الأربعاء، 25 ديسمبر 2013

من مجدّدي الدّين : أحمد بن حنبلPDFطباعةإرسال إلى صديق

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما: (لا يزال هذا الدّين قائماً حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة) وفي لفظ لمسلم: (لايزال هذا الدّين عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة كلهم من قريش). وعلى هذا فأوّلهم أبوبكر وبقيّة الخلفاء الراشدين ثم معاوية رضي الله عنهم جميعاً والخلفاء من بني أميّة وآخرهم عمر بن عبد العزيز، وكلّهم من التابعين رحمهم الله جميعاً. وانتهى القرن الأوّل والثاني ولم تكن فتنة في الدّين، ومثلها القرن الثالث غير خمسة عشر سنة في العقد الثالث والرابع منه في عهد المأمون والمعتصم ابني هارون الرشيد والواثق بن المعتصم تجاوز الله عنهم أُلْزِمَ العلماء بالمذهب الذي ابتدعه المعتزلة وسُجِنُوا وجُلِدوا وَقُتِلَ بعضهم، ومُنِعُوا من تعليم المعتقد الصحيح المخالف للمعتزلة، وأبرزهم: الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله. ثم جاء الفاطميّون بوثنيّة المقامات والمزارات والمشاهد والأضرحة وما دون ذلك من البدع فَزيَّنَت الشياطين وسَوَّلَت الأنفس الأمّارة بالسّوء لأكثر المنتمين للإسلام  الإفتتان بها دون أن يلزم الولاة بذلك، وبفضل الله لا أتذكّر يوماً ألْزِم الناس فيه بالضلال بعد مشركي قريش في مكة (قبل الولاة العبّاسيّين الثلاثة)، وملوك إسبانيا النّصارى (بعدهم) إثر طرد بقيّة الولاة المسلمين من جنوب إسبانيا قبل ( 520) سنة، أمّا اليوم فالدّولة الإسبانية لا تكتفي بتقنين حريّة الدّين بل تحث المسلمين على الإجتماع (وعادتهم التّفرّق) للحصول على حقوقهم مثل بقيّة الأقلّيّات في إسبانيا.

وروى التّرمذي والحاكم: (إنّ الله يبعث لهذه الأمة على رأس كلّ مائة سنة من يجدّد لها دينها) الصّحيحة 1874. واخترت الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله من بين من جدّد الله بهم دينه في القرون الخيّرة ليكون أول من أضرب به المثل في التّجديد والثبات على الحقّ والصبر والإحتساب، فرغم  ما ناله من الأذى على يد ثلاثة من الخلفاء العبّاسيّين جعلهم في حلٍّ منه ونهى عن الخروج عليهم.
ترجمته:

(مما أورده ابن الجوزي في مناقبه والذّهبي في السِّيَر) قال عنه الذهبي في سير أعلام النّبلاء: (هو الإمام حقاًّ وشيخ الإسلام صدقاً: أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل [وذكر نسبه إلى] بكر بن وائل الذهلي الشيباني المروزي ثم البغدادي أحد الأئمة الأعلام)، ولد عام 164 ومات عام 241 رحمه الله، ومما رواه الذهبي عن صالح عن أبيه من الطّرائف: قال: (ثقبَتْ أمّي أذنيّ وصيّرت فيهما لؤلؤتين، فلما ترعرعْتُ نزعْتُهما، فبععْتُهما بنحو ثلاثين درهما وروى المترجمون له أنه تزوّج بعد الأربعين مرّتين، وتسَرّى مرّة أو مرّتين، ووُلد صالح من أمّ وعبد الله من أمّ، ووَلدتْ له حُسْن الجارية: الحسن والحسين، ثم الحَسَن ثم محمداً ثم سعيداً، ثم زينب، وكان عبد الله أكثرهم رواية عنه رحمهم الله جميعاً. حملته أمه من ( مَرْو، بخارسان) وهو حَمْل في بطنها فوُلِد في بغداد، وأصله بصريّ وَلِيَ جدّه حنبل سَرْخس ومات والده قبل ولادته رحمهم الله جميعاً. طلب الحديث وهو ابن 15 سنة في بغداد ثم رحل في طلبه إلى الكوفة والبصرة ومكّة والمدينة وصنعاء والشام والجزيرة. وأوّل من أخذ عنه هُشَيْم، ثمّ ابن عيينة وعبد الرزاق ومحمد ابن إدريس الشافعي ووكيع بن الجرّاح ويحيى القطّان. وذكروا نحواً من (280) محدِّثا. وحدّث عنه البخاري حديثا وعن أحمد بن الحسن حديثاً آخر، وحدّث عنه مسلم وأبو داود بجملة وافرة، وروى أبوداود والنّسائي والتّرمذي وابن ماجه عن رجل عنه. وحدّث عنه الشافعي ولم يسمِّه بل قال: حدّثني الثقة. وحدّث عنه عبد الرّزاق وابن المديني وابن معين، وأممٌ سواهم. وحدّث عنه ابنه صالح، وابنه عبد الله فأكثر،
مصنّفاته:
كان رحمه الله لا يرى الإنشغال بالتأليف، وينهى أن يكتب عنه كلامه ومسائله. وأعظم مصنفاته: ( المسند، نحو 30.000 حديث)، وله غيره: (التّاريخ) و (حديث شعبة) و (المقدّم والمؤخّر في القرآن) و (الزهد) و (الإيمان) و (نفي التشبيه) و ( الرّدّ على الزّنادقة ) وغيرها.
محنة القول بخلق القرآن :
بدأت الفتنة في آخر عهد المأمون العباسي فهو أوّل من أظهر القول بخلق القرآن من ولاة المسلمين ، فكتب إلى صاحب الشرطة ببغداد بامتحان النّاس فامتحنهم. (ت 218). فأجاب أكثر العلماء فَرَقاً من الحبس والجلد غير أربعة وبعد أيّام في الحبس لم يبق غير الإمام أحمد ومحمد بن نوح رحمهما الله، ثم جاء الأمر من المأمون بحملهما إليه في طرسوس فحملا مقيدين. ومات ابن نوح في الطريق رحمه الله، وقبل أن يصل الإمام أحمد  إلى طرسوس جاء الخبر بموت المأمون عام 218 وأحمد محبوس بالرّقة فرُدّ إلى بغداد وسجن إلى أن جاء المعتصم فامتحنه . وكان المعتصم يوجّه إليه في كل يوم برجلين يمتحنانه فإذا لم يجبهم زادوا في أغلاله حتى أثقلته، وقال له إسحاق بن إبراهيم صاحب شرطة المعتصم: (إن الخليفة آلى على نفسه إن لم تجبه أن يضربك ضرباً بعد ضرب ، وأن يلقيك في موضع  لا ترى فيه الشمس)، وحُمِل في أغلاله إلى مجلس المعتصم وفيه ابن أبي دؤاد وغيره من المعتزلة فقال لهم المعتصم (ناظروه ، كلموه)، وكان الإمام أحمد يقول لهم غالباً: (أعطوني شيئاً من كتاب الله عزّ وجلّ  أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وكانوا يهوّلون عليه ويخوّفونه، وقُتِلَ اثنان ممن لم يجيبوا، فما خاف الحبس ولا القتل، ولكنّه خاف على نفسه من الضرب بالسّياط أن يضعف فيجيبهم، فقال له أحد من كان معه في الحبس: (إن هما إلاّ سوطان ثم لا تدري أين يقع منك  الضرب)،  وفي اليوم الثالث أحضروه وفي مجلس المعتصم وناظروه فلم يجبهم، فلما طال المجلس قال المعتصم: (ويْحَك يا أحمد، أجبني حتى أُطْلق عنك بيدي) فردّ عليه نحواً مما قال، فقال المعتصم: (عليك اللعنة، خذوه واسجنوه وخلِّعوه) ثم جلس على كرسيّ وأمر بالسّياط والعُقَابين وهما خشبتان يشج الرجل بينهما للجَلْد ، ومُدَّت يداه فتخلعتا. ثم قال المعتصم للجلادين: (تقدّموا) فتقدّم أحدهم وضربه سوطين فقال المعتصم: (شدّ قطع الله يدك) فلمّا ضرب الإمام (19) سوطاً قام إليه المعتصم فقال: (يا أحمد، علام تقتل نفسك؟ إني والله عليك  شفيق) والإمام يقول: (أعطوني شيئاً من كتاب الله أو  سنة رسوله) فجلس المعتصم وقال للجلاّد: (تقدّم، أوجعْ قطع الله يدك) قال الإمام أحمد: (فضُرِبْتُ حتى ذهب عقلي، فأفقت بعد ذلك فإذا الأغلال قد أطلقت عنّي، وأتوني بسَوِيْق فقلت: لست أفطر) وصلى الظهر والدّم يسيل في ثيابه، فمكث في السجن ثمانية وعشرين شهراً. ولم يزل رحمه الله يتوجّع، وكان أثر الضّرب بيّناً في ظهره إلى أن توفي رحمه الله وأحلّ المعتصم من ضربه. ثم ولي الخلافة الواثق بعد أبيه المعتصم وامتحن النّاس بالقول بخلق القرآن ولكنه لم يَعْرِض لأحمد إما لما علم من صبره، أو خوفاً من عقاب الله، ولكنه أرسل إلى الإمام أحمد: أن لا تساكنّي بأرض، فاختفى الإمام أحمد حتى مات الواثق. ثم تولى الخلافة المتوكل رحمه الله فأظهر الله به السّنة وأمات به البدعة، وكشف به تلك الغمّة، وأمر بتسيير الإمام أحمد إليه وإلى أن مات أحمد قلّ يوم يمضي إلا ويأتيه رسول المتوكل.
خُلُقه:
بالغ الناس في ذكر زهده وورعه وتواضعه وتعبّده وخوفه من الله، وحلمه، وعفوه عمن ظلمه عدا ابن أبي دؤاد لدعوته إلى الباطل وتأليبه الولاة على من خالف معتقده المبتدع. وأعجبني ما نقِل عنه أنه ذُكر أبو كريب، فقال: اكتبوا عنه فإنه شيخ صالح، فذُكِرَ له أنه يطعن عليه، فقال: (وأيّ شيء حيلتي، شيخ صالح قد بُلِيَ بي)؛ فليتخذه السّلفيّون وغيرهم قدوة .
مذهبه:
قد يُعَدّ الإمام أحمد رحمه الله مُحَدِّثاً أكثر مما يُعَدُّ فقيهاً مقارنة بمن سبقه من الأئمة الأربعة رحمهم الله الذين تمذهب خلقٌ بمذهب أحدهم في الدّين (أحكام العبادات والمعاملات  بخاصّة) بعد القرون الخيِّرة، وكان نصيب الإمام أبي حنيفة الأكثر ونصيب الإمام أحمد الأقلّ، وكان المقَلِّد من العلماء ـ فضلا عن العوامّ ـ ينتمي إلى مذهب أبي حنيفة في أحكام العبادات والمعاملات، وإلى مذهب الأشاعرة في الإعتقاد؛ وإلى طريقة النّقشبندية في السّلوك أو التّصوّف ـ مثلا ـ. ولكنّ الله عوّض فقه الإمام أحمد رحمه الله بالدّعوة السّلفيّة إلى صحيح المعتقد وصحيح السّنة في العبادات والمعاملات التي ميّز الله بها الدّولة السّعودية باحتضانها وتعليمها والحكم بها في بلادها السّعوديّة منذ منتصف القرن الثاني عشر في مراحل حكمها الثلاث، وجدّد الله بها الدّين في كلّ قرن من القرون الثلاثة الأخيرة إلى هذا اليوم بفضل الله ورحمته. قد لا يَقْبَلُ المبتدعة حُكْم السّلفيّ على الدّعوة والدّولة السّلفيّة فما قولهم في حُكْم باحث غير سلفيّ من كبار مشايخ الأزهر البعيدين عن منهاج السّلف منذ أسّسه الفاطميّون على مذهبهم الشيعي ثم نقله الأيّوبيّون إلى مذهبهم الشافعي قبل نحو تسعة قرون، وكلاهما بعيد عن الإنتماء للسّلفية: يقول الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله (الذي كتب عن كل واحد من الأئمة الأربعة) في كتابه بعنوان: (أحمد بن حنبل): وإذا كان هذا المذهب الجليل [الحنبلي] قد فقد الأتباع في الماضي فإن الله قد عوّضه في الحاضر . وذلك أن [المملكة العربية السعودية] تسير حكومتها في أقضيتها وعبادتها [وعقيدتها] على مقتضى أحكامه وكان ذلك تعويضاً كريماً وإخلافاً حسناً لأن [السعودية] تطبّق الشريعة الإسلاميّة في كلّ أقضيتها، بل إنها تطبق أحكام الحدود والقصاص تطبيقاً صحيحاً كاملاً، فالحدود فيها قائمة ومعالم الشريعة فيها معلنة…وبذلك قامت دولة الشريعة محكمة البنيان ثابتة الأركان تعلن للناس في كلّ البقاع والأصقاع أنها خير شريعة أُخْرِجَت للناس …وقد كان ذلك المذهب هو مذهب آل سعود، وإنما كان هؤلاء حنابلة اعتنقوا في العقائد والفقه مذهب محمد بن عبد الوهاب، وهو يعتنق مذهب ابن تيمية في العقائد والفقه، ومذهب ابن تيمية في العقائد والفقه هو مذهب جمهور المسلمين، وهو يمنع التّوسّل والتّقرّب بالموتى ولو كانوا من أهل الصلاح والتّقوى في حياتهم، ومذهبه في الفقه هو مذهب الإمام [أحمد بن حنبل] مع بعض مسائل أفتى بها ولم يكن فيها مقلّداً لأحد بل كان متّبعاً لكتاب الله وسنة رسوله) ص 356 و 357. رحمك الله يا علاّمة مصر، لقد نَطَقْتَ بما خَرِسَتْ عنه ألْسِنَة السّلفيّين في بلاد الشام والعراق ومصر والسّودان والمغرب العربي وبلاد المسلمين فضلاً عن غيرهم إلا نادراً خشية لوم اللائمين والفكريّين والحزبيّين . وما أثبتّه هنا وهو قليل من كثير مما ميّز الله به الإمام أحمد (محنته ومسنده بخاصّة) هو ما جعلني أتقرّب إلى الله بالدّعاء له كلّ ليلة قبل كل علماء الأمّة، وهو ما حبّب إليّ وضع موجز سيرته في موقعي ورابطٍ بمسنده الذي طبعته جمعية المكنز الإسلامي في لخشنتاين ودلني عليه:

د. محمد عبد الكريم بن عبيد، وأهداني نسخة منه المهندس عدنان بوقري، وفقهم الله لرضاه بالتّركيز على نشر كتب السّنّة وإماتة كتب البدعة وشرّها كتب التّصوّف المفترى على دين الله. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق