قصة الخلق من العرش الى الفرش ( الأرض ) مفصل : عيد الورداني
السلام عليكم ورحمة الله وبركاتة
من امتع الكتب التي تقرأها بحياتك وهو كتاب مفصل ، واذا اردت الأختصار فأذهب لكتاب اخي ابو سفيان
اما إذا اردت كتاب مفصل وممحص وخطير فيه كل التحقيق العلمي الموثق من الكتاب والسنة ، واورد مقولات
وكتب المناهضين او المعارضين لعلوم القرآن وهو مفيد جدا
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لا تزال طائفة من أمتي..
على الحـق ظاهرين
لا يضـرهم من خذلهم
ولا من خالفهم
حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك.
(رواه أحمد في مسنده)
ســــلام وتـحيـة
إلى رجـال الإسلام وعلمائه
قـبل عصر النهضة الـذين ذادوا عن الدين ،
أوصلوه إلينا صافيا من أي شائبة
ولم يتركوا كبيرة ولا صغيرة
إلا حملوها لنا وأخبرونا بها
مؤيدة بالكتاب والسنة.
هــداءإلى طائفة الظاهرين على الحق..
المستمسكين بآيات الله وسنة رسوله..
السائرين على درب الصحابة والتابعين..
الرافضين لكل علوم القرن العشرين المخالفة لأصول الدين..
إليكم أهدى كلماتي..
فمـدوا أيديــكم هذه يدي وارفـعوا أصواتكم هذا صوتي..
وانطـقوا بكلمة الحــق.
بسم الله الرحمن الرحيم
(( قال رب بما أنعمت على فلن أكون ظهيرا للمجرمين )) القصص : 17
(( ان فى خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التى تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون )) البقرة : 164
قصة الخلق من العرش الى الفرش
ى كتاب الله وملكوته
فى هذا الكتاب بالادلة الشرعية والعلمية المعتمدة:
* الأرض ثابتة لا تدور حول نفسها ولا حول الشمس
* الملائكة جميعا مسخرة لبني آدم
* الأرض مركز الكون وكل مافى السماء يدور حولها
* أكذوبة عشنا فيها حينا من الدهر اسمها .. الجاذبية
* كيف نعيش على الأرض بدون جاذبية
* خلق الليل والنهار سابق على خلق الشمس والقمر
* يوم وقفت الشمس لرجل ما
* المعصية الأولى كانت في السماء
* لا تسجد الأرض لله كباقي الخلائيق . لماذا
* كيف خلق الله كل شئ من المبدأ الى المنتهى
* يوم نرى الجبال تمر فوقنا كالسحاب
* الأحداث الكاملة لما تم فى الملأ الأعلى في بدء الخلق
* خط الطول صفر عند مكة المكرمة وليس جرينتش
* الأرض تبعد عن السماء سبعة مليون كم
* الشمس تجري حول الأرض يوميا
* الرجل الذي اهتز لموته عرش الرحمن
* أقوى مخلوقات الله وفي نفس الوقت أرق المخلوقات
* النيل يحرج عمرو بن العاص ، ويضطره للرحيل لولا تدخل عمر
* المرة الوحيدة التى تحركت الأرض من مكانها
* البحر المسجور .. اين هو ؟
* النجوم عددها محدود .. معدود .. قريبة من الأرض
* في السماء 11 كوكب ، والأرض ليست كوكبا
* تفاصيل ما تم في الأيام السنة التي تم فيها الخلق
* الجبال لم تتكون من الأرض بل أتت اليها من فوقها
* الأمور الخمسة التي لا يعلمها الا الله
* الأعرابي الذي كان أعلم من جاجارين
* مهلكات فى السماء حذرنا الله منها
* بين أحمد بن حنبل و جاليليو
* وشهد الله للكافرين بالعلم .. ولكن ؟
* في الأرض سبعة قارات، سبعة أبحر ، سبعة أيام ، سبعة .................
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين خالق السموات والأرضين المتفضل بتدبير أمر المخلوقين المكرم بنى آدم على العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وآخر المرسلين، المرسل لإظهار الحق ولو كره الكافرون، الذي بلغ الرسالة وأدى الأمانة وأتم الله على يديه النعمة وأكمل الدين، ولم يترك أمرا من أمور الدنيا أو الآخرة إلا بينه أحسن تبيين.
ورضى الله عن الصحابة أجمعين، الذين كانوا نجومـا يهدون المقتدين، المتبعين للكتاب والسنة غير مبتدعين، ورحم الله التابعين وتابعيهم بإحسان الذين حملوا راية الإسلام وساروا بها فاتحين، وكان منهم الحفاظ، والمفسرين والمحدثين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، وأشهد أن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.
أمـا بعـد:
فهذه قصة خلق جميع المخلوقات، من العرش إلى الفرش (الأرض). هذه قصة كل ما في الكون مـن مخلوقات، مرورا بالسموات وما فيها، والأرض وما بها، والشمس، والقمر، والنجوم، والكواكب، والبحار، والأنهار، والنبات، والجبال، والهواء، والماء، وكل ما هو كائن بين السماء والأرض، وخلق الملائكة، والـجن والإنس، ومتي خلقت هذه المخلوقات، وكيف، ولماذا خلقت، وكيف تعمل، ومتي تنتهي، ومكانة الإنسان بينها، ووضع الأرض من هذه المخلوقات.
وقـد استندت في عرض القصة على الأدلة المتفق عليها بين جميع المسلمين (الكتاب، والسنة، والإجماع) وهذه هي المصادر الرئيسية التي يقدرها المؤمنون بالله. كما اعتمدت على الكتب المقدسة لدى أهل الكتاب.
كما اعتمدت على أحاديث رسول الله صلى عليه وسلم، وعلى الصحيح منها، التي تلقتها الأمة بالقبول ولم يطعن عليها أحد.
كذلك اعتمدت على تاريخ الحضارات البشرية، التي لم أشك لحظـة أن الموروث منها - الذي اعتمدت عليه - ليس مجرد أساطير الأولين، وإنما هي تأثيرات الأنبياء والمرسلين وهم جم غفير في أممهم.
ثم اعتمدت على التجارب والمشاهدات التي تؤكدهـا الحواس، والتي لا يختلف عليها اثنان.
وقد سقت أدلة للمؤمنين والجاحدين، والعلماء والجاهلين، والمتعلمين والمكابرين، كلٌٌ بوسائله التي يعتقد فيها، وخاطبت القلب المؤمن الموصول بالله وخاطبت العقل والمنطـق.
وكان - ولا بد - أن يتعارض كلامي مع كل ما يخالف دواعي الإيمان ويتعارض أيضا مع ما يخالف العقل والمنطق. لذلك سيفاجأ القارئ بأن ما نورده في قصة الخلق يتعارض مع أكثر الأشياء ثباتا لعلوم أهل الأرض الكونية، يتعارض مع مسلمات بديهية أو ما يعتقدون أنه كذلك. وسيفاجأ القارئ بأن ما يعتبره من المسلمات والبديهيات ليس إلا وهما وخداعا وأغاليط وأباطيل وسيجد القارئ نفسه إن كان من غير المؤمنين بالله قد ألجأته الأدلة والبراهين والآيات البينات إلى الإيمان وسيجد المؤمن نفسه في حـاجة شديدة لأن يجدد إيمانه.
وسيندهش القارئ، بعد فواقه، كيف ظل مغيبا غافلا، مع هذا الكم الهائل من الغائبين الغافلين.
وسيكتشف القارئ أنه وأنهم وأننا قـد تعرضنا لكيد عالمي يقوده إبليس لتغيير الحقائق، ولتلبيس الأمور علينا، ولتغييبنا، وتغفيلنا، ولتغيير آيات الله بغيرها، وأن أباطيل كثيرة عرضت علينا كحقائق لا تقبل جدالا هي الباطل عينه.
والغريب و العجيب أنه لم يكن معها دليل واحد من عقل أو نقل أو تجربة تقول بأن هذه العلوم الكونية تمُت إلى الحق والحقيقة بصلة.
وأنبه، بأنني لم أنتقد في الكتاب إلا النظريات الكونية، والأقوال المتعلقة بمسائل الخلق والتكوين.. وعلوم الكون.
أما النظريات والقوانين المرتبطة بزينة الدنيا، وكل ما من شأنه أن يسهل للإنسان استمتاعه بالحياة، فلا شأن لي بها هنا.
وإن كان كثيرا مما أوردته في هذا الكتاب، روءى شخصية لي.. أحسب أنه لم يقل بها أحد قبل ذلك، خلصت إليها عن طريق الأدلة التي ذكرتها. فإن كان ما رأيته حقا فمن الله تعالى، الذي علم الإنسان ما لم يعلم، والذي يؤتى فضله من يشاء، وإن كان خطأ فمن نفسي والشيطان، وأسأل الله العفو والعافية.
وأنه وإن كان الأمر رؤى شخصية لنا، فـإنه أيضا ليس تفسيرا جديدا للآيات القرآنية، أو فهما حديثا للآيات الكونية، وإنما هذا هو التفسير الصحيح للآيات القرآنية والتي اتفق عليها السلف، وهي النظرية السليمة للآيات الكونية، ولم نحمّل الآيات والأحاديث أكثر مما تحتمل، ولكننا عرضنا ذلك دون ليّ للحقائق. أو اجتزاء للأقوال.
وقد قسمنا الكتاب إلى سبعة أبواب:
الباب الأول: قصة الخلق: تـحدثنا فيه عن بدء خلق كل المخلوقات، وكيف خلقت. فتحدثنا عن العرش والفرش (الأرض) وما بينهما من موجودات وأجرام سماوية.
الباب الثاني: خلق الكائنات العاقـلة: وذكرنا فيه خلق الملائكة، والجن، والإنس، وما حدث في الملأ الأعلى بشأن خطيئة إبليس، وخطيئة آدم وأوردنا النص الكامل للحوار الذي كان بينهما وبين الله تعالى.
ثم ذكرنا مكانة الإنسان بين هذه المخلوقات، وكيف أن الله تعالى كرمه، وفضله، وأنعم عليه.
الباب الثالث: عن ثبات الأرض: وسقنا فيه الأدلة من الكتاب والسنة والتجارب وعقيدة السابقين بشأن ثبات الأرض، ومركزيتها، وأنها ليست كوكبا من الكواكب، وأنها أعظم من الشمس.
الباب الرابع: تحدثنا فيه عن الشمس: وأنها تجرى حول الأرض ـ لا المجرة ـ وأدلة ذلك، وأن الليل والنهار مخلوقان مستقلان، وأنهما دليل على دوران الشمس حول الأرض، وأنه لا علاقة لليل والنهار بالشمس أو القمر.
الباب الخامس: عن القمر: وآياته وعجائبه، وأنه الأساس في حساب الزمن والتاريخ، وأنه جرم تابع للشمس وليس للأرض، وأنه دليل أكيد على أنه والشمس يدوران حول الأرض يوميا.
الباب السادس: عن زينة السماء: وعن الكواكب والنجوم، وكيف أنهما محدودان، معدودان، وأن أبعادهما ليست كما تحدث به أهل الفلك، ونقدنا في هذا الباب الجاذبية التي يقولون بأن الكون محكوم بها، حركة وسكونا، وأثبتنا أن الكون إنما يقوم(بأمر الله) وأن الجاذبية ليست أسلوب الله في العمل.
الباب السابع والأخير: عن نظريتنا البديلة للجاذبية، عن(الضغط الجوى) أثبتنا فى هذا الباب أنه هو الـذي يحكم الأرض بما عليها، بأمر الله وذلك بأسانيد شرعية علمية وتجريبية، وليست الجاذبية.
فهذا الكتاب إذاً رؤية دينية للكون، ونقد لجميع النظريات العلمية الحديثة المتعلقة به، وهـو من ثّم دعوة للعودة إلى منهج الله، وإلى شرع الله، وإلى علم الله، ودعوة للإيمان بأنه.. لا إله إلا الله.
أخيرا أيها السادة: إن رأيتــم أن ما قلناه في هذا الكتاب خطأ فقومونا، وإن رأيتم أنه حق فأعينونا، ولا تسكتوا، والساكت عن الحق شيطان أخرس.
ولا حرج أن تسلموا بخطئكم إن ألزمناكم الحجة وأقمنا لكم الدليل، والتوبة رأس مال المؤمن، والرجوع إلى الحق فضيلة. وإلا فأتونا بدليل واحد.. واحد فقط يعارض ما نقول، أو يؤيد ما تقولون.
وأذّكركم والذكرى تنفع المؤمنين بقوله تعالى:
]وَاتَّقُوا يَوْمـًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ[.
]وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [.
}والله يقول الحق وهو يهدى السبيل{ عيد ورداني
مدخل
في البدء.. كان الله ولم يكن شيئا غيره..
ثم خلق الخلق ليُعرف ويُعبد.. واتخذ الله تعالى لنفسه جندا فخلق الملائكة لا يعلم عددهم إلا هو. وخيّر تعالى خلقه أن يعبدوه اختيارا ]فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ[ (الكهف:29) أو أن يعبدوه إلزاما، منقادين، مجبولين على ذلك، ودون أن يكون الأمر إليهم، وسمى الله الأمر الأول (الأمانة) وعرضها على مخلوقاته جميعا فأبت كلها أن تقبلها، واختارت أن تعبده إلزاما، مجبولة على ذلك وقبل الإنسان الأمانة.. إن شاء يؤمن وإن شاء يكفر.. على أن يجازى بعد ذلك بفعله، يقـول تعالى: ]إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَــوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً[ (الأحزاب:72).
ولعظم هذا الاختيار، ولفداحة الأمر، ولخطورة العاقبة، ولأن الإنسان اختار الخيار الأصعب والأشق عليه، والأحب إلى الله تعالى، فقد سخر تعالى كل مخلوقاته التي لم تحمل الأمانة، سخرها للإنسان الذي حملها. ومنحه الله ما لم يمنحه لغيره وميزه عن غيره وفضله تفضيلا.
ورغم صغر خلق الإنسان بالنسبة لغيره من المخلوقات إلا أن الله أولاه من عطاياه ومن فضله، بل وسخر له تعالى كل مخلوقاته سواء في السموات أو في الأرض من الملائكة الكرام إلى البهائم والأنعام، وما بينهما من الموجودات.
ولتسهيل المهمة على الإنسان أرسل إليه رسلاً من جنسه. وأنزل إليه كتباً عرفه فيها كل شيء، إلا ما استثناه تعالى ليخص به نفسه، واعتبره غيبا، وهي من صميم ابتلائه وامتحانه.
وطلب تعالى منه ألا يشغل نفسه بها ولا يجهد عقله في تعريف كنهها، وأن يتفرغ للمهمة التي أختارها بنفسه وارتضاها لـه ربه وخالقه، وهـي أشرف مهمة، وأجمل مهمة، وأخطر مهمة.. أن يعبد الله خالقه، ومربيه، ومفضله ومميزه. يعبده ولا يشرك به شيئا.
ووعده تعالى إن فعل ذلك بجنات ذكر له بعضا من النعم، والمتع التي تنتظره فيها. أما الأعطية الكبرى، والجائزة المستحقة فقد جعلها الله له.. مفاجأة.
فرغم كل ما ذكر من متع ولذائذ، وأعطيات ذكرها تعالى في كتبه وعلى لسان رسله إلا أن أصل المكافأة.. مفاجأة.. قال تعالى: ]فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون[.
وفيـما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: }أعـددت لعبادي الصالحين، مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر{ (متفق عليه).
وتوعد الله تعالى من عصاه، ولم يأت بما أمر، وينتهي عما نهى، من لم يؤد الأمانة التي من اجلها كرم وفضل وميز، وسخر له كل شيء، بنار وعذاب أليم يلازمه ما بقى، خالدا لأنه لن يموت بعد ذلك، فلن يكون ثَم موت.
ولخطورة الأمر، وفداحة الخطب يسر الله على الإنسانية الأمر، بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، التي عرفهم فيها بنفسه، تعريفا لا يقبل الشك والريبة وعرفهم بغيرهم من المخلوقات تعريفا دقيقا مفصلاً، لا لبس فيه ولا غموض وضمن لهم الرزق، وزيادة في طمأنتهم فإنه وعدهم بأن رزقه سيجـرى علـيهم آمنــوا أو كفروا، أطـاعوا أو عصوا. ولمـزيد من الطمأنينة جعل رزقهم وما وعدهم به، في السماء، وليس في يد بعضهم البعض.
ولمزيد من التيسير، والسهولة في أداء الأمانة والقيام بالمهمة المختارة وعدهم بأن يغفر لهم ذنوبهم، ويكفَر عنهم سيئاتهم، ويمحو ما سجل من خطاياهم إذا هم طلبوا منه ذلك واستغفروه.
ثم منحةً ومنةً كبرى منه وهو الأكرم، وعدهم بان يتجاوز عنهم مهما بلغت ذنوبهم وإن كانت مثل زبد البحر، أو بلغت عنان السماء، بل ولـو جاءوا بقراب الأرض خطايا، لتجاوز عنهم وعفا، شريطة ألا يشركوا به شيئا. لأن ذلك حقا له تعالى (ألا يشرك به). فهو وحده الخالق والرازق والمعطى والمانع والضار والنافع. فكيف يعطى الولاء لغير مستحق؟
أصعبٌ هذا بعد كل ذلك؟
هل تبقى حجة لمن يخالف؟ هل يبقى عذر بعد كل هذه التسهيلات والتيسيرات؟ لقد وصل الأمر حدا من الكرم من الله. أن من فعل هذا الكم من الذنوب والخطايا وأي ما كان نوعها وخطرها، أنه تعالى يبدلها له. ترى بماذا؟؟ بحسنات.
أمرُُ عجيب، ولكنه كرم الله. تؤتى ذنوب وخطايا.. ومهما بلغت.. فتحول وتستبدل وكأنها جميعا كانت أعمال صالحة؟ نعم.. وما شرط ذلك؟ فقط طلب واحد بالإضافة لعدم الشرك، أن يتوب ويعمل صالحاً.
إذن فمن يوبق نفسه في النار بعد ذلك، فقد ظلم نفسه ظلماً كبيراً. ورغم أن الامتحان لازال فيه بعض الوقت ولم يأت الأجل المسمى، إلا أن بوادر النتيجة قد ظهرت. هذا فضلا عن علم الله المسبق فقد ظهر أن أكثر الناس رغم كل ذلك ورغـم الجهد الهائل المبذول من الرسل لم يؤمنوا، وظلموا أنفسهم، وخانوا الأمانة.
إنه لأمر غريب، وعجيب أمر الإنسان، لقد راح يتعرف على كل المخلوقات وترك الخالق. ولم يكن هذا مطلوبا منه. لم يكن مطلوبا منه أكثر من النظر للاعتبار وللتعرف على الصانع لا المصنوع، الخالق لا المخلوق، الرب لا المربوب.
فتجد الإنسان يفنى عمره لدراسة حشرة، ولا يفكر في خالقها، يفنى عمره في معرفة الذرة، ولا يتعرف على موجدها.
هكذا وصل الحال بالإنسان.. انشغل بالأشياء التي خلقت له، وترك ما خُلق هو له، بل إن الأمر بلغ حداً أن الإنسان توغل في الضلال والجحود بأن نسب الفعل للمفعول به، وجحد الفاعل وراح ينسب كل أمر ليس للآمر بل للمأمور. وتوصل الإنسان إلى اكتشافاته العظمى. ما هي؟ أن الله لم يرسل رياحاً، ولم ينزل مطراً، ولم ينبت زرعاً، ولم يفتق أرضاً وإنما جاء كـل ذلك مصادفة. ولم يبن سماًء ولم يوجد أرضاً ولم يخلق شمساً، ولا قمراً ولا نجوماً وإنما كل هذه جاء نتيجة اصطدامات وانفجارات، وكأن الكون كله بدأ بالدمار مع أن الحق أن كل شيء سينتهي بالدمار، وبدأه الله تعالى بالحكمة والعمار.
واكتشف الإنسان أن الزلازل والبراكين والسيول والعواصف والأعاصير ليست آيات ربانية، فعلها الله، بل إنها ظواهر طبيعية أتت بها الطبيعة.
والسماء والأرض لا يمسكهما الله. بل الجاذبية. والفُلك تجرى في البحر ليس بأمر الله بل بقانون الطفو. والمطر لا ينزل بأمر الله، بل بفعل البخر، والسماء ليست محفوظة بحفظ الله بل محفوظة بخط (فان آلن) والله ليس بيده الأمر، ولا يقلب الليل والنهار وليس هو الدهر بل يحكمنا قانون (النسبية لأينشتاين). وحفظ الأشياء ليست من الله بل بقانون (لويس باستير) واستقرارنا على الأرض ليس بتمكين الله، ولكن بقانون (نيوتن).
وقسم الإنسان ميراث السموات والأرض بين المخلوقات، فبعضها للطبيعة هي صاحبته، والأخر للمكتشفين وهم أولى به، والحسرة كل الحسرة.. أن أكثر الناس على هذا الأمر، وعلى هذه العقيدة، والقلة القليلة هم الذين أدوا الأمانة، ولم يجحدوا حق الله، ولم يكفروا بنعمته، ولم تصرفهم المخلوقات عن الخالق فقد عرفوا الله، ليس من مخلوقاته، بل منه تعالى، فكمال الإيمان: أن تتعرف على المخلوقات من الخالق، لا أن تتعرف على الخالق من المخلوقات وليت الجاحدين فعلوا حتى الثانية.
إن الله ما طلب من الإنسـان أن ينـظر في مخلوقاته تعالى ليتأكد من وجود الله لا.. إنما طلب ذلك منه ليتأكد الإنسان من قدرة الله، وحكمة الله ولطف الله وسائر صفاته الكريمة.
أما المنكرون أصلا لوجوده، فالله تعالى يعاملهم بالمثل، ويجازيهم من جنس عملهم، فلا يعترف بحالهم، ولا يأبه بوجودهم، ويعتبرهم كالعدم.
وأعجب وأغرب ما كان من الإنسان، أنه اتخذ من الأشياء التي سخرت له والتي هو أرقى منها مرتبة من شمس وقمر ونجوم ودواب، آلهة عبدها من دون الله! أليس هذا أمراً غريباً من الإنسان، يستحق ما توعده الله به دون ظلم له؟؟
كان هذا هو حال الإنسان عموما، أما المؤمنين بالله فقد وصلوا الآن إلى ما هو أدهى وأمر.. فقد أصبح إيمانهم بالله مزيج من الشرك والإيمان، إيمان مهجن وعقيدة مختلطة، كما قال تعـالى ]وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ[ (يوسف:106).
لماذا لا يؤمنون بمحمد
إنني لا أجد سببا لعـدم الإيمان بمحمد e الذي اختاره الله لتبليغ الرسالة الأخيرة والخاتمة للبشر، لماذا لم يصدقوه مع أن الرجل لم يدع لنفسه شيئا، لم يدع إلا لعبادة الله نفس الدعوة التي دعي بها المسيح عليه السلام ونفس الدعوة التي دعي بها موسى عليه السلام. نفس الدعوة التي دعي بها زملاؤه وإخوانه من الأنبياء والرسل؟
لماذا يكذب وهو يدعو إلى مكارم الأخلاق، والصدق، والأمانة، وفعل الخيرات والحب والتسامح، والعفو، والصفح، وإتقان العمل، وإكرام الضيف والإحسان إلى اليتيم والأرملة وابن السبيل، وصلة الرحم، وهي نفس المبادئ التي دعي إليها السابقون من الأنبياء.
لا أدرى.. ما السر في تكذيبه؟ وهو أول المؤمنين بعيسى المسيح نبياً واً وبموسى الكليم نبياً واً، وهو أول المؤمنين بالإنجيل والتوراة. وهو أكثر المعظمين لقدر أم المسيح (مريم ابنة عمران): ولم يقل في أمه (آمنة بنت وهب) ما قاله في أم المسيح. وذكر أن الله تعالى أوحي إليه في مريم وليس في آمنة: ]يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ[.
لست أدرى.. لم يكذب هذا ال الذي يبلغ الناس أن الله ينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، وجاء بقول الله تعالى ]إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ[ (النحل:90) هل يكذب من دعي إلى ذلك؟
لماذا لا يقرءون رسالته ويناقشونها، ويفعلون معها كما يفعلون مع الرسائل العلمية فيولونها اهتماما في البحث والدراسة، بحياد تام، وبالرغبة في الوصول إلى الحق وما من شك في أنهم لن يجدوا في هذه الرسالة مطعنا. لم لا يقرءون الرسالة الأخيرة من الله إليهم؟ نعم هي إليهم لأنها رسالة للعالمين وليس لسكان الجزيرة العربية وحدهم، وهم مخاطبون فيها، ومكلفون بها، وسيسألون عنها مثلهم مثل العرب سواء بسواء. والله تعالى لم يعتبر الذين آمنوا به وبكل الكتب وبكل الرسل ولم يؤمنوا بمحمد اً مؤمنين، فلابد من الإيمان به والإيمان بالكتاب الذي نزل إليه ]فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا[ (التغابن:8).
مؤمنون: نعم. متبعون: لا
إن الإيمان بالله، ليس منة من الخلق على الله ]يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمـوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ[ (الحجرات:17) وليس أي إيمان يقـبل، بل الإيمان الذي حدده الله واشترطه، ولله أن يحدد ويشترط لأنه تعالى هو الخالق. وهو تعالى الذي سيجازى ويكافئ لا غيره. اشترط الله علـى المؤمنين لقبول إيمانهم أن يتبعوا رسوله ويتبعوا كتابه، ودون ذلك لن يغنى إيمانهم شيئا. وعلى ذلك فالمؤمن هو من يؤمن بالله وبأنه خالق الكـون وحـده لا شريك له وأنه تعالى مستحق للعبودية وأن هناك يوم للحساب بعد البعث والنشور، ويؤمن بكل كتبه وكل رسله فهذا هو المؤمن.
والذي يعلم من القرآن، أنه منزل من عند الله، وأنه الرسالة الأخيرة للبشر فليس ثَم كتب أخرى بعده، وأن هذا الكتاب منزل من الله تعالى للإتباع، واتباعه ليس خياراً للمؤمنين به، بل هو حتم وإلزام، وإلا فلا يعد من المؤمنين من لا يتبع.
يقول تعـالى ]المـص (1) كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلا مـَا تَذَكَّرُونَ[ (الأعراف ) ]وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مـِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عـَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ[ (الأنعام) ]يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتقِِ اللَّهَ وَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا[ ( الأحزاب)] وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصـْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ[ (يونس 109).
]وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا[ (آل عمران:103) وحبل الله: كتابه كما فسره النبي e وقد بين الله تعالى في كتابه حال الذين ورثوا الكتاب فخالفوه، والذين استمسكوا به. فقال تعالى: ]فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا... [ إلى قوله ]وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ[ (الأعراف:169).
محاولات التحريف
لقد صفيت البشرية إلى هذه الفئة القليلة، التي تؤمن بالله وآياته وه ويتبعون ما يؤمرون به غير أن هذه الفئة القليلة، لم تتبع كما يريد الله، بل إن الشيطان دخل إليهم من هذا الباب أيضا. فإنه وإن كان هذا الكتاب قد حُفظ من الله تعالى من أن تنال آياته التحريف، كما حدث لغيره من الكتب السابقة، إلا أنه في نفس الوقت، هجر ولم يتبع، واتبع المؤمنون به من دونه أولياء، ونظم وقوانين، وتسابق في هجر آياته واتباع ما دونه، أشد الناس إيماناً به.
ففي مجال الحكم نحيت آيات الله، وفيها أكمل نظام للحكم واتبع غيره من
نظم، ديمقراطية، أو رأسمالية، أو اشتراكية،.... أو غيرها.
وفي مجال القانون نحيت آيات الله، ومـا أكثر تلك الآيات التي تحكم عـلاقات المجتمع، ليتبع غيره من قوانين من وضع الغرب أو الشرق، أو حتى من وضع ذات المؤمنين بالقرآن.
وفي مجال الثقافة والعلوم نحيت آيات الله، والتي يقول فيها الله تعالى ]وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ[ واتبع غيرها من الثقافات والعلوم.
ولم يتخلف عـن هذا السباق علماء المسلمين في شتى العلوم ـ الإنسانية منها والمادية ـ وراحوا يتناقلون في أحاديثهم وكتبهم ما يقوله علماء الغرب من نظريات، وتركوا بل وخالفوا ما يقوله كتابهم، وخالفوا أيضا سلفهم الذين علموا الدنيا وأناروا الظلمات، ويشهد بذلك أهل الغرب أنفسهم.
فأي إيمان هذا؟ والمؤمنون يتركون ما آمنوا به لغيره. والله تعالى أكمل لهم الدين وأتم عليهم نعمته. ورضى الإسلام لهم دينا، وأمرهم بأن يتبعوا الصراط المستقيم ولا يتبعوا السبل فتفرق بهم عن سبيله، وجعل هذه الوصية هي خاتمة وصاياه العشـر، والتي هي جوامع الشرائع التي تضاهي الكلمات التي أنزلها الله على موسى في التوراة وإن كانت الآيات التي أنزلت عليه أبلغ وأكمل.
ولم يقتصر الأمر على مجرد هجر القرآن واتباع غيره، بل أصبح ينادى باتباع أي سبيل غير سبيل الله. بل وصل الأمر إلى أن أصبح كل ما يخالف قول الله تعالى يدرس على أبناء المسلمين في المدارس والجامعات، من علوم مخالفة لتعاليم الله وشرعه. فهم يدرسون ويعلمون وينشرون علوما ونظريات متناقضة تماما مع القرآن.
فيعرفنا الله بأنه أرسل أنبياء ورسلا إلي الناس، من بداية وجودهم علي الأرض، وأن أنبيائه ورسله علموا الناس كل ما يحتاجون إليه لحياتهم ومعايشهم وكيف يستفيدون من وجودهم ومما سخر لهم في الأرض.
وأخبرنا الله في القرآن عن أمم ظهرت فيما يسمونه بالعصر الحجري بلغت من الحضارة مبلغاً ومن الرقي ما لم يخلق مثله في البلاد.
حتى في أبسط الأمور عقلانية وأوضحها في كتاب الله تبياناً: قضية خلق الإنسان. انتشر في بلاد القرآن نظرية تخالف ما جاء به، أكثر مما أنتشر وقيل عنها في بلادها وهي نظرية: (النشوء والارتقاء). وتبنى هذه النظرية ودافع عنها وحللها وناقشها، وأذاعها ودرسها، وعلمها وأيدها، علماء يؤمنون بان الله قال في كتابه المنزل ]لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ[ (التين:4) وغيرها من الآيات، وفي تطور علمي جديد، وفي اتباع مفرط للغرب، وفي تقليد لهم أعمى،خرجت نظريات من حاملي وحافظي القرآن عن النشوء والارتقاء في الأديان.
ففي كتـاب يعتبر من درر الفكر العربي هو كتاب (الله: في نشأة العقيدة الإلهية) لأحد رموز الفكر الإسلامي المعاصر، وخلاصة المستنيرين (عباس محمود العقاد) يقول رحمه الله في مقدمة هذا الكتاب:" ترقى الإنسان في العقائد كما ترقى في العلوم والصناعات فكانت عقائده الأولى مساوية لحياته الأولى، وكذلك كانت علومه وصناعاته فليست أوائل العلم والصناعة بأرقي في أوائل الأديان والعبادات، وليست عناصر الحقيقة في واحدة منها بأوفى من عناصر الحقيقة في الأخرى. وينبغي أن تكون محاولات الإنسان في سبيل الدين، أشق وأطول من محاولاته في سبيل العلوم والصناعات.
لأن حقيقة الكون الكبرى أشق مطلباً، وأطول طريقاً من حقيقة هذه الأشياء المتفرقة التي يعالجها العلم تارة والصناعات تارة أخرى.
وقد جهل الناس شأن الشمس وهي أظهر ما تراه العيون وتحسه الأبدان، ولبثوا إلى زمن قريب يقولون بدورانها حول الأرض، ويفسرون حركاتها وعوارضها كما تفسر الألغاز والأحلام، ولم يخطر لأحد أن ينكر وجود الشمس لأن العـقول كانت في ظلام من أمرها فوق ظلام ولعلها لا تزال. فالرجوع إلى أصول الأديان في عصور الجاهلية الأولى لا يدل على بطلان التدين ولا على أنها تبحث عن محال. وكل ما يدل عليه أن الحقيقة الكبرى أكبر من أن تتجلى للناس كاملة في عصر واحد. وأن الناس يستعدون لعرفانها عصرا بعـد عصر وطورا بعد طور، وأسلوبا بعد أسلوب، كما يستعدون لعرفان الحقائق الصغرى، بل على نحو أصعب وأعجب من استعدادهم لعرفان هذه الحقائق التي يحيط بها العقل ويتناولها الحس والعيان - وقد أسفر علم المقابلة بين الأديان عن كثير من الضلالات والأساطير، التي آمن بها الإنسان الأول، ولا تزال لها بقية شائعة بين القبائل أو بين أمم الحضارة العريقة، ولم يكن من المنظور أن يسفر هذا العلم عن شيء غير ذلك ولا أن تكون الديانات الأولى على غير ما كانت عليه، من الضلالة والجهالة فهذه هي وحدها النتيجة المعقولة التي لا يترقب العقل نتيجة غيرها، وليس في هذه النتيجة جديدا يستغربه العلماء، أو يبنون عليه جديدا في الحكم على جوهر الدين.
فإن العالم الذي يخطر له أن يبحث في الأديان البدائية، ليثبت أن الأولين قد عرفوا الحقيقة الكونية الكاملة منزهة عن شوائب السخف والغباء، إنما يبحث عن محال".
ثم قال الرجل حاكيا عما توصل إليه علماء الغرب:" يرى كثير من العلماء أن الأساطير هي أصل الدين بين الهمج".
ثم عدد العالم القرآني أسماء بعضا ممن قال عنهم (علماء) وحكى عنهم الأقوال التي تفصل ما قال به في مقدمته حتى قال:" يعرف علماء المقابلة بين الأديان ثلاثة أطوار عامة مرت بها الأمم البدائية في اعتقادهم بالآلهة والأرباب. وهي دور التعدد ودور التمييز والترجيح، ودور الوحدانية".
أرى أن الرجل فيما يقول في كتابه هذا قد نسف أول وأكبر مبدأ نص عليه القرآن في معظم آياته وهو أن الكون كله بما فيه، ومن فيه قام وكان على عبودية الإله الواحد وانسجمت جميع المخلوقات في هذه العقيدة. وبدأتp حياة البشر على الأرض بالعقيدة الصحيحة التي يرضاها الله، وهي التوحيد، وقد كان أول البشر (آدم) موحداً ولم يعبد أربابـا متعددة ولا متميزة، ولم يعبد طوطم ولم يشرك مع الله أحدا. وأن حياة البشر ظلت بعد آدم عشرة قرون على هذه العقيدة التي تقوم على التوحيد.
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلها علي الإسلام" فمن نصدق؟؟ هذا ما رواه البخاري عن رسول اللهe مخالفا ما قال به علماء المقابلة بين الأديان أمثال (رويس، وجيمس، وسانتيانا، والعقاد،.. وغيرهم). والبخاري كتابه أصح الكتب لدى المسلمين - بعد القرآن - والرسول صلى الله عليه وسلم أصدق الناس.
إن القارئ للقرآن يجد أن الأصل في تاريخ البشر، الإيمان بالله الواحد، وأن البشر كلما ابتعدوا عن هذه العقيدة أرسل الله إليهم من يعيدهم إلى التوحيد رسولا من أنفسهم، وإنهم إذا لم يستجيبوا فإن الله تعالى يخلص الأرض منهم ولا يبقى فيها مشرك، ويترك فيها الموحدين فقط، حتى جاءت هذه الأمة التي تركها الله تعالى ولم يؤاخذهم بشركهم لأن القيامة ستقوم بعدهم. كما أن المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن القيامة ستقوم على شرار الخلق. وأن الساعة لا تقوم حتى لا يقال على الأرض: الله.. الله. أي ستقوم وليس لله تعالى بين الناس ذكر ولا فيهم إيمان.
إذن فتاريخ البشرية الذي يخبرنا عنه القرآن مخالف لما يقول به السيد المفكر رحمه الله وعلماء مقارنة الأديان والتاريخ. وأن حقيقة الأمر أن تاريخ البشر يبدأ بالتوحيد وينتهي بالكفر وليس العكس. فلو كان ما يقوله العقاد صحيحاً، وأن البشرية تترقى في دينها وعقيدتها لكان أهل هذا الزمان أفضل إيمانا من صحابة الله صلى الله عليه وسلم ولكان طبقا لقوله أبو جهل كأبى بكر لوجودهما في عصر واحد.
هذا نموذج لترك ما أنزل الله واتباع غيره، وما أنزل تعالى في رسالته الأخيرة للبشر هو الأكمل والأتم في تاريخ الرسائل، فهو سبحانه أنزل القرآن وفيه تبيان لكل شيء، وحذر تعالى في كتابه من اتباع الغير، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بإتباع ما أنزل إليه. والأمر بالطبـع للمؤمنين بالله وبرسالته وبرسوله ]وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ[ (المائدة).
]ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ[ (الجاثية:18).
فأمره تعالى أن لا يتبع أهواءهم عما جاءه من الحق وإن كان ذلك شرعا أو طريقا لغيره من الأنبياء، فإنه قد جعل لكل نبي سنة وسبيلا. وحذره أن يفتنوه عن بعض ما أنزل إليه. فإذا كان هذا فيما جاءت به شريعة غيره فكيف بإتباع بما لا يعلم أنه جاءت به شريعة، بل هو طريقة من لا كتاب له. وكم من الأمور التي ترك فيها المؤمنون بالله ما أمرهم به الله واتبعوا من يجادل في الله بغير هدى ولا كتاب منير.
ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن هذه الأمة تتبع سنن من قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلوه وجب أن يكون فيهم من يحرف الكلم عن مواضعه. وهذا من بعض أسباب تغيير الملل.
ولأن المبنى محفوظ بالله فإنه يغير ويحرف في المعنى، فيما أخبر الله بـه وبما أمر به. قـال تعالى ]إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[ (الحجر:9) ولأنه لا تزال هناك طائفة ظاهرة على الحق فلم ينله ما نال غيره من الأديان من تحريف كتبها وتغيير شرائعها مطلقا، لما ينّطق الله به القائمين بحجة الله وبيانه، الذين يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنوره أهل العمى فإن الأرض لا تخلوا من قائم لله بحجة لكي لا تبطل حجج الله وبيناته.
تزوير التاريخ
وهذا مثال آخر للتحريف والتزوير، والذي لم يتورع البعض من علمائنا أن يشاركوا الآخرين فيه. فهم يعلمون تلاميذ المدارس، وطلبة الجامعات، أن الإنسان بدأ تاريخه بدائياً لا يعرف الأسرة، ولا الاستقرار ولا الحياة الآمنة. وإن حياته أشبه بحياة الحيوان. لا علم ولا فكر ولا دين ويسمون هذه الحقبة من التاريخ: (العصر الحجري). وهذا مناقض تماما لآيات الله التي تخبرنا أن آدم أول البشرية كان يعلم ما لا نعلمه نحن في عصر الكمبيوتر والفضاء والإنترنت عرف آدم كل معاني الإنسانية والرقي والعبودية الصحيحة لله الواحد. فهذا التاريخ الذي سنرى بعد ذلك أنهم يفسرون به الظواهر التي ينسبها المؤمنون لله، تاريخ مزور، ومحرف. فهو يصور الإنسان في أول مراحله بالبدائية، والسذاجة، بحيث يشبهون تفكيره بتفكير الأطفال، بل أنه كان يتخذ الحيوان قدوة له وأسوة، وأنه الملهم له في كثير من الاكتشافات وهم يصورون الإنسان القديم بصورة أشبه للحيوان في شكله وهيئته وسلوكيــاته وأنه لم يعرف النار إلا بعد حقب طويلة فكان يأكل اللحم نيئا، وكان يعيش على القنص والصيد فلـم يعرف الزراعة ولا الصناعة. بينما يصور لنا القرآن وتصور لنا كتب السنة أن الإنسان عرف الحياة التي نحياها الآن، بل وأرقى منذ أن وطئت أقدام الإنسان الأرض، وأن آدم كان يزرع ويصنع ويحيك الملابس، وأنه بدأ حياته على الأرض في أسرة وكانت له زوجة، ثم أولاد وكان معه كتاب من الله فضلا عن العلم الذي علمه الله له، كان يعيش به على الأرض. كما نعلم أيضا أن أعظم حضارة
افتراضيرد: قصة الخلق من العرش الى الفرش ( الأرض ) مفصل : عيد الورداني
من الصفحة 24 الى 40
ظهرت على الأرض كانتا حضارة (عاد) وحضارة (ثمود) وقد كانتا تاريخيا قبل العصر الحجري كما يسمونه. ولكي نؤكد للمؤمنين أن التاريخ فعلا مزور، نورد بعض النماذج على تزوير واضعيه:
إن أكبر تاريخ سجل وبأدق تفاصيله هو تاريخ قدماء المصريين. والقارئ للتاريخ المصري القديم لن يجد أي ذكر ليوسف أو موسى الكريمين، فهل يتصور ذلك؟ يوسف الذي تولى حكم مصر في فترة من أهم فترات التاريخ الإنساني وموسى الذي كان لخروجه من مصر ببني إسرائيل شأن غير به مجرى تاريخ مصر، بعد أن أغرق الله فرعون وجنوده في اليم. هل يتصور عاقل أن المصريين القدماء الذين سجلوا أشياء لا تستحق الذكر يغفلون عن تسجيل أكبر حدثين حدثا في تاريخ مصر منذ أن وجدت إلى قيام الساعة؟..اللهم إلا أن يكونا لم يحدثا..؟!!
وهل يتصور عاقل ألا يذكر التاريخ لبلاد ما بين النهرين أي ذكر لنوح عليه السلام وقد كان له حدث يعتبر الأكبر والأعظم تأثيرا في تاريخ البشر في كل الأرض قاطبة؟.
ألا يذكر التاريخ شيئا عن خليل الله إبراهيم وعن معجزة إلقائه في النار التي كانت بردا وسلاما عليه؟ وعن إسحاق ويعقوب، أكبر شخصيتين في التاريخ الإنساني. الذي يخلوا تماما من أي ذكر لهما؟.
وأن يخلو التاريخ من ذكر شعيب أو لوط؟ هل خفي على سكان الأرض كلها ما حدث لسدوم وعامورية قرى قوم لوط؟
هل قرأ أحد في تاريخ الحضارة الفينيقية ذكر لأعظم ملك كان في الأرض وهو سليمان عليه السلام. أو ذكر لأبيه داود؟
هل قرأ أحد في تاريخ الجزيرة العربية القديم أي ذكر لأنبياء كرام كصالح وهود وإسماعيل؟ اللهم إلا أن لا يكون لهم وجود فعلى كما زعم عميد الأدب العربي (طه حسين) الذي قاله في كتابه" في الشعر الجاهلي" صـ 26 ما نصه" للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل وللقرآن أن يحدثـنا عنهما أيضاً، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفى لإثبات وجودهما التاريخي فضلاً عن إثبات القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة ونشأة العرب المستعربة فيها ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعاً من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة وبين الإسلام واليهود والقرآن والتوراة من جهة أخرى..". هذا هو التاريخ الذي يريد علماء الغرب أن نستبدله بالله.
فلا يوجد أي ذكر في التاريخ لنبي مهما بلغ شأنه، ولا لحدث إيماني مهما بلغت قيمته. فهل يعقل أن يخلو تاريخ الصين من نبي أو؟ لا يمكن أن يكون ذلك.هل يعقل ألا يبعث الله تعالى لأوروبا أو روسيا نبي أو؟ لا يمكن لأن الله تعالى قال وهو أصدق القائلين ]وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خلا فِيهَا نَذِيرٌ[ (فاطر:24) فأين هذا النذير في تاريخ الصين أو روسيا أو أوربا؟ إذن فالتاريخ مزور. وإذا كان التاريخ وهو أثبت العلوم لأنه واقع، على هذه الدرجة من التزوير فما بالنا بغيره من العلوم.
عصر الإلحاد
بدأ منذ القرن السابع عشر الميلادي يبدو الضجر والضيق لمبادئ الفلسفة التي كانت هي مزيج من الاستنباط العقلي، والاستنتاج الحسي، لظواهر الكون بتفسيرها ووضع قوانين لها، واستعان الفلاسفة في تحليلهم للموروث من علوم الوحي لكن ليس باعتبارها وحيا، بل باعتبارها فروضا علمية لا أكثر، تقبل الأخذ والرد والتعديل والتحوير. ولكنهم على أي حال لم يتناقضوا تماما فيما استنبطوه من أعمال الفكر، مع الكتب المقدسة، بحالتها الموجودة آنذاك.
ومن الجهة الأخرى لم يقبل الإسلام هذه المبادئ الفلسفية حتى ولو اتفقت مع الدين لأن المبادئ الإسلامية لا تقبل شريكا مع الله فيما يخلق أو يأمر. وهي توصى المؤمنين باتباع آيات الله وحدها. وتحذر بقوة من اتباع غيرها أو حتى معها أي أفكار أو مبادئ.
وأطلق جاليليو الشرارة الأولى للمعركة مع الفلسفة والفلاسفة عندما قال سنة 1605م معبرا عن المذهب الجديد للتجريبيين:" ترى ما هي العلاقة بين الفلسفة وقياس كمية معينة؟" وقد صار هذا السؤال جوهريا بالنسبة لنشأة العلوم الطبيعية في القرن السابع عشر.
وبدأت معركة بين الفلاسفة وخاصة أتباع أرسطو معلمهم الأكبر، وبين التجريبيين الذين أرادوا إحلال طريقة التفكير التجريبي المعملي محل التفكير المبنى على الاستنباط العقلي.
ولم تتدخل الكنيسة في هذه المعركة، فهي ليست ضد العلم، ولا هي حامية حمى الفلسفة، غير أن الكنيسة أدخلت اضطرارا عندما أظهر التجريبيون آراء تتعارض مع الدين، ولا يمكن أن يعتبر ما يعارض الدين علماً بأي شكل من الأشكال لأن الدين هو العلم، وهنا تدخلت الكنيسة بالموعظة الحسنة تنبه على مخالفة التجريبيين للكتب المقدسة. غير أن الآخرين لم يتعظوا ولم ينتهوا بل تمادوا في موقفهم، وقد عبر (يوهانس كبلر) عن موقف زملائه بتعليقه الشهير: (إن الكتاب المقدس ليس كتابا في علم الضوء ولا علم الفلك). وهنا ظهرت الكنيسة كجبهة أقوى من الفلاسفة ولكن للدفاع عن الدين، الذي لا يعارض أبداً علم الضوء أو أي علم، ولكن يعارض تكذيب آيـات الله.
وكان هذا هو بداية الخلاف بين ما يقوله رجال الدين ورجال العلم في أوربا وهنا يبدو للمشاهدين من بعيد أن الكنيسة ضد العلم والحقيقة كانت عكس ذلك.
وقد هب رجال الكنيسة للدفاع عن آية واحدة خالفها التجريبيون تقول بحركة الشمس حول الأرض، بينما التجريبيون يقولون بعكس ذلك. جاءت هذه الآية على لسان (يوشع بن نون) في سفر (يـوشع) الإصحاح العاشر الآية رقم 13مـن (العهد القـديم) وهي تقول: " حينئذ كلم يوشع الرب، يوم أسلم الرب الأموريين أمام بنى إسرائيل، وقال أمام عيون بنى إسرائيل يا شمس دومي على جعٌبون، ويا قمر على وادى أيلون. فدامت الشمس، ووقف القمر حتى انتقم الشعب من أعدائه. أليس هذا مكتوباً في سفر ياشر، فوقفت الشمس في كبد السماء ولم تعجل للغروب نحو يوم كامل".
والقارئ للتاريخ لا يجد أن الكنيسة قد اعترضت على أي علم من العلوم المادية، ولكنها وقفت وبشدة لكفر من كفر وإشاعة كفره في العلوم الكونية، والحق أن الكنيسة تصدت بشدة لكل زندقة في الأمور الكونية حتى أنها حكمت على" جردانو برونو" بالإعدام حرقا لقوله بأن الفضاء لا نهائي.
لا أشك لحظة في أن وراء هذا التغيير في مفاهيم البشر تجاه الكون وعلومه خطة إبليسية. ورغم أن الخطة معادة ومكررة إلا أنها نجحت تماما كما نجحت مع أبى البشر وزوجه في تعريتهما وإنزالهما إلى الأرض وإخراجهما من الجنة. فهو الثأر القديم والعداء المبين بينه وبيننا. فصمم عليه اللعنة وأقسم على أن يغوى البشر، ووضع خطته. ولأنها نجحت مرة فإنه لا يني في تكرارها لتغيير خلق الله من حال إلى حال.
وأكبر وأخطـر تغيير يظفر به إبليس أن يحول البشر من الإتباع إلى الابتداع ولأنه لعنه الله علم أن القرآن محفوظ من التحريف، فقد عمل ألا يضيع جهده في هذا الأمر وأن يتركه على ما أنزله الله، ولكنه يعمل جاهدا على ألا يتبع، ويفتن بنى آدم علاوة على تركهم تطبيق آيات الله إلى المخالفة والعمل بنقيض الآيات.
يقـول تعالـى: ]وَلَقدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ[ (سبأ:20) وكجزء من الخطة الإبليسية يغير إبليس الأسماء المحرمة والمنفرة إلى أخري خادعة مقبولة تماما كما استبدل اسم الشجرة المحرمة بـاسم ]شَجَرَةِ الْخُلْدِ [ (طه:120) ونجحت الخديعة في إغواء آدم فكررت هنا، وسمى هذا العصر الذي شهد أكبر عملية انسلاخ من الدين في العصر الحديث وسماه (عصر النهضة) والحقيقة أنه كان عصر السقوط والانتكاس.
أبطال عصر الإلحاد
لقد سموا هذا العصر الذي انسلخ فيه العلم عن الدين وكأن أحدهما نقيضا للآخر (عصر النهضة) وكذلك سموا الملاحدة الذين أحدثوا هذا الانقلاب بالرواد وأسبغت عليهم أسماء وصفات الأبطال والعظماء وقد شارك بعضنا في هذا العمل الأخير ووصفوا جاليليو بالرائد ونيوتن بالعظيم وأينشتاين بالعبقري، بينما كان هؤلاء هم طلائع جيش إبليس الذين نجحوا في تغيير القوانين الإلهية بقوانين طبيعية.
سنطوف مع أبطال عصر النهضة، الذين خلدتهم مدارسنا وجامعاتنا وكتبنا ونقرأ مقتطفات من أقوالهم التي عبروا فيها دون خجل أو مواربة أنهم معاول لهدم الدين الذي أنزله الله لعباده، وجاءوا بدين جديد أسموه زوراً (العلم) و(العلمانية).
ولنبدأ بالعبقرية الفذة أينشتاين الذي قـال مدافعاً عن جاليليو في حربه ضد رجال الكنيسة: " لقد منحت جاليليو موهبته الخارقة القدرة على الحوار الواعي مع مثقفي عصره فاستطاع التغلب على ذلك الفكر المبنى على الخرافات وعلى اعتبار الإنسان مركز الأشياء في هذا الكون".
وقال أيضـا:" وربما نستطيع القول: بأن التخلف الناتج عن سيطرة التقاليد الجامدة التي انتشرت في العصور المظلمة كانت قد خفت وطئته في القرن السابع عشر. وأن البقية الباقية من التقاليد الثقافية الموروثة لم يكن لها القدرة على الصمود إلى الأبد إزاء التقدم الحضاري. سواء ظهر جاليليو أم لم يظهر".
هذه الكلمات نقرأها لأينشتاين مع الوضع في الاعتبار أنه كان حذراً من إثارة رجال الكنيسة عليه.
(والتير) تجريبي آخر من رواد عصر النهضة قال ليقطع الصلة تماما بين الكون وخالقه:" إن الكون كالساعة يرتب صانعها آلاتها الدقيقة في هيئة خاصة ويحركها، ثم تنقطع صلته بها".
وجاء زميله (هيوم) بجرأة أكثر ليتخلص من هذا الإله الميت على حد قوله: " لقد رأينا الساعات وهي تصنع في المصانع لكننا لم نرى الكون وهو يصنع فكيف نسلم بأن له صانعا".
أما (هكسلى) فقد قال:" إذا كانت الحوادث تصدر عن قوانين طبيعية فلا ينبغي أن ننسبها إلى أسباب فوق الطبيعة". وأضاف" فإذا كان قوس قزح مظهرا لانكسار أشعة الشمس على المطر، فماذا يدعونا إلى القول بأنها آية الله في السماء".
ولمزيد من الإفصاح عن المنهج الإبليسي لهدم الدين يقول (هكسلى):" لقد خلق العقل الإنساني الدين وأتم خلقه، في حالة جهل الإنسان وعجزه عن مواجهة القوى الخارجية، فالدين نتيجة لتعامل خاص بين الإنسان وبيئته.
إن هذه البيئة قد فـات أوانها أو كاد وقد كانت هي المسئولة عن هذا التعامل. أما بعد فنائها وانتهاء التعامل معها فلا داعي للدين". ويضيف:" لقد انتهت العقيدة الإلهية إلى آخر نقطة تفيدنا وهي لا تستطيع أن تقبل الآن أي تطورات. لقد أخترع الإنسان قوة ما وراء الطبيعة لتحمل عبء الدين، جاء بالسحر، ثم بالعمليات الروحية ثم بالعقيدة الإلهية، حتى اختراع فكرة الإله الواحد. وقد وصل الدين بهذه التطورات إلى آخر مراحل حياته. ولا شك أن هذه العقائد كانت في وقت ما جزءاً مفيداً من حضارتنا بيد أن هذه الأجزاء قد فقدت اليوم ضرورتها، ومدى إفادتها للمجتمع الحاضر المتطور".
ويقول(إنجلز):" إن كل القيم الأخلاقية هي في تحليلها الأخير من خلق الظروف الاقتصادية".
ويقول أستاذ أمريكي في طب الأعضاء:" لقد أثبت العلم أن الدين كان أقسى وأسوأ خدعة في التاريخ".
يقـول الدكتور (تامس ديود باركس):" لقـد أجمع علماء هذا العصر على صدق نظـرية " النشوء والارتقاء" وقد بدأت هذه النظرية تسود فعلا جميع فروع العلوم الحديثة. فكل مشكلة تحتاج (إلها) في تفسيرها توضع مكانه هذه النظرية بغير تردد".
أرأيتم هذه النظرية المسماه بالعلمية ما هو دورها؟
(أرثركيث) يقول:" إن نظرية النشوء والارتقاء، غير ثابتة علميا، ولا سبيل إلى إثباتها بالبرهان ونحن لا نؤمن بها إلا لأن الخيار الوحيد بعد ذلك هو (الإيمان بالخالق الخاص المباشر) وهذا ما لا يمكن حتى التفكير فيه".
يقول: (برتراند راسل):" والإنسان وليد عوامل ليست بذات هدف. إن بدأه ونشوءه وأمانيه ومخاوفه وحبه وعقائده كلها جاءت نتيجة ترتيب رياضي اتفاقي في نظام الذرة والقبر ينهي حياة الإنسان ولا تستطيع أي قوة إحياءه مرة أخرى. إن هذه المجهودات الطويلة، والتضحيات والأفكار الجميلة، والبطولات العبقرية كلها سوف تدفن إلى الأبد مع فناء النظام الشمسي".
يقول محرر دائرة المعارف (العلوم الاجتماعية) تحت اسم (الدين):" وبجانب المؤثرات الأخرى التي ساعدت في خلق الدين فإن إسهام الأحوال السياسية والمدنية عظيم جداً في هذا المجال. إن الأسماء الإلهية وصفاتها خرجت من الأحوال التي كانت تسود على ظهر الأرض. فعقيدة كون الإله (الملك الأكبر) صورة أخرى من صور الملكية الإنسانية، كذلك الملكية السماوية صورة طبق الأصل للملكية الأرضية وكان الملك الأرضي القاضي الأكبر، فأصبح الإله يحمل هذه الصفات. ولقب (القاضي الأكبر الأخير) الذي يجازى الإنسان على الخير والشر من أعماله، هذه العقيدة القضائية التي تؤمن بكون الإله محاسباً ومجازياً لا توجد في اليهودية فحسب وإنما لها مقامها الأساسي في العقائد الدينية المسيحية والإسلامية".
وهــذا فارس أخر من فرسان عصر النهضة، عصر العلم، أستاذ البيولوجيا (هيكل) يهزي في كفره فيقول:" إإتوني بالهواء وبالماء وبالأجزاء الكيماوية وبالوقت، وسأخلق إنسانا". المضحك أن هذا (الشيء) عاجز عن أن يأتي وحده بما طلب ويطلب العـون، فكيف سيخلق إنسانا؟
هؤلاء بعضهم وهذى بعضاً من أقوالهم، ونهضتهم، التي راح علمائنا يلهجون بذكرهم ويسبحون بحمدهم، ويقدسونهم تقديساً، وتدرس أقوالهم وعلومهم كبديل كما قالوا هم... للدين.
وما قلناه وذكرناه من أقوالهم غيض من فيض وإلا فإنه لم يشذ من رجال عصر النهضة إلا النذر القليل، وهذا القليل كان أغلبهم، منتهى إيمانه، أن يعترف - بالكاد - بوجود خالق للكون وكفي، وهو إيمان لا يرقى في أحسن أحواله عن إيمان أبى جهل، وأبى لهب. فقد كانا يؤمنان بوجود الله وبأكثر من ذلك ورغم هذا فلم يعتبرا من المؤمنين طبقاً للقواعد الإسلامية.
وللأسف لم يخل علم من العلوم سواء الإنسانية أو المادية إلا وظهرت فيه نهضة على مثال ما ذكرنا. وقد كان أكبر علم حظي بنهضة فائقة هو علم الفلك يقول كبيرهم (جيمس جينز) معبراً عن مدى العلم الذي وصلوا إليه:" لا غرابة إذا كانت أرضنا قد جاءت صدفة نتيجة بعض الحوادث، وإذا بقى كوننا على حالته الراهنة لمدة طويلة مماثلة (لمدة حدوثه صدفة) فلا نستبعد حدوث أي شيء يمكننا قياسه على الأرض".
الدين والعلم
" الدين يتعارض مع العلم" فرية افتراءها الملحدون من التجريبيين وهم يشكلون غالبية علماء هذا العصر. ولأنه لا يمكن الجمع بين الاثنين في منطقهم، فقد اختاروا العلم وفضلوه على الدين وأعلنوا ذلك صراحة وبذلك ظهر المذهب الجديد (العلمانية).
والمؤمنون بالله يوقنون بأن الدين لا يمكن أن يتعارض مع العلم ويوقنون بأن العلم (الصحيح) لا يمكن أن يتعارض مع الدين. وأعتقد أن هذا هو الإيمان الحقيقي، ولو تعارض علم مع الدين أو العكس فالمؤمن يختار الدين والملحد سيختار العلم، ليس حباً فيه ولكن حباً في الكفر.
وإنني كواحد من المؤمنين بالتوراة والإنجيل والقرآن جميعاً لدي هذا اليقين أن هذه الكتب الثلاثة لا تتعارض أبداً مع العلم، وأن أي نظرية سليمة تثبت ستكون دون شك متوافقة مع هذه الكتب.
هناك فرق بين العلم والنظريات
العلم هو ما علم بالفعل وثبت بطرق الإثبات، ولم يعد سبيل إلى نقضه في أي وقت أو بأي وسيلة. وطرق الإثبات عديدة منها الحواس ومنها العقل ومنها التجربة ومنها الوحي.
المهم في هذه الطرق كلها: الصدق. وأعلى هذه الطرق مرتبة هو الوحي.
فالأمور التي نسميها علماً وثبتت بطريق الإثبات من المستحيل أن تتعارض مع الدين. أما الأمور التي نسميها نظريات فإنها قد لا تكون علماً ثابتاً وإنما مجرد وجهات نظر. وقد نختلف معاً في أمر واحد، ولا غضاضة بل لابد أن يحدث ذلك، لأن عمر الإنسان قصير، وقدراته محدودة، والناس فيما بينها فضلا عن اختلاف القدرات مختلفة الأهواء، فما أراه جميلا قد تراه أنت غير ذلك وما تراه أنت مفيدا قد أراه أنا غير ذلك.. وهكذا.
أما الحواس فقد تخدع، وجميع طرق الإثبات ما عدا الوحي تعتمد على الحواس. فقـد أقسم لك إنني شاهدت ماء في مكان ما وتكتشف أنت أنه سراب وتقسم أنت أنك شاهدت فلانا ثم لا يكون هو. وتقاطع فلانا لأنه مر أمامك وعينه في عينك ولم يبادلك التحية بينما هو يقسم أنه لم يرك وهو صادق رغم أن عينه فعلا وقعت عليك، لشرود ذهنه مثلا أو ضعف بصره.. أو غير ذلك.
حتى الدراسات التي يجريها الباحثون والاستطلاعات والاستفتاءات كل ذلك قد يخلص الباحثون فيها إلى نتيجة خاطئة غير سليمة رغم أنها أجريت على آلاف من الناس.
إذن فلو تعارض رأي إنسان أو وجهة نظره مع الدين فلا نكفر بالدين. ولكن نكفر بالنظرية أو الرأي أو التجربة أو المشاهدة لأن كل ذلك قد يكون فيه كذب أو خداع ولا نسميه أبدا علماً لأنه يتعارض مع الدين، أما الوحي فإنه صادق.
والدين هو العلم. هذا بالنسبة للمؤمنين - لأن الله تعالى هو الخالق وهو العليم فإن ورد شيء عن طريق الوحي فهو العلم. حتى لو تعارض هذا مع بعض النظريات لأن الأخيرة مجرد نظريات اعتمدت على الحواس التي تخدع والناس التي قد تكذب أو تجامل أو تخالف.
فهل يمكن أن يكون هناك تعارض بين العلم والدين لو ثبت عن طريق الوحي أن الأرض ليست جزاءًا من الشمس؟
ليس هناك تعارض، لأن العلم والحواس والتجربة والعقل لم يثبتوا أن الأرض جزء من الشمس ولم ير أحد من القائلين بهذه النظرية الأرض وهي تتكون.
ولو قال الوحي بأن الأرض ثابتة لا تدور فلا تعارض مع العلم لأنه لم يثبت بأي طريق من طرق الإثبات أنها تدور بل إن الحواس ترى الشمس هي التي تدور. ولم ير أحد الأرض وهي تدور فيخبرنا الخبر... وهكذا... ولا يخفي علي أحد أن ما نشاهده من دوران الكرة الأرضية في التليفزيون أو وسائل العرض المختلفة ما هو إلا من صنع الإنسان ذاته باستخدام أجهزة تقنية حديثــة كالكمبيوتر وغيره. فالإيمان يقتضي إذن أن اعتبر ما يتعارض مع الدين ليس علما. أما أن أكفر بالدين فهذا ليس حبا في العلم بل حبا في الكفر.
وهذا (ميريت ستانلى كونجدن) عالم طبيعي وفيلسوف يعترف ويقول:
" إن العلوم حقائق مختبرة، ولكنها مع ذلك تتأثر بالخيال الإنساني وبأوهام الإنسان ومدى بعده عن الدقة في الملاحظة وعدم الدقة في أوصافه واستنتاجاته ونتائج العلوم مقبولة داخل هذه الحدود. فهي بذلك مقصورة على الميادين الكمية في الوصف والتنبؤ وهي تبدأ بالاحتمالات وتنتهي بالاحتمالات كذلك، وليس باليقين. ونتائج العلوم بذلك تقريبية وعرضية للأخطاء المحتملة في القياس والمقارنات، ونتائجها اجتهادية، وقابلة للتعديل بالإضافة والحذف وليست نهائية. وإننا لنرى أن العالم عندما يصل إلى قانون أو نظرية يقول إن هـذا هو ما وصلنا إليه حتى الآن، ويترك الباب مفتوحا لما يستجد من التعديلات.
إن العلوم تبدأ بقضايا أو بديهيات مسلم بصحتها برغم أنها لا تستند على حقيقة فيزيائية ملموسة. وعلى ذلك فإن العلوم تقوم على أساس فلسفي. والخبرة الشخصية في العلوم كما في الفلسفة والدين هي المحك النهائي والملاذ الأخير الذي تختبر به جميع الحقائق في العلوم كما في الفلسفة والدين.
وبرغم أنه لابد أن تكون الحقائق والنظريات التي يصل إليها رجال العلوم قابلة للاختبار والتحقيق على أيدي غيرهم من العلماء فإن إدراكنا الشخصي للظواهر الطبيعة يعتبر أمرا نسبيا ويتوقف على ظروف خاصة بنا".
كما يعترف الدكتور (بول كلارنس ابد) كذلك بأن الحواس والتجارب والوسائل التي يتبعونها في معاملهم لا توصلهم إلى الحقيقة التي يفتقدها الإنسان فيقول:" وقد أدرك رجال العلوم أن وسائلهم وإن كانت تستطيع أن تبين لنا بشيء من الدقة والتفصيل كيف تحدث الأشياء فإنها لا تزال عاجزة كل العجز عن أن تبين لنا لماذا تحدث الأشياء".
إن العلم والعقل الإنساني وحدهما لن يستطيعا أن يفسرا لنا: لماذا وجدت الذرات والنجوم والكواكب والحياة والإنسان بما أوتي من قدرة رائعة. وبرغم أن العلوم تستطيع أن تقدم لنا نظريات قيمة عن السديم ومولد المجرات والنجوم والذرات وغيرها من العوالم الأخرى فإنها لا تستطيع أن تبين لنا مصدر المادة والطاقة التي استخدمت في بناء هذا الكون، أو لماذا اتخذ الكون صورته الحالية ونظامه الحالي".
هذان اعترفان من قطبين من أقطاب العلوم التجريبية يشهدان بأن وسائلهم لا توصل إلى الحقيقة، وعلى ذلك فيظل الإنسان في حاجة إلى الوحي ليعلم، ومفتقراً إلى الله ليعرف.
غير أن علماء الأرض الآن.. إلا من رحم ربك - استغنوا بعلومهم ووسائلهم ولم يعودوا بحاجة إلى الله، كبرا وعلوا. رغم أن هؤلاء قد رأوا بأنفسهم آيات الله، ولابد أنهم تيقنوا من قدرته تعالى ومن أنه الحق. يقول تعالى: ]سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الأفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ[(فصلت:53).
(إيرفنج وليام توبلوتش) دكتوراه في العلوم الطبيعية يكشف لنا عن نفسية بعض زملائه وشعورهم تجاه الدين فيقول:" يميل بعض المشتغلين بالعلوم - في ظل ثقتهم الكبيرة... إلى الاعتقاد بأن العلوم قادرة على حل جميع المشكلات. فالحياة من وجهة نظرهم ليست إلا مجموعة من القوانين الطبيعية والكيماوية التي تعمل في مجال معين. وقد أخذ هؤلاء يفسرون الظواهر الحيوية المختلفة الواحدة تلو الأخرى، تفسيرات تقوم على إدراك السبب والنتيجة، والوجود من وجهة نظرهم لا يستهدف غاية وسوف ينتهي الأمر بعالمنا إلي الزوال عندما ينضب معين الطاقة الشمسية، وتصير جميع الأجسام هامدة باردة، تبعاً لقوانين الديناميكا الحرارية".
والرجل لم يكذب فيما قال، وقد أوردنا أقوالا لمثل هؤلاء تبين ما في نفوسهم ]قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ[ (آل عمران:118).
وانظروا إلى ما وصل إليه أحدهم من التطرف، يقول برتراند راسل:" ليس وراء نشأة الإنسان غاية أو تدبير. إن نشأته وحياته وآماله ومخاوفه وعواطفه وعقائده، ليست إلا نتيجة لاجتماع ذرات جسمه عن طريق المصادفة ولا تستطيع حماسته أو بطولته أو فكره أو شعوره أن تحول بينه وبين الموت. وجميع ما قام به الإنسان عبر الأجيال من أعمال فذة وما اتصف به من ذكاء وإخلاص مصيره الفناء المرتبط بنهاية المجموعة الشمسية ولابد أن يدفن جميع ما حققه الإنسان من نصر وما بناه من صروح المدنية تحت أنقاض هذا الكون إن هذه الأمور جميعا حقائق لا تقوى فلسفة من الفلسفات على إنكارها".
إن (برتراند) صاحب هذه النظرية وغيرها من النظريات ليلقى احتراما ومكانة بين علماء المسلمين تفوق ما يلقاه كثير من الأنبياء والمرسلين.
هذا هو حال كثير أو أغلب علماء هذا العصر من التجريبيين، اغتروا بما معهم من وسائل وما وصلوا إليه من علوم، هي في النهاية ومن وجهة نظر الإسلام ]كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ[ (النور:39) وهي كذلك فعلا حتى عند النابهين من هؤلاء التجريبيين يقول إيرفنج وليام:
" إن العلوم مهتمة بتحسين نظرياتها، وهـي تحاول أن تكشف عن كنه الحقيقة ولكنها، كلما اقتربت من هذين الهدفين زاد بعدها عنهما.
إن فكرتنا عن هذا الكون قائمة على أساس حواسنا القاصرة وعلى استخدام ما لدينا من الأدوات غير الدقيقة نسبيا".
ثم قلة منهم هي التي شهدت بوجود الله، لكن هذه القلة استنكفت أن تقيد نفسها بدين أو نحلة، ومن أمثال هؤلاء" أينشتاين" الذي ذكرنا كلمته التي يعتبر فيها أن مجرد الشعور الديني دون التقيد بنحلة أو ملة غاية العبقرية وهو يدعو لأن يقوم العلم والفن بإحياء هذا الشعور على الدوام عبر الأجيال.
يـقول (جـورج هـربرت بلونت) كبير المهندسين بجامعة كاليفورنيا وأستاذ الفيزياء التطبيقية" مجرد الاقتناع بوجود الله، لا يجعل الإنسان مؤمنا، فبعض الناس يخشون من القيود التي يفرضها الاعتراف بوجود الله على حريتهم، وليس هذا الخوف قائما على غير أساس فإننا نشاهد أن كثيرا من المذاهب المسيحية حتى تلك التي تعتبر مذاهب عظمى تفرض نوعا من الديكتاتورية على العقول. ولا شك أن هذه الديكتاتورية الفكرية إنما هي من صنع الإنسان، وليست بالأمر اللازم في الدين، فالإنجيل مثلا يسمح بالحرية الفكرية حينما يقول:" قال الرب: أقبل علينا ودعنا نفكر معا" ثم يقول مختتماً" وأعتقد أنني قد آمنت بالله بهذه الطريقة".
وإنني أعتقد أن هذا هو إيمان معظم علماء العصر الذين يدينون بالعلمانية والذين تدرس أقوالهم ونظرياتهم في مدارس وجامعات المؤمنين بالكتب المقدسة.
القرآن والعلم
المؤمنون بالقرآن، يعلمون جيدا أن القرآن يحض على العلم، ويحث على التعليم ولا خوف من العلماء لأنهم كما قال: ]إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ[ (فاطر:28). أي أن أكثر الناس خشية لله وتوقيرا له هم العلماء وفي الحديث المروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" إن العالم أشد على الشيطان من ألف عابد".
وعلى ذلك فالتجريبيون ليسوا بعلماء لأنهم لا يخشون الله، بل لا يؤمنون به. لذلك أجدني متحرجاً أن أذكرهم بلفظ العلماء. لأن العالم هو المؤمن بالله، ولا يمكن أن يكون هؤلاء علماء، ومن الخطأ إطلاق هذا اللفظ عليهم، إن لم يكن أيضا مخالفة لقول الله هذا.
ولقد نبغ رجال أيام السلف في علم الفلك دون الدين، فلم يسمهم الفقهاء بعلماء الفلك وإنما كانوا يلقبونهم بلفظ (أهل الهيئة) أي أهل الفلك. لأن العالم لابد أن يكون عالما بالله كأمــر سلم به.
إن أول آية وأول كلمة وردت في القرآن - الرسالة الأخيرة للبشر- الأمر بالتعليم قال تعالى: ]اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [ (سورة:العلق). بل إن الآية رقم 9 من سورة الزمر لم تسو بين المؤمنين في المكانة بل فرقت بينهم، يقول تعالى ]قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ[] يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ[ (المجادلة:11). وأخبر الله تعالى المؤمنين بأنه أنعم على آدم أبى البشر بالعلم قبل أن ينزل إلى الأرض ]وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا[ (البقرة:31) هكذا فعل تعالى مع أول الأنبياء وأما آخر الأنبياء فقد أوحي إليه ]وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا[ (طه:114) ولم يوح إليه أن يطلب الزيادة في شيء إلا في العلم، ولذلك قال e" طلب العلم فريضة على كل مسلم". وقال" من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة". والآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي توصى وترغب في العلم وتعلي مكانة العلماء أكثر من أن تحصى، فكيف يقال بعد ذلك إن الدين يتناقض مع العلم؟
الحق أن الذي أتى به العلمانيون والتجريبيون لا يسمى علماً، لأنه لا يعد علماً، وأقولها وأعلنها لكل أهل الأرض: أن كل علوم العصر منذ بداية عصر النهضة إلى الآن باطلة، ولا تمت للحقيقة بصلة، أعنى بذلك العلوم الكونية. أما غيرها من العلوم فإني أشهد لهم بها، ولم لا أشهد وقد شهد الله لهم بذلك حيث قال تعالى ]يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ[ ( الروم:7). فهم علماء في الماديات المتعلقة بالحياة الدنيا ومتعتها ووسائل عمرانها وزخارفـها، فهم عالمون في الهندسة والرياضة والمواصلات والاتصالات والكيمياء والكهربائيات والأدوات المنزلية، وعموما كل ما هو متعلق بشئون دنياهم ووسائل تمتعهم بها ورغم ذلك فهم لا يعدون من العالمين فقد وصفهم الله تعالى بأنهم ]غَافِلُونَ [.
أكرر: كل علوم أهل الغرب أو الشرق المتعلقة بالكونيات: باطلة.
لذلك فإنني اتباعا لأمر الله وآياته أطلق لفظ العالم على علماء الدين. أما أهل المعامل والتجارب فأسميهم (التجريبيون). فالأولون أتباع الوحي الإلهي والآخرون أتباع التجارب المعملية، ثم هناك أهل التفكير العقلي وهم (الفلاسفة).
وعلى الرغم من كل ما أوتيَ هؤلاء من وسائل وتقدم في الآلات والأجهزة وعلى ما عندهم من كم هائل من المعارف على ما فيها من الغث والسمين، والنافع والضار، فإنهم لا يقدرون على تخطئة الكتب المقدسة أو يثبتون تناقضها مع الدين، لأن العلم الثابت لا يتناقض البتة مع الدين، إنما التناقض بينه وبين نظرياتهم الكونية الخاطئة.
يؤيدني في ذلك عالم الرياضيات والفيزياء (ايرل تشستر ريكسى) بقوله:" إنني أجد بوصفي من المشتغلين بالعلوم أن النتائج التي وصلت إليها بدراستي العلمية عن الكون وعن الله تتفق كل الاتفاق مع الكتب المقدسة التي أومن بها وأعتقد في صدق ما جاءت به عن نشأة الكون وتوجيه الله له وقد يرجع ما نشاهده أحيانا من التعارض بين ما توصلت إليه العلوم وبين ما جاء في هذه الكتب المقدسة إلى نقص في معلوماتنا".
" والنظريات الحديثة التي تفسر نشأه الكون والسيطرة عليه بصورة تخالف ما جاء في الكتب السماوية، تعجز عن تفسير جميع الحقائق وتزج بنفسها في ظلمات اللبس والغموض. وإنني شخصياً أومن بوجود الله وأعتقد في سيطرته على هذا الكون".
حقا إن النظريات الحديثة التي تفسر الكون والسيطرة عليه تخالف ما جاء في الكتب السماوية، وكنت أود لو درس المنصفون من أتباع عيسى روح الله أو موسى كليم الله القرآن الكريم، نعم وددت لو درسوه دراسة الرسالات العلمية التي يناقشونها فلو كان ذلك قد تم لما كانت النظريات الحديثة بهذه المخالفة الصارخة للدين، ذلك أن نص الإنجيل ونص التوراة الموجودين الآن بأيدي الناس ليس فيهما هذه الاستفاضة التي في القرآن من علوم ومعارف هذا العصر.
كذلك لا يشك منصف أن بعض آيات الكتابين لحقهما تأليف وتحريف، ليس من أبناء هذا العصر، ولكن ذلك منذ قرون عديدة، قرون قريبة من نشأة الكتابين.
أما القرآن فهو الكتاب الوحيد الذي لا يحتوى على حرف من كلام البشر، وليس ذلك بسبب حرص المسلمين على سلامة نصه، لا.. لا.. فلو ترك الأمر لهم، للحقه تحريف وتأليف أضعاف الموجود الآن بالعهدين القديم والجديد، هذا إن بقيت منه آيات على هيئتها التي أنزلت بها من عند الله. ولكن عناية الله سبقت، ورحمته حفظت. قال تعالى ]إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[ (الحجر:9).
كنت أود أن يفعل علماء الغرب ذلك، وأن يدرسوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلموتراث المسلمين. ولو فعلوا ذلك لغيروا من العلوم والمعارف الموجودة الآن أما لو كان للإسلام علماء لقاموا هم بذلك.. ولكن أين هم الآن؟
إن ببلاد الإسلام كثيراً من الأسماء التي تسمى بالعلماء، وهناك مئات الآلاف في ربوع الأرض يحفظون القرآن عن ظهر قلب، بينما كان في عصر رسول صلى الله عليه وسلم عدد من يحفظون القرآن أربعة، ليس أربعة آلاف بل أربعة رجال فقط ومع ذلك كان كل الرجال والنساء في عهده eعلماء.
أما الآن فهذه الآلاف التي تحفظ القرآن لا يطلق عليهم علماء. وإلا لكان لدى المسلمين مئات الآلاف من العلماء، ولما أصبح حالهم هذا الحال. حفظة القرآن الآن يتبعون برتراند رسل وهيكسلى وجيمس جينز وجاليليو ونيوتن وأينشتاين. فما فائدة القرآن الذي معهم؟
لقد أخبر الله تعالى بأن هذا القرآن نور ]فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرسولهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا[ (التغابن:8) وأخبر تعالى بأن الذين كذبوا به في الظلمات، وأخبرنا تعالى بأنه جازى الذين كفروا بهذا النور بأنه ]ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ[ (البقرة:17).
أليس هذا كلام الله؟ أليست هذه آيات الله؟ هل يعقل أن الذين يحملون النور يسيرون وراء الذين تركهم الله في ظلمات لا يبصرون؟ هل يعقل هذا؟
أو ليس هذا هـو الذي يحدث من كل من نطلق عليهم علماء، سواء أكانوا في الكيمياء، أو الطبيعة، أو الفلك، أو الرياضيات، أو الزراعة، أو الجغرافيا، أو الفلسفة أو المنطق أو القانون أو التاريخ، أو العلوم الشرعية الإسلامية، هل هناك علم من هذه العلوم أو غيرها لا يتبع الرءوس فيها والأساتذة نظريات علماء الغرب؟ يا رباه.. كيف يسير حاملو النور خلف الذين لا يبصرون؟ إنه لأمر عجاب !!
كيف يتبع المؤمنون الكافرين ويسايرونهم؟ هل هؤلاء الذين ذكرنا أسماءهم من علماء الغرب يؤمنون بالقرآن؟ هل يؤمنون بالإسلام؟ هل يؤمنون بمحمد e؟ إنهم ]فِي ظُلُمَاتٍ لايُبْصِرُونَ[ (البقرة:17) لقد وصف الله تعالى هؤلاء وصفا دقيقاً في سورة (النور) حتى نعرفهم ونعلم أمرهم ومدى علمهم وحقيقة أعمالهم. يقول تعالى ]وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءه لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَاب ِ(39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُور ٍ(40)[ فماذا نقول الآن عن علمائنا في كل مجالالذين يتبعون هؤلاء، وكلهم يفعل ذلك دون استثناء؟ ماذا يفعل العوام والجهلة الذين أحالهم الله إلى هؤلاء العلماء ليتعلموا منهم فقال: ]فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ[ (النحل:43).
أخرج الإمام أحمد بإسناده عـن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم يهتدي بها في ظلمات البر والبحر فإذا انطمست النجوم أوشك أن تضل الهداة".
وكما أن انطماس النجوم من علامات القيامة فذهاب العلم كذلك من علاماتها روى البخاري عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن من أشراط الساعة، أن يرفع العلم ويثبت الجهل، ويشرب الخمر، ويظهر الزنا" وروي البخاري أيضا عن عبد الله بن عمرو ابن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوسا جهالا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا".
وأحسب أن نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تحققت ونحن الآن نعيش فعلا مقدمات يوم القيامة. وإلا فأين هم العلماء المتبعون لكتاب الله وسنة رسوله؟ أين علماء الإسلام الذين يوجهون علماء الغرب إلى الصواب لأن معهم النور؟.. أين هم؟
سأل (فرقد السبخي) الحسن البصري عن شيء فأجابه فقال:" إن العلماء يخالفونك" فقال الحسن البصري:" ثكلتك أمك فريقد، وهل رأيت عالما بعينك؟ إنما العالم الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير بدينه، المداوم علي عبادة ربه، الكاف عن أعراض المسلمين، العفيف عن أموالهم الناصح لجماعتهم".
ترى أيها السادة: هل ترون علماء؟؟
عموما سنتغاضى عن التعريف الدقيق للفظ العالم وسنعتبر من نراهم حولنا فعلا علماء، عليهم إذن قدر استطاعتهم أن يخرجوا بنا من الظلمات إلى النور، ولا يتبعوا الذين لا يبصرون.
تلفيق لا توفيق
إن مجرد الإيمان بوجود الله لا يعتبر إيمانا، وأن الإيمان الذي ينفع صاحبه، لابد أن يكون كما يريد الله لا كما يريد المؤمن، والله تعالى يريد من المؤمنين به أن يلتزموا التزاما كاملا بكلامه، وأن يتبعوا آياته، وفي نفس الوقت لا يتبعون غيرها، بل إنه تعالى حذر الذين لا يستجيبون لكلامه أنه سوف يستبدل بهم غيرهم. وهو تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها، وليس فيما طلبه الله مشقة على الأنفس ]يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ[ (البقرة:185) ]يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ[ (النساء:28) فإذا ما اتبع المؤمنون آيات الله نالوا رضاه، ليس من المهم بعد ذلك أن يذنبوا أو يخطئوا فإنه تعالى سيغفر لهم إن تابوا. المهم اتباع منهج الله يقول تعالى في سورة النساء ]وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ ال لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[.
إن الله تعالى يقسم ]فَلا وَرَبِّكَ[ إنهم لا يؤمنون ولا يعتبرون مؤمنين إلا إذا كمل إيمانهم باتباعهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورضاهم بما يقول ويأمر، وتسليم أمرهم تماما لله.
لقد وصل الحال بعلماء الأرض الآن إلى أنهم اغتروا بمجرد الاعتراف بوجود الله. أو بمجرد الإيمان بأن محمدا الله والقرآن كتاب الله وكفي وكأنهم يمنون على الله بإيمانهم. إن الله تعالى لا يريد من عباده أن يمنوا عليه بإيمانهم ]بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُم[ (الحجرات:17) إنه يريد عبادا متعلقة أرواحهم به تعالى، خالصة قلوبهم بحبه، متذللة أجسادهم بعبادته، مطيعين لأوامــره، مستمسكين بكتابه، متبعين لآياته، يرجون رحمته ويخافون عذابه وليس مجرد شعارات تردد وكلمات يلقى بها. ولا يريد من أوليائه أن يكلفوا أنفسهم ما لا يطيقون، ولا فيما أمر مفرطون أو مفرَطون. ولا يريد من الدعاة إلى دينه أن يسلكوا في الدعوة إليه سبيلا غير السبيل الذي حدده لهم ودون تملق لأحد أو مداهنة أو تنازل عن مبدأ لقبول مبدأ آخر، وهو تعالى يأمر الدعاة أن يدعوا الناس ليسلموا له دون قيد أو شرط، لأن الإسلام حق له تعالى، ثم إن فيه سعادةً للناس وخيراً في الدنيا والآخرة.
وإن الداعية مطالب ببذل عناية، وليس بتحقيق غاية. والقاعدة الإلهية تنص على ]إِنَّكَ لاتَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين[ (القصص:56). غير أن علماء المسلمين وأقول حرصا منهم على الدين، راحوا ينشرون ويدرسون مبادئ (إسحاق نيوتن) في الجاذبية، ونظرية (تشارلز دارون) في النشوء والارتقاء و(ألبرت أينشتاين) في قانونه للنسبية، وهذه كلها ما وضعت إلا لمعارضة الدين، وقد أقنع هؤلاء وغيرهم أهل الأرض أن الكون مرتبط بقوانين ثابتة، تتحرك في نطاقها الأجرام السماوية وكل شيء في الكون من الأرض إلى السماء خاضع لقانون معلوم سموه (قانون الطبيعة) وإن الكون لا يحتاج - لقيامه بهذه القوانين - لإله يحكمه ويحركه.
وقد شهدوا هم بذلك واعترفوا فقال (تاس ديودباركس):" لقد أجمع علماء هذا العصر على نظرية النشوء والارتقاء وقد بدأت هذه النظرية تسود فعلا جميع فروع العلوم الحديثة، فكل مشكلة تحتاج (إلها) في تفسيرها توضع مكانه - أي مكان الإله - هذه النظرية بغير تردد".
بينما يقول (أرثركيث) ليكشف سر هذا الإجماع أيضا:" إن نظرية النشوء والارتقاء غير ثابتة علميا، ولا سبيل إلى إثباتها بالبرهان ونحن لا نؤمن بها، إلا أن الخيار الوحيد بعد ذلك هو (الإيمان بالخالق الخاص المباشر) وهذا مالا يمكن حتى التفكير فيه".
كيف إذن نقول بأن هذه النظريات متوافقة مع الكتب المقدسة وهي - كلها - لم توضع إلا لنقض الدين؟
في شجاعة يعترف العالم المسلم (وحيد الدين خان) ويقول في كتاب (الإسلام يتحدى) إنه وقع في هذا الخطأ عندما كان يحاضر في إحدى الجامعات باستعراض نظرية علمية أراد إثبات توافق الدين معها وأشار إلى مقال لفرويد فقال:" فوقف أستاذ لعلم النفس، أثناء فترة الأسئلة وقال: لقد أشرتم إلى مقال لفرويد تأييداً لنظرية دينية، على حين يعارض فرويد معارضة كاملة تلك النظرية التي تمثلونها".
إن هذا النهج سلكه علماء المسلمين الآن، يستدلون على أمور دينية بأقوال لرجال تجريبيين، بينما هؤلاء يعارضون الدين بالكلية، بل إن ما قالوا به كان بديلاً عن الدين كما رأينا.
ولم يترك علماؤنا نظرية من النظريات إلا أتوا بها وعرضوها كثبت علمي ثم جاءوا بآيات ما على أنها سبق ديني. وهكذا توافقت جميع النظريات، ما ثبت منها وما لم يثبت مع قرآنهم.
أليست كارثة أن نقرأ ما يقوله بعض علمائنا الأفاضل: إن العلم أثبت أن الشمس ستكف عن إرسال أشعتها بعد 50 بليون سنة وأن الأرض ستكف عن الدوران عند ذلك، ويقولون: وهكذا أثبت العلم الحديث أن هذا الكون سينتهي وهو ما أخبر عنه القرآن منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة.
رد مع اقتباس
ابو عمر
مشاهدة ملفه الشخصي
البحث عن المشاركات التي كتبها ابو عمر
ابو عمر ابو عمر غير متصل
افتراضيرد: قصة الخلق من العرش الى الفرش ( الأرض ) مفصل : عيد الورداني
تتحرك في نطاقها الأجرام السماوية وكل شيء في الكون من الأرض إلى السماء خاضع لقانون معلوم سموه (قانون الطبيعة) وإن الكون لا يحتاج - لقيامه بهذه القوانين - لإله يحكمه ويحركه.
وقد شهدوا هم بذلك واعترفوا فقال (تاس ديودباركس):" لقد أجمع علماء هذا العصر على نظرية النشوء والارتقاء وقد بدأت هذه النظرية تسود فعلا جميع فروع العلوم الحديثة، فكل مشكلة تحتاج (إلها) في تفسيرها توضع مكانه - أي مكان الإله - هذه النظرية بغير تردد".
بينما يقول (أرثركيث) ليكشف سر هذا الإجماع أيضا:" إن نظرية النشوء والارتقاء غير ثابتة علميا، ولا سبيل إلى إثباتها بالبرهان ونحن لا نؤمن بها، إلا أن الخيار الوحيد بعد ذلك هو (الإيمان بالخالق الخاص المباشر) وهذا مالا يمكن حتى التفكير فيه".
كيف إذن نقول بأن هذه النظريات متوافقة مع الكتب المقدسة وهي - كلها - لم توضع إلا لنقض الدين؟
في شجاعة يعترف العالم المسلم (وحيد الدين خان) ويقول في كتاب (الإسلام يتحدى) إنه وقع في هذا الخطأ عندما كان يحاضر في إحدى الجامعات باستعراض نظرية علمية أراد إثبات توافق الدين معها وأشار إلى مقال لفرويد فقال:" فوقف أستاذ لعلم النفس، أثناء فترة الأسئلة وقال: لقد أشرتم إلى مقال لفرويد تأييداً لنظرية دينية، على حين يعارض فرويد معارضة كاملة تلك النظرية التي تمثلونها".
إن هذا النهج سلكه علماء المسلمين الآن، يستدلون على أمور دينية بأقوال لرجال تجريبيين، بينما هؤلاء يعارضون الدين بالكلية، بل إن ما قالوا به كان بديلاً عن الدين كما رأينا.
ولم يترك علماؤنا نظرية من النظريات إلا أتوا بها وعرضوها كثبت علمي ثم جاءوا بآيات ما على أنها سبق ديني. وهكذا توافقت جميع النظريات، ما ثبت منها وما لم يثبت مع قرآنهم.
أليست كارثة أن نقرأ ما يقوله بعض علمائنا الأفاضل: إن العلم أثبت أن الشمس ستكف عن إرسال أشعتها بعد 50 بليون سنة وأن الأرض ستكف عن الدوران عند ذلك، ويقولون: وهكذا أثبت العلم الحديث أن هذا الكون سينتهي وهو ما أخبر عنه القرآن منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة.
هـل يعقل هذا؟ هل قال الدين ذلك؟ إن هذا تكذيب صــريح لله تعالى الذي قال ]اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ[ (القمر:1) ]أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ[ (النحل:1) ]اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ[(الأنبياء:1). هذا مثال.. وغيره كثير.
والغريب أننا لم نسمع أن أحدهم مرة واحدة استخرج من القرآن حقيقة علمية يجهلها الناس ثم يثبتها العلم بعد ذلك، بل إنهم يقفون بالمرصاد لأي نظرية تقال ويستخرجون لها بعد ذلك ما يثبتها ويؤيدها من القرآن.
ويحلل (وحيد الدين خان) ما يقوم به علماؤنا فيقول:
" هناك من علمائنا من يدركون موقف الفكر الحديث من قضية الدين ولكنهم لشدة تأثرهم بالفكر الحديث، يرون أن كل ما توصل إليه أئمة الغرب يعد من (المسلمات العلمية) ومن ثم تقتصر بطولاتهم على أساس أن هذه النظريات التي قالها علماء الغرب هي نفس ما ورد بالقرآن الكريم، وكتب الأحاديث الأخرى، وهذه الطريقة في التطبيق والتوفيق بين القرآن وغيره هي نفس الطريقة التي تتبعها شعوب الحضارات المقهورة تجاه الحضارات القاهرة وأية نظرية تقدم على هذا النحو يمكنها أن تكون تابعة ولكنها لا يمكن أن تكون رائدة ولو خيل إلى أحدنا أنه يستطيع تغيير مجال الفكر في العالم بمثل هذه المحاولات التوفيقية، ليشرق على البشرية نور الحق فهو هائم ولا شك في عالم خيالي، لا يمت إلى الحقائق بسبب، فإن الأفكار والمعتقدات لا تأتى من طريق التلفيق. بل عن طريق الثورة الفكرية".
وسنرى في طيات هذا الكتاب العجب العجاب لمحاولات التوفيق بين نظريات هذا العصر والقرآن.
الكتب المقدسة والمعطيات العلمية
ليس معنى قولنا بتناقض النظريات المعاصرة مع الكتب المقدسة أن هذه الكتب لا تحتوى على علوم ومعارف كونية، بل الأمر عكس ذلك تماما فكل ما في السموات والأرض مذكور في الكتب من بداية الخلق حتى نهايته، بل فيها علم عما فوق السموات حتى العرش وما تحت الأرض حتى أسفل سافلين.
وقد عاتبت علماء الغرب من المؤمنين أنهم لم يتناولوا بالدراسة الكتاب الأخير الذي أنزله الله على محمد. ولو كانوا فعلوا ذلك لتغيرت نظريات كثيرة من المعروضة علينا الآن، وقد قام واحد فقط من هؤلاء العلماء، ليس فقط بدراسة القرآن، بل وأيضا بمقارنته مع الكتب المقدسة الأولى، ثم بمقارنتهم جميعا مع المعطيات العلمية الحديثة، وسأورد خلاصة ما توصل إليه العالم ليس لاتفاقي الكامل معه، بل لانفراده وريادته لهذا النهج الذي كان ينبغي أن يفعله من يريد العلم والوصول إلى الحقائق.
(موريس بوكاي) عالم فرنسي شهير. قال في مقدمة كتابه القيم: (دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف العلمية الحديثة):
" لقد كانت مقابلة النصوص للكتب المقدسة أمراً لازماً لصحة النص المقدس، ولكن تطور العلم كشف للمفكرين عن وجود نقاط خلاف بين الاثنين وبهذه الطريقة خلق ذلك الوضع الخطير الذي جعل اليوم مفسري التوراة والإنجيل، يناصبون العلماء العداء إذ لا يمكن في الحقيقة أن نقبل بأن رسالة إلهية منزلة تنص على واقع غير صحيح بالمرة".
أما عن الإسلام كرسالة فيقول بوكاي:
" إن الإسلام قد اعتبر دائما، أن هناك اتفاقا بين معطيات الكتاب المقدس والواقع العلمي. وإن دراسة نص القرآن في العصر الحديث لم تكشف عن الحاجة إلى إعادة النظر في هذا. فالقرآن يثير وقائع ذات صفة علمية، وهي وقائع كثيرة جداً، خلافاً لقلتها في التوراة، إذ ليس هناك أي وجه للمقارنة بين القليل جدا لما أثارته التوراة من الأمور ذات الصفة العلمية وبين تعدد وكثرة الموضوعات ذات السمة العلمية في القرآن، وأنه لا يتناقض موضوع ما من مواضيع القرآن العلمية مع وجهة النظر العلمية. وتلك هي النتيجة الأساسية التي تخرج بها دراستنا".
يقول أيضا:
" إن الدراسة التي نقدمها الآن تختص بما تنبئنا به الكتب المقدسة فيما يتعلق بالظواهر الطبيعية الكثيرة ولابد من الملاحظة أن الوحي القرآني غنى جداً في تعدد هذه المواضع وذلك على خلاف ندرتها في العهدين القديم والجديد".
ثم يذكر ما توصل إليه من دراسته قائلا:
" لقد قمت أولاً بدراسة القرآن الكريم وذلك دون أي فكر مسبق وبموضوعية تامة، باحثاً عن درجة اتفاق نص القرآن ومعطيات العلم الحديث. وكنت أعرف قبل هذه الـدراسة أن القرآن يذكر أنواعا كثيرة من الظواهر الطبيعية لكن معرفتي كانت وجيزة.
وبفضل الدراسة الواعية للنص العربي استطعت أن أحقق قائمة أدركت بعد الانتهاء منها أن القرآن لا يحتوي علي أي مقولة قابلة للنقد من وجهة نظر العلم، في العصر الحديث.
وبنفس الموضوعية قمت بنفس الفحص على العهد القديم والإنجيل، أما بالنسبة للعهد القديم فلم تكن هناك حاجة للذهاب إلى أبعد من الكتاب الأول أي سفر التكوين، فقد وجدت مقولات لا يمكن التوفيق بينها وبين أكثر معطيات العلم رسوخا في عصرنا وأما بالنسبة للأناجيل فما نكاد أن نفتح الصفحة الأولى منها حتى نجد أنفسنا دفعة واحدة في مواجهة مشكلة خطيرة ونعنى بها شجرة أنساب المسيح. ذلك أن نص إنجيل (متى) يناقض بشكل جلى إنجيل (لوقا)، وإن هذا الأخير يقدم لنا صراحة أمرا لا يتفق مع المعارف الحديثة الخاصة بقدم الإنسان علي الأرض.
غير أن وجود هذه الأمور المتناقضة وتلك التي لا يحتملها التصديق، وتلك الأخرى التي لا تتفق مع العلم، لا يبدو لي أنها تستطيع أن تضعف الإيمان بالله ولا تقع المسئولية فيها إلا على البشر".
ثم وصل (بوكاي) إلى القرآن. وبعد دراسته الدراسة المستفيضة التي بلغت به إلى أن يتعلم اللغة العربية حتى يفهم النص القرآني من مصدره دون الاعتماد على الترجمات حتى أنه سافر إلى مهبط الوحي ليتحرى الدقة في المعلومات فقال:
" الواقع أننا إذا استثنينا اليوم بعض الحالات النادرة نجد أن غالبية العلماء وقد تشربوا النظريات المادية لا يكنون في غالب الأحيان إلا عدم الاكتراث أو الاحتقار للمسائل الدينية. وكثيرا ما يعتبرونها مؤسسة على أساطير. وزيادة على ذلك فإننا، عندما نتحدث في بلادنا الغربية عن العلم والدين نغفل ضم الإسلام إلى اليهودية والمسيحية. فالأحكام غير الصحيحة والمؤسسة على مفاهيم مغلوطة والتي صدرت ضد الإسلام هي من الكثرة بحيث يصعب جدا علي المرء أن يكون فكرة سليمة عما عليه الإسلام في الواقع".
ثم خلـص بوكاي مـن دراسته للقرآن ومقارنته مـع المفاهيم العلمية الحديثة إلى أن قـال:" وتناولت القرآن منتبها بشكل خاص إلى الوصف الذي يعطيه عن حشد كبير من الظاهرات الطبيعية. لقد أذهلتني دقة بعض التفاصيل الخاصة بهذه الظاهرات وهي لا يمكن أن تدرك إلا في النص الأصلي. أذهلتني مطابقتها للمفاهيم التي نملكها اليوم عن نفس هذه الظاهرات والتي لم يكن ممكناً لأي إنسان في عصر محمد eأن يكون عنها أدنى فكرة.
إن أول ما يثير الدهشة في روح من يواجه هذا النص لأول مرة هو ثراء الموضوعات المعالجة، فهناك: الخلق وعلم الفلك وعرض لبعض الموضوعات الخاصة بالأرض وعالم الحيوان وعالم النبات والتناسل الإنساني وعلى حين نجد في التوراة أخطاء علمية ضخمة.. لا نكتشف في القرآن أي خطأ. وقد دفعني ذلك لأن أتساءل:" لو كان كاتب القرآن إنسانا، كيف استطاع في القرن السابع الميلادي المسيحي أن يكتب ما اتضح أنه يتفق اليوم مع المعارف العلمية الحديثة؟".
وعن صحة نص القرآن يقول (موريس بوكاي):" صحة القرآن التي لا تقبل الجدل تعطي النص مكانة خاصة بين كتب التنزيل ولا يشترك مع نص القرآن في هذه الصحة لا العهد القديم ولا العهد الجديد".
ومع تقديري الشديد لإجراء الأستاذ بوكاي لهذه المقارنة الفريدة وما توصل إليه من نتائج فإنني لا أوافقه على التسليم بأن القرآن متفق تماما مع المعطيات العلمية الحديثة، ولا أن التوراة والإنجيل مختلفة تماما معها، فيما هو متعلق بالعلوم الكونية وسنرى ما يؤيد ذلك. وبالطبع ليس الخطأ في القرآن أو التوراة أو الإنجيل بل.. في العلوم الحديثة.
القرآن تبيان لكل شيء
لقد وصف الله تعالى الذين كذبوا بآياته وبه - والتجريبيين منهم – بأنهم (غافلون، لا يعلمون، لا يبصرون، لا يفقهون، لا يوعون)، هكذا وصفهم الله في
القرآن. وأخبر تعالى أنهم يعيشون في الظلمات، وأن أعمالهم كسراب.
وصرف الله تعالى أمثال هؤلاء عن آياته فلا يستفيدون منها.. ولا يعلمون فمن ثم لا أقتنع أبدا - ولو اقتنع أهل الأرض - أن هؤلاء والقرآن يتوافقون.
ومع ما يقوله الله تعالى عنهم فكيف، وبأي عقل تنطبق آيات الله مع علومهم؟
عقيدتي التي أرجو أن يكون عليها آخرون، أن القرآن لديه رؤية صادقة وصحيحة عن الكون تختلف جملة وتفصيلا عما يقوله الآن علماء الأرض.
وعقيدتي أن القرآن فيه كل شيء عن هذا الكون مفصلاً تفصيلاً دون إبهام ودون غموض، وأنه يعطى الباحثين عن الحقيقة ما يريدون ماداموا يريدون اتباع آيات الله، وليس مجرد الرغبة في حفظه، لأن القرآن أنزله الله ليتبع ويعمل به: ومن أجل ذلك فصّل الله آياته تفصيلاً.
هذا هو دور الكتاب الذي أنزله الله تعالى، العليم الخبير، على عباده ]وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ[(النحل:44) ]وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ[( النحل:64) ]وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ[ (النحل:89) أما أن يكون الغرض من القرآن أن يقرأ في السرادقات على الأموات. أو أن يعلق على صدور الكاسيات العاريات، أو على الجدران في البيوت والمحلات، أو خلف الراكبين في السيارات، أو يترنم ببعض آياته في الافتتاحيات، أو يتبرك به في المناسبات أو حتى تردد آياته في الصلوات، أو يتثبت من صدقه بتطابقه مع النظريات، كل هذا ليس دور الكتاب ولا له نزل.
لقد صرف الكتاب عما أنزل له، واقتصر دوره على هذه الأمور. والأصل أنه نزل لتتبع آياته ويعمل بما فيها، فالإتباع هو المهمة الأساسية والجوهرية من الكتاب، ومن أجل ذلك جاء أن الكتاب ]تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ[ ونزل الوحي على الله صلى الله عليه وسلم بتفسير لكل شيء. وعلم الصحابة منه كل شيء.
ومن قال بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفسر القرآن فقد كذب على الله واتهم الله بعدم تبليغ الرسالة وأداء الأمانة ولم يفعل ما أمره الله به يقـول تعالى ]وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون[ (النحل:44) وقـال: ]وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ[ (النحل:64) فالذكر في الآية الأولى غير الكتاب في الآية الثانية. فيكون معنى الذكر في الآية الأولي: ما أوحاه الله تعالى له من أحاديث نطق بها، فقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أبهم فهمه على بعض الناس بما أنزله الله عليه من الذكر وهي الأحاديث.
وقد يقول البعض إن الكتاب إنما نزل للتعبد ومن ثم فليس من الضرورة أن يحتوى على علوم الفلك والهندسة والفيزياء والزراعة والطب.. وغيرها، وهذا لأن القرآن رسالة تعبدية فلا ينتظر أن يعطينا أي قواعد تتعلق بهذه العلوم.
إن الآيات التي بين أيدينا تفيد أن الله تعالى فصل كل شيء، وبين كل شيء هكذا تقول الآيات، وهو ما يفهم منها أيضا ولذا يقول تعالى:
]الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ[ (هود:1)
]كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ[ (الأعراف:2)
]وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ[ (النحل:89)
]وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا[ (الإسراء:12).
إذن فالله تعالى لم يحدد في الكتاب أنه فصل أمور العبادة والتقرب فقط، فالآيات تطلق التفصيل والتبيين، وكذلك أحاديث النبي eمفصلة ومبينة كذلك. لكن ترى أيكون كل ما في الكون من كبير وصغير، وجليل وحقير، وحلال وحرام، وخير وشر، وفنون وعلوم، وأفعال وأسماء، وأحداث وتاريخ، كل ذلك مبين في كتاب الله؟
إن الآيات مطلقة. لكن ما قول علماء المسلمين والمفسرين في هذه الآيات؟
قال الشوكاني في تفسير قوله تعالى ]وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا[ أي كل ما تفتقرون إليه في أمر دينكم ودنياكم بيناه تبيينا واضحا لا يلتبس. وعند ذلك تزاح العلل وتزول الأعذار ليهلك من هلك عن بينة.
وعـن معنى ]وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ[ قال: ومعنى كونه تبيانا لكل شيء أن فيه البيان لكثير من الأحكام والإحالة فيما بقى منها على السنة وأمرهم بإتباع رسوله صلى الله عليه وسلم فيما يأتي من أحكام وطاعته، كما في الآيات القرآنية الدالة على ذلك. وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إني أوتيت القرآن ومثله معه".
فتفسير الآية الأولى يدل على أن الله تعالى فصل في كتابه وفي سنة رسوله كل ما يحتاج إليه الناس في دنياهم وآخرتهم، حيث يقعون في الحرج والضيق والمشقة والاختلاف لو تخلف بيان شيء مما يفتقرون إليه.
والآية الثانية تفيد أن الكتاب والسنة بينا كل الأحكام، التي يحتاج إليها الناس ولكن هذا البيان سيكون فيه ]هُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ[ وخص المسلمين بهذه الثلاثة لأنهم هم المنتفعون بهذا التفصيل وهذا البيان. غير أن الله تعالى في عدة آيات يبين أن هذا التفصيل ليس لعموم الناس وإنما لفئات معينة حددها تعالى في آياته وهم وحدهم الذين يفهمون هذا التفصيل بإعمال القلب والفكر والتدبر حتى تستخلص الآيات والمنافع أياً كانت.
وقد حدد الله سبعة أصناف إذا وجدت فسيكون كل شيء مفصلا لهم وهم: (العلماء، الفقهاء، المؤمنون، والمذكرون، المفكرون، العاقلون، المتقون) فهؤلاء السبعة فقط هم الذين يتفهمون تفصيل الآيات:
(1) ]قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ[ (الأنعام:97)
(2) ]قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ[ ( الأنعام: 98)
(3) ]بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ[ (الأعراف:52)
(4) ]قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ[ (الأنعام:126)
(5) ]كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ[( يونس:24)
(6) ]كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ[ (الروم:28)
(7) ]إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمـَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَــوَاتِ وَالأَرْضِ لآيات
لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ[ (يونس:6).
فإذا توافرت صفة من هذه في أحد فلا شك أن آيات الله في الكتاب وفي الكون ستكون مفصلة مبينة له. ولكن لأي أمر فصل الله آياته وبينها هذا البيان الشامل؟ إنه تعالى أراد بأن يستفاد من هذه الآيات في الدنيا ويستفاد بها للآخرة. المهم أن تكون الغاية في سبيل الله، لأنه تعالى ما أوجد خلقه إلا ليعبدوه: ]وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إلا لِيَعْبُدُون((الذاريات:56) ويقول تعالى ]قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[ (الأنعام:162). فلا تكون الآيات مفصلة ومبينه لأمور يعمل بها في الترف أو السرف، أو الشر أو الضر. قـال تعالى عـن علة تفصيل الآيات: ]وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ[ (الأعراف:174) بعـد قوله تعالى ]كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ[ (يونس:24) ]لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ[(الرعد:2) بعد قوله تعالى ]يُفَصِّلُ الآيَاتِ[]وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ[ (الأنعام:55). والمتبع للآيات الواردة قبل قوله تعالى]قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ[ (الأنعام:126) أو ]وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ[ (الأنعام:55) يجد أن الله تعالى لم يدع شيئا مما يهم الإنسان إلا وفصله وبينه تبياناً.
بعد ذلك يتملكنا العجب من قوم بين أيديهم آيات مفصلة لكل شيء ومبينه لكل شيء ثم يتسولون العلوم والمعارف ممن أخبر تعالى أنه سيصرفهم عن آياته ]سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ[ (الأعراف:146).
أليـس من العجب أن أقواما بين أيديهم نور ومن خلفهم نور وعن يمينهم نور وعن شمائلهم نور ومن فوقهم نور ومن تحتهم نور ويلتمسون العلم والنور ممن يعيشون في الظلمات؟ لقد سمى الله كتابهم (نور) ]وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا[ (النساء:174) وسمى هم (نور) ]قَدْ جَاءكمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ[ (المائدة:15) ودينهم (نور) ]وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ[(المائدة:16) وطريقهم (نور) ]أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ[(الأنعام:122) وربهم تعالى (نور) ]اللَّهُ نُورُ السَّمَــوَاتِ وَالأَرْضِ[ (النور:35). أما هؤلاء الذين يلتمسون منهم العلم والنور فهم في الحقيقة الأكيدة في الظلمات: ]وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ[ (الأنعام:39).
إن كل علم يأتي من غير المؤمنين هو في الحقيقة جهل وضلال وكذب. وكل ما يتخيل أنه نور هو في الحقيقة وهم وسراب. وكل اتباع لمثل هذا يقابله ترك لآيات الله. وكل عدم إتباع يقابله ابتداع وفي الحديث" كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار".
أناشد المؤمنين بالله الواحد الأحد الفرد الصمد، وخاصة العلماء، أن يكفوا عن إتباع صناع عصر الإلحاد، وإلا فإنهم سيتبرءون منهم يوم القيامة. وأن يكفوا عن عمليات التوفيق بين ما يسمونه علما، وبين آيات القرآن العظيـم لأن ذلك - حقيقة - تلفيق لا توفيق، ولا تستوي الظلمات والنور.
علماؤنا الأجلاء
خذوا ما آتاكم الله بقوة، وكفى تمييعاً لقضايا الدين.. وانتبهوا أيها السادة للأمر الجلل الذي أنيط بكم وأنتم ورثة الأنبياء، وأنتم الذين أحالنا الله إليكم في فهم ديننا ودنيانا حيث قال تعالى: ]فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ[ (النحل:43) فاتقوا الله فينا نحن (الأميين).
وأذكركم والذكرى تنفع المؤمنيـن: ]وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ[ (آل عمران:187). وأحـذركم أن تفعلوا فعل من قبلكم ]يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ[(المائدة:13) وأعتذر إليكم.. إن كان في كلامي جرأة فما هو إلا حماس الشباب، والغيرة على الدين، والنصح للمؤمنين.
واستأذن أساتذتي العلماء في كل جنبات الأرض أن أعرض على سكان الأرض كيف بدء الخلق كما ورد في الكتب المقدسة والسنة الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأقوال الصحابة والتابعين وتابعي التابعين. وما ورد بحضارات السابقين وهذا الذي سيطوح بكل نظريات العصر الحديث.
افتراضيرد: قصة الخلق من العرش الى الفرش ( الأرض ) مفصل : عيد الورداني
الباب الأول
بدء الخلق
ففي البدء كان الله
ولم يكن شيء قبله..
ولم يكن شيء معه..
ولم يكن شيء غيره..
وكان عرشه على الماء،
وكتب في الذكر كل شيء
وخلق السموات والأرض.
روى البخاري عن عمران بن الحصين رضى الله عنهما قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعقلت ناقتي بالباب، فأتاه ناس من بنى تميم فقال:" اقبلوا البشرى يا بني تميم" قالوا: بشرتنا فاعطنا مرتين). ثم دخل عليه ناس من أهل اليمن فقال:" اقبلوا البشرى يأهل اليمن إن لم يقبلها بنو تميم" قالوا: قد قبلنا يارسول الله. قالوا: جئنا نسألك عن هذا الأمر. قال" كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء وخلق السموات والأرض" فنادى مناد: ذهبت ناقتك يا بن الحصين. فانطلقت فإذا هي يقطع من دونها السراب. فوالله لوددت أنى كنت تركتها.
يروى البخاري، وهو أوثق جامع لأحاديث الرسول الصحيحة، هذا الحديث الذي مع عمران بن الحصين أحد صحابة النبي صلى الله عليه وسلمبأنه دخل عليه ذات يوم بعدما ربط ناقته أمام الباب، وبينما هو جالس إذ جاء ناس من بنى تميم عندما بدأ رسول الله يحدث الحاضرين عن بدء الخلق والعرش فقال لوفد بنى تميم" اقبلوا البشرى" أي اقبلوا منى ما يقتضي لو عملتم به أن تنالوا الجنة. ويبدو أن الوفد لم يبد اهتماما بهذا الأمر، على الرغم من جلالته، مما غير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلمأسفا عليهم لإيثارهم الدنيا فلما جاء أهل اليمن، قال لهم مثل قوله لوفد بنى تميم، فقبلوا البشرى وأظهروا اهتمامهم بالأمر، بل إنهم صرحوا له أنهم جاءوا من بلادهم ليتعلموا العلم وخاصة السؤال عن امر الخلق والعرش الذي توافق أن النبي صلى الله عليه وسلمكان يتحدث فيه. فقالوا: قد قبلنا وقد جئناك نسألك عن هذا الأمر، أي الذي تتحدث فيه الآن. فقالصلى الله عليه وسلم:
" كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السموات والأرض" عند هذا الحد سمع عمران بن الحصين - راوي الحديث - مناديا ينادى من الخارج: ذهبت ناقتك يا بن الحصين فانطلق عمران ليدرك ناقته التي تفلتت وشردت بعيدا كبعد السراب لمن يراه. ولما عاد عمران مرة أخرى إلى مجلسه، كان رسول الله صلى الله عليه وسلمقد أنتهي من حديثه فندم عمران على قيامه وقال: فوالله لوددت أنى كنت تركتها. أي ذهبت ولم أقم. تأسفا على ما فاته من العلم في هذا الأمر الذي في سبيله قدم وفد اليمن من بلادهم إلى المدينة ليسألوا عن بدء الخلق، والعرش، وما شابه ذلك.
إلى هذا الحد بلغ الحرص بهؤلاء أن يقطع قوم شهراً ذهابا ومثله إيابا من اليمن إلى المدينة ليسألوا في هذا الأمر. وإلى أن يتمنى الرجل أن يفقد ناقته وهي من كرائم أموالهم في مقابل ألا يفوته هذا الباب من العلم. وقد تكرر شرح هذا الأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أكثر من مرة، لتشوق الناس إلى معرفته ولأداء المهمة المنيطة به. وقد بلغ من عظم الأمر، ولــرغبة الناس في المعرفة أنه صلى الله عليه وسلم خطبهم يوما كاملا لا يقطعه إلا الصلاة فحدثهم عن كل شيء متعلق بأمور الخلق.
روى مسلم وأحمد عن أبى زيد الأنصاري قال:" صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح ثم صعد على المنبر فخطبنا حتى حضرت صلاة الظهر، ثم نزل فصلى صلاة الظهر، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت صلاة العصر، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غابت الشمس، فحدثنا بما كان وما هو كائن، فأعلمنا احفظنا".
وعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال:" قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما فأخبرنا عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة، وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك من حفظ ونسيه من نسيه" رواه البخاري.
وعن أبى ذر رضى الله عنه قال:" توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يطير بجناحيه إلا أذكرنا منه علماً" رواه البخاري.
إن هذه الآثار تخبرنا أن الله صلى الله عليه وسلم أخبر الصحابة بكل شيء في الكون منذ بدء الخلق حتى دخول الجنة أو دخول النار. واستفاضة الأحاديث تدلنا على أن هذا الإخبار تم في أكثر من مرة وأكثر من مناسبة، منها مرة خطبهم يوما كاملا فحدثهم عن كل شيء. ونقل الصحابة للتابعين ما حفظوه، ونقلوه جيلا بعد جيل، وأثبتوا ما علموه في الكتب والمصنفات. وهذه الأحاديث ما هي إلا شرحا وتبياناً لآيات القرآن الكريم. وأصبح لدى المسلمين ذخيرة كبيرة من العلوم والمعارف عن الكون وما فيه. فلماذا إذن نستورد علوم الكون من الكافرين؟
إن نظرة في بضع ورقات من أي كتاب لعالم من علماء الإسلام في قرونه الأولى تعطى علماً لا يبلغ بكل رحلات الفضاء.
ولقد شجعت الآيات المستفيضة المؤمنين والكافرين على السواء أن ينظروا في السماء، ويسيروا في الأرض ويتفكروا في أنفسهم ليعلموا أن الله هو الحق المبين، وأن هذا الخلق خلقه، وأن كل شيء يأتمر بأمره، وأنه على كل شيء قدير وأن كل ما في الكون يشهد بذلك.
كان المسلمون الأوائل يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم أسئلة عن السموات والأرض، وعن بدء الخلق. غير أن المسلمين اليوم أحجموا أن يسألوا مثل هذه الأسئلة من ضمن الكم لهائل من المسائل التي يستفتون فيها، إنهم لا يقربون بفكرهم ولا أسئلتهم إلى هذه المنطقة (بدء الخلق) و(أول الأمر) و(السموات والأرض) و(العرش) وليس ذلك لأن السؤال فيها محرم بل عكس ذلك هو الصحيح، ولكن منعهم من ذلك الآن أمران:
الأول: أن علماء الفلك - مسلمين وغيرهم - صوروا للناس كوناً لا نهائياً وفضاء ما بعده فضاء وأن التفكير في أجرام السماء ضرب من الخبل والجنون فأين تذهب في هذه البلايين ]المبلينة التي يلقى بها المتخصصون في علم الفلك والمحتكرون لعلم السماء من أحجام، وأبعاد وأعداد للأجرام السماوية. وهذه البلايين لا يغرمها أحد ولا يحاسب عليها أحد، وإنما هي تلقى جزافاً، الغرض منها عندما تسمعها تربأ بعقلك عن الخوض فيها. استطاع التجريبيون أن يبلغوا بالناس عموما والمؤمنين منهم خصوصاً أن ينزهوا عقولهم من الغياب في متاهات الفضاء، ولوجه الله نقول أن علماء المسلمين شاركوا في هذا الإثم بتعطيلهم أعظم عبادة للإنسان وهي التفكر في آيات الله والنظر في السماء، ونسخوا العمل بكل الآيات المتعلقة بهذا الأمر كقوله تعــالى:
(1))إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَــوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ والنَّهَار لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَــوَاتِوَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ((آل عمران).
(2))أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَــوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شـــَيْ(
(الأعراف 185)
(3) )قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَــوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ(
(4))أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ((ق:6)
(5) )أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَل اَلشَّمْسَ سِرَاجًا((نوح).
(6) )أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ ُفِعَتْ((الغاشية).
(7) )إن فِي السَّمَــوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ((الجاثية:3).
هل يزعم أحد أن هذه العبادة تمارس الآن من قبل المؤمنين، وهل يزعم أحد أن كتب الفلك تقرأ من غير المتخصصين.
إن صفحة السماء أصبحت بعد عصر النهضة تيه لا يدركه العقل ولا يطيق النظر فيه. فضلا عن التـأمل. وقد نصحت من بعض الناصحين بعدم قراءة كتب الفلك حفاظاً على عقلي، وأشفق البعض على حالي لأنني بالتطلع في السماء، أسافر إلى المجهول، وأحلق في اللامحدود. والبلايين المبلينة تحاصرني من كل مكان.
لقد كانت السماء فيما سبق متعة للناظرين، وواحة للحائرين، ومرشداً للتائهين، وهداية للمصلين، ومحرابا للضالين وعلما للسائلين، وملتقىً للعاشقين، وإلهاما للحالمين، وشغلا للمهمومين، وقسماً للحالفين، ومقياساً للمحبين، وملهىً للساهرين وملجأ للمكروبين، وقبلة للمؤمنين وأنيسا للمسافرين، وزينة للناظرين، وساحة للمسبحين، ورجما للشياطين.
كان ذلك قديماً..
أما الآن فأصبحت السماء مستعمرة للروس والأمريكيين. ومن ثم منع عنها من ذكرنا من السابقين، واستثنوا فئة واحدة هم السادة الفضائيين، وبذلك أغلقت أبواب السماء تقريبا إلى يوم الدين. ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.
الأمر الثاني: الـذي منع الناس من النظر في ملكوت السموات والأرض انهم شغلوا بزينة الأرض، التي أصبحت من الكثرة والافتتان، والسحر والاستحواذ درجه يستخسرون فيها رفع رؤسهم إلى السماء ولو للحظه.
لقد كان السابقون الأولون للإسلام شغوفين بمعرفة الأشياء التي تقشعر أبداننا لمجرد التفكير فيها، وما أوصلنا إلى ذلك إلا التجريبيون واتباعهم من علماء المسلمين الذين باعدوا بيننا وبين هذه الأشياء بملايين السنين الضوئية لا بل باعدوا بيننا وبين أقرب النجوم إلينا، فهل يعقل أن نسأل فيما هو أبعد من ذلك؟
لذلك كان الأعراب من المسلمين الأوائل أعلم بعلوم الكون من جاليليو ونيوتن وأينشتاين فما بالنا بالصحابة؟
يقول مسروق (أحد تلاميذ ابن عباس) ما سئل أصحاب محمد عن شيء إلا وعلمه في القرآن ولكن علمنا قصر عنه.
هكذا كانت معرفة الصحابة والسلف بعلوم الكون، وكانوا يتحدثون فيها لمن بعدهم، وتناقلتها الأجيال جيلا بعد جيل. حتى انتهي الحديث في هذا العلم الآن واصبح حكرا على المتخصصين الغربيين، ولم يعد بيننا من يسأل عن هذه الأمور ولا يمكن أن يسمع شيء من ذلك في وسائل الإعلام بل ولا حتى الكتب الدينية التي اقتصرت الآن على الحديث في السحر والحسد والجن والقبر والدجال والموت إلى آخر هذه الأمور، ولو ذكر شيء من علوم الكون فإنما يذكر أقوال التجريبيين فيها والمخالفة جميعها للحق.
أما أن يذكر الآن شيء عن بدء الخلق برؤية دينية، أو يذكر شيء عن السموات أو العرش أو الكرسي، أو الاستواء أو شيء من هذه الأمور التي كان الأولون على استعداد للتضحية بنفيس أموالهم في سبيل معرفتها. فهذا لا يكون.
ومنذ عصر النهضة حتى الآن لم يكتب في هذه الأمور كتابا، ولم تقال مقالة، ولم يذكر حديث، مما يعد الآن فرضا على المؤمنين أن يقوم منهم من يذكر الناس بهذا العلم قبل أن يندثر، وهو من أهم أمور العقيدة، رغم عدم حرص الناس على هذه العلوم وزهدهم الشديد في إدراكها.
ونظرا لهذا الفرض ولخطورة الأمر فأننا سنذكر في بحثنا هذا، حقيقة هذه العلوم الكونية التي تخالف تماما النظريات الموجودة الآن في كتب أهل الأرض والتي هم على قناعة كاملة بها لأنها من الغرب المتقدم.
وما سنطرحه بين يدي المسلمين هي الرؤية الدينية للعلوم الكونية التي وردت في القرآن والسنة ولذلك فسنعتمد بإذن الله على هذين المصدرين وعلى إجماع علماء المسلمين قبل عصر الإلحاد أو ما تسمونه أنتم بعصر النهضة. والكتب المقدسة عند أهل الكتاب ، والله يهدى إلى الحق وإلي سواء السبيل.
العــــــرش
عندما سئل صلى الله عليه وسلم، أين كان ربنا قبل أن يخلق السموات والأرض؟ وفي حديث آخر بصيغة أخرى: قبل أن يخلق خلقه؟ قال:" كان في عماء ما فوقه هواء، وما تحته هواء ثم خلق عرشه على الماء".
روى ذلك أحمد بن حنبل، وابن ماجه، وأخرجه الترمذي وقال حديث حسن ومعنى الهواء هنا: الفراغ والفضاء والخواء.
وجمهور العلماء على أن العرش هو أول مخلوقات الله، لهذا الحديث ولما رواه مسلم في صحيحه عن رسول الله صلى الله عليه وسلمأنه قال" كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وكان عرشه على الماء". وفي حديث البخاري المذكور آنفا عن عمران، ترتيب المخلوقات" كان عرشــه على الماء وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السموات والأرض". أما ابن جرير فقد حكى عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بعضهم قال" إن الله كان عرشه على الماء ولم يخلق شيء قبل الماء".
قدر العرش
لا يقدر قدره إلا الله، وقد وردت آيات وأحاديث وأقوال للصحابة تصف عظمة العرش، وقد وردت (5) آيات تصف العرش منها (3) آيات تصفه بالعظمة ]رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ[ (النمل:26) وآية واحدة ]هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ[ (المؤمنون:116) وآية أخرى ]ذو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ[ (البروج:15). وقال تعالى عن كرسيه]وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَــوَاتِ وَالأَرْضَ[ (البقرة:255) وقال أبو ذر عن العرش:" ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض" أي أن هذا الكرسي الذي يسع السموات والأرض نسبته إلى العرش كنسبة الحلقة الحديد في وسط أرض فضاء.
ووصف العرش بالعظمة لأنه أع(ظم المخلوقات.
زنة العرش
ثبت في صحيح مسلم عن (جويرية بنت الحارث): أنالنبي صلى الله عليه وسلمدخل عليها وكانت تسبح بالحصى من صلاة الصبح إلى وقت الضحى فقال:" لقد قلت بعدك أربع كلمات لو وزنت بما قلتيه لوزنتهم:
سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله رضى نفسه، سبحان الله مداد كلماته". وهنا يبين أن زنة العرش أثقل الأوزان.
حملة العرش
ذكر الغزالي في مكاشفة القلوب: عن ابن عباس: أن الله تعالى لما خلق حملة العرش قال لهم" احملوا عرشي" فلم يطيقوا. فخلق لكل واحد منهم مثل قوة من في السموات السبع من الملائكة فقال:" احملوا عرشي" فلم يطيقوا. فخلق لكل واحد منهم مثل قوة ما خلق في السموات من ملائكة ومن في الأرض من الخلق، وقال:" احملوا عرشي" فلم يطيقوا. فقال:" قولوا لا حول ولا قوة إلا بالله" فلما قالوها، حملوه فنفذت أقدامهم في الأرض السابعة على متن الريح فلما لم تستقر أقدامهم على شيء تمسكوا بالعرش، ولم يفتروا عن قولهم:" لا حول ولا قوة إلا بالله" خيفة أن ينقلب أحدهم، فلا يعرف أين يهوى فهم حاملون العرش، وهو حاملهم، والكل محمول بالقدرة.
يقول تعالى:]الَذين يَحْمـِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ[(غافر:7) فأثبت للعرش حملة. وفي سورة الحاقة أثبت عددهم]وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ[ (الحاقة:17).
قال شهر بن حوشب: أربعة منهم يقولون" سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك". وأربعة يقولون:" سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك".
وروى أبو داود عن جابر بن عبد الله أنالنبي صلى الله عليه وسلم قال:" أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله عز وجل من حملة العرش، إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام".
وفي رواية أخرى له، ولأبى حاتم قال" مخفق الطير سبعمائة عام".
صفة العرش
قـال البيهقي في (الأسماء والصفات): اتفقت الأقاويل على أن العرش هو سرير الملك. وأنه جسم خلقه الله. وأمر ملائكته بحمله، وتعبدهم بتعظيمه والطواف به. كما خلق في الأرض بيتاً وأمر بنى آدم بالطواف به. واستقباله في الصلاة.
وقال قتادة وغير واحد من العلماء:" إن العرش من ياقوتة حمراء" وقال ابن حجر شارح صحيح البخاري:" إن العرش خلق مخلوق تحمله الملائكة فلا يستحيل أن يماسوا العرش إذا حملوه، وإن كان حامل العرش وحامل حملته هو: الله".
العرش مقبب
روى أبو داود عن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال:
أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: يارسول لله، جهدت الأنفس، وجاعت العيال ونهكـــت الأموال، وهلكت الأنعام، فاستسق الله لنا، فإنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ويحك أتدرى ما تقول" وسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فمازال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه. ثم قال:" ويحك أتدرى ما الله؟ إن عرشه على سمواته لهكذا" وقال بأصابعه مثل القبة عليه" وأنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب" قال أبو داود والحديث صحيح.
وقال ابن بشار:" إن الله فوق عرشه، وعرشه فوق سماواته، وسماواته فوق أرضه".
وفي حديث آخر:" إن أهـل الفردوس يسمعون أطيط العرش وهو تسبيحه وتعظيمه" وما ذاك إلا لقربهم منه.
فالعرش كالقبة على العالم وهو سقف المخلوقات. ثبت في صحيح البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إذا سألتم الله الجنة، فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة وفوقه عرش الرحمن".
قال ابن مسعود:" إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار، نور العرش من نور وجهه" وقد كان من دعاءالنبي:" أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات".
قال ابن تيمية:" والعـرش مقبب، وأنه أوسط الجنة وأعلاها هو الفردوس وإن فوقه عرش الرحمن. والأوسط لا يكون الأعلى إلا في المستدير. وهو كالقبة، مثل أن وجه الأرض فوق النصف الأعلى من الأرض، وإن لم يكن محيطا بذلك".
وقال ابن كثير في تفسيره:" العرش مقبب كما روى في السنن ولم يثبت أنه مستدير، كما أن له قوائم، كما جاء في صحيح البخاري ومسلم عن أبى سعيد قال جاء رجل من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلمقد لطم وجهه فقال: يا محمد إن رجلا من أصحابك لطم وجهي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم" ادعوه" فدعوه. فقال:" لم لطمت وجهه؟" قال: يا رسول الله إني مررت بالسوق وهو يقول: والذي اصطفي موسى على البشر. فقلت: يا خبيث وعلى محمد؟ فأخذتني غضبه فلطمته. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" لا تخيروا بين الأ:اء فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا بموسى، آخذ بقائمة من قوائم العرش. فلا أدرى أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور".
مسافة العرش
ذكر ابن كثير، وغير واحد من المفسرين في قوله تعالى]تَعرُجُ الملائكة وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ[ ( المعارج:4) قالوا: أنه بُعد ما بين العرش إلى الأرض مسيرة خمسين ألف سنة. واتساعه خمسون ألف سنة.
عندما اهتز العرش
اتفق المسلمون على ما وردهم من العلم أن العرش هو أعظم المخلوقات وأثقلها وأنه سقف المخلوقات، وعلى عظمته هذه وثقله ومكانته فإنه اهتز مرة لموت أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلمإنه (سعد بن معاذ) الذي مات بعد غزوة الأحزاب على أثر جرح أصيب به في هذه الغزوة وقد كان هذا الشاب ذو مكانة عند الله ورسوله وكان له كبير فضل على دعوة الإسلام. وهو الذي نزل المهاجرون من مكة في حماه وفي ضيافته بالمدينة. ورغم أن الله كان من شدة حبه له يطببه بنفسه في مسجده إلا أنه في الليل نزل جبريل عليه السلام وسأل محمداً عليه الصلاة والسلام:" من رجل من أمتك مات هذه الليلة استبشر بموته أهل السماء؟" ولم يدر eإلا ومنادٍ ينادى:" ألا إن سعدا قد مات".
وسجلت كتب الأحاديث هذا الحدث الجلل، عندما قال eللناس:" لقد اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ". وعندما شعر المشيعون بخفة جنازته أخبرهم eبما رواه عنه الترمذي" إن الملائكة كانت تحمله".
أما كيفية هذا الاهتزاز.. فلا يعلمه إلا الله تعالى.
أمور متعلقة بالعرش
يقول تعالى ]وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء[(هود:7) قال ابن عباس إنما سمى العرش عرشاً لارتفاعه. ولما سئل على أي شيء كان الماء؟ قال: على متن الريح.
وفي الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله".
وروى البخاري عن أبى هريرة رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قــال:" لما قضى الله الخلق كتب في كتابه، فهو عنده فوق العرش إن رحمتي غلبت غضبى".
أدعية بذكر العرش
في سنن أبى داود والترمذي بإسناد صحيح عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من عاد (زار) مريضا لم يحضر أجله فقال عنده سبع مرات:" أسأل الله العظيم.. رب العرش العظيم.. أن يشفيك" إلا عافاه الله سبحانه وتعالى من ذلك المرض".
وعن أبى الدرداء رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من قال في كل يوم حين يصبح وحين يمسي: حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم سبع مرات كفاه الله تعالى ما أهمه من أمر الدنيا والآخرة" رواه مسلم.
وفي كتاب ابن السني عن طلق بن حبيب قال: جاء رجل إلى أبى الدرداء فقال: يا أبا الدرداء قد احترق بيتك فقال ما احترق. ما كان الله ليفعل ذلك بكلمات سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم من قالها أول نهاره لم تصبه مصيبة حتى يمسي، ومن قالها آخر النهار لم تصبه مصيبة حتى يصبح:" اللهم أنت ربى لا إله إلا أنت، عليك توكلت وأنت رب العرش العظيم. ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. أعلم أن الله على كل شيء قدير. وأن الله قد أحاط بكل شيء علما. اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر كل دابة أنت أخذ بناصيتها. إن ربى على صراط مستقيم" وقد قلتها اليوم. ثم قال: انهضوا بنا. فقام وقاموا معه فانتهوا إلى داره وقد احترق ما حولها ولم يُصيبها شيء.
الكرسي
إن أعظم آيه في القرآن هي آية الكرسي، ويعلم المسلمون ذلك مما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بل إن من الصحابة من استشعر بقيمة هذه الآية قبل أن يخبر بذلك. فقد أخرج أحمد ومسلم عن أبى ابن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلمسألـه:" أيُ آي الله أعظم؟" فقال أبى: آية الكرسي. قال" ليهنك العلم أبا المنذر".
وأخرج سعيد ابن منصور، والحاكم والبيهقي في الشعب عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلمقال:" سورة البقرة فيها سيدة آي القرآن، لا تقرأ في بيت فيه شيطان إلا خرج". كما ورد أن في هذه الآية اسم الله الأعظم. وقد تواتر المسلمون على قراءتها دبر كل صلاة لما علموا ما فيها من الفضل.
والآية هي رقم 255 من سورة البقرة ]اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَــوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَــوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ[.
هذا الكرسي الذي وسع السموات والأرض والذي قال عنه ابن عباس فيما رواه عنه ابن جرير وابن أبى حاتم:
" لو أن السموات السبع والأرضون السبع بسطن ثم وصلن بعضهن ببعض ما كان في سعة الكرسي، إلا بمنزلة الحلقة في مفازة" والمفازة: الأرض الوعرة وقال رسول الله صلى الله عليه وسلمفيما رواه ابن جريرح:" ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس".
والذي سمع أبو ذر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول:
"ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض".
هـذا الكرسي بهذه العظمة ما هو إلا موضع قدميه عز وجل: فقد أخرج الدارقطني في الصفات، والخطيب في تاريخه، والـحاكم وصححه أن رسـول الله صلى الله عليه وسلمسئل عـن قـول الله:]وَسِعَ كُرْسِيُّهُ[ قال:" كرسيه موضع قدمه. والعرش لا يقدره إلا الله عز وجل".
وقال السدي عن أبى مالك: الكرسي تحت العرش، والسموات السبع والأرض في جوف الكرسي. والكرسي بين يدي العرش.
وقال ابن كثير: قال غير واحد من السلف: الكرسي بين يدي العرش كالمرقاة إليه.
وقد روى ابن ماجة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في معناه.
وفي مكاشفة القلوب للغزالي قـال: روى عن على كرم الله وجهه: أن الكرسي لؤلؤة. وروى عن مكرمة قال: نور الشمس جزء من سبعين جزء من نور الكرسي، ونور الكرسي جزء من سبعين جزء من نور العرش، ونور العرش جزء من سبعين جزء من نور الحجب.
القلم واللوح
روى أحمد وأبو داود والترمذي عن عبادة بن الصامت رضى الله عنه قال: قال رســول الله: صلى الله عليه وسلم" إن أول ما خلق الله: القلم، ثم قال لـه: } أكتب { فجرى القلم في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة".
وذهب جمهور العلماء على أن المقصود بقوله e:" إن أول ما خلق الله القلم" على أنه أول المخلوقات من هذا العالم، أي لما يخص خلقه فقد خلق قبل السموات والأرض والملائكة وسائر مخلوقاته عز وجل.
قال السيوطي بسند جيد عن عباس أنه قال:" خلق اللوح المحفوظ كمسيرة مائة عام فقال للقلم قبل أن يخلق الخلق: } أكتب علمي في خلقي{، فجري بما هو كائن إلى يوم القيامة".
إذن فقد خلق اللوح بعد القلم.
ذكر اللوح المحفوظ في القرآن مرة واحدة كان ذلك في سورة (البروج) والبروج معناها واضح من مبناها فهي قصور مشيدة في السماء الدنيا لتحفظها، مما يوحي بأن اللوح فعلا محفوظ من أن يطلع عليه أي شيطان مارد.
بل أخبر eأن اللوح عند الله فوق العرش. فلا يعلم ما فيه سواه تعالى. والأحاديث تخبر بأن الكتابة في اللوح تمت فور خلقه وخلق القلم، وأنها تمت قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ويعنى هذا أن القلم واللوح خلقا قبل خلق السموات والأرض وسائر المخلوقات بخمسين ألف سنة وجف القلم بما هو مكتوب فلا يزاد على ذلك ولا ينقص، ولكن ينقل منه ما سيجرى في الخلـق أولاً بأول.
أسماء وصفات اللوح
ذكر بالقرآن الكريم للوح المحفوظ سبعة أسماء له، هي في نفس الوقت صفاته وهي: (الكتاب - أم الكتاب - كتاب مكنون - كتاب مسطور - كتاب حفيظ - كتاب مبين - إمام مبين).
وقد وردت في قوله تعالى:
(1) ]إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ[ (التوبة:36)
(2) ]وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ[ (الزخرف:4)
(3) ]إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ[ (الواقعة)
(4) ]وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ[( الطور)
(5) ]قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ[ ( ق:4)
(6) ]وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [(النمل:75)
(7) ]وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ[ (يس:12).
وقد ورد ذكر الكتاب في القرآن 230 مرة منها 24 مرة عن اللوح المحفوظ.
المكتوب في اللوح
لدينا عدة آيات، وعدة أحاديث توضح ما هو المكتوب في هذا اللوح أو (الكتاب).
فمن قراءة الآيات الأربعة والعشرين التي وردت عن اللوح المحفوظ نجد أنه قد سجل فيه كل شيء، ولتفصيل أدق نستعرض بعض الآيات: يقول تعالى:
]وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ[(الأنعام:59).
تخبرنا هذه الآية أنه سبحانه وتعالى عنده مخازن الغيب، والمفاتيح التي تفتح بها لا يعلمها إلا هو، وأنه لا علم لأحد من خلقه بشيء من الأمور الغيبية التي استأثر الله بعلمها وفي هذا ما يدفع أباطيل الكهان والمنجمين والرمليين والعرافين وقراء الأبراج والحظ والكف والفنجان وغيرهم مما ليس من شأنهم ولا يدخل في قدرتهم ولا يحيط به علمهم. وقد قال e" من أتى كاهنا أو منجماً فقد كفر بما أنزل على محمد".
وهو سبحانه يعلم ما في البر والبحر من حيوان وطير وحشرات وأسماك وجماد علم لا يخفي عليه منهم شيئا ً ]مَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا[ أي: من ورقة شجر إلا يعلم بزمن سقوطها ومكانها ]وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ [ أي باطنها أو الأمكنة المظلمة منها إلا يعلمها سبحانه وتعالى ] وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ[ ويشمل هذا الوصف جميع الموجودات.
قال عبد الله بن الحارث: ما في الأرض من شجرة ولا مغرز إبرة إلا وعليها ملك يأتي الله بعلم رطوبتها إذا رطبت ويبوستها إذا يبست.
فلو ابتل جزء مـن الأرض حتى لو مغرز إبرة ثم جف لأخبر الملك ربه إذا ابتل وإذا يبس. وفي هذه الآية يخبر عز وجل بنى آدم أنه يعلم كل الكائنات ]فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ[ويعلم كـل الحركات ]وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ[ ويعلم كل الجمادات ]وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ [وكل النباتات]وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ [ وكل ذلك مدون ]فِي كِتَابٍ مُبِينٍ[.
ويقول تعالى: ]وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ[ (يونس:61).
وإذا كانت الآية الأولى تصف علم الله في الكائنات فهذه الآية تصف علم الله فيما تعمله الكائنات من الأعمال والعبادات..
فيخبر تعالى رسوله أنه يعلم بكل عمل يقوم به هو أو أمته مهما كان صغر هذا العمل أو دقته ]وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ[ أي في أمر من الأمور]وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ[ وبدأ بأعظم الشئون وهو تلاوة القرآن]وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ[ أياً ما كان ومهما كان ]إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا[ أي شهودا عليكم وعلى أعمالكم]إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ[ إذ شرع فيه وعمل ]وَمَا يَعْزُبُ عَن رَبِّكَ[ مـا يغيب عنه أو يبعد ]مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ[أي وزن ذرة ]وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ[ والذرة هي أصغر الأوزان. ومع ذلك لو كان أصغر منها أو أكبر فكل ذلك معلوم ومسجل ]فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [ إذن فكل الأعمال مهما صغرت مدونة في هذا الكتاب.
]وَمـَا مـِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ[ (هود:6) أي ما من حيوان يدب على الأرض إلا وقد أوجب الله على نفسه أن يرزقه ويأتيه رزقه في أي مـكان في طين الأرض أو في صخر الجبال أو في مياه البحر أو في جو السماء، أو أي مكان يكـون فيه. ثم هو سبحانه]وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا[فمستقرها هو قرارها في الأصلاب أو الأرحام. ومستودعها أي الموضع الذي تموت فيه، وقيل مستقرها: منتهى ما تصل إليه في الأرض ومستودعها: وكرها وحيث تأوي.
وقد روى عن عبد الله بن مسعود أنه قال: مستقرها: في الأرحام ومستودعها: حيث تموت، ويؤكد هذا ما رواه الترمذي والحاكم وصححه وابن مردوية والبيهقي عن ابن مسعود عن النبي قال" إذا كان أجل أحدكم بأرض أتيحت له إليها حاجة، حتى إذا بلغ أقصى أثره منها فيقبض، فتقول الأرض يوم القيامة: هذا ما استودعتني".
إذن ففي الكتاب المبين مدون أرزاق الدواب أيا كانت وفي أي مكان كانت ومدون فيه أيضا أماكن بداياتها ونهاياتها.
]إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَــوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ[ (التوبة:36).
تبين هذه الآية أن الله عز وجل اثبت في اللوح المحفوظ قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة مقدار الزمان. وحدد السنة باثني عشر شهراً وأن ترتيب وأسماء هذه الأشهر في اللوح وأنه تعالى حدد منها أربعة أشهر حرم وهي: (ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب) وقوله تعالى ]ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ[ أي أن هذا هو الدين المستقيم، والحساب الصحيح، والعدد المستوفي. وقال تعالى تكملة لهذه الآية ]فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُم[أي في هذه الأشهر الحرم بارتفاع القتال فيها والهتك لحرمتها. إذن فمقدار الزمان (السنة، والشهر، واليوم، والساعة، والدقيقة، والثانية) قد حدده الله تعالى وأثبته في اللوح المحفوظ وذلك قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة.
]مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ[ (الحديد:22).
تبين هذه الآية أن ما يصاب به الناس من المصائب قد سبق بذلك قضاؤه وقدره وثبت جميع ذلك في أم الكتاب فقوله ]مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ[ من قحط مطر، وضعف نبات، ونقص ثمار.]وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ[بالأمراض والأسقام وضيق المعاش والهم والغم والحزن ]إِلا فِي كِتَابٍ[ إلا وهي ثابتة في اللوح المحفوظ وقوله ]مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا[ أي من قبل أن نوجد المصيبة والأنفس والأرض كلها بخمسين ألف سنة ]إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ[ وإثبات ذلك، والعلم به على كثرة أمره يسير على الله غير عسير. إذن كل مصائب الأرض وابتلاءات الأنفس لكل الخلق مثبته في اللوح المحفوظ.
قال تعالى:]قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى (52)[ (طه).
عندما أخبر موسى عليه السلام فرعون بأن ربه هو الذي أرسله، وهو الذي خلقه ورزقه وقدر فهدى ودعاه للإيمان، شرع فرعون يحتج بالقرون الأولى أي الذين لم يعبدوا الله فقال]فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى[ أي ما بالها وهي لم تقر بالرب الذي تدعو إليه يا موسى، بل عبدت الأوثان ونحوها من المخلوقات فأجابه موسى ]قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي[ أي إن علم هؤلاء الذين عبدوا الأوثان ونحوها محفوظ عند الله في كتابه سيجازيهم عليها فهي مثبته في اللوح المحفوظ ]لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى[ أي لا يشذ ولا يغيب عنه شيء ولا يفوته صغير ولا كبير ولا ينسى شيئا، فعلمه تعالى بكل شيء محيط، تبارك وتقدس.
افتراضيرد: قصة الخلق من العرش الى الفرش ( الأرض ) مفصل : عيد الورداني
إذن ففي اللــوح المحفوظ كل أحداث التاريخ وكل ما فعلته القرون التي عاشت على الأرض، وقد أخبــر تعالى في القرآن بما كان من قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة وقوم تبع وما قبلهم وما بعدهم.
قال تعالى:]وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [(النمل:75) أي ما من شيء مخفي عن خلقه وغائب عنهم فهو مبين في اللوح المحفوظ.
وقال تعالى: ]قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ [ (ق:6) أي ما تأكله الأرض تذيبه فيها من أجسادهم فإن ذلك لا يغيب عن الله فلو غابت أجساد الموتى في الأرض وبليت وذهبت في بقاع الأرض براً أو بحراً فإن علم ذلك مسجل في اللوح فإذا كانت الأرض تنقص فالكتاب يحفظ.]أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ[ (الحج:70). هذه الآية تجمل ما في اللوح، وهو علمه سبحانه وتعالى في السماء والأرض. وهذا أمر على الله يسير فهو الخالق، القادر، العليم. وهذه الآية تبينها وتفصلها الأحاديث.
فالأحاديث تبين أن المكتوب في اللوح هو علم الله في خلقه منذ خلقهم. بل قبل ذلك بخمسين ألف سنة. إلى يوم القيامة. وهـذا الأمر هو الذي يفسر لنا بسهولة مسألة القدر، والاختيار والجبر، وتجيب عن سؤال الناس الخالد إلى يوم القيامة: هل الإنسان مسير أم مخير؟
إذ أن الأخبار والآثار تقول بأن الله تعالى كتب علمه في خلقه. فما الإجبار في هذا؟ إنه تعالى كتب للناس ولم يكتب عليهم فالقلم أمر بأن يكتب علم الله في خلقه، وقضاؤه فيهم. فكل ما ستفعله الخلائق إلى قيام الساعة كتب، لعلم الله به. لأنه تعالى (بكل شيء عليم).
ونعلم أن هذا الكتاب ينسخ منه كل الكتب لذا سمى بأم الكتاب، فجميع الكتب المنزلة نسخت منه ونزلت بها الملائكة على الأنبياء.
وقد نزل القرآن بعد نسخه من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ليلة القدر كذلك تخبرنا الأحاديث أن ثمة كتب أخرى نسخت من اللوح المحفوظ.
فهناك كتابان نسخا من اللوح المحفوظ. هذان الكتابان لم يكتب فيهما ما ستفعله الخلائق، بل أسمائهم فيشمل أحدهم على أسماء أهل الجنة كلهم. والثاني يشمل على أسماء أهل النار عن آخرهم.
وهؤلاء وأولئك لم يكتب الله تعالى عليهم مصائرهم ولكن كتب علمه فيهم. روى الترمذي في سننه عن عبد الله بن عمرو قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان، فقال:" أتدرون ما هذان الكتابان؟" فقلنا: لا يارسول الله إلا أن تخبرنا. فقال للذي في يده اليمنى" هذا كتاب رب العالمين، فيه أسماء أهل الجنة، وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل عن أخرهم، فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً" ثم قال للذي في شماله:" هذا كتاب رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل عن أخرهم، فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً" فقال أصحابه: ففيم العمل يا الله، إن كان أمر قد فرغ منه؟ قال:" سددوا وقاربوا (السداد: الصواب في القول والعمل والقصد فيهما) فإن أصحاب الجنة يختم لهم بعمل أهل الجنة وإن عملوا أي عمل. وإن أصحاب النار يختم لهم بعمل أهل النار وإن عملوا أي عمل". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وســلمبيديه فنبذهما ثم قال:" فرغ ربكم من العباد فريق في الجنة، وفريق في السعير". قال الترمذي: حديث حسن غريب صحيح. ولهذا الحديث شاهد هو حديث حذيفة عند البخاري في باب القدر.
وظاهر قوله: فنبذهما بعد قوله (في يده كتابان) أنهما كانا مرئيين لهم. والله أعلم فهذان الكتابان نسخا من اللوح المحفوظ الذي فيه كل شيء عن الخلائق، أعمالهم وأسمائهم.
كما شمل اللوح أيضا على كل كائن من خلق الله من قطر ونبات، أو نفس، أو رزق، أو أجل.
كذلك يشمل اللوح تصريف الله في خلقه من إحياء وإماتة وخلق ومغفرة للذنوب، وتفريج للكروب، ورفع لأقوام وخفض لآخرين، وإعزاز لأناس وإذلال لآخرين، كل ذلك ثابت في أم الكتاب فذلك تفسير قوله تعالى ]كلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ[ (الرحمن:9) قال عبد الله ابن عباس: إن لله عز وجل في كل يوم ثلاثمائة وستون نظرة في هذا اللوح له في كل نظرة شأن، يخلق ويحيى ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء.
ومجمل القول في المكتوب في اللوح:
* كل أسماء الخلائق مدونه في الكتاب: أسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم.
** كل ما تفعله الخلائق منذ إيجادهم في الدنيا إلى دخولهم الجنة أو النار.
* * * كل ما يفعله الله تعالى فيهم من تصريف وتدبير إلى قيام الساعة، وهذا تفسير قوله تعالى ]قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا[ (التوبة:51) وقوله ]لَنَا[ وليس علينا أي ما كتب سيكون في صالح الخلائق لا ضدهم، لأنه تعالى ]كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمةَ[ (الأنعام:12) وهذه هي مشيئة الله تعالى في خلقه. وهو على كل شيء قدير. وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأنه تعالى علم ما كان وعلم ما يكون وعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون.
الإيمان بالقدر
الإيمان بالقدر - وهو علم الله المثبت في كتابه - واجب، ولا يكمل إيمان المؤمن إلا بالتسليم به. لكن لا يجب أن يحتج به أحد على ترك العمل وعلى مخالفة ما أمر الله، وإنما يحتج بالقدر على المصائب دون المعايب.
وقد روى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز. وإن أصابك شيء فلا تقل لو أنى فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان".
قال ابن تيمية: ومما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها إيمانهم مع إيمانهم بالقضاء والقدر وأن الله خالق كل شيء وأنه ما لم يشأ لم يكن وأن الله يضل من شاء ويهدى من يشاء، أن العباد لهم مشيئة وقدرة، يفعلون بقدرتهم ومشيئتهم ما أقدرهم الله عليه مع قولهم: إن العباد لا يشاءون إلا أن يشاء الله وهذا القدر هو ما ينبغي أن يعلم ولا يجب الخوض أكثر من ذلك، ولا المجادلة فيه لأن العقل لا يطيق ذلك. ولأن الشيطان يفتح هنا باباً واسعاً ليدخل فيه، لذلك غضبالنبي غضباً شديداً عندما خرج على أصحابه يوماً وهم يتنازعون في القدر، حتى أحمر وجهه كأنما فقيء في وجنتيه الرمان فقال:" أبهذا أمرتم، أبهذا أرسلت إليكم؟ إنما هلك من كان قبلكم حينما تنازعوا في هذا الأمر عزمت عليكم ألا تنازعوا فيه" من صحيح سنن الترمذى.
اللوح فوق العرش
روى البخاري عن أبى هريرة رضى الله عنه عن رسول اللهصلى الله عليه وسلمقال:" لما قضى الله الخلق كتب في كتابه، فهو عنده فوق العرش، إن رحمتي غلبت غضبى".
ويستفاد من هذا الحديث أمران:
الأول: أن شعار هذا الكتاب" إن رحمتي غلبت غضبى". أي إن تعلق الرحمة غالب وسابق على تعلق الغضب، لأن الرحمة مقتضى ذاته المقدسة، وأما الغضب فإنه متوقف على سابقة عمل من العبد الحادث، كذلك تعنى الغلبة: الكثرة والشمول، وعلى ذلك استمرت أحوال الأمم بتقديم الرحمة في خلقهم بالتوسع عليهم في الرزق وغيره، ثم يقع بهم العذاب على كفرهم.
قال الطيبي: في سبق الرحمة إشارة إلى أن قسط الخلق منها أكثر من قسطهم من الغضب، وأنها تنالهم من غير استحقاق، وأن الغضب لا ينالهم إلا باستحقاق. فالرحمة تشمل الشخص جنينا ورضيعا وفطيما وناشئا، قبل أن يصدر منه شيء من الطاعة، ولا يلحقه الغضب إلا أن يصدر عنه من الذنوب ما يستحق معه ذلك.
الثاني: يستفاد من هذا الحديث: أن الكتاب" عنده فوق العرش" ولا محذور في ذلك كما قال ابن حجـر شارح صحيح البخاري أن يكون الكتاب فوق العرش لأن العرش خلق من خلق الله. وقال بعضهم إن اللوح عن يمين العرش وكون اللوح فوق العرش يقتضي انفراد الله سبحانه وتعالى بعلم ما فيه وأنه محفوظ من الشياطين أن تعلم ما فيه، أو حتى الملائكة فهي أيضا لا تعلم ما فيه إلا بالقدر الذي يعلمهم به الله ليسجلوا ما يستنسخونه منه.
قال بن عباس أن طول اللوح المحفوظ مابين السماء والأرض وأنه من درة بيضاء.
الرحمن على العرش استوى
لم يتناول التجريبيون في كتبهم أو نظرياتهم العرش بذكر أو إشارة، لأنهم لا يؤمنون به. أما المؤمنون به فإن معظمهم الآن لا يؤمنون باستواء الله علي العرش، ويقولون فيه بما لم يقل الله تعالى فيه عن نفسه، ولا قاله رسوله ولا علماء الأمة قبل عصر الإلحاد. بل ذهب كثير من علماء اليوم المتأثرين بهذا العصر إلى أن الله ليس على العرش، وليس هو في السماء ولا في أي مكان بل هو في كل مكان.
هذا الكلام الخطير، والذي يعتبر مرحلة بين الكفر والإيمان لأنهم يؤمنون بوجود العرش، ولا يؤمنون باستواء الله عليه، ويؤمنون بالله ولا يؤمنون بأنه في السماء بل بأنه في كل مكان، ويحل في كل شيء. وقد قال بهذا القول قديماً فئة سماها المسلمون (المعطلة، والمعتزلة، والجهمية)، أما الآن فيقول بهذا القول (التجريبيون) وبنفس أسلوب التبعية يقوله كثير من علماء المسلمين الآن.
وقد ذكرنا مقالة الدكتور (كلارنس إب:د) التي قال فيها عن الإله الذي يؤمن به وأنه ليس مستوٍ على عرشه كما تقول الكتب السماوية، إذ قال الرجل:" والحق أن التفكير السليم والاستدلال المستقيم يفرضان على عقولنا فكرة وجود الله ولكن هل لله وجود ذاتي كما يعتقد الكثيرون؟ أما وجهة نظر العلم فإنني لا أستطيع تصور الله تصورا ذاتيا، بحيث تستطيع أن تدركه الأبصار أو أن يحل في مكان دون آخر أو أن يجلس على كرسي أو عرش كما تصف لنا الكتب المقدسة الإله".
وكما تأثر علماء الإسلام بهؤلاء في علومهم تأثروا بهم في عقيدتهم. ونذكر هنا مقولة الشيخ (عبد الرازق نوفل) وهو يعبر عن كثير من علمائنا فيقول رحمه الله" من يدعو الله سبحانه وتعالى فيبسط يده بالدعاء ويرفع بصره إلى السماء فكأنه بذلك يحدد مكان الله في السماء - دون قصد يقينا - فالله سبحانه وتعالى في كل مكان".
(إن الله ليس في السماء بل هو في كل مكان وإٍنه تعالى ليس مستوٍ على العرش وإنما مستولٍ عليه) هذا ما يقول به أكثر المسلمين الآن. وهو كلام جد خطير، يقول الله أنه في السماء، ويقولون: ليس في السماء بل في كل مكان. والله يقول أنه (استوى على العرش) وهم يقولون لم يستو عليه بل استولى.
سنورد هنا رأي الإسلام في هذا الأمر الجلل والذي جهله الكثير من دعاة الإسلام ولخطورة الأمر فإننا سنستدل في قولنا على المصادر الثلاثة الأولى للأحكام الشرعية المتفق عليها وهي (الكتاب والسنة والإجماع). أما الجدال والتفلسف وأقوال المتكلمين وما شابه فلا تلزمنا بعد هذه الثلاثة ونطبق ما أمر الله به]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرسول وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَال: إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا[(النساء:59).
الله في السماء
لقد أخبر خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم أن اليهود افترقت إلى واحد وسبعين فرقة والنصارى إلى اثنين وسبعين فرقة وأن أمته ستفترق إلي ثلاث وسبعين فرقة وأن كلها في النار إلا واحدة.
قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال:" مثل الذي عليه أنا وأصحابي".
وعن الذي كان عليه الله وأصحابه في هذا الأمر يحدثنا ابن تيمية رحمه الله في كتاب (الأسماء والصفات) والذي يرد فيه على الذين يعتقدون ويقولون: أن الله تعالى ليس في السماء وإنمـا هو في كل مكان قال رحمه الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" تركتكم على المحاجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك. ما بعث الله رسولاً إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم".
وقال أبو ذر" قام فينا رسول الله مقاما فذكر بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه".
وقال أيضا" لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يطير بجناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما". يقول ابن تيمية: فكيف يكون هؤلاء المحجوبون، المنقوصون، المسبوقون، المفضولون، الحيارى، المتهوكون، أعلم بالله وأسمائه وصفاته وأحكم في باب ذاته وآياته من السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان من ورثة الأنبياء وخلفاء الرسل وأعلام الهدى ومصابيح الدجى الذين بهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا، الذين وهبهم الله من العلم والحكمة ما برزوا به على سائر أتباع الأنبياء، فضلا عن سائر الأمم الذين لا كتاب لهم وأحاطوا من حقائق المعارف، وبواطن الحقائق، بما لو جمعت حكمة غيرهم إليها لاستحيا من يطلب المقابلة.
وإذا كان كذلك فهذا كتاب الله من أوله إلى آخره، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلممن أولها إلى آخرها، ثم عامة الصحابة والتابعين، ثم كلام سائر الأئمة، مملوءة بما هو إما نص وإما ظاهر في أن الله سبحانه وتعالى هو العلي الأعلى وهو فوق كل شيء وهو على كل شيء، وأنه فوق العرش، وأنه فوق السماء. مثل:
]إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يرفعه[(فاطر:10)
]إِنى مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إلىّ[ (آل عمران:55)
]بلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ[ (النساء:158)
]أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُور ُ(16) أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا[ (الملك)
]تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ[ (المعارج:4)
]يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ[(السجدة:5)
]يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ[ (النحل:50)
]سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى[ (الأعلى:1)
]وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَاب َ(36) أَسْبَابَ
السَّمَــوَاتِ فَأَطَّلـِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لاَظُنُّهُ كَاذِبًا[( غافر ).
فقوله تعالى مخبراً عن فرعون دليل على أن موسى عليه السلام أخبر فرعون بأن إلهه في السماء، فأراد أن يلتمس الأسباب للوصول إليه تمويها على قومه، فأمر وزيره هامان أن يبن له الصرح، ثم عقب على ذلك بقوله]وَإِنِّي لاَظُنُّهُ[ أي موسى ]كَاذِبًا[ فيما أخبر به من كون إلهه في السماء، فمن إذن أشبه بفرعون وأقرب إليه نسباً. إن فرعون كذب موسى في أن إلهه في السماء، وهو نفس ما يقوله هؤلاء (أي أنهم يؤيدون فرعون ويكذبون موسى) ثم الآيات التي تتحدث عن الكتب التي أنزلها الله على عباده وكذلك الآيات التي أنزلها عليهم لتدل على أن الله في السماء]تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ[ (فصلت:42)]مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ[(الأنعام:114) ]قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ [ (المائدة:115).
وفي الأحاديث الصحاح والحسان ما لا يحصى إلا بالكلفة مثل قصة معراجه eونزول الملائكة من عند الله وصعودها إليه، وقوله في الملائكة الذين يتعاقبون فيكم بالليل والنهار:
" فيعرج الذين باتوا فيكم إلى ربهم فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم".
وفي الصحيح من حديث الخوارج" ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحا ومساءً".
وأخرج ابن أبى شيبة وأحمد في الزهد وابن أبى حاتم عن أبى الصديق الناجي قال:" خرج سليمان بن داود يستسقي بالناس، فمر على نملة مستلقية على قفاها رافعة قوائمها إلى السماء وهي تقول: اللهم إنا خلق من خلقك ليس بنا غنى عن رزقك. فإما أن تسقينا وإما أن تهلكنا. فقال سليمان للناس: ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم".
وفي حديث الـرقية" ربنا الذي في السماء، تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء، اجعل رحمتك في الأرض. اغفر لنا حوبنا وخطايانا أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك، وشفاءً من شفائك على هذا الوجع". قال e:" إذا اشتكى أحد منكم، أو اشتكى أخ له فليقل:" ربنا الذي في السماء".
وقوله في حديث قبض الروح" حتى يعرج بها إلى السماء التي فيها الله تعالى".
وقوله في الحديث الذي في المسند" إن الله حيىٌ كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا".
وقوله:" يمد يديه إلى السماء يقول:" يا رب، يا رب".
وفي حديثه eللجارية:" أين الله؟" قالت: في السماء.
قال:" فمن أنا؟" قالت: أنت رسول الله. قال:" اعتقها فإنها مؤمنة".
وقولة أمية بن أبى الصلت الثقفي الذي أنشد للنبي صلى الله عليه وسلم هو وغيره من شعره فاستحسنه وقال:" آمن شعره وكفر قلبه" حيث قال:
مجدوا الله فهو للمجد أهل ربنا في السماء أمسى كبيرا
وقول عبد الله بن رواحة الذي أنشد للنبي صلى الله عليه وسلم وأقره عليه:
وإن العرش فوق الماء طاف وفوق العرش رب العالـمين
إلى أمثال ذلك، مما لا يحصيه إلا الله، مما هو من أبلغ المتواترات اللفظية والمعنوية التي تورث علما يقينياً من أبلغ العلوم الضرورية، أن الرسول صلى الله عليه وسلم المبلغ عن الله، ألقى إلى أمته المدعوين: أن الله سبحانه على العرش وأنه فوق السماء. كما فطر الله على ذلك جميع الأمم، عربهم وعجمهم في الجاهلية والإسلام، إلا من اجتالته الشياطين عن فطرته.
أقوال السلف في الاستواء
يقول ابن تيمية: وللسلف في ذلك من الأقوال لو جمع لبلغ المئين، أو الألوفا. ولم يقل واحد منهم قط أن الله ليس في السماء، ولا أنه ليس على العرش، ولا أنه بذاته في كل مكان. ولا أن جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء، ولا أنه لا متصل ولا منفصل ولا أنه لا يجوز الإشارة إليه بالأصابع ونحوها، إشارة حسية. فإذا كان أصل هذه المقالة (أن الله في كل مكان) مأخوذ عن تلامذة المشركين والصابئين والفلاسفة، فكيف تطيب لنفس مؤمن - بل نفس عاقل - فضلا عن نفس عالم أن يأخذ سبيل المغضوب عليهم أو الضالين. ويدع سبيل الذين أنعم الله عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين.
وهو سبحانه مع ذلك ليس كمثله شيء لا في نفسه المقدسة، المذكورة بأسمائه وصفاتــه، ولا في أفعاله، فكما نتيقن بأن الله سبحانه له ذات حقيقة وله أفعال حقيقية، فكذلك له صفات حقيقية.
وهو ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في أفعاله، ولا في صفاته، وكل ما أوجب نقصاً أو حدوثاً فإن الله منزه عنه حقيقة، فإنه سبحانه مستحق للكمال الذي لا غاية فوقه.
فإن قال قائل: لو كان الله فوق العرش للزم إما أن يكون أكبر من العرش أو أصغر، أو مساويا، وكل ذلك من المحال، ونحو ذلك من الكلام.
والقول الفاصل ما هو عليه الأمة الوسط، من أن الله مستوٍ على عرشه استواءً يليق بجلاله، ويختص به، فكما أنه موصوف بأنه بكل شيء عليم. ونحو ذلك ورضى الله عن الإمام مالك ابن أنس حيث قال:" أو كلما جاءنا رجل أجدل من رجلٍ تركنا ما جاء به جبريل عليه السلام إلى محمد eلجدل هؤلاء".
قال أبو حنيفة في رجل قال: لا أعرف ربى في السماء أم في الأرض: فقد كفر لأن الله يقول: ]الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى[ (طه:5) وعرشه فوق سبع سموات.
فهذا تصريح من أبى حنيفة بتكفير من أنكر أن الله في السماء. واحتج على ذلك بأن الله في أعلى عليين. وأنـه يدعي من أعلى لا من أسفل، وكل من هاتين الجملتين نظرية عقلية، فإن القلوب مفطورة على الإقرار بأن الله في العلو. قال يحيى بن معاذ الرازي:" إن الله على العرش، بائن من الخلق، وقد أحاط بكل شيء علما. وأحصى كل شيء عددا".
وقد أجمع اليهود والنصارى وأهل الأديان مع المسلمين على أن الله على العرش. وقال محمد بن إسحاق إمام الأئمة: " من لم يقل إن الله فوق سمواته على عرشه، بائن من خلقه، وجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه ثم ألقى على مزبلة لئلا يتأذى بريحه أهل القبلة ولا أهل الذمة".
وروى الإمام أحمد عن مالك ابن أنس قال:" الله في السماء، وعلمه في كل مكان، لا يخلو من علمه مكان". وقال الشافعي: " خلافة أبى بكر الصديق حق قضاه الله في السماء. وجمع عليه قلــوب عباده".
وفي الصحيح عـن إنس بـن مالك قـال: كانت زينب تفتخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول:" زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سموات". هذا مثل قول الشافعي.
قال أبو عبد الله محمد بن عبد الله أبى زمنين من أئمة المالكية في كتابه (أصول السنة) قال: ومن قول أهل السنة أن الله عز وجل خلق العرش واختصه بالعلو والارتفاع فوق جميع ما خلق. ثم استوى كيف شاء كما أخبر عـن نفسه في قوله: ]الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى[.
ومن قول أهل السنة أن الكرسي بين يدي العرش وأنه موضع القدمين. وذكر حديث أنس الذي فيه التجلي يوم الجمعة في الآخرة وفيه "إذا كان يوم الجمعة هبط من عليين على كرسيه. ثم يحف الكرسي الذي وسع السموات والأرض لموضع القدمين، ولا يعلم قدر العرش إلا الذي خلقه". وقال: ومن قول أهل السنة أن الله ينزل إلى السماء الدنيا ويؤمنون بذلك من غير أن يحدوا فيه حدا.
وقال: واعلم بأن أهل العلم بالله وبما جاءت به أنبياؤه ورسله، يرون الجهل بما لم يخبر به نفسه علما. والعجز عن ما لم يدع إليه إيمانا. وأنهم إنما ينتهون من وصفه بصفاته وأسمائه إلى حيث انتهي في كتابه على لسانه.
ودين الله تعالى بين الغالي فيه، والجافي والمقصر عنه.
فإذا قلنا يد وسمع وبصر وما أشبهها فإنما هي صفات أثبتها الله لنفسه، ولسنا نقول: أن معنى اليد القوة أو النعمة. ولا معنى السمع والبصر العلم، ولا نقول إنها جوارح، ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح وأدوات للفعل، ونقول: إن القول إنما وجب بإثبات الصفات لأن التوقف ورد بها، ووجب نفي التشبيه عنها. لأن الله ليس كمثله شيء.
(وكل ما خطر في بالك فالله غير ذلك).
وقال أبو نعيم الأصبهاني:" طريقتنا طريقة المتبعين للكتاب والسنة وإجماع الأمة. قال: فمما اعتقدوه أن الأحاديث التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم في العرش واستواء الله يقولون بها ويثبتونها. من غير تكييف، ولا تمثيل ولا تشبيه. وأن الله بائن من خلقه، والخلـق بائنون منه.. لا يحل فيهم ولا يمتزج بهم، وهو مستوٍ على عرشه في سمائه دون أرضه وخلقه".
وقـال الحافظ أبو نعيم في كتابه (محجة الواثقين): وأجمعوا أن الله فوق سمواته عالٍ على عرشه، مستوٍ عليه لا مستول عليه. وأنه سبحانه مستوٍ على عرشه بائن من خلقه والخلق منه بائنون، بلا حلول ولا ممازجة ولا اختلاط، ولا ملاصقة، لأنه الفرد البائن من الخلق، والواحد الغنى عن الخلق.
وأن الله عز وجل سميع، بصير، عليم، خبير، يتكلم، ويرضى، ويسخط، ويضحك، ويعجب، ويتجلى، وينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا كيف شاء بلا كيف ولا تشبيه، ولا تأويل، فمن أنكر النزول أو تأول فهو مبتدع ضال وسائر الصفوة من العارفين على ذلك.
وقال الشيخ الأمام أبو محمد (عبد القادر بن صالح الجيلاني) - من أعلام الصوفية - في كتاب (الغنية):" ولا يجوز وصفه بأنه في كل مكان، بل يقال: أنه في السماء على العرش وكونه على العرش، مذكور في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل، بلا كيف".
وقال القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني (أشعري) : " فإن قال قائل: فهل تقولون أنه في كل مكان"؟
قيل له: معاذ الله، بل هو مستوٍ على عرشه، كما أخبر في كتابه. ولو كان في كل مكان لكان في بطن الإنسان وفمه، والحشوش، والمواضع التي يرغب عن ذكرها " .
قال محمد خليل هراس: ومن الخطأ القول أن مذهب السلف هو (التفويض): فإن السلف لم يكونوا يخوضون في علم المعنى، ولا كانوا يقرءون كلاماً لا يفهمون معناه، بل كانوا يفهمون معاني النصوص من الكتاب والسنة، ويثبتونها لله عز وجل، ثم يفوضون فيما وراء ذلك من كنه الصفات أو كيفتها كما قال مالك حين سئل عن كيفية استوائه على العرش:" الاستواء معلوم والكيف مجهول".
وعن قوله تعالى]لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ[ هذه الآية المحكمة من كتاب الله عز وجل هي دستور أهل السنة والجماعة في باب الصفات، فإن الله عز وجل قد جمع فيها بين النفي والإثبات، فنفي عن نفسه المثل وأثبت لنفسه سمعا وبصرا فدل على أن المذهب الحق، ليس هو نفي الصفات مطلقا كما هو شأن المعطلة ولا إثباتها مطلقاً كما شأن الممثلة، بل إثباتها بلا تمثل.
فأهل السنة والجماعة لا يقولون بأن الله تعالى في كل مكان بذاته، بل إنهم يعتقدون بأن الله تعالى: في السماء مستوٍ على عرشه، بائن من خلقه، بالكيفية التي يعلمها هو جل شأنه، كما قال مالك وغيره (الاستواء معلوم والكيف مجهول).
أما ما يشغب به أهل التعطيل من إيراد اللوازم الفاسدة على تقرير الاستواء فهي لا تلزمنا لأننا لا نقول بأن فوقيته على العرش كفوقية المخلوق على المخلوق.
أما ما يحاولون به صرف الآيات الصريحة عن ظواهرها بالتأويلات الفاسدة التي تدل على حيرتهم واضطرابهم، كتفسيرهم استوى بمعنى: استولى أو حملهم ]عَلَى[ وجعلها بمعني (إلى) و]اسْتَوَى[بمعنى (قصد) إلى آخر تأويلاتهم، فكلها تشغيب بالباطل، وتغيير في وجه الحق، ولا ندرى ماذا يريد أولئك الذين يعطلون أسماء الله وصفاته. أيريدون أن يقولوا: ليس في السماء رب يقصد، ولا فوق العرش إلـه يعبد؟ فأين يكون إذن؟
ولعلهم يضحكون منا حين نسأل عنه بأين، ونسوا أن أكمل الخلق وأعلمهم بربهم صلوات الله وسلامه عليه قد سأل عنه الجارية: بأين الله. ورضى بجوابها حين قالت في السماء. وقد أجاب كذلك من سأله: بأين كان ربنا قبل أن يخلق السموات والأرض بأنه كان في عماء. ولم يرووا عنه بأنه زجر السائل، ولا قال له إنك غلطت في السؤال.
وقصارى ما يقوله المتحذلقون منهم عن الله: (كان ولا مكان قبل خلق المكان).
بل الحق أن يقال:" كان الله ولم يكن شيء قبله، ثم خلق السموات والأرض وكان عرشه على الماء، ثم استوى على العرش" وثم هنا للترتيب الزماني لا لمجرد العطف.
آيات الاستواء:
في سبع آيات لا غير في القرآن يذكر عز وجل أنه:
]اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ[
(1)]إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَــوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [ (الأعراف:54)
(2) ]إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَــوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ
اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْر[ (يونس:3)
(3) ]اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَــوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى
الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَر[ (الرعد:2)
(4)]الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى[ (طه:5)
(5)]الَّذِي خَلَقَ السَّمَــوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى
عَلَى الْعَرْشِ[ (الفرقان:59)
(6) ]اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَــوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ
اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ[(السجدة:4)
(7)]هوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَــوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ[ (الحديد:4).
من هذه الآيات السبع نرى أن الله تعالى ذكر الاستواء بعد خلق السموات والأرض حتى الآية (5) مـن سورة طـه سبقتها الآية (4) وفيها ]تَنزِيلا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَــوَاتِ الْعُلَى[ ثم ]الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى[ و(ثم) هنا كما هو معلوم للترتيب أي أن الاستواء تم بعد خلق السموات والأرض. وفي الأحاديث" كان الله ولم يكن شيء غيره. وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء وخلق السموات والأرض".
فالعرش مخلوق قبل السموات والأرض، لكن الاستواء كما هو واضح من الآيات بعد خلق السموات والأرض.
وقد ورد بإنجيل متى (23/22) على لسان المسيح عليه السلام:" ومن حلف بالسماء فقد حلف بعرش الله وبالجالس عليه".
الرد على من تأول الاستواء
لم يظهر القول بأن الله تعالى في كل مكان في عصور السلف إلا من فرق سماها العلماء (المعطلة، والمعتزلة، والجهمية) وذلك بعد ترجمة كتب الفلاسفة، وكتب الصابئين والمشركين.
وقام أهل السنة والجماعة بالرد عليهم حتى انتهت الفتنة وأخمدت نيرانها. لكنهـا عادت وظهرت من جديد بعد عصر الإلحاد (عصر النهضة) وانتشر بين علماء المسلمين لا عوامهم أن الله تعالى في كل مكان، أما الاستواء فقد أولوه بالاستيلاء. واحتجوا بآيات (المعية) و(القرب) كقوله]وهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُم[ وكقوله ]لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا[ وكقولـه ]وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ[ وقوله ]وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ[ (الواقعة:85).
ورد ابن تيمية على هؤلاء في كتاب (الأسماء والصفات) وعلى حججهم فقال:" ليس في القرآن وصف الرب تعالى بالقرب من كل شيء أصلا. بل قربه الذي في القرآن خاص لا عام. كقوله تعالى ]وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ[ (البقرة:186) فهو سبحانه وتعالى قريب ممن دعاه.
وكذلك في الصحيحين عن أبى موسى الأشعري أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فكانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير، فقال:" يا أيها الناس، أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصما ولا غائباً إنما تدعون سميعا قريبا ".
إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته". فقوله" إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم" ولم يقل إنه قريب من كل موجود.
وكذلك قول صالح ]فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ[(هود:61) ومعلوم أن]قَرِيبٌ مُجِيبٌ[ مقرونة بالتوبة والاستغفار. فأراد أنه قريب مجيب للتائبين إليه ولاستغفار المستغفرين. ومعلوم أنه لا يقال: مجيب لكل موجود، وإنما الإجابة لمن سأله ودعاه. وكذلك قربه سبحانه وتعالى.
وكذلك أسماء الله المطلقة كاسمه: السميع، البصير، الغفور، الشكور، المجيب، القريب، لا يجب أن تتعلق بكل موجود بل يتعلق كل اسم بما يناسبه، واسمه العليم، لما كان كل شيء يجب أن يكون معلوما، تعلق بكل شيء. وأما قوله تعالى: ]وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ[ (الواقعة:85) ]وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ[ (ق:16). فالمراد به قرب ملائكته.
أما ألفاظ المعية كالتي في سورة المجادلة ]مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَة (7)[. وفي سورة الحديد ]هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَــوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ[.
يقول ابن تيمية: قد ثبت عن السلف أنهم قالوا: هو معهم بعلمه. وهذا كما قال ابن عبد البر وغيره إجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولم يخالفهم أحد يعتد بقوله: قال ابن أبي حاتم في تفسيره عن ابن عباس ]وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ[ هو على العرش وعلمه معهم.
أما آيات القرب فإن سياق الآيتين يدل على أن المراد: الملائكة، فإنه قال: ]وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ[ (ق) فقيد القرب بهذا الزمان وهو زمان تلقى المتلقيين، قعيد عن يمين وقعيد عن شمال، وهما الملكان الحافظان اللذان يكتبان كما قال تعالى ]مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ[ ومعلوم أنه لو كان المراد قرب ذات الرب لم يختص ذلك بهذه الحال. ولم يكن لذكر القعيدين والرقيب والعتيد معنى مناسب.
وكذلك قوله في الآية الأخرى]فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تـَنظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ[ فلو أراد قـرب ذاته لم يخص ذلك بهذا الحال، ولا قال ]وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ[ وإنما هذا يقال إذا كان هناك من يجوز أن يبصر في بعض الأحوال، ولكن نحن لا نبصره. والرب تعالى لا يراه في هـذه الحالـة لا الملائكة ولا البشر. وأيضا فإنه تعالى قال ]وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ[ فأخبر عمن هو أقرب إلى المحتضر من الناس الذين عنده في هذه الحالة. وذات الرب سبحانه وتعالى إذا قيل: هي في مكان، أو قيل قريبة من كل موجود. لا يختص بهذا الزمان والمكان والأحوال. ولا يكون أقرب من شيء إلى شيء ولا يجوز أن يراد به قرب الله الخالص كما في قوله: ]وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ[ فإن ذلك إنما قربه إلى من دعاه أو عبده، وهذا المحتضر قد يكون كافراً أو فاجراً أو مؤمناً ولهذا قال تعالى:]إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِم[ وغير ذلك من الآيات. ومما يدل على ذلك أنه ذكره بصيغة الجمع وكل ما جاء في القرآن بصيغة الجمع فإنما تدل على أن المراد أنه سبحانه يفعل ذلك بجنوده وأعوانه من الملائكة.
وكذلك قوله:]وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ[ (ق:16) فإنه سبحانه يعلم ذلك وملائكته يعلمون ذلك. كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلمأنه قال:
" إذا هم بسيئة لم تكتب عليه، فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة. وإن تركها لله كتبت حسنة". فالملك يعلم ما يهم به العبد من حسنه وسيئة، وليس ذلك من علمه بالغيب الذي اختص الله به.
وقد روى ابن عيينة أنهم يشمون رائحة طيبة فيعلمون أنه هم بحسنة. ويشمون رائحة خبيثة فيعلمون أنه هم بسيئة، وهم وإن شموا رائحة طيبة ورائحة خبيثة فعلمهم لا يفتقر إلى ذلك، بل ما في قلب ابن آدم يعلمونه، بل يبصرونه ويعلمون وسوسة نفسه، بل الشيطان يلتقم قلبه، فإذا ذكر الله خنس وإن غفل قلبه عن الذكر وسوس. ويعلم هل ذكر الله أم غفل عن ذكره. ويعلم ما تهواه نفسه من شهوات الغي فيزينها له وقرب الملائكة والشياطين من قلب ابن آدم تواترت به الآثار، سواء كان العبد مؤمناً أو كافراً. وأما أن تكون ذات الرب في قلب كل واحد كافراً أو مؤمناً فهذا باطل ولم يقله أحد من سلف الأمة، ولا نطق به كتاب ولا سنة. بل الكتاب والسنة والإجماع يناقض ذلك ". انتهى كلام ابن تيمية.
وهناك من يستدلون على أن الله تعالى في كل مكان بالآية ]وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ[ (الزخرف:84). فإن أقوال المفسرين جميعا على أن معناه: أنه سبحانه معبود في السماء ومعبود في الأرض، أو مستحق للعبادة في السماء ومستحق لها في الأرض.
قتال قتادة: يعبد في السماء والأرض. قال أبو علي الفارسي: المعنى على الإخبار بألوهيته، لا علي كونه فيهما.
والاستواء مختص بالعرش باتفاق المسلمين مع أنه مستولٍ مقتدر على كل شيء من السماء والأرض وما بينهما. فلو كان استواؤه على العرش بمعنى استيلائه فهو تعالى قادر على السماء والأرض وما بينهما ولا يخص العرش.
ولفظ الاستواء الموجود بالكتاب والسنة وكلام العرب يمنع ذلك المعنى. قال ابن الأعرابي: إن العرب لا تعلم استوى بمعنى استولى ومن قال ذلك فقد أعظم واختصاصه تعالى بالاستواء على العرش يدل عليه قوله تعالى: ]ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ[(البروج:15) فلم يقل (ذو الأرض) أو (ذو السماء). بل لم ينسب شيء لله تعالى بـ (ذو) إلا العرش، والمعارج التي هي مصاعد الملائكة إليه تعالى ]مِنْ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ[ (المعارج:2).
العرش عظيم والله أعظم
روي عبد الرحمن بن منده عن عبد الله بن خليفة عن عمر عن النبيصلى الله عليه وسلمقال:" إن عرشه أو كرسيه وسع السموات والأرض وانه يجلس عليه فما يفضل منه قدر أربع أصابع" رواه ابن جرير الطبري في تفسيره، وغيره.
وهذا يدل علي عظمة الله عز وجل، وهو أعظم من العرش، فإن العرش علي هذه العظمة التي وصفت في الكتاب والسنة. فالرب مستوٍ عليه كله لا يفضل منه قدر أربع أصابع وهذه غاية ما يقدر به في المساحة من أعضاء الإنسان، فإن الناس إذا أرادوا نفي القليل والكثير قدروا به. كما يقول في النفي ]إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ[ (النساء:40) ]مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ[ (فاطر:13) ونحو ذلك فبين الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا يفضل من العرش شيء، ولا حتى هذا القدر اليسير، الذي هو أيسر ما يقدر به وهو أربعة أصابع.
والعرش على عظمته صغير في عظمة الله، فقد روى أبو حاتم في قوله: ]لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ[ (الأنعام:103) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" ولو أن الجن والإنس والشياطين والملائكة منذ خلقوا إلى أن فنوا صفوا صفا واحدا ما أحاطوا بالله أبدا".
ومعلوم أن العرش لا يبلغ ذلك فلـه حملة وله حول ]الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ[ (غافر:7). ليـس قولنا أن الله على العرش أي مماس له متمكن فيه أو متحيز في جهة من جهاته، بل خبر جاء به التوقف فقلنا له به، ونفينا عنه التكييف إذ ]لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ[ (الشورى:11).
خلق السموات والأرض
مضى خمسون ألف سنة منذ أن خلق الله القلم، واللوح، وكتب القلم مـا سيكون في خلق الله، وقد علمنا أن هذه الكتابة قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة. في هذا الوقت كان الله، الذي كان قبل كل شيء، وكان العرش، وكان أيضا الماء. ]وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَــوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ[ (هود:7). إذن فلم يكن ثم إلا العرش والماء.
هناك حديث يثبت وجود شيء آخر من أوائل المخلوقات، وهو الهواء. فقد أخرج سعيد ين منصور عن أبى عوانة عـن أبى بشر عن مجاهد قال:" بدء الخلق: العرش، والماء، والهواء. وخلقت الأرض من الماء" ذكره ابن حجر في شرح البخاري. ومن هذا الأثر نعرف أن الأرض التي نعيش فيها خلقت من الماء.
ولكن قبل أن نفصل هذا الأمر، نسأل: هل سنكتفي في معرفة كيفية خلق السموات والأرض بالمصادر الإسلامية والتي بدورها مصدرها جميعا الوحي. وهذا من عند الله. أم سنستعين في ذلك بأقوال العلماء في أي علم وفن. خاصة وهناك آية تقول ]قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ[ (العنكبوت:20). ألا يعطينا هذا الحق في أن نبحث ونقف لنجيب على السؤال: كيف بدأ الخلق؟ ونستعين في ذلك بكل ما أتيح لنا من إمكانيات وما وصلنا إليه من علوم؟ وللإجابة على هذا السؤال نقول أولاً: إن المؤمنين دائما يتبعون آيات الله. ومن شأن المؤمن أن تكون حركته وسكنته بتوجيه الله، وهذه الآية فيها طلب بل أمر بالسير والبحث عن إجابة هذا السؤال ]قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ[ إن الأمر يستوجب أن نسأل أيضا عن هذا الأمر.. لمن؟
بالبحث في القرآن لم نجد إلا آية واحدة تأمر بالبحث في ]كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ[ غير أن الآية السابقة عليها توضح أن الأمر ليس للمؤمنين، بل لغيرهم فتقول ]أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ[ (العنكبوت:19) والخطاب ليس للمؤمنين ويؤكد ذلك أيضا الآية السابقة على هـذه]وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّب أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرسول إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ[ (العنكبوت:18) وما يقطع بأن الخطاب لغير المؤمنين أن الآيات قبلها تحدثت عن تكذيب قوم نوح لنوح وتكذيب قوم إبراهيم لإبراهيم. وجاءت آية السير في الأرض بعد حوار إبراهيم مع قومه حتى قيل أن هذا الأمر، كان لقوم إبراهيم.
فإذا كان هذا خطاب لغير المؤمنين فما مدلول هذا الأمر؟
إنه يطلب من الكافرين بالله وآياته وأنبيؤه أن ينظروا في دليل آخر غير الوحي ويبحثوا في كتاب آخر غير المنزل وهو كتاب الكون طالما كذبوا بالوحي. وأن كل شيء في الكون يدل على أن الله قادر على إعادة الخلق كما بدأه. بل إن الإعادة أهون وأيسر وإن كان كل شيء في حق الله سهل وهين. ففي كل يوم إحياء وإماتة، شروق وغروب، طلوع وأفول. في النبتة التي تصير شجـرة كبيرة ثم تموت، ثم تعاد ببذرة أخرى، في البيضة، في الحيوان، في الشمس والقمر والنجوم، في الطفل الجنين ثم صيرورته رجلاً كبيراً ثم في موته، ثم في ظهور ذريته التي تعيد نفس الكرة. في كل ذلك آيات، إن كانوا يكذبون الوحي.
أما المؤمنون فإنهم ليسوا مخاطبين بهذا فهم يؤمنون بالغيب، ثم هم قد فصل لهم الخلق، وخلق كل شيء، فصل لهم بالوحي تفصيلا. حيث لا يبقى بعده إبهام أو غموض. ثم إن طلب السير يكون للوقوف على قدرة الله وعلى إثبات اليوم الآخر. أما غير ذلك من البحث والاستطلاع، سواء لاستكشاف المجهول، أو للمعرفة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق