السبت، 21 ديسمبر 2013

  • اخر حديث للدكتور احمد عصمت عبد المجيد عصمت عبد المجيد وحديث الوداع: أغادر منصبي ومكتبي وشعور بالرضا والارتياح يغمرني ولا أفهم سر الحملة العراقية ضدي الجامعة العربية هي أساس مستقبل العرب في السنوات القادمة * تأثرت بعدد من الرؤساء العرب وأجريت حوارا صادقا مع صدام حسين في بغداد * علاقتي بالكومبيوتر مفقودة وحفيدتي تعلمني الإنترنت قبل ساعات من مغادرته مكتبه كأمين عام للجامعة العربية أمس خص الدكتور عصمت عبد المجيد «الشرق الأوسط» بحديث شامل تناول فيه موقفه من الملف العراقي وعلاقاته مع الرؤساء العرب، كما تطرق الى الدور الذي لعبه في قضية لوكربي. وقال الدكتور عبد المجيد الذي انتهت أمس فترة ولايته الثانية بعد عشر سنوات انه يغادر منصبه «بغير ندم وبلا حسرة على ما قد مر أو فات»، معتبراً انه بذل كل جهد ممكن لخدمة المصالح العربية. وبعدما أشاد بخليفته القادم عمرو موسى تمنى له التوفيق في مهمته الصعبة. * على مدى السنوات العشر التي أمضيتها في منصب الأمين العام للجامعة العربية من هم أكثر القادة والرؤساء العرب الذين نجحت في اقامة علاقات شخصية معهم؟ ـ انني أكن كل تقدير واحترام لكل القادة والرؤساء والملوك العرب انطلاقاً من ادراكي لحرصهم على نجاح جهود الجامعة العربية في تفعيل العمل العربي المشترك، ولقد أتاحت لي فترة خدمتي كأمين عام للجامعة العربية أن أقترب على مدار عشر سنوات كاملة من معظم القادة والرؤساء العرب بشكل كبير. وبشكل شخصي فقد اقتربت من عدد كبير منهم، من بينهم الرئيس الجزائري السابق الأمين زروال والعاهل الاردني الراحل الملك حسين بن طلال والعاهل المغربي الراحل الملك الحسن الثاني. وقد تتعجب اذا قلت لك ان كلا من القادة العرب لديه شخصية متميزة في قراءة ما حوله بكل وعي وموضوعية وبما يتماشى مع روح العصر ومتطلباته. وفي الواقع الظروف أتاحت لي التعامل مع الجميع من دون استثناء حتى الرئيس العراقي صدام حسين حيث سبق لي ان التقيته في بغداد على الرغم من ان البعض يقول انني لم أذهب للعراق، لقد ذهبت الى العاصمة العراقية وجلست مع الرئيس العراقي مطولا. * ما هي انطباعاتك اذن عن الرئيس العراقي صدام حسين؟ ـ كان حديثي معه هادئا جداً ومحترما جداً وأثرت معه قضية الأسرى والمفقودين الكويتيين فرد بأنه لا يوجد أسرى وإنما مسجونون عرب وأفرج بالفعل عن 1000 منهم.
    * هل تعتقد انه يمكن عربياً اجراء حوار موضوعي مع صدام حسين؟
    ـ طبعاً ولماذا لا، الحوار الهادئ والعقلاني فيه مصلحة جميع الأطراف العربية خاصة الكويت والعراق مع كل الاحترام والتقدير لرئيس الدولة، واعتقد ان الحوار مطلوب في كل وقت وزمان. * وماذا عن دورك في قضية لوكربي؟ ـ لعلك تعلم انني كنت صاحب الاقتراح الخاص بمحاكمة المواطنين الليبيين أمام محكمة اسكوتلندية وعلى أرض محايدة وهو ما تم بعد ذلك بالفعل. ونحن في الجامعة العربية تفهمنا الموقف الليبي منذ اندلاع الأزمة الليبية ـ الغربية، وكان لدي ايمان بعدالة وسلامة موقف الزعيم الليبي معمر القذافي وعلى هذا الأساس تعاطت الجامعة العربية مع ملف هذه الأزمة وسعينا لحشد التأييد لموقف ليبيا الذي أخذ بعده العربي في هذا المجال. وكان للجامعة دور مهم في شرح الموقف الليبي في كافة المحافل الدولية والاقليمية وكانت لنا اتصالات مع جميع الأطراف بهدف التوصل الى صيغة مقبولة للحل، وأنا أشعر بالراحة عندما نرى العقوبات على ليبيا قد تم رفعها وان الأمور بدأت تسير في طريقها الطبيعي بعيداً عن جو الأزمة والحصار. * هل تشعر بالقلق لان مشروع المصالحة العربية الذي طرحته منذ عام 1993 لم يتحقق حتى الآن؟ ـ حسناً، انت ذكرت عام 1993 وهو العام الذي طرحت فيه مبادرة خاصة لتحقيق المصالحة العربية الشاملة على أساس المصارحة، وهذا التوقيت كان لاحقاً على أزمة الدخول العراقي للكويت في الثاني من اغسطس (آب) 1990 وفي هذا الوقت لم يكن أحد ليفكر في المصالحة أو تقديم مبادرة بشأنها، لان المناخ العربي كان سيئاً. لكن واجبي القومي وشعوري بالمسؤولية الملقاة على كاهلي كأمين عام للجامعة العربية دفعاني الى طرح هذه المبادرة التي لقيت استجابة طيبة تحتاج لمزيد من الوقت والجهد لمتابعتها، ولكن يكفي ان المصلحة العربية باتت هي الحاضر الدائم في الشارع السياسي العربي وهذا في حد ذاته تأكيد لأهمية ما طرحناه في السابق. * هل ثمة نصائح تريد تقديمها لخليفتك القادم عمرو موسى قبل توليه مهام عملك السابق؟ ـ انه صديق وزميل وعلى كفاءة وخبرة لا شك في ذلك وله سجل حافل في الخدمة الدبلوماسية وهو ما يدفعني للتفاؤل حول قدرته على القيام بعمله على أكمل وجه. وتحدوني الثقة فيه وفي أنه سيبذل قصارى جهده من أجل خدمة القضايا والمصالح العربية العليا. * هل ثمة ما يمكن ان تحذره منه؟ ـ لا، الأمر ليس بهذه الصورة، فالأمور تخضع لتقدير الشخص، وحساباتها مختلفة من شخص لآخر، ولهذا أنا أفضل تعبير التعامل وليس المواجهة لان الدبلوماسية الهادئة هادفة في نهاية المطاف، ولكن ذلك لا يعني انني أهرب من المواجهة، بل انني غالباً ما أواجه بعنف متى اقتضى الأمر ذلك. ان عوامل الضعف واضحة المعالم في الجسد العربي، ودعني أقول لك ان اسرائيل تستفيد من اخطائنا العربية وتزداد بها قوة بما يعني ان قوتها مصطنعة وبفعل ايدينا واعتقد انه آن الأوان ليتغير ذلك لان الوقت لم يعد في صالحنا كأمة عربية. * من بين كل الملفات التي تعاطيت معها كأمين عام للجامعة العربية.. ما هو الملف الذي لم يحسم كما ينبغي خلال فترة ولايتك؟ ـ طبعاً أهم ملف هو الملف الكويتي ـ العراقي ومن المؤكد ان الظروف الآن باتت مهيأة لحسم هذا الملف بشكل جيد، ولعلك تابعت ما جرى في قمة عمان الأخيرة وأدركت ان ثمة توجها عربيا لتحقيق المصالحة، وكل هذه الأمور هي بمثابة مؤشر قوي على ان الملف الكويتي ـ العراقي ليس صعب الحسم أو الحل ولكن كل ذلك سيظل مرهوناً بحسن النوايا وبقدرة جميع الاطراف على تجاوز مرارة الماضي وفتح صفحة جديدة في العلاقات العربية. وأعتقد ان السبيل الأنسب لذلك هو المصارحة قبل المصالحة وليس بأسلوب دفن الرؤوس في الرمال كالنعامة لان ذلك لن يحقق شيئاً مفيداً للعالم العربي على الاطلاق. * يبدو ان قولك في حفل تكريمك الأخير بالجامعة انك غير نادم على أي موقف أو تصريح سبق لك اتخاذه قد استفز وسائل الاعلام العراقية التي اعتبرت فترة ولايتك فترة سوداء في تاريخ الجامعة العربية، ما هو تعليقك؟ ـ هذا هو الأسلوب الذي يتعاملون به مع الأسف، وأنا لا أفضل الدخول في مهاترات تبعدنا عن واقعنا. انني اسمي كل الأشياء بأسمائها وما حدث في اغسطس 1990 كان صدمة كبيرة في العالم العربي ما زلنا ندفع ثمنها، وما حدث هو غزو واجتياح من دولة عربية لأخرى وضد كل القيم والمبادئ، وأنا لم اخترع هذا الغزو بل قام به العراقيون، وأنا لا افهم سر الحملة التي يقومون بها من وقت لآخر ضدي ولأسباب غير واضحة. ولكنني لن أنزلق لأسلوب الشتائم أو الرد الهابط لان ذلك ليس أسلوبي ولا من طبيعتي الشخصية، وآمل مع الوقت ان يدركوا ان اسلوبهم لن يحل أو يساعد على الحل. انني أقول دائماً ان الخلاف في الرأي لا ينبغي أن يفسد للود قضية. * من الملاحظ انك غالباً ما تستعين بأبيات من الشعر العربي كمفردات في خطابك السياسي، فلمن تقرأ من الشعراء العرب؟ ـ انني حريص على قراءة الشعر سواء لأمير الشعراء احمد شوقي أو أبو الطيب المتنبي. * وماذا تسمع من الأغاني؟ ـ أنا اسمع أي لحن ونغم وكلام جميل ورقيق. * هل لديك اطلاع بما يسمى بالموجة الشبابية في الموسيقى والغناء؟ ـ في الحقيقة في هذا الصدد فأنا أكتفي بمراقبة أولادي وأحفادي وأتعلم منهم. * ما هي علاقتك مع الكومبيوتر والانترنت؟ ـ علاقة ود مفقود بسبب ضيق الوقت، وقد تتعجب اذا اخبرتك ان حفيدتي لديها شغف بالكومبيوتر ومثابرة على الانترنت لذلك تقوم باعداد ملفات خاصة لي حول كل ما ينشر عني أو عن الجامعة العربية على شبكة المعلومات الدولية «الانترنت». واعتقد ان الانترنت أصبحت أمرا حيويا لكل الطوائف العمرية والاجتماعية. * ماذا تنوي ان تفعل بعد التقاعد رسمياً كأمين عام للجامعة العربية؟ ـ هناك الكثير أمامي لكي أفعله، وسبق لي ان أسست مركز القاهرة للتحكيم الدولي وأنا رئيس جمعية المحكمين المصريين والافارقة، كذلك عضو في لجنة التحكيم الدولية التابعة للبنك الدولي. ولقد عملت في هذا المجال منذ فترة، ولعلك تعلم انني كنت رئيس اللجنة القومية في عملية تحكيم طابا لمدة أربع سنوات. وأعتقد انني سأستمتع مجدداً بالعودة لمزاولة رئاستي لمركز التحكيم. * قبل مغادرتك مكتبك في الجامعة العربية ما الذي تفتقده؟ ـ لا شيء، أنا لا افتقد شيئاً فقد أديت عملي على أكمل وجه وقدر استطاعتي وسعيت لخدمة قضايا أمتنا العربية بكل اخلاص وبضمير حي، لذلك أقول لك بكل صراحة انني أغادر مبنى الجامعة العربية ومكتبي وشعور بالرضا والارتياح يغمرني فأنا لم أقصر قط في اتمام عمل تم اسناده لي ولا أشعر بالندم على ما قد سبق.
  • Nagy Hekal
    نبذة عن حياته؟؟
  • Nagy Hekal
    عصمت عبدالمجيد: في جامعة الدول العربية لم أندم لحظة واحدة! أولى المحطات التى أتوقف عندها وأعتبرها عاملاً رئيسًا فى تشكيل شخصيتي وتكويني وثقافتي هي محطة الميلاد في مدينة الإسكندرية، وهي محطة لم أقم باختيارها لكني أعتز بها، فرحلتي اليومية التي كنت أقطعها من حي بولكلي حيث كنت أقيم حتى حي الشاطبي مكان مدرستي الثانوية سان مارك رحلتي الصباحية هذه حفرت في ذاكرتي مشاهد لخليط من البشر الذين كانت تعج بهم المدينة في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي أصحاب القبعات واللغات الفرنسية والإيطالية واليونانية، تلك كانت بداية علاقتي بالآخر وبداية صياغة أسلوبي وتعاملي مع الأوروبيين والأجانب، وسهلت لي كثيرًا مهمتي الدبلوماسية فيما بعد. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فقد منحتني فرصة لإلقاء نظرة على الواقع الذي يعيشه وطني فهؤلاء الغرباء هم الذين يملكون مقدرات هذا الوطن وأبناؤه يعيشون فيه كالغرباء.هذه التفاصيل التي انطبعت في ذاكرتي رسخت داخلي إحساسًا بأن وطني يمر بلحظة مخاض عسير بدأت بوادره بثورة عمر مكرم وأهل الإسكندرية في نهاية القرن الثامن عشر ولم ينته بعد.ü يوم الخميس السادس من أكتوبر عام 1938م يشكل محطة انفعال أخرى بالنسبة لي كان عمري وقتها 15 عامًا وكنت طالبًا بالمرحلة الثانوية، وكان هذا اليوم هو موعد الاحتفال السنوي لجمعية المواساة الخيرية التي كان يرأسها والدي رحمه الله، ومن خلال هذه الجمعية أسس مستشفى المواساة بتكليف من الملك فؤاد على غرار مستشفى مارتن لوثر بألمانيا.وقد جرت العادة أن يلقي والدي كلمة الجمعية فى الحفل الذي يحضره الملك ولكن وبحسب طبيعة الأمور فى ذلك الوقت وسياسة القصر التي كانت تقوم على الدسائس والوقيعة بين الجميع فقد دس أحدهم لوالدي لدى الملك، فطلب ألا يقوم بإلقاء كلمة الجمعية فى الحفل وبلّغ أبي رسميًا بذلك.لم أكن كبيرًا بدرجة كافية لكني كنت قادرًا على استيعاب رفض والدي حضور الاحتفال كرد منطقي على هذه الدسائس، كنت قادرًا على استيعاب ما يدور بداخله عندما أصر على الذهاب إلى مقهاه المفضل وتناول القهوة فى الوقت الذي يمر فيه موكب الملك فى طريقه للحفل وقد حدث ذلك بالفعل ورآه الملك.كنت مدركًا أن ما يهدف إليه والدي هو الحفاظ على كرامته مهما كلفه ذلك. ومن هنا أدركت معنى الكرامة حتى بعد إحالته إلى المعاش ووفاته بعدها بسنوات قليلة ظلت ذكرى هذا اليوم محفورة بداخلي مرتبة بالمعنى الواسع للكرامة كرامة الوطن.وبقدر ماكانت محطة إخفاق وإحباط في وقتها بقدر ما أنظر إليها الآن كمحطة نجاح وضعتني على أول طريق احترام الذات مهما كلفني ذلك من ثمن.ü محطة ألم كبيرة تلت هذه الأحداث عندما مات والدي وكنت طالبًا بكلية الحقوق جامعة فاروق الأول الإسكندرية حالياً، كان حزني عميق لأنه مات مقهورًا مدسوسًا عليه ولكن كان عزائي أنه مات مرفوع الرأس.ü مطلع الأربعينيات من القرن الماضى أعتبره محطة نجاح كبيرة في حياتي العملية. في هذا الوقت كانت الحرب العالمية الثانية في ذروتها وكانت الجامعة أرضًا خصبة للتعبير عن حالة الغضب التي كانت تجتاح الناس، وكان طلبة الجامعة يترجمون غضبة الناس هذه إلى مظاهرات وخصوصًا بعد حادث 4 فبراير 1942م الشهير عندما حاصرت دبابات الجيش البريطانى قصر الملك فاروق بعابدين بالقاهرة وجنبًا إلى جنب كانت تسير المظاهرات منددة بما يحدث في مصر وما يفعله الفرنسيون بلبنان.ü وأولى محطات النجاح التي أقصدها كانت بتأسيس نادي الاتحاد العربي في بدايةعام 1944م. كان هذا النادي خليطًا من المصريين والعرب وكان انعكاسًا حقيقيًا مبكرًا لفكرة العروبة والقومية العربية، وبذلك كانت الجامعة بعد الأسرة والمدينة هي العامود الثالث في بناء التكوين الفكري والقومي والإنسانى لأغلبنا في ذلك الوقت.ويشاء الله أن تكون جامعة الإسكندرية بعد هذا الحدث بأشهر قليلة مقر توقيع بروتوكول الإسكندرية الذي اتفقت بمقتضاه 7 دول عربية على إنشاء جامعة الدول العربية، ولتكون الإسكندرية مهدًا لأول منظمة تجمع العرب في العصر الحديث. وكانت سعادتي لا توصف بمدينتي من ناحية وبفكرة عميقة الجذور في نفسي وهي القومية العربية من ناحية أخرى.ü عام 1944م محطة نجاح حقيقية على الصعيد العملي فبعد تخرجي في الجامعة رفضت العمل بسلك النيابة وكانت السبيل الوحيد للوصول إلى مناصب القضاء. وكان رفضي لأسباب عائلية لما يستدعيه نوع العمل هذا من سفر وتنقل بين البلدان المختلفة، فقد كنت مسؤولاً عن أسرتي ـ بعد وفاة والدي ـ كنت أكبر أشقائي فاخترت العمل بقلم قضايا الحكومة بالإسكندرية وكنت سعيدًا بذلك وهيأت نفسي على الاستمرار بعملي هذا سنوات طويلة لكن القدر كانت له تدابير أخرى.فقد أعلنت الدولة عن إيفاد بعثات للدراسة بالخارج. والدتي هي التي تابعت الإعلان وتحمست للأمر وكان منطقها ألا أضيع فرصة استكمال دراستي العليا بالخارج وأصرت رافضة الأخذ بأي اعتبارات أخرى. وكان لموقفها هذا أكبر الأثر في نفسي وفي تغيير مسار حياتي كلها. فقد ضربت مثلاً في التضحية والإيثار وتقديم فريضة العلم على كل اعتبار آخر.وهكذا أجريت الاختبارات وقد كانت الغرفة التي دخلتها للاختبار بمبنى وزارة الخارجية هي التي دخلتها بعد ذلك بسنوات وزيرًا للخارجية.ü وفي عام 1945م صدر قرار بتعييني ملحقًا بوزارة الخارجية لتبدأ رحلتي في عالم الدبلوماسية وتستمر ما يقرب من نصف قرن من الزمان وكانت البداية في فرنسا.هناك محطة نجاح قومية في ذات العام 1945م وكنت في فرنسا علمت بتأسيس جامعة الدول العربية كانت حماستي للموضوع منذ البداية كبيرة، وكانت غربتي تضيف لحماستي هذه ومشاعري الدافقة تجاه وطني الكبير مزيدًا من الإحساس بالانتماء والترابط والتوحد.وأذكر هنا حادثة بسيطة كان لها دلالتها العميقة بالنسبة لي. فذات يوم وكنت أتجول بأحد الأسواق استوقفت بائعًا للموز وطلبت ثمرتين بقدر احتياجي، سألني بالفرنسية من أين أتيت؟ فقلت له من مصر فابتسم ورحب بي وقال إنه جزائري، ثم أخرج من جيبه صورة منزوعة من صحيفة ومطوية بعناية لعبدالرحمن عزام باشا أول أمين عام للجامعة العربية وأرانيها فخورًا وتبادلت معه الحديث ثم قدمت له ثمن الموز فرفض بشدة معتبرًا أنه هدية من شقيق لشقيق.إلى هذا الحد كانت رغبة الشعوب العربية في التوحد إحساسًا عميقًا بالجامعة.ü محطة فشل عربي كبير عام 1948م علمت بأخبار الحرب وأنا في فرنسا وعدت إلى مصر لأبدأ عملي بالوزارة وسط جو مفعم بمشاعر الحزن والألم بعد توقيع اتفاق الهدنة بين الطرفين مصر وإسرائيل بثلاثة أيام كان إحباطي غالبًا وأصبت بشعور عام بعدم الرضا عن أي شيء. ووقتها أخذت قرارًا بترك العمل بالوزارة والعودة إلى مدينتي الإسكندرية والعمل بقلم قضايا الدولة، ولكني في النهاية امتثلت لرأي السفير كامل عبدالرحيم وكان وكيلاً لوزارة الخارجية وقتها نظرًا لاحتياج الوزارة للمتميزين من أبنائها هكذا وصفني شاكرًا وقررت البقاء.وفي العام نفسه ـ ألم أقل إنه محطة فشل كبيرة ـ كنت وقتها أبحث عن رموز نظيفة في عالم الدبلوماسية وكان أغلبهم يهتمون بالمظهر وأشياء أخرى متجاهلين الاهتمام بدورهم الحقيقي. كان عالم الدبلوماسية جزءًا من عالم الفساد الكبير الذي كان منتشرًا في مصر وقتها. في هذا الوقت عرفت كمال الدين صلاح كان سكرتيرًا أول بالخارجية وكان شخصية فذة وطنيته جارفة، وحماسه صادق، كان نموذجًا للدبلوماسى رفيع المستوى المخلص، اختارته الخارجية وقتها ليمثل مصر في لجنة الإشراف على استقلال الصومال عن بريطانيا وإيطاليا. قام بمهمته على خير وجه في توحيد القوى الوطنية، وكان له دوره البارز في حصول الصومال على استقلاله ولكن مع الأسف انتهى الأمر بتدبير مؤامرة وتم اغتياله ليكون أول شهداء الأمة العربية في قضية التحرير الكبرى، وكانت صدمتي كبيرة وإحباطى أكبر.ü عام 1950م كان محطة مهمة جدًا بالنسبة لي وكانت من بدايتها باعثة على الدهشة في الوقت ذاته، فقد تم نقلي إلى سفارة مصر في لندن ووقتها كان هذا المنصب على قدر كبير من الأهمية لا يناله إلا ذوو الحظوة، كان القرار مفاجئًا لكننى لم أتردد في قبوله.وفي العام ذاته تزوجت زوجتي ورفيقة كفاحي إجلال أبو حمدة وسافرنا إلى لندن لنبدأ معًا مرحلة جديدة عن كل مراحل عمري السابقة.ü 1951م محطة دامية شهدت خلالها العلاقات بين مصر وبريطانيا أزمة شديدة ولاسيما باشتداد المواجهات بين القوات البريطانية والفدائيين المصريين في منطقة قناة السويس، وبعدها توالت التحولات بسرعة من حريق القاهرة وحالة الفوضى التي عمت البلاد، ثم قيام ثورة يوليو 1952م، ثم إعلان الجمهورية كل هذا كان من توابع هذه المحطة.. ولكني وسط هذا الخضم المؤلم كان عام 1952م محطة نجاح كبيرة بحصولي على درجة الدكتوراه من جامعة باريس.ü عام 1954م كان محطة نجاح مهمة أيضًا بالنسبة لي كانت وقتها تجرى مفاوضات جلاء الإنجليز عن مصر، كانت محطة تاريخية بالنسبة لي لأني قمت بأقرب الأعمال إلى قلبي. فقد شرفت باختياري مستشارًا للقيادة الشرقية ومشاركًا في مفاوضات الجلاء. فمنذ تلك الأيام بدأت أدرك العناصر الجوهرية في عملية التفاوض وتكونت لدي خبرة في كيفية التفاوض وأساليبه وقد صاحبتني تجربتي الثرية في هذا المجال طوال السنوات التى لحقت ذلك.فالمفاوضة معركة أيضًا تحتاج لثبات وتصميم ثم وضوح في الرؤية ثم صبر وروية، وهي مغامرة وسيلتها الوحيدة لمعرفة النجاح هي الإقدام عليها وهو أمر ليس سهلاً.ü عام 1956م العدوان الثلاثي ورغم ما قد يتبادر إلى الذهن فأنا أعتبر هذا العدوان محطة نجاح مصرية أسفرت عن نصر لإرادة المصريين. فالحرب كما يعرفها القانون الدولي ليست سوى إحدى الوسائل لتحقيق الإرادة السياسية. ولكن ما حدث في عام 1956م كان مدعاه لفخر دولة هي مصر فرضت عليها حرب من إمبراطوريتين عاتيتين بمعاونة دولة مسلحة حتى أسنانها تنتهي بهزيمة تاريخية للثلاثة معًا وتخرج الدولة المعتدى عليها منتصرة.أعتبرها على المستوى الشخصى محطة انتصار ونجاح لي شخصيًا.ü عام 1957م محطة جنيف إن جاز لي القول، وهي تعتبر محطة نقلة في حياتي فقد تسلمت خلالها عملي مستشارًا بوفد مصر الدائم بالأمم المتحدة، ذهبت دبلوماسيًا وبعد أشهر قليلة أصبحت ممثلاً لدولة الوحدة التي جمعت بين مصر وسوريا وقتها.وفي جنيف كانت المحطة مثيرة فقد قامت الثورة فى لبنان وسقط الحكم الملكي بالعراق عام 1958م وشهد عام 1960م استقلال الدول الإفريقية الواحدة تلو الأخرى.أعتقد أني آلمت القارئ بمحطات الألم المتعددة، لكني لا أستطيع إغفال محطة 1967م التي هزت وجدان كل عربي من المحيط إلى الخليج ولكن العام الذي تلاه عام 1968م تحول إلى محطة سعادة بالنسبة لي، فقد توليت رئاسة الهيئة العامة للاستعلامات فجمعت بين العمل الإعلامي عمل الغرف المفتوحة والعمل الدبلوماسي بغرفه المغلقة. وأذكر أني جندت الإعلام وقتها لفضح واقعتين في وقت حرب الاستنزاف هما قصف مصنع أبو زعبل ومقتل 70 عاملاً مصريًا وقصف مدرسة بحر البقر الابتدائية، كانت مهمتي هي نقل الإعلام إلى هاتين البقعتين وأعتقد أني نجحت وقد كان هذا مدعاة لسروري.ü عام 1970م شهد وفاة اثنين ممن كنت أعتز بهما فكان محطة حزن أخرى جمال عبد الناصر وشارل ديجول.ü عام 1971م محطة تكمن أهميتها فى اختلافها، ففي هذا العام كنت وزيرًا لشؤون مجلس الوزراء في وزارة د. محمود فوزي، أعتبر هذا المنصب تكريمًا لي رغم أنه لم يدم طويلاً نظرًا لاستقالة الوزارة عام 1972م.وفي العام ذاته كانت محطة غاية في الأهمية بالنسبة لي، حيث انتقلت مندوبًا دائمًا لمصر لدى الأمم المتحدة فى فترة دامت 11 عامًا انتهت عام 1983م شهدت الأمة العربية خلالها الكثير من التحولات.ü عام 1989م محطة التفاوض حول طابا وهي محطة كبيرة لما شكلته من أهمية فقد تفاوضنا لاسترجاع بقعة صغيرة من الأرض تفاوضًا عسيرًا لكنه كلل بالنجاح.ü عام 1990هذه المحطة محطة الجامعة العربية، الصدفة وحدها دفعتني لمنصب أمين عام الجامعة العربية. فقد كان الأمين العام الشاذلي القليبي قد استقال بعد اتخاذ الجامعة قرارًا بالعودة إلى القاهرة، ولأن العرف كان أن يصبح الأمين العام من بلد المقر فقد تم اختياري لتبدأ أعمال الدورة رقم 95 في مايو 1991م بالقاهرة. وهذه المحطة شهدت إنشاء مكتب للجامعة في العاصمة الصينية بكين على غرار مكاتبها في موسكو وباريس ولندن وواشنطن.بدأت عملي بالجامعة العربية وكان الغزو العراقي للكويت ما زال يلقي بظلاله القاتمة على أجواء العلاقات العربية العربية، وكنت متابعًا للأحداث التي تلت الغزو في مؤتمر وزراء الخارجية العرب الذي عقد في القاهرة وقتها، وما زال هذا الملف يشكل نقطة ألم وإحباط كبيرة بالنسبة لي؛ لأنه ما زال ملفًا مفتوحًا على جراح كبيرة.عندما توليت رسميًا منصبي كأمين عام للجامعة في مايو 1991 كانت أكثر الأشياء إيلامًا لي هي حرب الخليج الثانية أو لنقل الحرب ضد العراق أكثر المحطات إيلامًا لنفسي ورغم ذلك فلم يكن هناك شيء لم نقدمه.أشعر بالرضا التام عن أداء الجامعة خلال هذه الفترة بعد استنفاد كل الطرق المتاحة سواء لإثناء العراق عن عزمه على غزو الكويت أو لاتقاء شر الحرب ضد بلد عربي نكن له جميعًا كل الود والاحترام .وكل المحاورات والمداولات التي جرت خلال تلك الفترة تشهد على جهودنا تلك سواء بين بغداد والقاهرة أو بين بغداد والرياض.وأعد الآن لكتاب خاص بهذه المرحلة عن السنوات العشر التي أمضيتها أمينًا عامًا لجامعة الدول العربية أسرد فيه كل ما دار خلال هذه السنوات ليكون استكمالاً لكتابي الأول عن رحلتي مع الدبلوماسية وعنوانه سنوات الانكسار والانتصار.وفي نهاية مدة أمانتي للجامعة كانت هناك محطة إشراق في عام 2001م بحصولي على نجمة القدس أرفع الأوسمة الفلسطينية من الرئيس الفلسطيني عرفات.ü عام 2001 شهد عودتي لعملي المحبب في التحكيم الدولي بعد انتهاء مدة عملي كأمين عام للجامعة العربية لأكون قد أتممت رسالتي على خير وجه وباقتناع ورضا شديدين لم تواتني خلالها لحظة ندم واحدة.ü أما محطات النجاح والإخفاق في حياتي الشخصية فأنا لا أعتبرها محطات لكنها علامات باقية، فزواجي من زوجتي إجلال عام 1950 علامة مهمة بما قدمته لي طوال 52 عامًا من عمر زواجنا فكانت نعم الرفيقة المساندة الصبورة على ظروف عمل زوجها المتغيرة باستمرار.وأبنائي هشام ويعمل مهندسًا وفهمي مهندسًا أيضًا وشريف رجل أعمال درسوا جميعًا في جامعة كولومبيا في الفترة التي أقمت فيها بأمريكا كمندوب دائم لمصر في الأمم المتحدة. ميلادهم كان علامة، ونجاحهم في دراستهم ثم فيما بعد عملهم ثم في حياتهم الشخصية فيما بعد علامة، لكل حدث علامة باقية مستمرة وليست محطة نمر عليها ثم نرحل.ü منذ فترة وجيزة تزوجت حفيدتي ولهذا مذاق مختلف عن زواج الأبناء كانت محطة سعادة طاغية بالنسبة لي.ü علاقتى بأبي وأمي وأشقائي محطة شجن، منهم تعلمت معنى الأسرة والكرامة والإيثار.ü الإسكندرية مدينتي المحببة محطة دائمة بالنسبة لي عندما أجوب العالم ثم أعود أجدها تنتظرني ثم تحتويني ثم تتلاشى بعدها كل المحن.الآن أتعلم الكومبيوتر بكل الفخر من حفيدتي!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق