عاصفة..ناس
تهتف وناس تبتهل وناس تبكي ، ولا أدري لماذا كنت أبكي عند دخولي إلى الميدان في
الأيام التي دخلته فيها أثناء اشتعال الثورة – احمد محمد عبده ثورة يناير.. والبحث
عن طريق أحمد محمد عبده شعرت قبل الوصول إلى الصفحات الأخيرة من هذا الكتاب أني
أصبحت عجوزا ينوء بثقل السنين. فاتت علينا جميعا أعمار طويلة خلال هذه السنوات
الثلاثة السابقة. وجسامة ما وقع للمصريين فيها يكفي لملأ ثلاثين عاما بالأحداث
والوقائع والتواريخ والمفاجآت التي تكشفت ولاتزال تتكشف. عرف الشعب المصري الكثير
جدا في هذه السنوات القلائل. ولابد أنه عوض خلالها كثيرا مما فاته في سنوات الجمود
واللامبالاة والموات المباركية. أعتقد أن هذا هو الإنطباع الأصلي الذي يمكن أن
يخرج به قارئ كتاب "أحمد محمد عبده". وأول ما يلفت النظر فيه هو عنوانه
المفتوح على "الطريق" باحتمالاته ووعوده ومخاطره. عنوان يعكس وعيا
باستمرار الثورة وبالتمسك بسيرورتها وبالوقوف على حافة زمنية متوترة عبر اللحظة/اللحظات
التي تمر بها. قبل ذلك يمكننا أن نقرر مطمئنين بأن كل لحظة ثورية جديرة بهذا الاعتبار
هي في جوهرها بحث عن طريق. لأن الثورة كلها فعل بحث عن مسلك مختلف، ووجود جديد في
الواقع، عن مسار جديد للتاريخ. بحث عن طريق ليس جاهزا أو مطروقا من قبل لكن يحتاج
إلى كم ضخم من الإبداع والابتكار والعرق والدم والمجهود من أجل الوصول إليه وقطع
الأشواط الأولى العسيرة منه بالذات. وقد يكون سؤال القارئ على عتبات النص – كما
يقول النقاد – عما يمكن أن ينتظره بين سطور كتاب عن ثورة لاتزال أحداثها ساخنة
مشتعلة، تتلاحق حاملة المزيد من الأخبار والتفاعلات يوما بيوم. ثورة لاتزال في
مرحلة البحث عن فرض هويتها الثورية على أرضية واقع صعب، وفي أعقاب الزلزال. ثورة
لاتزال ، داخليا وخارجيا، وعلى كل الأصعدة، سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا،
في مرحلة مخاض مؤلم ملتهب ودموي متعسر. وفي رأيي أن أفضل ما يمكن أن يهديه كتاب عن
الثورة المصرية لقارئه، في هذه اللحظة التي تمر بها، هو أن يتيح لهذا القارئ أكبر
فرصة ممكنة لإعادة التأمل وتنظيم الأفكار، لإلتقاط الأنفاس وترتيب الأحداث. أن
يمنح القارئ أقصى درجة ممكنة من الوعي الحاد المرهف بأبعاد اللحظة وتوترها
وتعقيداتها. كما يحسن قدرته على الإحاطة بها واستقصاء أعماقها وسبر صيغها الصعبة
ومعادلاتها الغامضة. كل ذلك حاول مؤلف الكتاب أن يقدمه لقارئه. وجعل يهدف إليه،
بدء من العنوان وصولا إلى منهج الكتاب الذي يعمد إلى لون من استراتيجية عرض مثير
لوقائع الثورة. وهو عرض ممتع مؤكد للإستيعاب، يبدأ بشكل خبري على هيئة مانشيتات
الصحف وعناوين الأخبار. عرض إجمالي سريع متلاحق في سرد الوقائع يشبه في ذلك إيقاع
الثورة اللاهث المفاجئ. ثم يعود بعد هذا العرض الشامل المتلاحق إلى عرض نفس
الوقائع ومعانيها وخلفياتها بشكل تحليلي متأني ومفصل يشبه إلى حد بعيد وعي الثورة
الشامل بالواقع وما تهدف إليه من تغيير عميق في بنى وتفاصيل المجتمع والدولة، وفي
طبيعة الثقافة والإنسان. ولعل ثقافة الكاتب من جهة وخلفيته العسكرية من جهة أخرى،
إذ أنه ضابط سابق بالقوات المسلحة، قد أثرا في توجهيه إلى استراتيجة عرض متعدد
الزوايا مثل هذه. كما كان لذلك تأثيره في قدرته على أن يقدم للقارئ كتابا يشبه،
إلى حد ما، التقرير العسكري المعروف باسم "تقدير الموقف". وهو تقرير يعد
بواسطة الخبراء والمختصين في الجيوش ويقدم للقيادة بشكل دوري أو متلاحق بحسب ما
تتطلب اتجاهات وسير الأحداث في المعارك. وأسارع إلى تبديد ما قد يتراءى من
انطباعات ليست صحيحة عن وجود انحياز لمؤسسة الجيش أو أداء المجلس العسكري خلال
الفترة الانتقالية لدى الكاتب كنتيجة لعمله السابق في القوات المسلحة. وإن كان
الانحياز في الثورات يشبه دائما الحق المشروع للجميع، غير أن هذا الكتاب ليس هو
الأول لمؤلفه، وكتاباته السابقة تشهد له بأنه واحد ممن حلموا طويلا بالثورة على
مبارك ونظامه الديكتاتوري الفاسد من قبل ثورة يناير. أيضا واحد ممن أصابهم اليأس
والاحباط طويلا من مسلك الشعب المستكين الصابر فيما لا يجب الصبر عليه ولا ينبغي
الهوادة بشأنه من ظلم واضطهاد وقمع النظام واستفحال فساده واستبداده. وربما في كون
المؤلف – الثوري - ضابطا سابقا بالقوات المسلحة ما يلقي بضوء أكثر دفئا على شعار
يناير الشهير "الجيش والشعب إيد واحدة"، فلم يكن الجيش المصري يوما إلا
جزء من الشعب المصري سواء بحكم عقيدته القتالية أو بحكم بنيته التنظيمية وأسلوب
التجنيد فيه. كما ولابد أن يثير انتماء الكاتب السابق بخلفيته الثورية للمؤسسة
العسكرية سؤالا مهما كذلك، هو: لماذا لم يقم الجيش نفسه بهذه الثورة أو بانقلاب
عسكري على مبارك يأتي بالثورة والتغيير؟ لماذا صبر الجيش بدوره على مبارك وقد كان
تحركه وانقلابه الهادئ، على غرار يوليو 52، أحد سيناريوهات التغيير الذي يحقن
الدماء وقد كان حلما راود طويلا بعض قطاعات المصريين؟ يقدم المؤلف نفسه هذا السؤال
في صيغة مطلب شخصي سابق له: "لو فعل الجيش خيرا في مصر، لكان قد فعلها منذ
عشرين عاما أو قل خمسة عشر عاما، أو حتى عشرة أعوام، ولو قبل قيام تلك الثورة
بأيام، خاصة أن مصر كانت على أبواب التوريث. على أن يسلم السلطة للمدنيين". هكذا
كانت أمنية المؤلف ومعه بعض، أو قل كثير، من المصريين الذين أرادوا بأمنيتهم تجنب
غرق البلاد في الفوضى وتكلفة الدم ومعاناة افتقاد الأمن ومخاطر الانفلات الأمني
وانتشار العنف والبلطجة. لكنها كانت أمنية مشروطة كما قرأنا بتسليم زمام القيادة
بعد ترتيب الأوضاع إلى سلطة مدنية ديموقراطية منتخبة. وإجابة المؤلف في مسألة
إحجام الجيش عن الانقلاب على مبارك تكاد تكون متضمنة في صيغة طرحه للسؤال. وتتلخص
في غياب القيادة المخلصة إخلاصا فعليا للشعب، إذ كانت قيادة الجيش العجوز غارقة في
غياهب الولاء لمبارك وأطلال امتيازاته التي اغدقها عليهم، مثقلة بإخلاصها للقائد
الذي حافظ على بقائها حتى أرذل العمر فوق كراسيها، وبعيدة عن الشعب وإن كانت واعية
بتذمره واحتجاجه، بل ومعترضة هي ذاتها على سيناريو توريث القيادة لأكبر أبناء أسرة
الزعيم. هذه القيادة ولنفس الأسباب لم "يطاوعها قلبها" على مجرد ذكر
كلمة "ثورة" خلال أيام حيادها الأولى للثورة. وهذا الحياد عده مبارك
نفسه من قبل جنوده المخلصين انحيازا يثير الغضب!. ولم يجتمع مجلسها الأعلى إلا تحت
وطأة إصرار الجماهير وصمودها في ميادين الثورة وخوفا من تدهور الأوضاع وسقوط
الدولة: "باسم القيادة العامة للقوات المسلحة وليس باسم المجلس الأعلى. وقال
المحللون في معنى هذا أن مبارك لم يعد هو القائد الأعلى للقوات المسلحة! فيغضب
مبارك غضبا شديدا ويوقن الشعب أن الزمام قد أفلت منه، فقام بزيارة لغرفة عمليات
القوات المسلحة"!. قيادة جيش "وقف حائرا في المنتصف، بين تاريخه المشرف
مع الشعب، والعاطفة بينه وبين قائده الأعلى". وهذا الجيش رغم موقفه المحايد
خشيت قياداته أن تقدم للمحاكمة يوم "موقعة الجمل" لو كان قد نجح الفلول
في إطفاء شعلة الثورة! وقال "سامي عنان" رئيس أركانه: "لو فشلت
الثورة سنعلق على باب زويله"!.. هذه القيادة أكدت أيضا بإدارتها للمرحلة
الانتقالية بكل أزماتها وصراعاتها أن قادته "يقومون بما يفعلون "غصبا
عنهم"، أو على مضض! فهم يشعرون أنه أمر فرضته عليهم الظروف". وقد دفع
الجيش وموقف قيادته المتردد موزع الولاء تجاه الثورة الكثيرين لأن يروا أنه كان "من
حسن حظ هذا الشعب المسكين، أن قامت عندنا الثورة، قبل أن يرى مبارك القذافي وعلي
عبدالله صالح وبشار الأسد، وهم يستميتون في قتال شعوبهم"!. وإلا كان استمات
هو أيضا وزج بالجيش في معركة لسحق الشعب أو في أثون حرب اهلية. وبرغم انتماء
المؤلف السابق للجيش الذي بدا في أعين المصريين خلال هذه اللحظة الخطيرة مترددا
وموزع الولاء، فإن القارئ لا يشعر أبدا خلال قراءته للكتاب أنه أمام مؤلف يمتلك
أدنى تردد أو حتى تساؤل بخصوص إنحيازه الشخصي النهائي للثورة وولائه التام للشعب. ينتهي
الكتاب، وقد فرغ المؤلف من كتابته خلال شهر يونيو من العام الماضي 2013، قبل أيام
من إزاحة مرسي، وقرب هذه اللحظة التي كان لابد للجيش أن يتخذ فيها قرارا جديدا،
ولم يكن أحد يعرف وقتها على وجه اليقين أو مجرد الاحتمال، إن كانت قيادة الجيش
الجديدة تمتلك زمام الجرأة والمبادرة لتتخذ مثل هذا القرار الحاسم بالانحياز
للشعب، انحيازا تاما ومنتهيا ومفروغا منه، لا مترددا ولا موزع الولاء هذه المرة،
لتجنب البلاد ويلات حرب أهلية قاد الشعب إلى عتباتها حكم جماعة الاخوان وذراعها في
قصر الرئاسة (الاستبن حسب ما أطلق عليه المصريون). وليصحح أخيرا كل ما أعوج وفسد
من مسارات الثورة ومراحل انتقالها باتجاه دستور ودولة مدنيين. وقد كان ذلك ما حدث –
أيضا لحسن حظ الشعب المسكين – في 30 يونيو الماضي. ثورة وثورات لكل ثورة في
التاريخ خصوصيتها بحكم اللحظة الزمانية والمكانية المتغيرة، وبحكم اختلاف طبيعة كل
شعب وتكوينه النفسي وطبيعة ظرفه السياسي والاجتماعي، وبحكم اختلاف خرائط وتوزيع
قواه السياسية والاجتماعية المؤثرة داخليا في مسار ثورته، كذلك بحكم طبيعة القوى
والتفاعلات الخارجية ذات التأثير. لكن لا يعني توفر كل هذه الخصوصيات أن كل ثورة
تحدث هي "بدع بين الثورات" ليس لها قياس على ما سبق منها في الماضي يهيئ
لنا فهما أفضل لها. أو أنه لا يوجد بينها وبين ما سبقها من ثورات نقاط إلتقاء
وتماس واختلاف وتباعد يمكن عبرها تقدير حقائقها ومقارنتها واستخراج نتائج مفيدة
بخصوص اتجاهاتها في الحاضر والمستقبل. إذ تلتقي كل ثورات الإنسانية، عبر تعدد
مجتمعات البشر واختلاف مراحل تاريخها، بحكم الطبائع الإنسانية المشتركة في كل زمان
ومكان، وبحكم قوانين الحركة الإنسانية الثابتة والمتحولة، وأيضا بحكم طبيعة الثورة
ذاتها كفعل ذي تعريف واحد ثابت على مدار التاريخ البشري كله، فهي كلها تمرد غاضب
هادم للأوضاع القائمة يستهدف تغييرها تغييرا جذريا يبدل كل شيء في حاضره. ليصبح
المستقبل الذي يأتي بعد الثورة لا يشبه الماضي الذي كان قبلها وأدى إليها. من هنا
فإن قراءتنا لتاريخ الثورات السابقة لابد أن يؤدي إلى فهم أفضل للحظتنا الثورية
الحاضرة وهو ما يفعله المؤلف خلال مواضع عديدة في كتابه وعندما يجد أنه من اللازم
استدعاء التاريخ للحصول على إضاءة أفضل للطريق: "دائما الأفراد هم الذين
يغيرون تاريخ الجماعة. الثورة الفرنسية لم يخرج لها سوى 3% فقط من إجمالي شعب
فرنسا، هم الذين غيروا وجه فرنسا. في البيوت الآن الأطفال والشيوخ والنساء
والمعاقين، ومن لا يريدون الاصطدام بالسلطة، ومن لا يقدرون على تبعات الصدام، ومن
يحرمون الخروج على الحاكم، حتى لو كان هو الحجاج بن يوسف الثقفي! تحت بند درء حدوث
الفتنة! والمستفيدون من النظام والانتهازيون، فمن يبقى؟ الثوار والمغامرون بحياتهم
في سبيل مصر في الميادين، ثم من؟ الفريق المتعاطف مع الثورة، لكنه كسول ومتواكل..يكتفي
بالدعاء، أطلقوا عليه "حزب الكنبه". و.."الثورة لا يؤخذ فيها رأي
الناس، ولن تقوم جهة بعمل استفتاء على قيام ثورة، ولو أخذ ضباط ثورة يوليو 52 رأي
باقي ضباط الجيش لفشلت الثورة وتم إعدامهم". ثم.."هل خرجت كل جماهير مصر
لمناصرة عرابي؟ لماذا تركه الشعب يواجه الخيانة وسطوة القصر وقوات الاحتلال بألاف
معدودة من أفراد الجيش وبعض الفلاحين؟ وهل خرجت كل جماهير مصر في ثورة 1919؟ ومن
يعطل نجاح الثورات الآن في اليمن وليبيا وسوريا؟" قطعا ما من ثورة في شعب
يقوم بها كل رجل وامرأة وطفل وشيخ، لكنها رغم ذلك وسواء فشلت الثورة أو نجحت تكون
في النهاية هي ثورة الشعب كله. وقطعا لا تحقق الثورة نجاحها، أو حتى فشلها، في
أسابيع أو أشهر معدودة أو أعوام قليلة: "الشعب المصري قام بثورة ضد نابيلون
استمرت عامين، سقط فيها حوالي 300 ألف ثائر من 3 مليون هم سكان مصر في هذا الحين،
وثورة عرابي ظلت عامين هي الأخرى، وثورة 19 ظلت أكثر من عامين، وفي يونيو 67 تعرضت
مصر لكارثة ربما تفوقت على كارثة هيروشيما اليابانية في الحرب العالمية الثانية،
وقمنا بحرب استنزاف 6 سنوات وحاربنا 17 يوما في 73. في روسيا تنفجر ثورة أكتوبر 1917
لتندلع حرب اهلية تطحن البلاد لمدة 4 سنوات تنتهي بمجاعة، في ثورة فرنسا يسيل الدم
في شوارعها لمدة 7 سنين، وتقوم الثورة في إنجلترا عام 1649 فيتم قطع رقبة الملك
شارل الأول وتحدث الفوضى والاضطرابات لتستمر الحرب الأهلية 7 سنوات". فهل
تبدو لك هذه الحقائق بسيطة ومعروفة أو بديهية؟ وفي الحقيقة فما أكثر ما بدونا
ونبدو لأنفسنا في مواقف وأوقات كثيرة مفتقدين لكل دراية بالحقائق البديهية البسيطة.
وأشد ما يبدو جهلنا بها ظاهرا كما يبدو في سلوكيات وأفعال وردود أفعال كثيرة
رأيناها وسمعنا بها، يوما وراء آخر، وفصلا وراء الآخر، من أيام وفصول هذه الثورة. إذ
يبدي الكثيرون منا هذا الجهل الفادح الغريب كلما فكر أو بدا أنه يفكر، وبالذات
كلما تصرف وبدا أنه يتصرف دون تفكير مسبق أو تقدير لحقائق البديهة، سواء كانت
حقائق مرتبطة بالأوضاع والتفاصيل اليومية المتغيرة والمتلاحقة أو حقائق الثورات
الكبرى وثوابتها المستقرة. ومن وجوه افتقاد هذه الدراية بالبديهيات ينبع غالبا
حالة اليأس الشهيرة التي يتعرض لها الكثيرون خلال مراحل وأشواط تقطعها ثورة بدأت
بنجاح مكتسح وبما يشبه المفاجأة التي تثير الذهول: "وتأتي ثورة 25 يناير 2011
لتسقط النظام في 18 يوم فقط وبأقل التكاليف، ورغم ما حدث من قتل وحرق وتخريب. لولا
أن عطل التيار الإسلامي (المتأسلم) مسيرة الثورة، بتكريس شعارات الشريعة والحدود
وغربة الإسلام وعودة القدس، والبلطجة والإنفلات الأمني الذي صنعه النظام الساقط بأيدي
فلوله". وقد أثبت المصريون أحيانا قلة الدراية هذه ببديهيات الثورة رغم توفر
كل أسبابها وظروفها بل واقتناعهم بضرورتها ووعيهم بفداحة ما قدم فيها من تضحيات:
"فإذا قامت الثورة تجدهم متبرمون قلقون، لا يتحملون عدة أيام، أو شهور حتى
تنصلح أحوال البلاد، أو حسب بيان الثوار لسكان التحرير "وجع ساعة ولا كل ساعة".
وبمثل هذا الافتقاد للبديهة رأينا كذلك – خلال 18 يوما فقط هي كل أيام يناير 25 - من
تعاطف الملايين مع مبارك بعد خطابه الثاني الذي ذكر فيه أنه لن يرشح نفسه ولا ابنه
للحكم من جديد، وبعد أن دعا الله أن يوفقه في أن يختم (عطاءه) لمصر وشعبها بما
يرضي الله والوطن، قال: "إن هذا الوطن وطني كما هو وطن كل مصري ومصرية، فيه
عشت ومن أجله حاربت..وعلى أرضة أموت" وبالتأكيد: "سوف يحكم التاريخ عليه
وعلى غيره بما له وما عليه"! وكأن الثورة لا تصلح بنفسها حكما تاريخيا قاطعا
وشهادة نهائية على سقوط مستبد وسقوط عصره ونظامه!!. وإذن، هل يمكننا القول الآن أن
المصريين وعوا الدرس، وفطنوا إلى أن "وجع ساعة ولا كل ساعة" أو بالأحرى
وجع عام ولا كل الأعوام، ووجع عقد ولا وجع القرون؟ هذا هو درس التاريخ الثوري الذي
يجب أن يستوعبه المصريون بعقولهم بدلا من دروس تاريخ مبارك الزائفة الهزلية. لأن
الشعب يخسر والثورة تخسر - بموجب دروس مبارك المستفادة بالعاطفة دون العقل - كل
مستقبله ومستقبل ثورته. ثوار ومتأسلمون خلال ثمانية عشر يوما، من بداية الثورة إلى
تحقق أول مطالبها وهو إسقاط مبارك، أذهلت الثورة المصرية العالم بصمودها وزخمها،
بصلابتها وتماسكها. إلى الحد الذي دفع بالرئيس الأمريكي "باراك أوباما"،
وقد كان انتخابه نفسه بأصوله الأفريقية ولونه الأسود مفاجأة أذهلت العالم، إلى
القول: "ما حدث في مصر يمثل إلهاما للبشرية، لقد اكتشف الناس في مصر أن لهم
قيمة، الأصوات التي سمعناها هي أصوات مصرية، لكننا سمعنا أصواتا أخرى تأتي من
ميدان التحرير، سمعنا صوت مارتن لوثر، سمعنا صوت غاندي". قطعا كان "أوباما"
يعزف في هذه الكلمات هو أيضا على وتر تاريخه وأوجاعه. فالثورات الإنسانية العظيمة
كالمرايا الكبرى التي ترى فيها كل ذات نفسها في لحظة مجد يلفها بريق من العظمة
والشجن. ولم يفوت الرئيس الأمريكي أن ينوه بـ"مصرية" الأصوات التي تخرج
من التحرير. كانت هذه هي نقطة القوة الكبرى في ثورة يناير، وكلمة السر في انطلاقها
وصمودها. فلم نسمع خلال أيام الثورة شعارا واحدا فئويا أو إيديولوجيا أو طائفيا
بنفس القدر والإصرار والتصميم على التوحد الذي حدا بكل فئات وطوائف وتيارات الشعب
المصري للمشاركة فيها. كان للميدان كله خلال ثمانية عشر يوما قلب واحد وعقل واحد
وصوت واحد. أو هكذا تراءى للمصريين كلهم وللعالم كله وقتها. دون أن يعني ذلك أن
مطالب الثورة لم تتطور وتتنامى خلال هذه الأيام المجيدة، تطورا وتناميا من داخلها
وبقدر كبير من التوتر والنقاش والطموح والحلم والشد والجذب. فمن هذه اللحظة التي
تفجرت فيها الثورة يوم 25 يناير الثانية عشر ظهرا، وهي ساعة الصفر في الحروب كما
يرى المؤلف، وأقصى طموحها إقالة وزير الداخلية وحتى الوصول إلى إقالة مبارك وإسقاط
النظام يوم 12 فبراير، وقعت عشرات بل مئات المبادرات والتدخلات والاجتماعات
والمفاوضات، ثارت نقاشات واتجاهات وتضاربت أفكار واقتراحات، وبذلت محاولات عديدة
للضغط والتأييس والتشويه والتشييت وكسر الإرادة، وظل الميدان في غمار ذلك كله
متماسكا ومحافظا على وحدته ومتناسيا كل أشكال الاختلاف ومصححا عند اللزوم بعض
أشكال الأخطاء ونوايا الفرقة كلما تجد، حتى وصل من ذلك كله أخيرا إلى تحقيق مطلبه.
يذكر المؤلف – مثالا وليس حصرا – بعض الوقائع الدالة ضمن مئات الوقائع التي ذكرها
في "يوميات الثورة" التي يخصص لها فصلا سرديا سريعا ولاهثا قبل أن يعود
إلى تحليل وقائعه في الفصل التالي، مثلا في اليوم الثالث عشر (الأحد 6 فبراير):
"عمر سليمان يواصل حواره مع بعض القوى السياسية منها الإخوان ولجنة الحكماء /
شباب الثورة يرفضون الحوار مع عمر سليمان / الجيش يفشل في إقناع الجماهير بالعودة
إلى منازلهم" وكان قد ذكر قبلها ضمن وقائع يوم الثلاثاء 1 فبراير: "طرح
أسماء للرئاسة منها عمرو موسى وأحمد زويل على لسان الناشطة أسماء محفوظ من شباب
الثورة / الهتافات تقول لمبارك: إرحل إرحل..متورطشي الجيش / القوى السياسية ترفض
الحوار مع عمر سليمان" ثم يذكر هذه الواقعة بين حوادث اليوم الخامس عشر،
الثلاثاء 8 فبراير: "عناصر من الإسلاميين (المتأسلمين) ينزعون صورة الشهيدة
سالي زهران لأنها متبرجة" قبلها وبين وقائع اليوم الحادي عشر (4 فبراير) يذكر
هذه الواقعة: "الإخوان يقولون إذا أراد الشعب اختيارنا فمرحبا، نحترم
المعاهدات الدولية ومعاهدة السلام يقرر مصيرها البرلمان الجديد، فهي معاهدة لم
تعرض على الشعب"! هكذا بدت كامنة تحت الرماد في وقائع يوميات الثورة جمرات
الخلافات الوطنية العميقة، وترددت أصداء الصفقات التي تجرى من تحت الموائد وفي الغرف
المغلقة، وتلونت بألوان مموهة مصالح حزبية وسياسية ضيقة أصبحت هي النغمة السائدة
فيما بعد. وقد بدأت الخلافات من قبل أن يغادر الجميع الميدان، حيث رأت قوى ثورية
أن يستمر الاعتصام بميدان التحرير إلى حين تحقق مطالب الثورة الأساسية بشكل ملموس،
فيما رأت قوى أخرى أن الوضع في ظل الفوضى وانعدام الأمن أصبح لا يحتمل بقاء في
الميدان أكثر، فيما رأت فئة ثالثة أن الخروج مبكرا دون أي خطوات على الأرض يكفل
لها وحدها الانفراد بالتحكم في المسار برمته. لكن بقت مطالب الميدان المشرعة حتى
ذلك الوقت مطالب ثورية وطنية عامة. لم يقع الانقسام العميق إلا عشية استفتاء مارس 2011
المشئوم. إذ كشف هذا الاستفتاء وجود تحالف ما بين قيادات المجلس العسكري العجوز
والتيارات الإسلامية (المتأسلمة). ولأول مرة سمع المصريون نغمة الاستقرار
والازدهار المباركية مقترنة بهواجس تطبيق الشريعة ووعود دخول الجنة. وجند المجلس
العسكري من جهة والتيارات المتأسلمة من جهة أخرى كل طاقتهم في ترغيب وترهيب
المصريين من أجل التصويت بنعم في استفتاء خارطة الطريق التي لا يكاد يختلف اليوم
مصريان على أنها كانت خارطة شؤم مشوهة وطريقا يضل ولا يصل بالبلد إلا إلى الهاوية.
بدا الاستقطاب في هذه الأيام حادا ومفاجئا، كما بدت وحدة المصريين الثورية من قبل
في الميدان صلبة ومفاجئة كذلك. كان الانقسام قد أصبح غير قابل للرأب والالتئام بأي
طريقة. وكان ما يفصل بين المصريين ومطالب ثورتهم الوطنية الجامعة ليس شهرا واحدا
ولكن أزمانا طويلة. فمن المطالبة بإسقاط رئيس ونظام فاسد ودستور مستبد وبرلمان
مزور، من المطالبة بملاحقة الفساد والفاسدين وتطهير أجهزة الدولة من جراثيمهم، إلى
المطالبة بالحفاظ على المادة الثانية من الدستور بزعم أن هناك من يريد تغييرها ثم
المطالبة بمواجهة "رفاق الثورة" من أعداء الشريعة وأنصار العلمانية!. ثم
تفشي شعارات "الشعب يريد تطبيق شرع الله" و"لا ليبرالية ولا مدنية..إسلامية
إسلامية". وكأن الثورة قامت – حسب سخرية المؤلف – لأن هناك قانونا منع الصلاة
أو أسقط فرض الزكاة أو لأن المساجد ودور العبادة قد أغلقت في وجوه المصلين!. من
هذه النقطة الفاصلة في 18 مارس 2011، والواصلة إلى قرب يونيو 2013، يصحب الكاتب
قارئه في رحلة مفصلة بين تطورات ومراحل ومواقع الثورة. مع تحليل مواقف الأقطاب
الرئيسية المشاركة في صنع أحداثها: المجلس العسكري وقيادته العجوز التي تصورت أنها
قادرة على حماية ما تبقى من أركان النظام المنهار بعد التضحية بالرأس وقد أنتهى
بها المطاف إلى التضحية بها نفسها على يد حلفائها المتأسلمين ورئيسهم المنتخب،
وفلول النظام الذين عملوا طول الوقت على الإيقاع ما بين الشعب والثوار وتشويه
صورتهم وصورة الثورة بكل الطرق، إلى التيارات المتأسلمة التي عملت على توظيف كل
شيء لوجه المنفعة واتبعت كل الوسائل الرخيصة والمشروعة وغير المشروعة، من أجل
الهيمنة على مستقبل الثورة والوصول بالسلطة إلى مرحلة جديدة من الاستبداد يكون
شعارها الظاهر هو الدين والشرع وجوهرها الباطن إعادة إنتاج فساد واستبداد نظام
مبارك، ثم قوى الثورة التي تشتت إلى عشرات الائتلافات والأحزاب وارتكبت أخطاء
فادحة بعد هذا التشتت كان أفدحها الاستدراج إلى مواقف ومعارك لا تخدم الثورة بقدر
ما تخدم أعدائها. مبارك ديكتاتور الثلاثين عاما، حتى بعد أن أصبح مخلوعا ورأى
العالم بعينيه مشهد وقوعه سجينا ومغشيا عليه عدة مرات، ثم أسير قفص المحاكمة
والحكم المؤبد الذي طعن عليه. مبارك الذي بدا مهيمنا على المشهد بكل أمراض فساده
وشيخوخته وثقل تركته التي خلفها من وراءه للمصريين: تركة متخمة بالفساد الأخلاقي
والتطرف الديني.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق