيئة التدريس ومساعديهم.

(3) إنشاء نظام التأمين الصحي من خلال كل نادي بالجامعات.

(4) إعادة جميع الأعضاء الذين نقلوا خارج الجامعة نتيجة قرارات سبتمبر 1981.

(5) الوقوف بحزم في مواجهة سياسات التطبيع مع الصهاينة وكافة مؤسساتهم العلمية.

(6) مكافحة التعديات البوليسية على الجامعات والمطالبة بإلزام الحرس الجامعي بمهمته المحددة في حراسة المنشآت الجامعية وتأكيد تبعيته لإدارة الجامعة.

(7) تأييد المطالب الطلابية الخاصة بإلغاء اللائحة الطلابية المجحفة والتي أصدرها الرئيس السادات لتقييد الحركة الطلابية.

(8) المشاركة الإيجابية بالرأي والاشتراك الفعلي في كافة القضايا القومية التي مرت بالأمة ومنها:

(أ) قضية الحريات والتعليم والديمقراطية.

(ب) قضية تطوير التعليم ومحاولات البعض محو الهوية الإسلامية للأمة تحت هذا الشعار والوقوف بحزم في مواجهة تلك المخططات.

(ج) قضية التنمية الزراعية وأهميتها وتوضيح خطورة التغلغل الصهيوني في مؤسساتنا الزراعية.

(د) قضية الحصار العلمي والتكنولوجي المفروض علينا من الغرب والأمريكان وكيفية التغلب عليه.

(هـ) قضية حقوق الإنسان عامة والإنسان المصري خاصة.

(و) التكامل العربي والإسلامي في كافة الشئون، والتعاون على درء الأخطار الخارجية التي تستهدفنا جميعا.

(ز) الوقوف بقوة مع الشعب العراقي في مواجهة الاستعمار الأمريكي.

(9) الاعتراض على تعيين المحافظين في مجالس الجامعات لتعارضه مع مبدأ استقلالها.

(10) المطالبة المتكررة والمستمرة من النوادي بإلغاء قانون الطوارئ وكافة القوانين المقيدة للحريات والتي اصطلح على تسميتها "بالقوانين سيئة السمعة"، والعودة لمعاملة الإنسان المصري بالقوانين العادية وعرضه على قاضيه الطبيعي.

(11) الرفض القاطع لإنشاء ما يسمى بالجامعة الأهلية لما يترتب عليها من مضار والمطالبة بالإنفاق على الجامعات القائمة واستكمال منشآتها ومعاملها وفي ذلك الاستغناء عن كل ما يقصد بإنشاء الجامعة الأهلية.

(12) رفض الاشتراك الصهيوني في عرض القاهرة للكتاب ومطالبة المسئولين بتنفيذ ذلك على الفور.

(13) مخاطبة الزعماء في إيران والعراق للوقف الفوري للحرب الطاحنة التي دارت بين البلدين.

(14) مؤازرة الشعب الأفغاني بقوة أثناء حربه ضد المحتلين الشيوعيين.

(15) المطالبة بتغيير اسم مجلس "تأديب أعضاء هيئة التدريس" الوارد بالقانون إلى مجلس المساءلة لأعضاء هيئة التدريس "وذلك حفاظا لكرامتهم واحترامهم.

(16) طالب المؤتمر الدائم لأعضاء هيئة التدريس بسرعة الأخذ بالشريعة الإسلامية في كافة القوانين تنفيذا لنصوص الدستور الذي اعتبرها المصدر الأساسي للتشريع.

(17) استطاعت نوادي أعضاء هيئة التدريس أن تكسر الحصار الحديدي الذي ضربته الدول حول الجامعات لتمنعها من أداء دورها نحو مجتمعها.

(18) أفرزت حركة النوادي شخصيات قيادية للعمل السياسي والاجتماعي على المستوى العام، استفادت منهم الأمة واسترشدت بهم في مواقفها الهامة والحاسمة.

تصاعد الصراع بين النوادي وخصوم التيار الإسلامي

نتيجة لهذه الحركة العريقة لنوادي أعضاء هيئة التدريس فقد وقع بالجامعات صراع بين توجهين:

التوجه الأول: والذي تدافع عنه نوادي أعضاء هيئة التدريس وهو التوجه الذي يؤمن بشمولية رسالة الجامعة واضطلاعها بالتربية المتكاملة لطلابها وضرورة تفاعلها مع مجتمعها وذلك ما نص عليه قانون تنظيم الجامعات الذي جاء في مادته الأولى:

"تختص الجامعات بكل ما يتعلق بالتعليم الجامعي والبحث العلمي الذي تقوم به الكليات والمعاهد التابعة لها في سبيل خدمة المجتمع والارتقاء به حضاريا، متوخية في ذلك المساهمة في رقي الفكر وتقدم العلم وتنمية القيم الإنسانية وتزويد البلاد بالمتخصصين والفنيين والخبراء في مختلف المجالات وإعداد الإنسان المزود بأصول المعرفة وطرائق البحث المتقدمة والقيم الرفيعة، ليساهم في بناء وتدعيم المجتمع وصنع مستقبل الوطن وخدمة الإنسان والإنسانية؛

وتعد الجامعات بذلك معقلا للفكر الإنساني في أرفع مستوياته ومصدرا لاستثمار وتنمية أهم ثروات المجتمع وأغلاها وهي الثروة البشرية، وتهتم الجامعات كذلك ببعث الحضارة العربية والتراث التاريخي للشعب المصري وتقاليده الأصيلة ومراعاة المستوى الرفيع للتربة الدينية والخلقية والوطنية وتوثيق الروابط الثقافية والعلمية مع الجامعات الأخرى والهيئات العلمية العربية والأجنبية، وتكفل الدولة استقلال الجامعات بما يحقق الربط بين التعليم الجامعي وحاجات المجتمع والإنتاج.

والتوجه الثاني: الذي يريد أن تكون الجامعة مطيعة للحاكم تعبر عن مراده وتتحدث بلسانه، كما أن هذا التوجه بطبيعة الحال أراد أن يدخل الجامعة في صراعات حزبية ويفرض على إدارتها قبول الخضوع لتوجهات الحزب الحاكم كشرط أساسي لاستمرار المسئولين عن الجامعة في مناصبهم.

وقد زادت حدة هذا الصراع بين التوجهين المتصارعين بالجامعات في مواقف عديدة أشهرها:

(1) قضية أرض نادي أعضاء هيئة التدريس بجامعة القاهرة، حيث خصصت أرض على النيل لإقامة ناد اجتماعي وثقافي إضافة لمبناه الصغير المنحشر وسط الحي السكني بجوار الجامعة.

وقد اتخذ النادي كافة الإجراءات القانونية الطبيعية بتسجيل الأراضي والعقارات وجهز الرسومات الهندسية وأعلن عن يوم وضع حجر الأساس ودعي إليه السيد رئيس الوزراء والسيد وزير التعليم.

وقبل الافتتاح بحوالي 12 ساعة توجهه قوات مسلحة تابعة لوزارة الداخلية واحتلت الأرض بالكامل وهددت من يقترب بإطلاق الرصاص عليه.

وكانت قضية ذائعة الصيت استنكرتها كافة الأوساط، ولكن أسفر غبار المعركة عن انتصار البندقية والمسدس وسياسة الاستيطان والغصب في مواجهة من المدنيين أعضاء هيئة التدريس وبقيت القضية بين الجامعة والحكومة مستعرة حتى عام 2000 حيث أعطيت للنادي أرضا بديلة بجوار مسجد صلاح الدين في قبالة الجامعة.

قرارات وتوصيات المؤتمر التاسع والستين:لنوادي أعضاء هيئة التدريس بالجامعات المصرية:

انعقد المؤتمر العام التاسع والستون لنوادي هيئات التدريس بالجامعات المصرية بمقر نادي هيئة التدريس بجامعة القاهرة وبحضور جامعات القاهرة، والإسكندرية، وعين شمس، أسيوط، المنصورة، الزقازيق، بنها، المنوفية، حلوان، قناة السويس، طنطا، وقد ناقش المؤتمر القضايا المهنية والقومية التي اشتمل عليها جدول الأعمال وأصدر التوصيات التالية:

جامعة أسيوط:

(1) يؤيد المؤتمر العام قرارات وتوصيات المؤتمر الطارئ لأعضاء هيئة تدريس جامعة أسيوط على امتداد جلساته الأربع في 7، 14، 28/ 11، 8/12، ويستنكر المؤتمر بشدة موقف وممارسات رئيس جامعة أسيوط وما قام به من تحويل 63 عضو هيئة تدريس إلى النيابة العامة؛

ويعتبر ذلك سابقة خطيرة في تاريخ الجامعات المصرية، الأمر الذي سيترتب عليه عواقب غير مأمونة، ويعتبر المؤتمر أن أساتذة جامعة أسيوط قد مارسوا حقا مشروعا للأفراد والجامعات والنقابات في مصر بمقتضى قرار رئيس الجمهورية رقم 537 لسنة 1981 بشأن الموافقة على الاتفاقية الدولية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمنشورة في الجريدة الرسمية بتاريخ 14/ 4/ 1982؛

ويناشد المؤتمر السيد رئيس الجمهورية سرعة التدخل لاحتواء الأزمة وتطويق آثارها وبما يلبي رغبة القاعدة العريضة لأعضاء هيئة تدريس جامعة أسيوط، ويكلف المؤتمر العام المكتب الدائم بالاتصال وتكليف مجموعة من المحامين للتعاون مع المحامين بأسيوط في اتخاذ كافة الإجراءات القانونية للدفاع عن حقوق أعضاء هيئة التدريس المحالين إلى النيابة العامة، فضلا عن التحقيقات الجارية الآن داخل الجامعة وما يترتب عليها.

كما يؤكد المؤتمر على ضرورة فتح أبواب الحوار بين النوادي والإدارات الجامعية للبحث عن أفضل السبل لحل مشاكل الجامعات لتجنب الاضطرابات والمحافظة على الاستقرار داخل الجامعات.

جامعة المنصورة:

(2) يدين المؤتمر العام موقف رئيس جامعة المنصورة وتدخله في شئون نادي أعضاء هيئة التدريس بالجامعة، الذي وضع العراقيل أمام عقد المؤتمر العام بمقر النادي، ويعتبر ذلك محاولة لكتم الأصوات الحرة وخنق الأنفاس المخلصة، واعتداء على الديمقراطية التي ينادي بها السيد رئيس الجمهورية، وفتحا لباب القلاقل والتذمر والتوتر داخل الجامعة.

نوادي الجامعات:

(3) يحذر المؤتمر العام من خطورة إنشاء نواد باسم نوادي الجامعات لما قد يسببه ذلك من قلاقل واضطرابات في الأوساط الجامعية ويعتبر المؤتمر أن نوادي أعضاء هيئة التدريس القائمة بالجامعات المصرية هي الممثل الشرعي لأعضاء هيئة التدريس.

(4) لقد حققت نوادي أعضاء هيئة التدريس إنجازات كبيرة من خلال تعاونها مع وزراء التعليم السابقين أ. د. مصطفى كمال حلمي، أ. د. أحمد فتحي سرور، أ. د. عادل عز، مما كان له أثره الواضح في حسن الأداء للتعليم الجامعي وترسيخ معاني الانتماء والوطنية في الجامعة، إن المؤتمر العام يحرص على استمرار هذا التعاون با يخدم رسالة الجامعة في تحقيق الاستقرار والتنمية.

الاعتداء على السياح:

(5) يستنكر المؤتمر العام كل ممارسات العنف والإرهاب الموجهة للسياحة في مصر، وتعريض حياة السياح للخطر، الأمر الذي يتنافى مع قيم الإسلام وتعاليمه، ويناشد المؤتمر كافة القوى السياسية والنقابية والتجمعات الشعبية الوقوف ضد هذه المحاولات حفاظا على سمعة مصر وأمنها واستقراراها.

التطاول على الأزهر والقضاء:

(6) يحذر المؤتمر العام بشدة من الممارسات الصادرة من بعض الأقلام أو الأصوات التي تستهدف النيل من الأزهر الشريف ومن القضاء المصري العظيم وأساتذة الجامعات.

رئيس المؤتمر أ.د. بدر الدين غازي عطية

وتلك النماذج التي أوضحناها .. قليل من كثير نقصد به أن نوضح أن السياسات التي طبقتها الدولة في مواجهة حركة الطلاب الإسلاميين انسحب على أعضاء هيئة التدريس وحركتهم من خلال نواديهم ولكن بقدر حركتهم في مواجهة النظام ومعارضة سياساته.

ثلاثة تقارير خطيرة: لمواجهة الصحوة الإسلامية بالجامعات

التقرير الأول: حول مؤتمر الإعداد للقادة

مبنى المركز الكشفي، مدينة نصر الزمان 1/ 7/ 1992م

الذين يحضرون المؤتمر: مدعوون بصفة خاصة من قبل السادة رؤساء الجامعات، وهم أعضاء هيئة تدريس وموظفون من الجامعات ومختارون من الطلاب وذلك من جامعات: (الإسكندرية الأزهر الزقازيق قناة السويس المنيا أسيوط). ومعيدة واحدة من جامعة عين شمس، كلية الخدمة الاجتماعية.

المحاضرون: د. يوس والي، د. أسامة الباز، أ. محفوظ الأنصاري من جريدة الجمهورية، رئيس جامعة أسيوط، أ. عبد المنعم عمارة رئيس الشباب والرياضة، نور الدين فهمي رئيس جهاز الشباب، الشيخ محمد سيد طنطاوي مفتي وزارة العدل.

ومن الصف الثاني: د. خالد رفعت، من هندسة بورسعيد، د. عبد الوهاب زقطط، هندسة الزقازيق، د. حسن بكر، علوم سياسية أسيوط.

الهدف من المؤتمر: إعداد القادة الذي يحملون مفاهيم الحزب الوطني في محاولة لإعادة (شبه تنظيم طليعي بالجامعات).

الوسائل: محاضرات وحوارات جميعها حول الظاهرة الإسلامية وكيفية التغلب عليها.

ويدل التقرير الذي بين يدي على فشل الملتقى في تحقيق أهدافه ووقوع خلاف كبير في وجهات النظر بين المدعوين والمحاضرين وكثيرا ما أوصلتهم الحوارات إلى إيجابيات الظاهرة الإسلامية ولكن إصرار السيد عبد المنعم عمارة على التصدي لها كان الاتجاه الذي غلب، وقد فشل المجتمعون في التوصل لصيغة محددة للحركة نظرا لأن كل منهم ينتمي لجهة مختلفة.

وقد أبدى عبد المنعم عمارة اسيتاءه من أعضاء هيئة التدريس بجامعة القاهرة لأنهم رفضوا حضور حفلة بالجامعة في صحبته وحضر الحفلة وحده مع المحتفلين من أسرة الحزب الوطني بالجامعة.وقد أدلى كل من حضر بدلوه في المسألة وكان أشدهم على الشباب فضيلة المفتي الشيخ طنطاوي وبعض أفراد الصف الثاني.

التقرير الثاني: حول نادي حورس

(التنظيم الشبابي المكلف بمكافحة الإسلاميين في الجامعات المصرية)

والتقرير نشر على عددين بجريدة الشعب جاء في العدد الأول:

فكرة النادي: إحياء التنظيم الطليعي الذي شكله الاتحاد الاشتراكي في الستينيات ليكون جناحا شبابيا يتشبع بأفكار النظام مقابل الإمتاع والإنفاق على شهوات الشباب المنضمين إليه.

النشأة الحديثة: عقب الدورة الإفريقية حيث تم انتقاء فتيان وفتيات من الذين شاركوا في خدمات الدورة والترفيه عن اللاعبين والضيوف.

الأهداف: يلخصها السيد أشرف المهدي، مدير النادي فيقول: نريد أن ينقرض التيار الإسلامي تماما ويتم إصلاح مسار الاتحادات الطلابية.

التمويل: من خلال اشتراكات الأعضاء ومساهمات المجلس الأعلى للشباب والرياضية.

الانتشار: يوجد للنادي تجمعات في معظم المحافظات وعلى رأسها القاهرة، والإسكندرية، وأسوان والدقهلية والمنصورة، وجاري تأسيس فروع في كل من المنوفية، الإسماعيلية، بورسعيد.

التوجهات الفكرية: يقول رئيس النادي هناك ثلاثة مسائل لا دخل لنا فيها:

الدين

السياسة

الأحزاب السياسية.

وما عدا ذلك يمكننا أن نقبله ونتعامل به.

أسباب الانتقادات الموجهة لحورس:

يقول رئيس النادي لعل السبب أن الشباب أثناء الدورة الأفريقية كانوا يسهرون معا إلى ساعة متأخرة فتيانا وفتيات وكثيرا ما كنا نبيت بالاستاد، وكان من الشباب من أوتي بأفعال تسيء إلى السمعة.وكذلك قد يكون السبب السرنجات المخدرة التي تم ضبطها مع الأعضاء عقب حفل يوم 27 فبراير الماضي.

سلوكيات أسرة حور في رحلة قطار الشباب إلى أسوان:

نقل التقرير وقائع كثيرة حول الحالة الأخلاقية المتردية لأعضاء التنظيم تصل إلى شرب الخمر والعبث الجنسي بين الفتيات والفتيان، والتطاول بالمطاوي ... وأن ذلك من الأمور المتعارف عليها في نادي حورس، بل إن بعض المشرفين يشارك الطلاب في هذه المهازل (طالع تقرير الشعب في عددي 5، 9 فبراير 1993).

التقرير الثالث: حول دراسة أعدتها جامعة المنوفية كلية الآداب

تحت عنوان: "الريادة المتكاملة للرعاية الطلابية".

وقد أرسلتها الجامعة للجامعات الأخرى بهدف الدراسة والمناقشة والتعميم.

ويعد التقرير محاولة جادة لمقاومة ظاهرة التدين بالأسلوب العلمي (كما يتصور صاحب التقرير) بالرغم من أن الدكتور صاحب التقرير حاول أن يغلف توجهاته تحت عنوان: "الريادة المتكاملة" والتقرير يبدي قلقه البالغ لوجود المتدينين بجامعة المنوفية ويصفهم كالعادة بالأوصاف المهينة.

ويحدد التقرير تسعة أهداف لتجربته التي يدعي أنها نجحت، ثم يشرح كيفية السير لتحقيق هذه الأهداف فيسرد كيف عقد كثيرا من الاجتماعات وكيف جند (4) طلاب بالتحديد أسماهم (بالرواد) لكل سنة دراسية ويشرح كذلك كيف كان الدور الرئيسي لهؤلاء منع الطلاب المتدينين (ويصفهم بالمتشددين) من إلقاء كلمات دينية بالمدرجات قبل الدروس والمحاضرات، وبدت المسألة على أنها خلاف بين الطلاب لا دخل للكلية فيه.

كما نسي نفسه تماما عندما قال في التقرير في صفحة (6) إن الطلاب الرواد المختارين كان من بين أدوارهم تذكير الأساتذة بمواعيد المحاضرات وهكذا أصبحوا أدوات لسيادته على الأساتذة أيضا وليس على الطلاب فقط، وهكذا تعب الدكتور كثيرا في هذا المجال بما يجعل لمطالبة في آخر التقرير وجاهة عند المسئولين.

وفي نهاية التقرير يقدم الأستاذ الدكتور مطالبه الآتية:

ضرورة زيادة المكافأة المالية لأعضاء هيئة التدريس الذين يتفاعلون مع التجربة ومجازاة المتقاعسين عنها.

يطبق ذلك على الطلاب أيضا فيفصل من الاتحاد ... المتقاعسون.

يعاد النظر في قانون تأديب الطلبة بحيث تعطي للعمداء صلاحيات أوسع من ذلك.

ضرورة العمل على تلبية حاجات الطلاب حتى لا يقعوا فريسة للتوجهات الإسلامية.

ماذا تعني هذه التقارير؟

تعني أن الجهات المناوئة للصحوة الإسلامية غيرت من خطتها القديمة المعتمدة على البطش البوليسي وأضافت إلى ذلك مواجهة تعتمد على الأفكار والتنظيمات المدنية، ويعتبر ذلك من أهم مكاسب الصحوة الإسلامية الجديدة التي بدأت مع جيل السبعينيات، وكان ذلك يعني أنها أجبرت الخصوم على الدخول في حوار حول القضايا المختلف عليها.

وكان ذلك لسببين:

الأول: استمرار الجماعة الإسلامية في الحوار الهادئ حول قضايا الإسلام والمسلمين ليضربوا المثل في القدرة على الحوار بالتي هي أحسن مبتعدين تماما عن العنف ووسائله.

الثاني: إن الجيل الجديد الذي نشأ في السبعينيات وامتد عمله في الثمانينات اتسم بسمات خاصة ولا يمكن وصفه بأنه مجرد امتداد لحركة الإخوان المسلمين القديمة ولكنه جيل استوعب تجربة الماضي واستفاد بها وتجنب ما وقعت فيه من الأخطاء (مثل التنظيمات السرية والعسكرة وسلطة الأمير المطلقة والصراع مع القيادة المعلنة وتكفير المخالفين واعتبار الحركة الإسلامية حركة انقضاضية على مجتمعها واعتبار القوة المادية من وسائل التغيير السياسي أو ما عرف بالخلع والإبعاد)

ومع قوة الصلة بقيادة الإخوان المسلمين متمثلة في مكتب الإرشاد والمرشد العام الأستاذ عمر التلمساني ولكن ذلك كان ضمن اتفاق واضح مفاده عدم وضع لافتة (الإخوان المسلمين) على الصحوة الإسلامية في الجامعات والأحياء، ولم يكن ذلك اعتباطا ولكن الجميع ممثلا في قيادة الإخوان وجيل السبعينيات كان يعي أن تجربة الإخوان المسلمين التاريخية لها ميزات ولها عيوب ومن الحكمة أن نجنب الصحوة الإسلامية الجديدة تحمل هذه العيوب التي ليس لها صلة بها ولا ذنب فيها.

أبرز معالم المرحلة:

الشخصيات:

في الفترة من 1970 وحتى منتصف الثمانينات برزت أسماء وشخصيات تمثل الصحوة الإسلامية، ويمكن تصنيف من أتذكر منهم على النحو التالي:

علماء وقادة:

الشيخ محمد الغزالي السقا.

الشيخ سيد سابق.

الشيخ عبد الحميد كشك.

الشيخ حافظ سلامة.

الشيخ محمد نجيب المطيعي.

الدكتور عيسى عبده.

الشيخ محمود عيد.

الشيخ أحمد المحلاوي.

الشيخ محمود عبد المجيد العسال.

الشيخ إبراهيم عزت.

الشيخ عبد الرشيد صقر.

بالإضافة إلى علماء آخرين كنا نستريح له دون أن يقتربوا منا أو يشاركوا معنا في عمل ومنهم:

الشيخ عبد الحليم محمود.

الشيخ سليمان ربيع.

الشيخ عبد اللطيف المشتهري.

القادة من الشباب:

في جامعة القاهرة:

برز منهم وائل عثمان وعصام الغزالي وعصام الشيخ وعبد المنعم أبو الفتوح وعصام العريان وسناء أبو زيد وحلمي الجزار وأحمد عمر ومحمود الراوي وعصام سلطان.

في جامعة عين شمس:

برز في الطب ماهر سالم ومصطفى طلبة ومحي الزايط وأحمد دغيدي وأشرف عبد العظيم وعبد العزيز سويلم وفي العلوم عبد المحسن زيكو والسيد عبد الستار (مؤلف الكتاب) وطه عبد الخالق وبدوي محمد بدوي وشكري مصطفي وسيد شيبة وفي الهندسة محمد الدبيسي وأسامة حامد وأسامة خضر وفي الأزهر أسامة عبد العظيم وعبد الله سعد ومحمد رشدي وفي الكليات العسكرية برز كارم الأناضولي.

في الإسكندرية برزت أسماء إبراهيم الزعفراني وخالد داوود وحامد الدفراوي وأحمد النحاس وأحمد مطر وعصام الحداد وعبد القادر الرشيدي ومحمد إسماعيل ومحمد حسين ووجدي غنيم وسعيد لطفي وجمال ماضي.

في جامعة طنطا أحمد يوسف وأنور شحاتة وعزت الدريني.

في جامعة المنصورة محمد عبد الرحمن وحامد ... ومحسن الشرقاوي وعاصم شلبي.

في الزقازيق عمر عبد الغني وعبد اللطيف الشرقاوي وأيمن عبد الغني.

في جامعة المنيا علي عمران ومحي الدين عيسى وأبو العلا ماضي وحشمت خليفة وأحمد عبد العال ومحمد أبو المعاطي وأحمد زكي وجمال عبد الصمد وكرم زهدي وفؤاد الدواليبي وأسامة حافظ وحسن يوسف وأبو ستيت وإبراهيم ذا النون وحسين سليمان وعاصم عبد الماجد.

في جامعة أسيوط أسامة سيد وناجح إبراهيم وعادل الخياط.

كما ظهر في الأحياء حسن الجمل بالمنيل بالقاهرة والشيخ محمد المطراوي بالمطرية وفي مصر الجديدة مجموعة مسجد الشعراوي (جمال عبد الناصر سابقا) ومنهم عبد اللطيف الشريف مؤسس مصانع الشريف ورأفت عياد ومحمد رجائي ومجموعة النزهة

ومنهم محمد السعيد عبد اللطيف المشتهري ومحمود صالحين ومحمد عطية عيسى وحلمي اللق والدكتور فتحي عبد الوهاب وسيد عي حسن شبراخيتي وأحمد حجازي ومحمد شريف الفخفاخ ومحمد شرف الدين ومحمد عبد السلام شرف الدين، ومجموعة شبرا وأشهرهم عبد الله عمر الذي أعدم في حادثة احتلال الحرم المكي مع جهيمان، ومجموعات مشابهة في كل محافظة مصرية.

ومن هؤلاء المنتمين للجيل الشهيد فتحي الشقاقي مؤسس تنظيم الجهاد الإسلامي في فلسطين وكان يدرس بجامعة الزقازيق وعدد من مؤسسي حركة حماس منهم موسي أبو مرزوق وخالد مشعل وأسامة حمدان.

المعالم العقدية للجيل:

مع ملاحظة أننا نتحدث عن تاريخ وليس عن الواقع اليوم فقد اختلفت عقيدة المشاركين في الصحوة الإسلامية تجاه المجتمع والحكومات والمؤسسات والنصارى، فالعلماء القادة الذين ذكرتهم كانت منطلقاتهم العقدية الشعور بأن سبب تخلفنا وهزيمتنا هو بعدنا عن الله وتفريطنا في تعاليم القرآن والسنة بالمعنى العام ولم يكن في خلدهم أن نبرتهم الحادة في نقد الواقع الديني سوف تؤدي إلى ما هو أبعد من ذلك لدى الشباب؛

ولكن الذي سيطر على شباب الصحوة كان الفكر التكفيري، وأهم السمات التي ظهرت وشاعت بين الجيل بالتصريح أو التلميح كانت:

النظرة للمجتمع على أنه مجتمع جاهلي والدليل عند الشباب هو المعاصي الفاشية وفي مقدمتها سفور النساء وبيع الخمر وتداوله والتعامل بالربا والحكم بغير ما أنزل الله.

النظر إلى الدولة ومؤسساتها وأجهزتها على أنها غير إسلامية وتصريح قطاع ملموس بأن الحكومات كافرة وكل من يعاونها أو يتبعها ويسير في ركابها وخاصة الشرطة والجيش.

الاعتقاد بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب شرعي على شباب الصحوة والدليل المشهور فيما بيننا هو حديث (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) وفرضية تغيير المنكر القائم في النظام والحكومة والشعب ولو بالقوة.

النظرة إلى الأقباط على أنهم أعداء يجب محاربتهم وقد تفاوت العداء للنصارى بين مجرد الكراهية والحذر في الوجه البحري إلى الشدة والعنف واستحلال الأموال والدماء عند الإسلاميين في الصعيد، وكان من أسباب ذلك التحول في الفكر المصري موقف البابا شنودة الذي بدأ فترته متشددا تجاه المسلمين ومعلنا لشعارات غريبة جديدة مثل وقوع ظلم على النصارى وتفرقة عنصرية وحرمان من الوظائف العليا في الدولة وهكذا تكهربت العلاقة بين المسلمين والنصارى وبرز مصطلح الفتنة الطائفية ليعبر عن هذه الحالة.

النظر إلى القومية العربية كدعوة جاهلية هدفها صرف العرب عن دينهم واعتبار جامعة الدول العربية أداة استعمارية أسسها وأشرف عليها المحتل الإنجليزي وغزاها ميشيل عفلق لتكون بديلا عن الخلافة الإسلامية.

النظر إلى العالم الغربي الغير مسلم (أمريكا وأوروبا والاتحاد السوفيتي وإسرائيل) كدار حرب وقوى معادية للإسلام ويشمل ذلك الشعوب والحكومات دونما أي تفرقة.

عدم الإحساس بوجود العالمين الآسيوي والأفريقي ولذلك لا أثر لهما في أدبيات المرحلة.

الفعاليات والسمات البارزة للصحوة والتأثير في المجتمع:

شاركت الصحوة الإسلامية لهذا الجيل في عدة ظواهر اجتماعية ميزتها وأبرزتها عدة فعاليات واقعية يمكن رصدها على النحو التالي:

ظاهرة الزي الإسلامي للنساء واللحى للرجال وأسلمة المناسبات:

من أهم ما تميزت به الصحوة ظاهرة الإقبال على الزي الإسلامي للنساء وإطلاق اللحية عند الرجال، لم يكن ذلك من موضوعات الحركة الإسلامية في الثلاثينات أو الأربعينات وحتى السبعينيات ومن الثابت أن جيل المتدينين قبل الصحوة في السبعينيات لم يكن ملتفتا لهذا حتى أن قادة مشاهير في الحياة الإسلامية كانوا يدخنون السجائر وزوجاتهم ونساؤهم سافرات كنساء الطبقات المتغربة؛

وكذلك التمسك بالمظاهرة الإسلامية في الأعراس ومناسبات الموالد وعادت للحياة مصطلحات الوليمة للعرس والعقيقة للمولود والوكيرة للمنزل الجديد وانتشرت أدعية المناسبات كدعاء السفر ودعاء الأكل ودعاء الشرب ودعاء الزواج ودعاء المساء ودعاء النوم ودعاء القيام من النوم و ... إلخ، كل هذه كانت إبداعات الصحوة الإسلامية من حيث إخراج بطون الكتب وتحويلها إلى حالة شعبية عامة.

صلاة العيدين خارج المسجد:

غدت صلاة العيدين خارج المساجد وفي الساحات العامة وسيلة الصحوة الإسلامية لحشد الشعب خلفها مرتين كل سنة في عيد الفطر وعيد الأضحى وقد أحسنت الدولة صنعا عندما تبنت ذلك ونظمت وزارة الأوقاف معظم الساحات بنفسها، ولكن يبقى هذا الإحياء لتلك السنة التي أميتت من إنجازات جيل السبعينيات الإسلامي.

تداول الأشرطة الإسلامية:


ومن هذه الإنجازات كذلك استخدام تكنولوجيا أشرطة الكاسيت لنشر المواعظ والمحاضرات الإسلامية، وقد أصبح الشريط الإسلامي من سمات جيل السبعينيات ولا حسب أن شريط كاسيت في الدنيا نافس شريط الشيخ عبد الحميد كشك خطباء جيل الصحوة الإسلامية في السبعينيات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق